"عسال الورد" واحدة من بلدات سورية الأجمل، بل هي في عداد نفائس الطبيعة الأبهى، إذْ تربض على ارتفاع 1850 متراً فوق سطح البحر، على مبعدة 55 كم شمال دمشق، في حضن سلسلة الجبال السورية الغربية، ولهذا فإنها "أخت الزبداني الصغرى" حسب تسمية شائعة. والبلدة تنفرد بسلسة إطلالات استثنائية، وتؤاخي بين الجرود والسهول والهضاب، والثلج والنبع والمسيل، والكرز والتفاح والبازلاء؛ ليس دون تراث في الفولكلور عريق، غنائي إيقاعي وراقص، "يجبر الحجر على الدبكة"، كما يتفاخر بعض أهلها. وخلال أشهر الانتفاضة سجّلت "عسال الورد" مواقف مشرّفة وملحمية، كما سدّدت ضريبة شهداء باهظة، كانت واقعتها الأحدث ارتكاب عسكر النظام وشبيحته مجزرة وحشية في منطقة "ضهور المعبور"، واكتشاف عشرات الجثامين في إحدى مزارع البلدة، أغلبها تحمل آثار الإعدام بطلق ناري في الرأس.
بيد أنّ بيد أن التاريخ يسجّل لـ"عسال الورد" أنها شهدت، في عام 1930، لقاء من نوع خاصّ سوف تكون له آثار بعيدة المدى في حوليات السياسة السورية الحديثة، جمع بين ناصر حدّة، المهاجر مع أسرته من بلدة يبرود المجاورة؛ والفتى خالد بكداش، الكردي الدمشقي الذي يعمل مع والده ملاحظاً لورشات إصلاح الطرق. كان ذلك اللقاء أوّل عهد بكداش بفكرة حزب شيوعي كما سيتذكر (في كتاب "خالد بكداش يتحدّث"، إعداد وحوار عماد نداف)، ولكنّ أولى حلقات الغموض تبدأ من ههنا، عند عودة بكداش إلى دمشق عقب اللقاء مع حدّة. التاريخ يسجّل أن فؤاد الشمالي (المصري، من أصل لبناني) ويوسف يزبك (اللبناني) ويوسف بيرغر (ممثل الحزب الشيوعي الفلسطيني) وضعوا اللبنة الأولى لقيام "حزب الشعب اللبناني"، والذي سيتوحد مع "حركة "سبارتاكوس" الأرمنية لتأسيس "الحزب الشيوعي السوري ـ اللبناني" في عام 1925، وتشكيل أوّل لجنة مركزية مؤقتة من يوسف يزبك وفؤاد الشمالي وآرتين مادويان وهيكازيون بويجيان والياس أبو نادر.
رواية بكداش تسكت عن هذه الواقعة لصالح أخرى: "في عام 1931 أسّسنا الحزب في دمشق"، يقول ببساطة، مختصراً صيغة الجمع في ذاته وحده. في عام 1933 سوف يحصل على عضوية تامة في الكومنترن، أو "الأممية الثالثة" في صيغتها الستالينية، وعلى الإسم الحركي "الرفيق رمزي". وسيسافر إلى موسكو سرّاً عن طريق باريس، ويمكث هناك حتى عام 1936، حيث سيسقط ـ مرّة وإلى الأبد ـ في الطاحونة الستالينية، أي الماركسية الوحيدة التي ستتيح له تطبيق مبدأ "الانضباط الحديدي" عند عودته إلى سورية وعقد "اجتماع الكادر" الذي سينتخبه أميناً عاماً بصفة رسمية ونهائية و... أبدية! "آخر الستالينيين"، "آخرممثلي الأممية الثالثة"، "أقدم أمين عام لأيّ حزب شيوعي عرفه التاريخ"...
سياقات صعود بكداش سوف تندرج في هيولى سرّية، شبه صوفية وشبه مقدّسة، لرجل كانت الأهزوجة شبه الرسمية للحزب تصفه هكذا: "خالد يهدي خطانا، في طريق الخالدين"! ولقد جرت مياه كثيرة في أنهار سورية والحزب الشيوعي السوري منذ التأسيس، فانقسم الحزب مراراً لينتهي إلى اثنين حليفين للنظام، وحركة تزعم الحرص على وحدة الشيوعيين ولكنها لا توحّد إلا تمرّغ زعيمها في أحضان السلطة، وحزب كان الأهمّ: مجموعة "المكتب السياسي ـ جماعة رياض الترك"، التي واصلت تطوير خطّ معارض جذري، وتعرّضت لحملات اعتقال متكررة، وبدّلت اسمها إلى "حزب الشعب الديمقراطي السوري". ولم يكن عجيباً، رغم المفارقة الكبرى الصارخة، أن يقضي الترك قرابة 18 سنة، بين 1980 و1998، في زنزانة مغلقة ، بينها عشر سنوات لم ير فيها ضياء الشمس؛ وأن يظلّ خالد بكداش، خلال الفترة ذاتها وحتى وفاته سنة 1995، حليف نظام الاستبداد والفساد.
والحال أنّ البكداشية لم تكن الشوكة الوحيدة التي خلّفها الورد، خلافاً لطبائعه، في "عسال الورد"؛ لأنّ فلسفة الخالد الذي يهدي الخطى انتقلت بالوراثة، بعد وفاته، إلى أرملته، وصال فرحة بكداش، فانتُخبت أميناً عاماً للحزب، في مؤتمر 1995؛ ثمّ رئيساً للحزب، على أن يرث ابنها عمار بكداش الأمانة العامة منها، في مؤتمر 2010. كانت العائلة في هذا لا تهتدي بدروب الخالدين، بقدر ما تدشّن مبدأ التوريث حتى قبل حافظ الأسد، مع نجليه باسل وبشار. ولم يكن غريباً، إذاً، أن يطلق بكداش الابن على الانتفاضة السورية سلسلة نعوت قدحية لا تجاريها إلا نعوت الأسد الابن؛ وأن يعتبر، في أحدث إشراقاته الفلسفية، أنّ تحديد مدّة الحكم الرئاسية ليس مبدأ ديمقراطياً، لإنه... يحدّ من حقّ الشعب في الاختيار!
"أنا ماركسي، وماركس يقول: الممارسة هي مقياس الحقيقة، وما عدا ذلك من شكوك ونوايا فهو كلام هواة ليس إلا"، يعلن بكداش الابن، على سبيل تثمين "إصلاحات" النظام، في وجه المشككين بها. أمّا في "عسال الورد"، فإنّ الورد الجوري يمكن أن يتقصّف كلّ يوم بأقدام همج النظام، ولكن جذوره لا تتوقف عن الضرب عميقاً في باطن تربة طيبة أبيّة. تلك، بالطبع، ممارسة لا يفقه قوانينها أمثال بكداش الابن، ولا سيّده الأسد الابن، وليس لأيّ منهما إلا أن يواصل الهبوط إلى حضيض، شائن ومخزٍ عند الأوّل، أو وحشي دامٍ عند الثاني؛ كلاهما لا يليق بأرض الورد!