ما يزال الغموض يكتنف العملية التي أعلنت عنها "كتائب الصحابة"، قبل أيام، وما تزال الأسئلة تكتنف مصداقية ما تضمنته من إبلاغ عن مقتل جميع (ثمّ لاحقاً: بعض) أفراد " خلية إدارة الأزمة"، وفق التسمية التي شاعت منذ أشهر، واستقرّت في أذهان الكثيرين بوصفها اسماً على مسمّى فعلي، وليس توصيفاً مجازياً مثلاً. ومنذ آذار (مارس الماضي)، بعد انشقاق عبد المجيد بركات، الذي تردد أنه كان أمين "الخلية"، تكدست معلومات شتى حول طبيعة عمل هذه المجموعة الأمنية، والمهامّ المناطة بها، وصلاحياتها، وتقاريرها اليومية التي قيل إنها تُرفع مباشرة إلى بشار الأسد...
كذلك شاع، أو بات من المسلّم به، أنّ "الخلية" تتألف من هذه الشخصيات: ماهر الأسد، الشقيق والقائد الفعلي للفرقة الرابعة، والرجل الثاني الأقوى في هرم النظام العسكري؛ آصف شوكت، صهر العائلة الأسدية، الذي تقلّب في مناصب عديدة منذ توريث بشار الأسد، أبرزها إدارة المخابرات العسكرية؛ اللواء جميل حسن، رئيس مخابرات القوى الجوية؛ اللواء علي مملوك، مدير المخابرات العامة؛ اللواء عبد الفتاح قدسية، مدير المخابرات العسكرية؛ اللواء محمد ديب زيتون، رئيس شعبة الأمن السياسي؛ العماد المتقاعد حسن توركماني، وزير الدفاع الأسبق، والنجم اللامع اثناء سنوات الوفاق السوري ـ التركي؛ العماد علي حبيب، وزير الدفاع السابق؛ العماد داود راجحة، وزير الدفاع الحالي، اللواء صلاح النعيمي، رئيس هيئة العمليات؛ اللواء محمد الشعار، وزير الداخلية؛ هشام بختيار، رئيس مكتب الأمن القومي في القيادة القطرية؛ ومحمد سعيد بخيتان، الأمين القطري المساعد لحزب البعث.
هي "عظام رقبة" النظام، كما قد يقول المنطق البسيط، ولا ينقصها إلا عضوية رئيس إدارة الأمن الجنائي، أو إدارة شرطة السير، أو الضابطة الجمركية، أو الشرطة العسكرية... حتى يكتمل المطبخ الأمني للنظام، فتسقط صفة "الخلية" عن هذه الاجتماعات، لتصبح في منزلة ما، عجيبة غريبة، بين "المحفل" العمومي و"المجمع" السرّي! وشخصياً، لست أخفي ارتيابي في أنّ هذه "الخلية"، في توصيفها هذا على الأقلّ، لا توجد فعلياً على أرض الواقع، أو لا تعمل ضمن هذه الأوالية المحكمة، التي توحي بأنّ النظام ليس متماسكاً ومنسجماً ومتكاملاً، على صعيد مراكزه الأمنية العليا، فحسب؛ بل توحي أيضاً، أنه نظام "عقلاني"، و"ائتلافي" و"مؤسساتي"، يعطي لكلّ مسؤول حقّه في الإدارة، ويوكل له صلاحياته.
والحال أنّ نظام "الحركة التصحيحية" لم يعمل وفق هذا المنطق في أي يوم، وما كان ممكناً له أن يعمل ـ أمنياً، في المقام الأوّل، ثمّ عسكرياً وسياسياً بعدئذ ـ استناداً إلى أية صيغة تجعل القائد الفرد الأوحد مجبراً على الرجوع، فما بالك بالخضوع، إلى اجتهادات هذا أو ذاك من "قيادات" النظام الأدنى مرتبة. تاريخ العشرات من رفاق حافظ الأسد، ثمّ وريثه بشار الأسد، ممّن سادوا ذات حقبة، وبدا أنهم أساطين وأعمدة وركائز في معمار النظام؛ قبل أن يتضح أنهم بادوا في غمضة عين، وانتهوا إلى سلال مهملات التاريخ، غير مأسوف عليهم، ولا أثر يكاد يبقيهم حتى على الألسن (حكمت الشهابي، ناجي جميل، علي دوبا، علي حيدر، رفعت الأسد، محمد الخولي... أيام الأسد الأب؛ وعبد الحليم خدام، غازي كنعان، بهجت سليمان، محمد منصورة... أيام الأسد الابن؛ محض أمثلة على هذه السيرورة المتصلة).
ذلك يجعلني أرتاب في أنّ "خلية إدارة الأزمة" هذه ليست سوى خرافة، غذّتها مخيّلة تلقائية، بسيطة بقدر ما هي مشروعة في الواقع، شاءت أن تجمع كلّ هذه الإدارات والدوائر والشُعَب والمؤسسات الأمنية في حلقة واحدة، وحيدة؛ يُعزى إليها التخطيط لسياسات النظام الأمنية العليا، والإشراف على تنفيذها، وتنظيم مختلف التدابير في سياق الحلّ الأمني الذي اعتمده النظام منذ بدء الانتفاضة. وبصرف النظر عن احتمالات نجاح عملية "كتائب الصحابة"، كما وُصفت تفاصيلها بعدئذ؛ وما إذا كان ظهور الشعار وتوركماني على قيد الحياة، دليلاً على فشل العملية؛ أو كانت المعلومات المتفرقة عن موت الآخرين، وغيابهم، دليلاً على نجاحها؛ فإنّ الحلقة الأمنية الفعلية التي تدير سياسات النظام ليست هذه، وليس هذا منطق عملها.
ومع التسليم بأنّ مقتل أي من أعضاء "خلية إدارة الازمة"، الافتراضية تلك، يمكن أن يشكّل ضربة للنظام، ويمكن لبعض الضربات أن تكون موجعة؛ إلا أنها لن تكون قاصمة لظهر النظام، من جهة أولى؛ كما أنها، من جهة ثانية، لن تشلّ عمل مؤسساته الأمنية، غير المرتبطة دائماً بقياداتها المباشرة. وقد لا يبالغ امرؤ يفترض أنّ غياب أعضاء "الخلية"، مجتمعين، لا يساوي غياب فرد واحد مثل ماهر الأسد؛ ولهذا فإنّ الأخير كان غائباً عن الاجتماع المذكور في القيادة القطرية، هذا بافتراض أنه شارك في أي من اجتماعاتها تلك، ذات يوم! موجعة، إلى هذا، أن تكون العملية قد نجحت في استهداف آصف شوكت، لأسباب أخرى لا تتصل بأنه ركن أساس في معمار النظام الأمني، وتعود في جوهرها إلى موقعه داخل البيت الأسدي، ومطامحه السياسية (بالتكافل والتضامن مع عقيلته، بشرى الأسد)، وشبكات الولاء التي نسجها في جيوب محددة داخل الطائفة العلوية (علاقاته بممثلي المجموعات المرشدية، بصفة خاصة).
لا يُنسى، في هذا الصدد، أنّ شوكت هبط، مثل طائر الوقواق، على العائلة الأسدية حين ارتبطت به بشرى ـ الابنة البكر، والوحيدة في العائلة ـ ورضيت أن تكون زوجته الثانية، سرّاً ودون موافقة العائلة، وعاشت معه بعيداً عن القصر الرئاسي، حتى حسم الأسد الأب الأمر فأعادها وضمّ شوكت إلى الأسرة. وشاع أنه ما يزال منبوذاً من العائلة، ولم يتردد ماهر الأسد في إطلاق النار عليه ذات مرّة، إثر شجار حول مكانة العمّ رفعت الأسد. وطيلة خمس سنوات رفض الأسد طلب شقيقته بشرى تسليم زوجها رئاسة جهاز الاستخبارات العسكرية، وكان أعلى منصب اقترحه عليه هو استخبارات القوى الجوية، الذي رفضه شوكت واعتبرته بشرى إهانة لها. وليست إعادته من المخابرات العسكرية، إلى نيابة رئيس الأركان، ثمّ إلى نيابة وزير الدفاع، إلا المؤشر على أنّ شوكت ظلّ دخيلاً على البيت الأسدى، صهراً فحسب وليس عضواً كامل الحقوق والمزايا.
وقبل الانتفاضة بسنوات، منذ اغتيال عماد مغنية في ربيع 2008، تحدثت تقارير جدّية عن توتر أقصى بين الأسدَين، بشار وماهر، والصهر شوكت، تردّد أنّ الأخير قرّر بسببها ترك العاصمة دمشق و"الحرد" في ضيعته البعيدة، "المدحلة"، طيلة أشهر، حتى نجحت المصالحة في رأب "الصدع". بيد أنّ اتفاق شوكت والأسد حول الضرورات العليا لأمن النظام (وكان ذاك هو جوهر المصالحة، لأنه انقلب إلى توافق جماعي حين تندرج فيه أدوار ماهر الأسد، الأقوى في صفوف الجيش الكلاسيكي والوحدات العسكرية ذات المهامّ الأمنية الخاصة؛ والخال محمد مخلوف وأولاده، بارونات اقتصاد العائلة، وبالتالي اقتصاد الاستبداد؛ وحفنة محدودة للغاية من العسكريين والمدنيين، الأقلّ رتبة ومرتبة فقط، ولكن ليسوا أبداً أقلّ ضرورة في تشغيل آلة السلطة)؛ لم ينقلب إلى انطباق تام، أو تطابق شامل، حول وسائل الحفاظ على ذلك الأمن.
ظلت المؤشرات تتكاثر على "افتراقات" في مسائل سياسية حاسمة، مثل تدهور علاقات النظام مع السعودية ومصر، وما إذا كان الحفاظ على المقدار الراهن من النفوذ السوري في لبنان يستحق كلّ ذلك التدهور من جهة، أو أنّ في وسع النظام الصمود طويلاً في المواجهة الحالية، بل المواجهات القادمة، العربية أو الإقليمية أو الدولية. هنا، بالطبع، دخلت الأشغال والأعمال على خطّ الخلاف السياسي، إذْ هل من مصلحة القيّمين على النهب والفساد والاستثمار أن تُغلق الأبواب السعودية، وبعدها بعض أبواب الخليج، في وجه رساميلهم وشراكاتهم وشركاتهم؟ ملفّ افتراق آخر دار حول حدود العلاقات مع إيران، أمنياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وهل من الحكمة أن تنتهي تلك الحدود إلى تحالف، بلا حدود؟
وقد يسلّم المرء (بما يسهل التسليم به، في الواقع) بأنّ شوكت كانت لديه أجندة طبيعية شخصية، في إدامة النفوذ والسلطة والحلفاء وشبكات الولاء، مثله في ذلك مثل تسعة أعشار كبار رجالات "الحركة التصحيحية". التالي، من حيث المبدأ، هو أنّ هذه الأجندة تصطدم موضوعياً بالمشروع الإيراني في سورية: كلما تزايد الرهان الإيراني على بشار الأسد، بما ينطوي عليه ذلك من إحاطته أكثر فأكثر بأنصار إيران (ثمة تقارير ذهبت، آنذاك، إلى حدّ ترجيح نجاح طهران في تشكيل "نواة" عسكرية ـ أمنية سورية من هذا الطراز، كفيلة بأن تنفّذ انقلاباً عسكرياً في التوقيت الملائم)، تناقصت فرص آصف شوكت في تشكيل مركز قوّة/طوارىء، نظير على الأقلّ، إذا لم يطمح إلى موقع البديل، مالىء الفراغ إذا وقع.
صحيح أنه لم يكن في الوسع رصد هذه الخلافات علانية، بالنظر إلى أنّ شوكت لم يسبق له أن خاض في غمار السياسة علناً؛ إلا أنّ تطوّرات كثيرة لا يمكن أن تظلّ حبيسة جدران بيوت السلطة، وثمة دائماً معلومات بالغة الدقة تأخذ نادراً صفة التسرّب، ولكنها غالباً تسير مسرى التسريب عن سابق قصد وتصميم (صداقات اللواء مع نخبة من الدبلوماسيين وضباط الأمن في بعض الدول الغربية، فرنسا وإسبانيا خصوصاً، كانت كفيلة بتأمين معين لا ينضب من المعلومات). كنّا نعرف، وبتنا اليوم على معرفة أوسع، وامتلكنا معلومات أدقّ، حول العلاقة الوثيقة التي جمعت شوكت مع كلود غيان (سكرتير قصر الإليزيه في تلك الحقبة، وكاتم أسرار الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وناصحه الأبرز)، على سبيل المثال؛ حول مسائل جيو ـ سياسية بالغة الحساسية، على رأسها أمن إسرائيل، وما يُسمّى "الحرب ضدّ الإرهاب"، و"القاعدة" بصفة خاصة.
بهذه المعاني، مترابطة ومتكاملة، يمكن القول إنّ عملية "كتائب الصحابة"، إذا كانت قد قضت على شوكت بالفعل، فقد أسدت للانتفاضة خدمة ثمينة، إذْ أبعدت عن دائرة النظام الأمنية أحد كبار وحوشها؛ ولكنها، في المقابل، لم تسدد للنظام ضربة قاصمة للظهر، إذا لم تكن ـ للمفارقة، ودون أن تقصد بالطبع ـ قد أراحت البيت الأسدي من طائر وقواق غير مرغوب به. أمّا في المحصلة الجدلية، التي تذهب أبعد من أثر الفرد في ظواهر التاريخ الكبرى، فإنّ حضور شوكت كان متساوياً مع غيابه في مآل عظيم، واحد على الأقلّ: هذا نظام إلى زوال، وشيك ومحتوم، مثل "عظام الرقبة" فيه... أجمعين!