"الدستور الجديد"، الذي قيل إنّ السوريين وافقوا عليه أواخر شباط (فبراير) الماضي، بنسبة تصويت شبه ساحقة، بلغت 89،04 بالمئة، حسب إعلان أجهزة النظام، كأنه لم يمسّ المادة 8 من الدستور القديم، التي تقول إنّ "حزب البعث العربي الاشتراكي حزب قائد للمجتمع والدولة"، و"يعمل على وضع الخطط والسياسات العامة". السوريون، إذْ تابعوا ـ قسراً، كالعادة ـ أجواء الاحتفالات بالذكرى الخامسة والستين لتأسيس حزب البعث، عبر الإذاعة والتلفزة والصحافة الحكومية، لم يشعروا بأيّ فارق يشير إلى اندثار تلك المادة؛ أو أنّ ذلك الاستفتاء كان له أي مفعول مباشر على مؤسسات الدولة، في ما يخصّ هذه المادّة الأشهر على الأقلّ.
وكانت صحيفة "البعث"، الناطقة باسم الحزب، قد استبقت التصويت بتمهيد طريف يقول إنّ إلغاء المادة 8، وإدراج مادّة تتحدّث عن التعددية الحزبية، ليس "خسارة" لحزب البعث، بل هو "استعداد للتضحية المثمرة، على غرار تضحيته بحلّ تنظيمه في سورية لانجاز الوحدة بين سورية ومصر عام 1958". ولهذا فإنّ أي مادّة مختلفة "ستغني إرثه وتجربته، لأنها لا تتناقض أبداً مع أهدافه ومشروعه الوطني والقومي"؛ خاصة وأنّ حسابات الحزب "لا تنطلق من الربح أو الخسارة، بقدر ما تنطلق من أنّ التغيرات بعامتها في مشروع الدستور الجديد تتوافق وتواكب التطورات السياسية والاجتماعية المحلية والمحيطة".
طريف هذا الضحك، المفضوح، على اللحى؛ والأطرف منه ما تقوله اليوم القيادتان القطرية والقومية للحزب، في ذكرى تأسيسه: "يحتفل حزبنا العظيم وجماهير شعبنا الأبي هذه الأيام بالذكرى الخامسة والستين لتأسيس الحزب"، والقيادة "تعرب عن ثقتها بقدرة حزبنا العظيم وجماهير شعبنا على تجاوز منعطف المؤامرة مؤكدة التمسك بفكر الحزب وأهدافه"، و"البعث تأسس للتعبير عن وفاء كبير وإخلاص عميق لكل ما من شأنه أن يجمع الأمة ويرتقي بها ويبعث فيها روح التجديد والانطلاق الى بناء مستقبل عربي موحد ومشرق"، لأنّ الحزب "انبثق من بين الجماهير المضطهدة وناضل معها وسيبقى وفياً لها ويواصل نضاله من أجل تحقيق أهدافها". البعث، عند القيادة القطرية، هو الجماهير، ولا جماهير إلا للبعث؛ منها انبثق، ولتحقيق أهدافها انطلق، وهكذا سوف يبقى...
القيادة الأخرى، القومية، التي تقود عمل الحزب في طول بلاد العرب وعرضها، قالت من جانبها إنّ "ما تتعرض له سورية اليوم يستهدف البعث كحركة قومية عربية تناضل من أجل مجتمع عربي حر وموحد تسوده العدالة والمساواة وترفد نضال الشعوب الأخرى من أجل التحرر وضدّ الهيمنة والسيطرة، ومن أجل عالم يسوده الأمن والاستقرار والتقدم والازدهار"؛ والحزب "أثبت بفكره القومي وعزيمة مناضليه عبر ساحات الوطن العربي الكبير قدرته عبر التاريخ المعاصر منذ بدايات نشؤئه وتأسيسه على البقاء والتجدد المستمرين، وعلى قيادة حركة الجماهير العربية ونضالها، تجسيداً لرسالة الأمة العربية الخالدة، من مرحلة البدايات في مطلع الأربعينيات حتى الآن، الأمر الذي مكّنه من معالجة الواقع معالجة ثورية تغييرية هادفة، ومواجهة التحديات والصعوبات والمعوقات الموضوعية والذاتية"...
ذرّ للرماد في العيون، بعد محاولة الضحك على اللحى، وكأنّ سورية لا تشهد، منذ سنة ونيف، انتفاضة شعبية عارمة ضدّ نظام الاستبداد والفساد والحكم الوراثي، الذي كان حزب البعث واجهته السياسية والعقائدية؛ أو كأنّ الآلاف من أعضاء الحزب لم ينقلبوا إلى شبيحة أو مرتزقة أو ميليشيات مسلحة تمارس الحصار والاعتقال والاختطاف والتعذيب والاغتصاب والاغتيال، في شوارع وساحات وقرى وبلدات ومدن سورية. أو، في الخلفية الأخرى للمعادلة، كأنّ حزب البعث ما يزال يحمل صفة الحزب حقاً، ولم تمسخه أجهزة النظام إلى كتلة انتهازية هلامية مستكينة وعميلة ومأجورة، فصارت فِرَقه الحزبية، وشُعَبه وفروعه، محض استطالات تابعة لإدارات الاستخبارات.
والحال أنّ آخر أخبار هذا الحزب، بصفته حزباً سياسياً من أيّ نوع، تعود إلى أواسط العام 2010، حين جرى تأجيل مؤتمره القطري لـ"أشهر قليلة"، بهدف إنجاز "مزيد من الحوارات والخيارات أمام الجميع"، و"ضرورة إجراء حوارات سياسية على جميع المستويات من أجل بناء سورية المستقبل"؛ حسب ما أعلن، آنذاك، هيثم سطايحي، عضو القيادة القطرية للحزب ورئيس مكتب الثقافة والإعداد والإعلام والعلاقات الخارجية. سعيد بخيتان، الأمين القطري المساعد للحزب، دفع انعقاد المؤتمر إلى "أجل غير مسمى"، وذلك لإتاحة الفرصة أمام "إعداد الدراسات والتحضيرات للوصول إلى نتائج إيجابية تلبي طموحات المواطنين وتعزز عملية التنمية".
تلك، بدورها، كانت لغة مضللة تنتمي إلى الخطاب الخشبي الأجوف ذاته، وكان من العبث التنقيب عن سلسلة الأسباب التي دفعت إلى تأجيل انعقاد المؤتمر، لأنها ببساطة لم تكن تخصّ قيادات حزب البعث أو قواعده، بل كانت ذات صلة بأجندة الرئاسة على الصعيد السياسي الإقليمي بصفة خاصة، وأولويات أشغال مختلف الأجهزة على الصعيد الداخلي، وتراجع قِيَم الحزب في آلة السلطة إلى حضيض غير مسبوق، وسواها من حزمة الأسباب واحتمالاتها. وكان واضحاً، في المقابل، أنّ انعقاد ذلك المؤتمر سوف يسهم، وإنْ على نحو غير متعمَّد البتة، في فضح "منجزات" المؤتمر الذي سبقه، وكيف ظلت القرارات والتوصيات والتعهدات حبراً على ورق، أو تكاد.
ذلك لأنّ آخر المؤتمرات القطرية، وهو العاشر الذي انعقد أواسط سنة 2005، أُريد له أن يكون "القفزة الكبيرة في هذا البلد"، حسب تعبير بشار الأسد نفسه، في خطابه أمام مجلس الشعب يوم 5 آذار (مارس) تلك السنة؛ فاتضح، سريعاً، أنه لم يكن قفزة بأيّ معنى، حتى إلى وراء! وكان المؤتمر قد شدّد، في الشؤون الداخلية وحدها، على "تنظيم علاقة الحزب بالسلطة"، ودوره في "رسم السياسات والتوجهات العامة للدولة والمجتمع"، و"تحديد احتياجات التنمية". وفي مسائل "تطوير النظام السياسي وتوسيع دائرة العملية السياسية"، أوصى المندوبون بـ"مراجعة أحكام دستور الجمهورية العربية السورية بما يتناسب مع التوجهات والتوصيات الصادرة عن المؤتمر"؛ وأكدوا "أهمية دعم أجهزة السلطة القضائية واستقلاليتها"، و"تكليف الحكومة بوضع آليات ناجعة لمكافحة الفساد، والحدّ من ظاهرة الهدر في المال العام".
وفي جانب آخر، اعتُبر بيضة القبان في وعود الأسد الإصلاحية، أكد المؤتمر على "أهمية إصدار قانون أحزاب يضمن المشاركة الوطنية في الحياة السياسية وذلك على قاعدة تعزيز الوحدة الوطنية"؛ و"مراجعة قانون الانتخاب لمجلس الشعب والإدارة المحلية"؛ و"تعزيز مبدأ سيادة القانون، وتطبيقه على الجميع"، و"اعتبار المواطنة هي الأساس في علاقة المواطن بالمجتمع والدولة". توصيات أخرى طالبت بمراجعة قانون الطوارىء، وحصر أحكامه بالجرائم التي تمسّ أمن الدولة، وإلغاء المرسومين التشريعيين رقم 6 لعام 1965 المتعلق بمناهضة أهداف الثورة، ورقم 4 لعام 1965 المتعلق بعرقلة تنفيذ التشريعات الاشتراكية، وإلغاء القانون رقم 53 لعام 1979 المتعلق بأمن الحزب؛ وإعادة النظر في قانون المطبوعات، بما يتيح إصدار قانون جديد للإعلام بأنواعه كله. ليس هذا فحسب، بل ذهب المؤتمر إلى حدّ التأكيد على ضرورة حل مشكلة إحصاء عام 1962 في محافظة الحسكة (الذي حرم قرابة 70 ألف مواطن كردي من الجنسية، أو صنّفهم في خانة الـ"مكتوم")؛ وتطوير المنطقة الشرقية، وتنميتها.
وليس المرء بحاجة إلى سرد الأدلة على أنّ التوصيات لم تذهب أدراج الرياح فحسب، بل انحطّ اداء السلطة في هذه الملفات، وفي كثير سواها، إلى درك أسفل لم يكن يقبل المقارنة حتى بأسوأ أواليات القمع والفساد والنهب والتخريب طيلة عقود "الحركة التصحيحية" الثلاثة. وثمة، بذلك، دلائل تشير إلى تعزز يقين الأسد الابن بما كان الأسد الأب قد انتهجه تجاه حزب البعث، بعد أشهر قليلة أعقبت استلامه السلطة في تشرين الأول (أكتوبر) 1970. وكان، حينذاك، قد دشّن سلسلة سياسات "تصحيحية" (ومنها انبثقت تسمية انقلابه العسكري)، استهدفت تدعيم أركان حكمه ليس على نحو وقائي مرحلي كما خُيّل للبعض آنذاك، بل على نحو منهجي طويل عانى السوريون من آثاره سنة بعد سنة، وعقداً بعد عقد. بعض تلك التصحيحات شمل إعادة بناء الأجهزة الأمنية، وتبديل بنية الجيش السوري القيادية، وتأسيس وحدات عسكرية مستقلة أشبه بجيوش داخل الجيوش (سرايا الدفاع، الوحدات الخاصة، الحرس الجمهوري، سرايا الصراع...)؛ وبعضها الآخر شمل الحياة السياسية والاجتماعية والنقابية والتربوية، واصطناع منظمات تتكفل بخنق المبادرات التلقائية للمجتمع المدني؛ وبعضها الثالث دار حول موقع حزب البعث في السلطة، الأمنية أوّلاً ثمّ السياسية، وفي الدولة والمجتمع.
وفي الموسوعة البريطانية، مادّة "حزب البعث"، نقرأ ما يلي: "حزب سياسي عربي يدعو إلى قيام أمّة عربية اشتراكية واحدة. للحزب فروع في العديد من بلدان الشرق الأوسط، وهو حاكم في سورية والعراق. تأسس الحزب سنة 1943 في دمشق علي يد ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وأقرّ دستوره سنة 1947، واندمج مع الحزب العربي الاشتراكي لتشكيل حزب البعث العربي الاشتراكي". الطبعات اللاحقة من الموسوعة سوف تضطرّ إلى إدخال تعديلات جذرية على هذا التعريف، بمعدّل شهري تقريباً، إذْ لم يعد الحزب حاكماً في العراق، ومفردة "اشتراكية" فقدت كلّ مدلولاتها في عقيدة الحزب الراهنة، و"الجيش العقائدي" للحزب في سورية انضوى تحت القيادة الأمريكية في "عاصفة الصحراء"، واختراع "الديمقراطية الشعبية" صار جمهورية وراثية، والقطاع العام صار مزرعة عند أمثال رامي مخلوف، و"الرفيق البعثي" صار شبيحاً، أو مخبراً، أو "منحبكجياً" في أخفّ الوظائف!
زكي الأرسوزي (1908 ـ 1968)، أحد الآباء الروحيين المؤسسين للحزب، كان يقول: "العربي سيّد القدر". وأكرم الحوراني (1911 ـ 1996)، زعيم الحزب "العربي الاشتراكي" والرجل الذي يقف وراء حكاية اشتراكية البعث، طالب فلاحي منطقة حماه بأن يحضروا الرفش والزنبيل لدفن الإقطاعي دون إبطاء. وميشيل عفلق (1910 ـ 1989)، أبرز الأسماء في لائحة المؤسسين، عاد من دراسته في جامعة السوربون بمزيج عجيب من فيخته ونيتشه: من الأوّل ميتافيزيقا الأمّة الألمانية، ومن الثاني فلسفة القوّة التي سيسقطها على شخصية البعثي السوبرمان! بدأ هذا الحزب، إذاً، في سياق من سفاح عجيب بين الفلسفات والطبقات والشعارات، وهو اليوم يلفظ أنفاسه بطيئاً وسط سياقات مناسبة من سفاح عجيب آخر يزاوج فلسفة السوق والاستبداد، والجمهورية الوراثية بالوطن ـ المزرعة!
ومن مجازر حماه 1982 في سورية، إلى مجزرة حلبجة في العراق، وصولاً إلى الهمجية المطلقة في محاولات كسر الانتفاضة الشعبية الراهنة؛ ومن احتلال لبنان وضرب المخيمات الفلسطينية والتفرّج على الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، إلى احتلال الكويت، وصناعة واحدة من أغبى كوارث العرب في التاريخ الحديث؛ ثمة منطق صارم يربط البدايات بالمآلات، نحو النهايات. الصفحة تُطوى في العراق دون أن تنطوي تماماً، وفي سورية تكفلت الجمهورية الوراثية بالإجهاز على آخر الأكاذيب حول "سيّد القدر"، دون سواه: بلغ الخامسة والستين، وخط الشيب رأسه، هرم، وشاخ... ولكنه ما يزال يهتف كالببغاء: منحبّك!