لافت، بمعنى الطرافة على الأقلّ، أنّ "الممانعين" أنصار النظام السوري، وهم بالتعريف الاستطرادي "أعداء" أمريكا، سكتوا تماماً عن تصريحات وزير الخارجية الأمريكية، جون كيري، الذي طالب المعارضة السورية بالجلوس إلى طاولة واحدة مع بشار الأسد، للتباحث حول تطبيق خطة جنيف، التي سبق أن صاغها المبعوث الدولي السابق كوفي أنان، ووافقت عليها موسكو. فمن جانب أوّل، هذا يهشم آخر ما تبقى من دعائم، بدأت واهية أصلاً وهكذا استمرت، حول وجود مؤامرة صهيو ـ أمريكية ضدّ نظام الأسد، بوصفه أحد قلاع "الممانعة" و"المقاومة" و"الصمود" و"التصدّي". إذْ، في الحساب المنطقي البسيط، كيف يعقل أن يتآمروا عليه طيلة سنتين، ثمّ نراهم اليوم يمارسون الضغوط على "أزلامهم" و"عملائهم"، أي أطراف المعارضة السورية المؤمنة بالمعجزات الأمريكية، للتحاور مع الأسد؟
ولكن، قد يقول "ممانع" أريب من جانب آخر، أليس هذا هو الدليل القاطع على أنّ الأسد يحقق انتصارات ساحقة، أجبرت المؤامرة إياها، الصهيو ـ أمريكية، على الانكفاء والتراجع، وربما الاستسلام؟ تلك أضغاث أحلام "ممانعجية"، في الواقع، لأنّ جيش النظام الموالي هو الذي ينكفيء عسكرياً على الأرض، كلّ يوم، في تسعة أعشار مناطق المواجهة؛ فلا يمارس من الفعل العسكري سوى القصف بصواريخ "سكود"، وهذه سبّة أخرى شائنة تلحق بنظام متهالك متداعٍ، أو القصق بطائرات الـ"ميغ"، حيث تُلقى على المواطنين العزّل قذائف محرّمة دولياً، وبراميل متفجرة، وتلك وصمة عار أخرى لم يسبق أن لحقت بأي نظام همجي على امتداد التاريخ الإنساني.
"الممانع" الأريب، ذاته، يتعمد إغماض العين عن مجريات الأمور في جبهة الجولان المحتلة: النظام يسحب قوّاته الموالية من الجبهة مع الاحتلال، ليعيد انتشارها في مناطق الصراع الأثيرة لديه (ريف دمشق الشمالي، ريف حمص المحاذي لمحافظة طرطوس، حيث تجري تحصينات وتُقام دُشم وخنادق ومتاريس... لم يشهد لها الجولان نظيراً منذ حرب 1973، التي خسرها حافظ الأسد طواعية، وتسليماً). وفي المقابل، يواصل العدو الصهيوني إقامة المزيد من أمتار السور الأمني الفاصل، ويغضّ النظر عن أنشطة جيش النظام الموالي (في تحركات وحدات المدفعية الثقيلة تحديداً، والتي تقيّدها اتفاقية فصل القوّات، سعسع، 1973)، و... يواصل التنقيب عن النفط، في بطاح الجولان المحتلّ!
وما لا يراه "الممانع" ذاته، إذْ لا يجوز له أن يبصره إلا في سياق "ممانعجي" حصري، هو مقدار انخراط عناصر الحرس الثوري الإيراني، ومقاتلي "حزب الله" في المعارك الطاحنة التي تشهدها منطقة القصير تحديداً، والتي تقضّ مضاجع الساعين إلى صياغة ذلك "الجيب الساحلي" المشؤوم، بوصفه آخر الخنادق القتالية، قبل أن يصبح الأسد أمام الخيارات القصوى الختامية: إمّا أن يولّي الأدبار، على ظهر بارجة حربية روسية، أو إيرانية؛ وإمّا أن يلقى مصير أخوته الطغاة العرب، اعتقالاً ومحاكمة، أو قتلاً. فهل انتقلت المقاومة ضدّ إسرائيل من هضاب الجولان المحتلّ وسهوله، ومن الجنوب اللبناني ومزارع شبعا، إلى القصير، تحديداً وحصرياً؛ حيث يُقتل رجال الجنرال قاسم سليماني، وحيث "يستشهد" العشرات من عناصر "حزب الله"، أثناء "قيامهم بالواجب" الشرعي؟
وليس "الممانعجي"، نفسه، بحاجة ـ مثل جميع العباد، في الواقع ـ إلى سياسي "معتدل" و"قومي" و"ناصري" ومستعدّ للحوار مع النظام، على غرار حسن عبد العظيم، الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي العربي؛ لكي يدرك أن تصريح كيري، حول جلوس المعارضة السورية والأسد إلى طاولة المفاوضات، "ليس زلة لسان، وإنما هو حصيلة جهود المبعوث المشترك الأخضر الإبراهيمي في الوصول إلى توافق أمريكي ـ روسي حول حل سياسي للأزمة ووقف العنف ونزيف الدماء". ذلك لأنّ قوى واسعة داخل المعارضة كانت، وتظلّ، على يقين من أنّ الموقف الأمريكي من الانتفاضة كان يعتمد الوقوف في صفّ المتفرّجين، وانتظار سقوط النظام الحتمي، تلقائياً، وتوريط موسكو حتى أقصى مدى ممكن في الرمال المتحركة التي انقلبت إليها ساحات سورية السياسية والعسكرية.
وقبل أسابيع قليلة، في هذه الصحيفة تحديداً، خلال حوار مع محمد علي الأتاسي، قال المعارض السوري الأبرز رياض الترك إنّ الولايات المتحدة الأمريكية، وفي سياق تبرير "موقفها المتقاعس تجاه ثورة الحرية والكرامة، وإصرارها على إيجاد تسوية وفق منطق لا غالب ولا مغلوب (...) لا تقبل أبداً بالانتصار الكامل للثورة. فموقفها في المحصلة لا يختلف عن الموقف الروسي، إلا في كون الموقف الأمريكي ذكياً والثاني غبياً أحمق. هم يريدون إنهاك الطرفين لإيصالهم إلى حل على الطريقة اللبنانية". وتابع الترك: "في ظلّ هذا السياق يمكن أن تتحول اتفاقية جنيف إلى بازار بين الروس والأمريكيين، ثمنه التوافق على إزاحة بشار الأسد، والاتفاق على حكومة هجينة تحافظ على بعض مؤسسات النظام، مضافاً إليها بعض رموز المعارضة المدجنة. بهذا المعنى يمكن أن نفهم خلفية الطروحات التي يقدمها الوسيط الدولي ـ العربي الأخضر الإبراهيمي. وبهذا المعنى أيضاً يمكن للروس أن يحققوا بعضاً من طموحاتهم ومطالبهم. كما يحقق الأمريكان من خلال هذا النظام الهجين شيئاً من العودة إلى 'الاستقرار' وضمان أمن إسرائيل".
يدهش، في المقابل، أن يقول عبد العظيم، في حديث مع "روسيا اليوم"، إن "هذا التوجه الأمريكي الجديد يقلص العنف، سواء عنف النظام أم عنف المعارضة المسلحة، ويرجح الحل السياسي والانتقال السلمي للسلطة وفق مقررات جنيف التي يعمل الإبراهيمي على إيجاد تفسير موحد لها وتوافق دولي". هذه ليست زلة لسان، بدورها، ولكنها إعادة اجترار لما أقدمت عليه هيئة التنسيق مراراً، بخصوص الحوار مع النظام، وكانت في كلّ مرّة تتلقى صفعة مهينة من النظام ذاته، طرف الحوار المفترَض. كانت آخر الصفعات اعتقال عدد من ناشطي هيئة التنسيق، بينهم عبد العزيز الخيّر، الشخصية الأبرز في الهيئة، رغم أنه كان قادماً من جولة خارجية حظي خلالها بضمانات أمنية من قوى عظمى حليفة للنظام، روسيا والصين في المقدّمة. ومدهش، كذلك، أن يرحّب عبد العظيم بالحوار مع النظام، من دمشق؛ في حين أنّ هيثم مناع، رجل الهيئة في الخارج، أعلن من موسكو أن "الظروف غير مواتية لإطلاق حوار مع النظام"، وأنه "من المستحيل الآن إحراز أي تقدم نحو وقف العنف والبحث عن حل سياسي يؤدي إلى تشكيل سلطة انتقالية".
والحال أنه لا يليق برجل مثل عبد العظيم، ورغم تاريخه "الحواري" مع رجالات في السلطة من أمثال عبد الحليم خدام، أن يستخدم مفردة "العنف" بمعنى متكافىء يشمل طائرات الـ"ميغ" والـ"سوخوي"، وصواريخ الـ"سكود" والمدفعية الصاروخية والثقيلة، والبراميل المتفجرة، والقنابل العنقودية، وتلك المحرّمة دولياً... في صفّ النظام؛ والأسلحة الفردية الخفيفة، أو مضادات الدروع، أو ما يغنمه مقاتلو "الجيش السوري الحرّ" أثناء اقتحام كتائب النظام الموالية... في صفّ المعارضة. هذه قسمة غير عادلة، لا عسكرياً ولا سياسياً؛ وهي قسمة غير أخلاقية أيضاً، لأنها تساوي بين القاتل والقتيل؛ فضلاً عن الجانب الأخطر فيها: أنها تتعمد السكوت عن جرائم النظام في عشرات المناطق السورية المحاصرة، لا سيما دير الزور وحمص، كما تسكت عن المشروع الأقبح الذي ترتدّ إليه السلطة اليوم، أي "الجيب الساحلي"، الذي يُنفّذ تدريجياً بعون مباشر من عناصر "الحرس الثوري" الإيراني ومقاتلي "حزب الله".
وقد يلوح مرجحاً تماماً أن تكون الاستخبارات الروسية قد نصحت الكرملين بإقناع الأسد أن إقامة "دولة علوية" في جبال الساحل السوري الوسطى ومناطق من سهول حمص وطرطوس، ليست فكرة حمقاء فحسب؛ بل هي غير قابلة للتنفيذ، ولن تعيش بضعة شهور إذا نُفّذت على أيّ نحو. كذلك قد تكون مرجحة تلك التقارير التي تحدثت عن مخاوف بلغت أسماع آية الله علي خامنئي، المرشد العام للثورة الإيرانية، مصدرها عدد من آيات الله في إيران والعراق، تساجل ضدّ تحويل أبناء الطائفة العلوية في سورية إلى محرقة رهيبة ومجانية، أهلية عشوائية عمياء، إذا أصرّ الأسد على خوض آخر معاركه هناك. موسكو تنطلق من معطيات جيو ـ سياسية واقتصادية، تريد ضمان مصالح الروس في القاعدة البحرية اليتيمة التي يمتلكونها على شطآن المتوسط؛ ومشائخ قمّ، قبل ساسة طهران، يدغدغهم حلم توغّل آمن أعمق في مناطق تبشير على امتداد قرى الساحل، توطيداً لمكانة إيران كقائدة، وقاعدة، للشيعة الإثني عشرية، في القوس الذي ينطلق من غيران، ويشمل اليمن والخليج ولبنان، مروراً بإيران والعراق وسورية!
ويبقى التشديد، مجدداً وعلى أعتاب سنة ثالثة في عمر هذه الانتفاضة المجيدة الفريدة، أنّ "أرباح" النظام ليست سوى تلك الثمار ذاتها التي توجّب أن تطرحها خياراته في مواجهة الانتفاضة، ولا سيما اعتماد الحلّ الأمني العنفي المباشر في المقام الأوّل، ثمّ رفده بسلسلة مخططات خبيثة لتفريق الصفّ الوطني، والترهيب من الحرب الأهلية والطائفية، ومحاولة افتعال الشرارات التي يمكن أن تؤدي إلى اندلاعها، وتهويل احتمالات عسكرة الانتفاضة، وتضخيم موقع المكوّنات الإسلامية المتشددة داخل صفوفها، وتدبير أعمال إرهابية تُنسب إلى "القاعدة"، وإثارة هواجس الأقليات... فضلاً عن تغطية هذا المناخ، كلّه، بأكاذيب "الإصلاحات" السياسية التي تستهدف ذرّ الرماد في العيون. "أرباح" النظام هي، في اختصار بسيط، مزيج من ارتكاب الجرائم وإشاعة الأضاليل، في غمرة يقين مركزي لم تتزحزح عنه الطغمة الحاكمة: إمّا نحن، أو الطوفان!
و"أرباح" النظام تشمل، أيضاً، ما يكسبه من تلك الحماية الخاصة التي تمتّع بها على الدوام، ويتمتع بها اليوم أيضاً: معلَنة عند دول مثل إيران وروسيا والصين، ومبطنة عند أخرى مثل إسرائيل والولايات المتحدة ومعظم دول الاتحاد الأوروبي. المصيبة ليست هنا، لأنّ السذّج أو الأتباع هم وحدهم الذين ينتظرون خير سورية من الجهات ذاتها التي ساندت نظام الاستبداد والفساد؛ بل في أنّ بعض أطراف "المعارضة" يأخذ على أطراف أخرى أنها تنوي الدخول إلى دمشق، على ظهر دبابة أمريكية (الأمر الذي يوحي، ضمناً، أنه لا مشكلة في الدخول على ظهر دبابة إيرانية، مثلاً!)؛ وكأنّ الدبابات جاهزة على بوّابات دمشق، لا تنتظر إلا مَنْ يمتطيها!
كذلك يصحّ التذكير بأنّ إعلان جنيف، الذي يتغنى به كيري ولافروف، ثمّ أمثال عبد العظيم، يشبه كثيراً جدّه قرار مجلس الأمن الدولي 242: يقبل كلّ تفسير، أيّ تفسير، واللاتفسير أيضاً. فلندعهم، نحن السوريين، في تأويلاته يتبارون، ويعمهون؛ الحسم هنا، على أرض سورية، في حلب والشام ودرعا وحمص ودير الزور... لأنه من هنا بدأ، وهنا سوف ينتهي، إلى انتصار لا ريب فيه. ونحن على موعد!