"فلتسكت المدافع، ولتنطق الأفكار"، قال أوجلان في رسالته أمس، مدركاً أنّ بلاغة السلام هذه ـ التي سبق للـPKK أن اعتمدها أربع مرّات، على الأقلّ، في سوابق الحوار مع السلطات التركية ـ اكتسبت اليوم الكثير من عناصر القوّة المادية الكفيلة بتحويلها من حيّز القول والأمنية، إلى ميدان الفعل والتنفيذ. وليس خافياً أن حسابات سورية الآتية، حيث يتوجب أن ينعتق الأكراد السوريون، وتُرفع عنهم المظالم كافة، وتُعطى لهم سلسلة الحقوق السياسية والثقافية التي حُرموا منها طيلة أحقاب طويلة؛ كانت في قلب حسابات تركيا، أسوة بالـ PKK، حين تمخضت مفاوضات جزيرة إمرالي عن خريطة طريق تتلمس حلّ المسألة الكردية في تركيا. ولولا هذه الاعتبار الحاسم، فإنّ التوصل إلى تدابير تاريخية (بينها إلقاء السلاح، وانسحاب قرابة 2000 مقاتل للـPKK من تركيا إلى جبال قنديل في شمال العراق، وإحقاق حقوق الأكراد على نحو ملموس ونوعي وغير مسبوق...) كان سيرورة عسيرة في حدّ ذاتها، فكيف بتنفيذها على مدى زمني قصير، لا يتجاوز نهاية العام الحالي؟
وللمرء أن يستعيد برهة أخرى في حياة "حزب العمال الكردستاني"، وزعيمه أوجلان شخصياً؛ حين رضخ نظام حافظ الأسد للضغوط التركية، وأبعد أوجلان خارج سورية، سنة 1998، بعد إقامة في كنف النظام امتدت على 18 سنة. كان الـ"آبو"، لقب أوجلان الأثير لدى أنصاره، قد غادر إلى موسكو، قبيل الذهاب بمحض إرادته إلى العاصمة الإيطالية روما؛ وهناك أطلق تصريحه الشهير التالي: "الـ PKK حزب وُلد في تركيا، وتحوّل إلى منظمة في سورية، وهو في طريقه لمغادرة موسكو... من أجل تأسيس دولة"! ولقد بدا، يومذاك، أنّ هذا الكردي الفريد ـ الزعيم الحالم، الثائر، اللينيني، الغيفاري، و"يسوع الأكراد" كما أسمته صحيفة "لوموند" الفرنسية ذات مرّة ـ تناسى أنّ الحكمة الكردية الأعرق هي تلك التي تقول إنّ الجبال وحدها صديقة الكردي؛ وأنّ تلك الجبال تنفكّ بين الحين والآخر عن هذه الصداقة، فتنقلب إلى مقابر جماعية للأكراد، القتلى على أيدي أعدائهم، أو جيرانهم، أو أبناء بلدهم، أو أبناء عمومتهم... سواء بسواء.
تناسى أوجلان فقط، كما خُيّل إليّ، ولم ينسَ؛ لأنه في الواقع ممنوع من النسيان، بالتعريف، شاء أم أبى، مثله مثل أيّ كردي ينتمي إلى أقلّية هي الأكبر على وجه البسيطة؛ كانت، وما تزال، محرومة من وطن قومي، في العالم القديم والحديث، في أزمنة انقسام العالم إلى إمبراطوريات مثل أزمنة اختزال العالم إلى قرية واحدة صغيرة، وفي عقود الحرب الباردة مثل عقد السلام البارد، أيّام المعسكر الإمبريالي والمعسكر الإشتراكي مثل المعسكر الواحد المُعَوْلَم. وحين تمكنت الاستخبارات التركية من الإيقاع به، في نيروبي، فإنها لم تنجح في المسعى لولا مساعدة مباشرة من الاستخبارات الإسرائيلية، واستخبارات غربية وشرقية وأفريقية أخرى؛ وكأنّ الرجل عدوّ شعوب المعمورة، وطريد البشرية جمعاء!
ولقد اشتغلوا، على نحو منهجي خبيث، لتأثيم صورته في المخيال الشعبي العريض، على نطاق "العالم المتمدن"، فقُدّم في هيئة "قاتل أطفال"، و"إرهابي" سفك دماء 30 ألف تركي، أو "تسبّب" في مقتل هذا العدد، لأنّ السلطات التركية كانت تحتسب في عداد ضحايا أوجلان ليس أفراد الجيش التركي الذين قُتلوا في عمليات الحرب ضد مقاتلي الحزب، فحسب؛ بل، كذلك، عناصر الـ PKK أنفسهم، والمدنيين الأكراد الذين قُتلوا على يد الجيش التركي أثناء تلك العمليات! المنهج الخبيث ذاته اقتضى نقل البطل الكردي من حيّز الأمثولة الكفاحية الثورية، إلى حيّز الأسطورة الحكائية الحزينة؛ هذه التي يحفل بها الوجدان الكردي منذ أقدم العصور، أو لعلّه لا يقيم ذاكرته الجَمْعية على أرشيفات أخرى سواها.
وحين اعتُقل أوجلان، كان "العالم المتمدن" ذاته ينخرط في عمليات نفض اليد من "القضية الكردية"، وأخذت تندثر تدريجياً تلك المراثي التراجيدية التي دبّجها الغرب في صالح الأكراد العراقيين عام 1991، ضد صدّام حسين بوصفه تجسيد الشرّ الأعظم. سفر "الخروج" الكردي، كما أسماه بعض المعلّقين الغربيين آنذاك، صار سفر "الشتات" الكردي، "دياسبورا" هنا وهناك في عواصم الغرب. وفي جدل تفاعل الروابط السياسية والثقافية والسيكولوجية بين "الخروج" و"الشتات"، لم تتغيّر كثيراً احتقانات علاقة الكردي بالغرب الذي خانه، مراراً وتكراراً؛ ولا بـ"عالم متمدّن" تاجر بآلام الأكراد لتصفية حسابات أخرى إقليمية. وفي الحالتين، كان الجرح الكردي يُنكأ، ويتسع أكثر، وينزف أشدّ؛ ولكنه لا يُعالج!
ولقد بدا ثابتاً أيضاً، وعلى الصعيد التركي في الأقلّ، أنّ ملفات قضية الأكراد في تركيا لن تُغلق بإغلاق ملفّ رجل كردي واحد يدعى أوجلان، سواء مكث على صورة "تشي غيفارا كردستان"، أو تنامت صورته الأخرى كـ"يسوع الأكراد". كان ثمة عشرات الآلاف من الأكراد الذين قضوا جرّاء التعنّت التركي، وآلاف القرى التي أُحرقت في إطار سياسة محو الهويّة الكردية، وعشرات البرلمانيين الأكراد ـ الأتراك الذين انتُخبوا ديمقراطياً واعتُقلوا عرفياً لمجرّد أنهم خاضوا في شؤون المواطنين الذين انتخبوهم، والألعاب الأمريكية ـ التي لم تكن تتوقف، إلا لكي تبدأ من جديد ـ في الملفات الكردية شمال العراق... كلّ ذلك، وسواه، كان كفيلاً بإبقاء قضية الأكراد الأتراك مفتوحة على فراغ سياسي وتنظيمي ومطلبي وكفاحي، سوف يسارع إلى ملئه أكثر من أوجلان واحد، طال الزمن أم قصر.
وحين تقاطر آلاف الأكراد إلى روما للإعراب عن التضامن مع أوجلان، طريد كلّ أرض آنذاك، كانوا في الآن ذاته أشبه بكورس إغريقي غير عادي؛ احتشد لكي يعترض على القَدَر، ولم يكن يقوم بمهمّة أخرى سوى تلك المناطة بأيّ كورس إغريقي: الانحناء أمام جبروت القدر. فوق هذا، كانت مفردات ذلك الجبروت تتجاوز صفقات الآلهة مع البشر، إلى صفقات الحكومات والأجهزة بين بعضها البعض أولاً؛ وبينها، تالياً، وضدّ ما تبقّى من أحلام الكردي الذي تقرّى شخصية "المخلّص" في شخصية القائد السياسي، المنفيّ والمحاصَر والمساق صاغراً إلى أقدار صاغرة. وكيف للكرديّ أن يتحاشى ذلك الانسياق الرهيب نحو المأساة، إذا كان كرد آخرون، أبناء عمومة ونسب وقربى، هم الذين تصدروا لائحة السماسرة المشتغلين عند الكبار، عاقدي الصفقات!
وفي الأساس، يتوجب التذكير بأنّ تاريخ "حزب العمال الكردستاني" هو، من وجهة أخرى، خلاصة الحصاد الممتاز لانعطافة حاسمة في التفكير التركي التقليدي إزاء المسألة الكردية، نجمت أساساً عن المخيّلة المكيافيللية التي تحلّى بها الرئيس التركي الأسبق تركوت أوزال؛ خلال مفصل مثالي من ديناميات تلك الحقبة، حين اغتنم مناخات ما بعد "عاصفة الصحراء"، والملاذ الآمن"، وانتقال أبصار العالم إلى المثلث الكردي على الحدود العراقية ـ التركية. لقد عبر أوزال نهر الروبيكون، واتخذ ثلاثة قرارات اجرائية غير عادية: إبطال قانون "اللغة الأم"، الذي كان يحظر اللغة الكردية حظراً يبلغ حد الإلغاء التام، والاجتماع مع ممثلي الأكراد العراقيين، وإصدار عفو جزئي شمل العديد من الشخصيات الكردية البارزة.
ولأن أجواء تلك الحقبة كانت توحي بإمكانية تحويل العراق إلى نسخة بالكربون عن الرجل العثماني المريض في أوائل القرن، بل كانت تنذر بالكثير من الآمال العريضة (التي انهارت واحدة تلو الأخرى، بسرعة قياسية)؛ فإن أوجلان لم يختلف كثيراً عن مسعود البرزاني أو جلال الطالباني، أو حتى عن المطرب الشعبي الذائع الصيت رحمي سالتوك، في التهليل لمبادرة أوزال، والاستبشار بما ستحمله للكرد من مغانم سياسية وثقافية وإنسانية. لقد بدت إذعاناً من الحكومة التركية لمتطلبات النظام الدولي الجديد، ولاح في تلك الفترة أن أوجلان يثق بشيء آخر سوى الجبال والكلاشنيكوف والماركسية ـ اللينينية، بدليل تصريحه الدالّ: "الحقّ أنني لم أكن أتوقع أن يبدي أوزال هذا القدر من الشجاعة. لقد أخجلنا جميعاً، واتخذ الخطوة الهامة التي تبطل 67 عاماً من حالة العبث الإيديولوجي".
غير أن الإيديولوجيا في مستوى الحلم، وليس الإيديولوجيا في مستوى العبث، كانت محرّك البرنامج السياسي الشهير "درب الثورة الكردية"، الذي وقّعه أوجلان وتضمن سلسلة مقولات راديكالية، بينها واحدة رأت أنّ كردستان المبعثرة والغائبة هي نتاج سياسات آثمة نفذتها أربع دول (إيران والعراق وتركيا وسورية)؛ وأنّ إحياء كردستان يمرّ عبر درب وحيد هو الثورة الكردية الشاملة في هذه الدول. أما الـ"آبو" نفسه، ولكن في مطلع الثمانينيات، فإنه القائل بخوض حرب التحرير على ثلاث مراحل: الدفاع الستراتيجي، وتوازن القوى، والهجوم الستراتيجي. وتلك اللعثمة التقنية في توصيف أغراض كانت بسيطة واضحة، إنما نبعت من حقائق الأرض وحسابات القوى المضيفة والقوى المطارِدة والحزب المطارَد، على حدّ سواء.
ويبقى أنّ لجوء أوجلان إلى روما، سنة 1998، كان إشارة أولى إلى ميل الحزب للتعاطي السياسي مع الحكومة التركية، على خلفية صيغة ما من حكم ذاتي يمنح أكراد تركيا بعض الحقوق السياسية والثقافية والإدارية؛ مقابل التخلّي النهائي عن "حرب التحرير"، وعن الانفصال وتشكيل دولة مستقلة. فهل احتاج التاريخ إلى 15 سنة لكي يبدو نداء أوجلان التاريخي وكأنه، اليوم، يستعيد تلك البرهة السياسية الضائعة؟ ربما، مع فارق أنّ متغيّرت المنطقة لا تحصّن الفرصة الراهنة وتضاعف احتمالات نجاحها، فحسب؛ بل لعلها لا تترك أمام الفرقاء أي خيار آخر سوى اغتنام الرياح التي تهبّ على المنطقة. "نضالنا لم يكن ضدّ أيّ عرق أو دين أو جماعة. نضالنا كان ضدّ كلّ أنواع الضغط والقهر. ونحن اليوم نستفيق على شرق أوسط جديد، وتركيا جديدة، ومستقبل جديد"؛ قال أوجلان في ندائه التاريخي، مؤذناً بإسكات المدافع، وإطلاق الأفكار الكفيلة بإحقاق الحقوق.
.. كما للمرء أن يأمل، وكما يتوجب أن تشهد الجبال... أخلص أصدقاء الكردي!