أمّا المثال الأحدث، فهو اعتذار إسرائيل من تركيا، حول حول الغارة الإسرائيلية على "أسطول الحرّية"، في مياه المتوسط الدولية قبالة شاطىء غزّة، أواخر أيار (مايو) سنة 2010، والتسبب في مقتل تسعة مواطنين أتراك. وإلى جانب أنّ إسرائيل عوّدت البشرية على أنها هي التي تتلقى الاعتذارات، وليس العكس؛ وأنّ صيغة الاعتذار دُرست طيلة أسابيع، كلمة كلمة، ولم تكن بادرة ربع الساعة الأخير قبيل إقلاع الرئيس الأمريكي باراك أوباما من مطار بن غوريون؛ فإنّ شروط التسوية خلف الاعتذار، والتي تخصّ تعويض الضحايا الأتراك ورفع الحصار عن دخول الأشخاص والبضائع إلى غزّة، كانت نصراً مبيناً للدبلوماسية التركية، ولرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان شخصياً.
ذلك ما أجمع عليه المعلّقون الأتراك، خصوم "حزب العدالة والتنمية" قبل أنصاره في الواقع؛ وما أقرّ به المعلّقون الإسرائيليون، ليس دون جرعة من المرارة هنا، أو خيبة الأمل هناك، حول سابقة كبرى في تاريخ دولة تعوّدت على الدلال، والعنجهية، والغطرسة. وكان جلياً أنّ أردوغان لم يقدّم سوى تنازل واحد وحيد، علني على الأقلّ، هو تخفيف نبرة أقواله حول الصهيونية بوصفها جريمة بحقّ الإنسانية، عن طريق التصريح بأنه إنما ينتقد السياسات الإسرائيلية في غزّة والأراضي الفلسطينية المحتلة. لكنه لم يأل جهداً في تحويل مناسبة الاعتذار الإسرائيلي إلى تشديد واضح على خيارات أنقرة الفلسطينية، إذْ حرص على اطلاع القادة الفلسطينيين، اسماعيل هنية وخالد مشعل عن "حماس"، ومحمود عباس عن السلطة الوطنية، حول مجريات الاعتذار؛ كما أعلن عزمه على زيارة غزّة والضفة في أجل وشيك، منتصف شهر نيسان (أبريل) القادم.
وليس خافياً على أحد أنّ الملفّ السوري، في بُعده الراهن تحديداً، حيث يتقهقر النظام عسكرياً، وينعزل أو يُعزل سياسياً ودبلوماسياً، ويجرّ حلفاءه الروس والإيرانيين إلى مآزق متعاقبة؛ هو الحافز الأوّل الذي جعل هذا التطوّر الدراماتيكي في العلاقات التركية ـ الإسرائيلية ممكن الحدوث، بعد قرابة ثلاث سنوات من الانسداد. وهذا أمر لم يتردد أردوغان ونتنياهو في التسليم به علانية، ربما لإضفاء المزيد من الوضوح على صفقة مصالح مشتركة لا تحتاج عناصرها الجلية إلى أي إيضاح إضافي. وهكذا، اختار أردوغان مناسبة روتينية عابرة، هي تدشين خطّ قطارات جديد قرب قونية، لكي يقول إنّ تجديد العلاقات مع إسرائيل سوف يسرّع سقوط الأسد، كما سيعزز عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. أمّا نتنياهو فقد ذهب إلى صفحته الشخصية على الـ"فيسبوك"، لكي يقرّ بأنّ "من المهمّ لتركيا وإسرائيل، اللتين تشتركان في الحدود مع سورية، أن تكونا قادرتين على التواصل، وذلك لمواجهة تحديات إقليمية أخرى، أيضاً".
المرء، هنا، يعود بالذاكرة إلى مفارقة شهدها ختام العام 2009، حين تمنّى الأسد، في تصريح إلى صحيفة "حرييت" التركية، أن تتحسن العلاقات بين تركيا وإسرائيل، لأنه "إذا رغبت تركيا في مساعدتنا في موضوع إسرائيل، فينبغي أن تكون لها علاقات جيدة مع هذه الدولة"؛ وإلا: "كيف يمكنها، في حال العكس، أن تلعب دوراً في عملية السلام "في الشرق الأوسط؟". آنذاك، وهذا هو الوجه الآخر للمفارقة، لم تكن تلك العلاقات تسير من عادية، إلى حسنة وأحسن؛ بل من متوترة، إلى سيئة وأسوأ. وثمة، في الموجبات والعلل ذات الأبعاد الجيو ـ سياسية الأعمق، ما كان يتجاوز بكثير رغبة الأسد في استئناف الوساطة التركية بين نظامه وإسرائيل، أو حتى الموقف التركي (المشرّف، بالقياس إلى تاريخ العلاقات بين أنقرة وتل أبيب) إزاء الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزّة.
والحال أنّ من الحكمة وضع العلاقات التركية ـ الإسرائيلية في هذا السياق الجدلي من الشدّ والجذب، ودفع الظنّ بأنّ الحكومة التركية الراهنة، بقيادة حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي، هي السبّاقة إلى التوتير أو التعكير. والمرء يتذكّر أنّ رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، أرييل شارون، اختار تركيا لتكون أوّل محطة شرق ـ أوسطية يزورها، صيف 2001، بعد انتخابه رئيساً للوزراء. ورغم أنّ الزيارة تمّت لبضع ساعات، فإنّ شارون سمع في أنقرة ما لا يرضيه من مضيفه رئيس الوزراء التركي حينذاك، بولند أجاويد. ولقد أوضح الأخير أنّ سياسة شارون ليست سوى "وصفة لإراقة الدماء"، وطالب بنشر مراقبين دوليين، وأدان تدمير الاقتصاد الفلسطيني والبنية التحتية، واعتبر أنّ الحصار الذي تفرضه الدولة العبرية على الفلسطينيين سوف يشجّع على ردود الأفعال العنيفة وحدها.
من جانبه اختار شارون التلميح إلى ما تملكه الدولة العبرية من أوراق ضغط على أنقرة، و... أوراق خدمات أيضاً: "إنّ لدى تركيا بعض المشاكل التي يمكننا أن نساعد في حلّها إذا طُلب منّا ذلك. ولكن في المقابل فإنّ على تركيا أن تساعدنا لاستعادة الأمن في المنطقة، لأنني أؤمن بالعلاقات المبنية على تبادل المصالح". كذلك اختار شارون الابتزاز العاطفي والديموغرافي، حين ذكّر مضيفه التركي بأنّ مقتل 145 إسرائيلياً خلال أشهر انتفاضة الأقصى يعادل، في النسبة إلى عدد السكان، مقتل 1500 مواطن تركي! وفي جولة التوتر تلك، رغم ذلك كلّه، كانت مباحثات وزير دفاع الدولة العبرية آنذاك، دافيد بن أليعازر، أفضل حظاً مع الجنرالات الأتراك!
استمرار حال الشدّ والجذب مردّه، أيضاً، أنّ المجال الحيوي الجيو ـ سياسي الذي تسعى تركيا إلى التحرّك في نطاقه هو المجال الآسيوي الاسلامي والعربي، وذلك رغم مساعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو ربما بسبب جمود تلك المساعي تحديداً. ذلك لأنّ تركيا تظلّ العضو الوحيد الخاضع لفترات "تمرين" و"اختبار" مطوّلة، وابتزازية بعض الشيء، قبل الانضمام إلى النادي الأوروبي، وتلك هي الرسالة المضمرة في تلميحات الساسة الإسرائيليين إلى إمكان مساعدة تركيا في حلّ مشاكلها. وليس من الحكمة السياسية أن تفسد تركيا صلاتها السياسية والتاريخية والثقافية بهذا المجال الحيوي، لمجرّد كسب ودّ إسرائيل؛ وفي المقابل، لا تملك إسرائيل هامش حركة ملموساً داخل المجال إياه، إذْ ما تزال جسماً غريباً مرفوضاً.
هنالك، أيضاً، جملة الاعتبارات التاريخية والثقافية (الدينية بصفة خاصة)، التي تجعل المضيّ أبعد في التحالف التركي ـ الإسرائيلي خياراً "غير شعبي" إذا صحّ القول، بمعنى أنه قد يلقى رفضاً واسعاً من جانب الشارع التركي العريض، بدرجة قد لا تختلف كثيراً عن رفض الشارع الإسرائيلي له. جدير بالاستذكار، هنا، أنّ رئيس الوزراء التركي الأسبق مسعود يلماز (الذي استخدم تعبير "الشراكة الستراتيجية" في وصف العلاقات التركية ـ الإسرائيلية)، كان هو الحريص، أثناء زيارة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، خريف 1998، على إعلان نيّة الحكومة التركية تسليم السلطة الوطنية الفلسطينية مجموعة صكوك عثمانية تثبت امتلاك الفلسطينيين لمساحات هامّة من الأراضي الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي، والتي يزعم المستوطنون أنها أملاك قانونية لهم.
وعلى سيرة "الأملاك القانونية"، في صيف 2004، عُقدت قمّة ثنائية بين رئيس وزراء النظام السوري آنذاك، محمد ناجي العطري، ونظيره التركي أردوغان، شهدت توقيع أولى الاتفاقيات التجارية النوعية بين البلدين؛ كما شهدت "اتفاقاً من نوع ما"، سرّياً، حول لواء الإسكندرون السوري، الذي تحتله تركيا منذ سنة 1938. وذاك تفصيل لفت انتباه المعلّق الأمريكي دانييل بايبس، الذي يظلّ صهيونياً متشدداً وليكودياً حتى النخاع، ليس حسرة على أرض سورية سليبة بالطبع؛ بل تنبيهاً إلى أنّ النظام السوري لا ينظر بقداسة إلى حدوده مع تركيا، ويمكن استطراداً أن تكون هذه حاله مع حدوده الجنوبية، في الجولان المحتل. والأرجح أن بايبس كان، أيضاً، يربط بين زيارة العطري تلك، وزيارة أخرى إلى أنقرة سبقتها بساعات قليلة، قام بها إيهود أولمرت، نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك!
وفي السياق ذاته، ثمة تلك الفتوى الشهيرة التي ابتدعها فاروق الشرع في شباط (فبراير) 2001، حين كان وزيراً لخارجية النظام، وسُئل عن التناقض بين دفء العلاقات التركية ـ السورية، والصمت عن ملفّ لواء الإسكندرون المحتلّ؛ فاعتبر أنّ تسوية هذه المسألة تحتاج "إلى سنوات عديدة ربما". وقال الشرع: "القضايا التي تبدو حساسة اليوم، يمكن أن تُحلّ بسهولة في المستقبل، حين تبلغ العلاقات الثنائية مستوى لا ينطوي على صعوبات. من الخطأ إيلاء الأولوية لمثل هذه القضايا، لأنّ هذا قد يؤذي التعاون في حقول أخرى. وهي قضايا سوف تُحلّ في النهاية، ولكن يتوجب أن لا ندفع باتجاهها أكثر مما ينبغي".
ولقد أتى حين من الدهر على النظام السوري، صارت عنده هذه الـ"أكثر مما ينبغي" ليست في مقام العكس، أيّ أقلّ بكثير ممّا ينبغي، فقط؛ بل نقائض ما كان يُراد منها في الأصل، حين كانت سياسات النظام تتوهم إنابة أنقرة في التوسط مع إسرائيل، وإنابة إسرائيل في التقرّب من أمريكا، وإنابة "حزب الله" في انتحال صفات "الممانعة" و"المقاومة" و"الصمود"، وإنابة الجهاديين السوريين في الدخول على خطوط الاحتلال الأمريكي للعراق، وإنابة إيران في ابتزاز دول الخليج العربي، وإنابة لبنان أو "حماس" أو الفلسطينيين أينما وكلما فاحت رائحة صفقة ما...
وفي غمرة هذه الإنابات، وسواها، لم تشتعل الحرائق في جوار، قريب أو بعيد، قدر اشتعالها في بيت النظام ذاته، وفي قلب معادلاته، السياسية والأمنية تحديداً؛ تلك التي لاح ـ طيلة أربعة عقود ونيف من عمر "الحركة التصحيحية"، وعبر استخدام شتى الأحابيل والأضاليل والأباطيل، واقتراف الخيانات الوطنية العظمى، وارتكاب جرائم الحرب والمذابح بحقّ السوريين... ـ أنها كفيلة بحفظ بقاء النظام، وتسديد نفقات الاستبداد والفساد. فكيف لزارع الريح الصرصر، المتوعّد بإشعال الحرائق في بيوت الجوار؛ أن لا يحصد من العواصف الهوجاء إلا تلك التي تبدأ من تقويض بيته، أسوة ببيوت حلفائه!