أعود ـ دون كلل أو ملل، لأنّ الحال تقتضي، في يقيني، هذه العودة ـ إلى السجال بأنّ حزمة الأسباب التي تكفلت بإطالة عمر النظام السوري يتصدّرها سبب مركزي، وجوهري، ينتج متتالية أسباب ذات ترابط عالٍ، بحكم تطابقها أو تقاطعها. ذلك السبب هو انّ الولايات المتحدة لم تحسم أمرها، بعد، بصدد قطع ما تبقى من شرايين تغذية (لها، غالباً، صفة المصل المؤقت)، تمدّ النظام بآجال بقاء، وأحياناً تشجّع لجوءه إلى تنفيذ هجومات مضادة، بين حين وآخر. في رأس المتتالية الناجمة يأتي الموقف الإسرائيلي، الحريص على تأجيل سقوط البيت الأسدي حتى ربع الساعة الأخير، الذي لا مناص بعده من التسليم بالمصير المحتوم؛ وكذلك الموقف الروسي، الذي لا مصلحة له في الحسم، بالطبع، ما دامت واشنطن ذاتها لا تحسم؛ ومثله الموقف الأوروبي، سواء على صعيد الاتحاد مجتمعاً، أو الدول فرادى؛ فضلاً عن مواقف الدول العربية الحليفة، التي تتقلّب سياساتها على النار الأمريكية الهادئة إياها، مع فارق التسخين اللفظي الذي يخاطب القول أكثر ممّا يقارب الفعل.
لا جديد يُضاف، اليوم، إلى سلسلة الاعتبارات التي تحكم هذه المعادلة الأمريكية، ومتتالياتها الإسرائيلية والروسية والأوروبية والعربية، والتي سبق لي أن توقفت عند ثوابتها، ومتغيراتها، في مناسبات ماضية. ثمة، في المقابل، نفض للغبار عن بلاغة عتيقة، أو تجديد لصياغاتها لا يغيّر كثيراً في المحتوى الأصلي العتيق بدوره، وبعض المقررات (التي تبدو أرباع، وليس حتى أنصاف، تدابير)، على غرار ما أعلنه الرئيس الأمريكي باراك أوباما في خطابه الأخير، أثناء زيارته لمتحف الـ"هولوكوست" في واشنطن، حول فرض عقوبات على الجهات التي تزود سورية وإيران بالوسائل التكنولوجية المساعدة على تسهيل انتهاكات حقوق الإنسان في البلدين.
"ليست السيادة الوطنية رخصة للحكام كي يذبحوا شعوبهم"، قال أوباما وهو يقصد الإشارة إلى "أي مجنون ينتهك حقوق الإنسان، ويرتكب الفظائع، والإبادة، وأعمال القتل الجماعي"؛ واعداً الشعب السوري بـ"مواصلة الضغط" على الأسد، بهدف "عزل نظامه أكثر"، وفرض مزيد من العقوبات، والتعاون مع "أصدقاء سورية". ولأنّ إيلي فيزل، حامل نوبل للسلام والقيّم على شؤون الـ"هولوكوست"، كان قد غمز من قناة أوباما وسياساته، ردّ الرئيس الأمريكي بالقول: "بينما نحاول أن نعمل كل ما نستطيع، لا نقدر أن نسيطر على كل الأحداث. ونحن نحاول في سورية، علينا أن نتذكر أنه رغم كل الدبابات، وكل القناصين، وكل التعذيب، لا يزال السوريون يتحدّون في الشوارع. ولا يزالون مصرّين على إسماع مطالبهم للعالم. إنهم لم يستسلموا، ولهذا فإننا نحن أيضاً لن نستسلم".
ولكي يذهب أبعد، أو يطلق عبارة أشدّ لهجة بالأحرى، أضاف أوباما أنّ العقوبات الجديدة خطوة أخرى "نحو اليوم الذي نحن متأكدون من أنه آتٍ، وهو يوم نهاية نظام الأسد الذي يذبح الشعب السوري". ليس بفضل هذه العقوبات (التي لا تتذكّر اللواء علي مملوك، رأس جهاز المخابرات العامة، إلا اليوم... بعد أكثر من 14 شهراً على أعمال الذبح التي يتحدّث عنها أوباما!)؛ بل بفضل إصرار الشعب السوري على المضيّ بالانتفاضة حتى المتر الأخير الختامي من هذا المسار الشاقّ، الدامي، الذي كان محالاً فصار دانياً وشيكاً. وليس لأنّ النظام السوري لم يتوقف، ولم يرتدع، واستمرّ في تنفيذ المجازر حتى في المدن التي كان المراقبون الأمميون يتفقدونها (مدينة حماة، مثلاً، ومجزرة حيّ "مشاع الطيار": 54 شهيداً، بينهم 13 طفلاً، و16 امرأة)؛ بل، بالضبط، لأنّ أفانين وحشية النظام لم تنفع، كلّها، في كسر إرادة الانتفاضة.
في المقابل، الأمريكي بدوره ولكن غير الحكومي، أو شبه الحكومي، نقرأ عن مؤتمر لـ 60 شخصية من المعارضين السوريين، يستهدف البحث في "المواطنة والدولة المدنية الديمقراطية"، ينعقد على شواطىء البحر الميت في الأردن، وبدعوة من "مركز القدس للدراسات السياسية"، ولكن بدعم من "المعهد الديمقراطي الأمريكي". وهذا معهد يسعى، وفق إعلان مبادئه، إلى "تحسين الديمقراطية الأمريكية من خلال المشاركة المتزايدة، والفهم الأعمق للمسائل التي تؤثر في الحياة العامة، ومن أجل مواطنة أكبر في الشؤون العامة". ما العلاقة، المباشرة على الأقلّ، بين أغراض هذا المعهد ـ الأمريكية الداخلية الصرفة، كما يلوح ـ ومسائل مثل: "أي نظام سياسي لسورية المستقبل؟"، "الدين والدولة"... حقوق الأفراد والجماعات...أسئلة الهوية والمواطنة والاندماج"، و"سبل التغيير في سورية... الفرص والتحديات"، و"ملامح مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية"... التي ناقشها المؤتمرون على الشاطئ الشرقي للبحر الميت؟
الحال أنّ التناقض أو التطابق بين موقف "المعهد الديمقراطي الأمريكي" وخطاب أوباما في متحف الـ"هولوكوست، أو الوقوع في منزلة بين منزلتيهما، هو السمة الغالبة، والأعرق بمعنى التكرار، لمعظم المقاربات الأمريكية لمسائل حقوق الإنسان ما وراء المحيط. الدليل الأفضل هو قراءة التقارير السنوية حول حقوق الإنسان في العالم، كما يدبجها مايكل بوزنر، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل، والتي تغطّي أكثر من 190 دولة، حصيلة عمل ألف شخص ونيف، قرأوا ودققوا وكتبوا آلاف الوثائق... وفي كلّ مرّة، كان الحياء ـ أغلب الظنّ، وعلى سبيل حسن النيّة ـ هو الذي يدفع بوزنر إلى أن يغضّ الطرف عن تفصيل آخر يقول إنه قادم إلى المنصب من رئاسة المنظمة الحقوقية الأمريكية المعروفة Human Rights First، التي كان لها شرف المشاركة في إماطة اللثام عن سلسلة انتهاكات حتى داخل الولايات المتحدة ذاتها.
بيد أنّ العمل في وزارة خارجية دولة عظمى تمارس احتلالًيْن عسكريين، في أفغانستان والعراق؛ وتخوض ما تسمّيه "حملة ضدّ الإرهاب" يمكن، وقد تمّ بالفعل، في سياقاتها انتهاك أيّ وكلّ حقّ؛ أمر مختلف عن العمل في منظمة غير حكومية. ولهذا فإنّ بوزنر، المساعد للوزيرة هيلاري كلنتون، شخصية أخرى لا تشبه، إلا في الاسم والملامح الفيزيائية، الشخص الذي سبق له أن فضح الممارسات البربرية في سجنَيْ غوانتانامو وأبو غريب، ومثلها "السجون الطائرة"، ومعسكرات الاعتقال السرّية هنا وهناك في العالم. وليس في الأمر أية غرابة بالطبع، فالمرء يفترض على الفور أنّ بوزنر وافق، عند قبول المنصب، على تعاقد يقتضي منه الدفاع عن سياسة الإدارة، لا انتقادها أو تفضيح أفعالها.
ذلك هو السبب في أنه يسارع إلى امتداح وزيرته، وقبلها رئيسه باراك أوباما، على الركائز "الجديدة" التي اعتمداها في مسائل حقوق الإنسان: "الانخراط المبدئي"، الذي يقوم على فهم العالم؛ وإخضاع جميع الحكومات، بما في ذلك الحكومة الأمريكية، إلى "معيار كوني واحد"، و"الالتزام بالوفاء للحقيقة"، و"أكثر من أيّ أمر آخر نقوم به في الحكومة". لا يكترث بوزنر، ولا الصحافيون حضور مؤتمراته، حول ما إذا كانت هذه الركائز جديدة، حقاً، بادىء ذي بدء؛ وهل جديدها، أياً كانت طبيعته، جرى تطبيقه فعلاً في الفقرات التي تخصّ انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسا، أو حقيقة انتهاكات السلطات السعودية أو البحرينية، إذا وضع المرء جانباً تلك الوقائع التي تخصّ الولايات المتحدة أيضاً؟
خذوا، مثلاً، إجاباته الكلاسيكية حول الأوضاع في قطاع غزّة، وعمّا إذا كان توفير مياه الشرب الصحية والمأوى والدواء والمساعدات الإنسانية الأخرى، يدخل في عداد حقوق الإنسان التي يتوجب حمايتها: لقد عولجت قضية غزة في تقارير السنوات الماضية، من جهة أولى؛ وهذه، من جهة ثانية، قضايا "عمرانية" و"بلدية" تخصّ حماية المدنيين بصفة عامة، و"من المعقد معالجة المسائل الإنسانية في مكان تسيطر عليه "حماس" بشكل واسع. ذلك يجعل الجهد أكثر صعوبة"! في المقابل، يظلّ بوزنر طليق اللسان وهو يتابع هجاء انتهاكات حقوق الإنسان في الصين وإيران وكوبا، واتساع نزعات العداء للسامية في أوروبا والشرق الأوسط، والتضييق على المرأة في أفغانستان والصومال والسودان (ولكن ليس باللهجة ذاتها عند الحديث عن حقوق المرأة في السعودية!)، واتساع رقعة الدول التي تعتمد عقوبة الإعدام (وكأنّ أمريكا ذاتها ليست دولة إعدامات بامتياز: في ولاية تكساس، وحدها، بلغ عدد الإعدامات 451 حالة منذ سنة 1976).
وكيف للمرء أن لا يتفرّس في الحاضر على مرآة الماضي القريب، فيستعيد تلك البلاغة الظافرة التي طفحت في خطبة باولا دوبريانسكي، زميلة بوزنر في منصب مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون العالمية، أيام كوندوليزا رايس وإدارة جورج بوش الابن، حين تحدّثت عن ولادة جديدة لحقوق الإنسان بأثر من "ثورة زهرية" في جورجيا، و"ثورة برتقالية" في أوكرانيا، و"ثورة أرجوانية" في العراق، و"ثورة الأرزة" في لبنان؟ ورغم أنّ أحداً، أغلب الظنّ، لم يدرك تماماً سبب اختيار اللون الأرجواني للعراق، إلا إذا كانت دوبريانسكي قد قصدت الإشارة إلى عنف قانٍِ هو نقيض الثورات السلمية، فإنّ مآلات الزهري والبرتقالي والأرزي صارت معروفة، مثيرة للشفقة على أهلها والشماتة في المراهنين عليها، في انتظار ما سيسفر عنه اللون الأرجواني من نهايات، أو بدايات بالأحرى.
وفي مناسبة مثل هذه التي شهدت تصريحات بوزنر، أي نشر التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية حول أوضاع حقوق الإنسان في العالم، كان مدهشاً أن دوبريانسكي خلطت الحابل بالنابل، فانتقدت مستويات احترام حقوق الإنسان في روسيا وبيلاروسيا وكوبا والصين وكوريا الشمالية وبورما ولاوس وفييتنام وزيمبابوي وإيران والسودان ومصر والأردن وسورية والسعودية... وكأنها أنظمة متماثلة متشابهة. وكان مضحكاً، في المقابل، أن يلوّح مايكل كوزاك، سلف بوزنر في مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل، بفرض عقوبات اقتصادية على بعض الدول، بينها السعودية والصين! ولأنّ الولايات المتحدة لم تكن في أيّ يوم أفضل مَنْ يعطي البشرية الدروس والعظات والتقارير المفصلة حول احترام حقوق الإنسان، فإنّ موظفي الإدارة يصمّون الآذان تماماً عن أسئلة أخرى تتناول ما هو أدهى من تصدير تكنولوجيا انتهاك حقوق الإنسان: مناهضة الدكتاتوريات لفظاً، والسكوت عن فظائعها سرّاً... وعلانية أحياناً، حين تقتضي الحال!
ورغم أنّ النظام السوري هو، اليوم، رائد ما تبقى من أنظمة استبداد عربية، والأشدّ عنفاً بحقّ المجتمع، والأبشع انتهاكاً لحقوق الإنسان؛ فإنّ أهداف الانتفاضة السورية الراهنة أبعد بكثير، وأعمق وأهمّ، من مجرّد تحسين سجلّ النظام في مسائل حقوق الإنسان. البيت الابيض، أسوة بالمتتاليات المتواشجة مع خياراته الراهنة، لا يدرك هذه الحقيقة الكبرى أقلّ ممّا يفعل السوريون؛ لكنّ الفارق يكمن ههنا، أوّلاً: هذه انتفاضة قرّر السوريون أنها لن تتوقف قبل إسقاط النظام، وما تبقى من الشوط أقصر بكثير من أن يطيل مسافته أي مصل، أمريكي أو إسرائيلي أو إيراني أو روسي...