تأمّلوا هذا التفصيل الأوّل في الخبر الذي وزّعته 'سانا'، وكالة أنباء النظام السوري، تحت عنوان: 'مسرحيو اللاذقية يحيون احتفالية اليوم العالمي للمسرح': وقع الاختيار على عرض العمل المسرحي 'العرس الوحشي'، بالنظر إلى 'ملاءمته للمرحلة التي تمر بها سورية حالياً، في ظل الهجمة الشرسة'. اللافت أنّ المسرحية لا تجري في سورية، بل في... العراق! والعمل يتناول 'المأساة العراقية، مصوّراً الانتهاكات السافرة والوحشية التي تعرض لها العراق وشعبه'! التفصيل الثاني هو تصريح هاشم غزال، مخرج العرض ومدير المسرح الجامعي: 'إنّ المتآمرين يريدون للشعب السوري أن يصل في دمار بنيته إلى ما وصل اليه شقيقه العراقي، ولذلك توجهنا بالعمل إلى المتلقي السوري لمنحه الثقة بأنّ الشعب السوري لن يسمح للمرحلة العراقية السوداوية بالمرور في نسيجه الاجتماعي والتاريخي والثقافي'!
أمّا اختيار اللاذقية بالذات، دون سواها من المدن السورية، فإنه يشير إلى تفصيل ثالث في هذا المستوى الضحل من التخابث على هواجس السوريين، وترهيبهم من المصير العراقي (أي: 'العرس الوحشي'، نفسه!) الذي ينتظرهم إذا واصلوا أعمال الانتفاضة ضدّ نظام الاستبداد والفساد. من جانبها، كانت 'الشاعرة' مناة الخيّر، مديرة المسرح القومي باللاذقية، قد ألقت كلمة المسرح العالمي، فقالت إنّ 'العالم بأحلامه وحكاياته وجنون الحياة فيه يدور في فلك محراب المسرح، لأنه الشجرة الأمّ لكلّ فنون العالم'؛ وكأنّ 'فنون' النظام في التنكيل بالسوريين، وفي ارتكاب أبشع المجازر، كلّ ساعة، وكلّ يوم، ليست مسرح الحياة اليومية في سورية الراهنة. وأخيراً، لا تكتمل العوالم الحلمية هذه إلا بالكلمة الحالمة التي كتبها نضال سيجري، وأكد فيها أن 'المسرح في سورية سيعبر إلى ضفة شاطىء ذهبي أسطوري، يحاكي ملحمة الإنسان في أوجاعه وبسماته'!
من انحطاط مبتذل، إلى انحطاط أشدّ ابتذالاً، الآن إذْ يستذكر المرء موقفاً متميزاً لنفر من المثقفين السوريين، احتفوا بالمناسبة إياها، ولكن على نحو خاصّ، مشرّف وشجاع ومبتكَر في آن معاً: لقد ساروا، يحملون الشموع إلى بيت المسرحي والموسيقي السوري الرائد، الشيخ أحمد أبي خليل القباني (1836 ـ 1904؟)، الواقع في منطقة المزّة ـ كيوان، أعلى ذروة جبلية تطلّ على العاصمة السورية دمشق. وكانت وزارة السياحة، بالتعاون مع وزارة الثقافة و'جمعية أصدقاء دمشق'، قد عهدت إلى الجهة التي سترمم البيت باستثماره سياحياً، وهو المشروع الذي تعثّر أو توقف أو طواه النسيان. وبهذا المعنى، ولأنّ سلسلة معجزات كانت هي وحدها التي حفظت بقاء البيت ـ وإنْ في هيئة أقرب إلى الأطلال الدارسة ـ بعيداً عن جشع تجّار العقارات واحتمالات الهدم أو الاستيلاء العشوائي، فإنّ مسيرة الشموع تلك اتخذت صفة احتجاجية بيّنة، صامتة بالطبع، ولكنها ناطقة على النحو الوحيد الذي كان متاحاً في سورية آنذاك.
ومن الفاضح أنّ الجهات الحكومية المختصة تلكأت طيلة عقود في تكريم بيت الرائد الكبير، ليس من حيث الترميم فحسب، بل في ضرورة تحويله إلى متحف يضمّ إرث القباني ومفردات الحقبة التي عاش فيها وصنع الكثير من ذاكرتها الثقافية، مسرحاً وغناء وتلحيناً، وإحياء تراث، وتربية جمالية. ومن الفاضح أكثر أنّ تلك الجهات تتلكأ أكثر في استكمال أعمال الترميم، بل تراوح في المكان، رامية الملفّ فوق واحد من رفوف الإهمال الكثيرة، عرضة لأتربة البيروقراطية وغبار النسيان. كأن بعض حكمة النظام في هذا تنبثق، أوّلاً، من حقيقة أنّ الرائد الكبير يحتل في الوجدان السوري مقام المتمرّد على الطغيان، الثائر من أجل حرّية التعبير وانعتاق الفنون، والمبدع الذي لا يتملّق السلطة بل يكشف سوءاتها وموبقاتها بحقّ الشعب.
ذلك لأنّ مسرحيات القباني، وخاصة 'أبو الحسن المغفل'، أخذت تزعج السلطة السياسية العثمانية، وتقضّ مضجع بعض المشائخ أيضاً، فأرسل هؤلاء الشيخ سعيد الغبرا مندوباً عنهم إلى الأستانة، وفي صلاة الجمعة هتف الغبرا بالسلطان عبد الحميد الثاني: 'أدركنا يا أمير المؤمنين، فإنّ الفسق والفجور قد تفشيا في الشام، فهُتكت الأعراض وماتت الفضيلة ووئد الشرف واختلطت النساء بالرجال'. ولم يكن عجيباً أن يأمر السلطان واليه في دمشق، حمدي باشا، باغلاق مسرح القباني، ومنعه من التمثيل، والتغاضى عن عمليات التنكيل التي نظمها بعض المشايخ ضدّه. وهكذا أحرق الغلاة المسرح، وحاصروا منزل القباني، فغادر إلى مصر سنة 1884، وبقي منفياً فيها حتى سنة 1900؛ فعمل في الإسكندرية أوّلاً، ثمّ في القاهرة، وجال في المنصورة والمنيا والفيوم وطنطا وبني سويف، حتى أنّ البعض يحصي له 150 حفلة مسرحية.
والاحتفاء بيوم المسرح العالمي عن طريق تكريم القباني، من فريق يمثّل المجتمع المدني، حتى بمسيرة شموع بسيطة إلى بيته؛ مقابل إحياء المناسبة ذاتها على يد فريق النظام، بوسيلة الترهيب والتخويف والتلويح بالكوابيس؛ هي، في واحد من وجوهها الدالّة، فارق بين أعراس الدم على مسرح الحياة، وقرع طبول التهريج على مسارح السلطة. ولهذا لم يكن بلا معنى أن مسيرة شموع جديدة لم تقصد بيت القباني هذه السنة، لأنّ المطلوب لم يعد ترميم البيت وحده، بل إعادة بناء سورية الجديدة بأسرها، بعد تقويض النظام.