الجغرافيا قدر محتوم، لا تُتاح قراءته إلا بعد التسليم بدرجات كافية من "الحتمية الجزئية"، ودرجات أخرى من "الترابط القدري" بين ثبات الخرائط وتحوّلات التاريخ؛ يستخلص روبرت د. كابلان في كتابه الجديد "ثأر الجغرافيا: ما الذي تقوله لنا الخريطة حول النزاعات القادمة والمعركة ضدّ القدر". وهكذا، قبل أن تكون طبيعة وجبالاً وسهولاً وأنهاراً وبحاراً وطبوغرافيا ومناخات؛ وقبل أن تكون عناصرها هذه لصيقة بحياة الشعوب وصانعة للكثير من طبائعها وثقافاتها وأنماط عيشها الاجتماعية والاقتصادية ومحرّكة للكثير من تقلبات تواريخها، خاصة في المنعطفات الحاسمة... الجغرافيا أقدار رُسمت على خرائط، تتعاقب من ذاتها، وفي ذاتها، على مرّ العصور.
فلنبدأ، قبل أن يستغرقنا التنظير فيختلط حابل التاريخ بنابل الجغرافيا، من مثال عملي على هذه القدرية، يسوقه كابلان في معرض الحديث عن "الربيع العربي": هل هي صدفة، يتساءل صاحبنا، أنّ أولى انتفاضات العرب بدأت في تونس، في بلدة سيدي بوزيد تحديداً، هذه التي تقع ضمن خطّ هزيمة هانيبال، القائد العسكري القرطاجي، على يد الجنرال الروماني سكيبيو الأفريقي، في موقعة زاما؛ حين حفر الأخير خندقاً حدودياً يمتد من طبرقة إلى صفاقس؟ في عبارة أخرى، ضمن صياغة كابلان للفكرة ذاتها: لولا أنّ تونس هي النقطة الأفريقية، وبالتالي العربية، الأقرب إلى أوروبا، وإلى "المناطق المتمدنة"؛ هل كانت أولى انتفاضات العرب ستقع فيها؟ يكتب كابلان: "بدأ الربيع العربي من تونس، البلد الأكثر تأورباً بين جميع البلدان العربية، والذي يقع على مسافة ثماني ساعات على ظهر ناقلة بطيئة تبحر نحو صقلية. وبالنسبة إلى كثيرين، كانت تونس متكاملة مع السياسة الإيطالية أسوة بتكامل صقلية معها"!
حتمية عجيبة، حقاً، هذه التي تتكيء ـ ليس جزافاً، فحسب، بل عن سابق جهل وتجهيل ـ على معطيات جغرافية مغلوطة، وقراءة رديئة وضحلة لوقائع التاريخ، وربط ميكانيكي بليد بين ماضي الإنسانية وحاضرها. وعلى المنوال ذاته، يفسّر كابلان تطورات "الربيع العربي" استناداً إلى حتميات مماثلة: الجغرافيا تشهد لتونس ومصر بتكوين طبيعي وحضاري متجانس، اقتضى مستوى معتدلاً من الأوتوقراطية؛ على نقيض ليبيا واليمن وسورية، التي ظلّت أقرب إلى تجمعات قبائلية مفككة، فاقتضت تنويعات أوتوقراطية أشدّ! ليس أقلّ منها إثارة للعجب أنّ كابلان (وهو، في هذه، نسيج وحده على الأرجح) يوحدّ نظرية المؤرّخ الفرنسي الكبير فرناند بروديل، حول كون الصحراء الكبرى وشمال أفريقيا، وليس البحر الأبيض المتوسط، عمق أوروبا الحضاري؛ بأطروحات صمويل هنتنغتون حول صدام الحضارات، وأنّ المجتمعات التي تشترك في الخصائص الثقافية إنما تتمحور حول البلد أو المركز الذي يمثّل قلب الحضارة ورمزها.
وللمرء أن يعود إلى كتابات (يجدر القول: نبوءات) اعتمدت حتميات مختلفة الطراز فقط، لكنها تخرج من جهاز تفكير واحد، ساكن وسكوني، سطحي وتسطيحي؛ كما في هذا المثال من مقالة بعنوان "تحريك التاريخ": "البلدان الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبلاد فارس لم تمتلك إلا القليل فقط من المعنى قبل القرن العشرين. فلسطين ولبنان وسورية والعراق لم تكن سوى تعبيرات جغرافية غامضة، وأمّا الأردن فلم يكن في الوارد أصلاً. وحين نزيل الخطوط الرسمية على الخريطة، فإننا سنجد رسماً عشوائياً بأصابع اليد لتكتلات سكانية سنّية وشيعية تتناقض مع الحدود الوطنية (...) وإذا كان في الشرق الأوسط جزء يتشابه على نحو مبهم مع يوغوسلافيا السابقة، فإنه المنطقة من لبنان حتى إيران، حيث نواجه انحلال نظام الدولة الذي ظلّ، طيلة عقود، الحلّ الكفيل باضمحلال الإمبراطورية العثمانية".
ولكن... أين ثأر الجغرافيا، إذاً؟ أين حتمية الخريطة؟ وأين القدر اللصيق بها؟ وكابلان، الذي يراجع اليوم موقفه الصقوري المؤيد لغزو العراق عسكرياً، هل طوى نهائياً مقولته الكبرى: أنّ أيّ زعيم، منذ نابليون بونابرت، لم يعكّر صفو الشرق الأوسط كما فعل ويفعل الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن؛ الأمر الذي يدفع إلى تشجيعه على المزيد من تهشيم "هذا النظام بعد ـ العثماني"، حيث لن تكون العواقب أشدّ كارثية ممّا جرى بعد تقويض الإمبراطورية السوفييتية؟ ماذا تبقى من استعداد كابلان لهتك المسكوت عنه، ومطالبة البيت الأبيض بالتالي: "بدل الديمقراطية، خير لإدارة بوش أن تستقرّ على نوع من إدارة الحكم أياً كانت، ولنفكّرْ في خرائط العصور الوسطى حيث لم تكن هنالك حدود واضحة، بل مجرّد مناطق غير متمايزة في كردستان وبلاد الرافدين وسواهما، خاضعة للتأثير الفارسي".
فلا إدارة بوش استقرت على "إدارة" من أي نوع، ما خلا ارتهان العراق لطهران؛ ولا بلّورة كابلان السحرية أفضت به إلى إبصار عقيدة الرئيس الأمريكي التالي، باراك أوباما، في فكّ الارتباط عن عقد ونيف من تخبط السياسات الأمريكية هناك. والصفحات اليتيمة التي يعقدها كابلان للانتفاضة السورية، في الفصل الأخير من كتابه، لا تكاد تتجاوز السفسطة المعتادة حول "الجهاديين"، و"البلقنة"، و"كتب العلويين السرّية" و"الاحتجاجات" بوصفها "مآزق هويّات"! وأمّا خرائط الانتفاضة السورية، من جانبها، فإنّ ثأرها يتجاوز بكثير أمر تلقين كابلان درساً في التاريخ وفي الجغرافيا على حدّ سواء، حول بلد عريق احتضن حضارات شتى، وأعطى الإنسانية أبجدية أوغاريت الأولى؛ ودمشق، عاصمته، هي الأقدم في التاريخ.