في خريف 2004، بعد حلّ السلطة الائتلافية المؤقتة التي كان يقودها بول بريمر في العراق، اتخذ الكونغرس الأمريكي قراراً بتشكيل وكالة حكومية تتولى الإشراف على "صندوق تنمية العراق"، الذي أنشأه مجلس الأمن الدولي سنة 2003، ثمّ آلت مسؤوليته إلى العراق أواخر سنة 2007، بناء على طلب الحكومة العراقية. وعُهد إلى ستوارت بوين برئاسة تلك الوكالة، لتحقيق الاهداف التالية: 1) إعادة الإعمار الاقتصادي للعراق؛ و2) النزع المتواصل للسلاح؛ و3) الإنفاق على الإدارة المدنية العراقية؛ و4) الإنفاق على أغراض أخرى لصالح الشعب العراقي. وبذلك رأى النور منصب أمريكي جديد، هو "المفتش الخاص لإعادة إعمار العراق"، الذي أخذ يصدر تقارير ربع سنوية، لا يرفعها إلى الكونغرس وحده، بل كذلك إلى وزيرَيْ الخارجية والدفاع. وقبل أيام، أصدر بوين تقريره الختامي، تحت عنوان "التعلّم من العراق"، بعد انقضاء تسع سنوات على إنشاء وكالته.
فصول التقرير، وهي سبعة، غير المقدّمة والخاتمة والملاحق والهوامش، ليست أقلّ من مسرد مسهب لأنساق التبذير عن سابق قصد وتصميم، والإنفاق بلا حساب، وممارسة الرشوة على أوسع نطاق، وتوقيع عقود لإنشاءات وأشغال وهمية أو بلا هدف استثماري واضح؛ في خلاصة يختزلها رقم واحد: 60 مليار دولار من الهدر! على سبيل المثال، يسرد التقرير تحقيقات في 80 ملفّ فساد وإفساد، بينها النماذج التالية: مقاول مدني دفع أكثر من 2,8 مليون دولار من الرشاوى لضابط في الجيش الأمريكي، برتبة رائد، يعمل مسؤولاً عن العقود؛ وإقرار من شركة أمريكية كبرى بارتكاب مخالفات جنائية للحصول على عقد بقيمة 8,5 مليون دولار، لتوريد عربات أمنية؛ وإدانة عقيد سابق في الجيش الأمريكي، والحكم عليه بالسجن لمدّة 30 شهراً، لمشاركته في صفقة احتيال؛ والحكم على موظف عقود في وزارة الدفاع، بالسجن لمدة 50 شهراً بسبب قبول الرشوة وارتكاب سلسلة مخالفات قانونية...
والإنصاف يقتضي القول إنّ بوين لم يكن يشاطر إدارة بوش الابن، ولا إدارة الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما، توصيف أحوال العراق الإدارية، أي: المالية والاستثمارية والتعاقدية. هنالك وقائع مذهلة ساقها المفتش الخاصّ، تروي فضائح واختلاسات وهدر أموال عراقية، على يد بعض ممثلي سلطة التحالف، وبمشاركة أو بعلم أو بتشجيع أو بإغماض العين من جانب السلطات الأمريكية. وفي كلّ تقرير جديد، ثمة أقاصيص تبزّ ما قبلها في النهب والسلب واللصوصية المفتوحة، وكانت خلاصات الرجل وتوصياته ستمرّ مألوفة عادية، على هدي ما يجري من فساد هنا وهناك في العالم شرقاً وغرباً، لولا أنّ التفاصيل تظلّ مذهلة في جانبين جوهريين على الأقلّ: أنّ الفضائح تدخل في سياقات منهجية منتظمة تجعلها أقرب إلى النسق الدائم وليس المظاهر العابرة، وأنها تتمّ في شروط احتلال عسكري تمارسه ديمقراطية عريقة يحدث أنها أيضاً القوّة الكونية الأعظم، الساعية إلى إرساء نظام ديمقراطي ودولة قانون في العراق.
شطر آخر، جوهري تماماً، في هذه الحال التي يفصّلها تقرير بوين، تخصّ ملفات النفط العراقي؛ والذي صارت عقود استثماره وتطويره تُمنح عبر مزادات علنية من عيار ثقيل، تُنقل أحياناً على الهواء مباشرة! مبدأ الـ"بزنس" هو الـ"بزنس" كالمعتاد يظلّ هو السيّد بالنسبة إلى ممثّلي شركات النفط الكبرى، والأمريكية بصفة خاصة، ممّن يتقاطرون على العراق فرادى وجماعات، يحدوهم اليقين بأنّ العراق يمتلك مخزوناً من النفط ينافس مخزون المملكة العربية السعودية. هو، كذلك، مخزون ظلّ بمنأى عن أي استكشاف أو استخراج طيلة 30 سنة من الحرب والحصار، خاصة في جنوب شرق العراق حيث يقدّر الخبراء وجود أضخم تجمّع لآبار النفط في العالم.
حقل "مجنون" مثلاً، والذي يُقدّر احتياطيه بـ 12,58 مليار برميل ولم يكن ينتج إلا 45 ألف برميل، فاز بعقد تطويره اتحاد شركة "شيل" العملاقة و"بتروناس" الماليزية، حيث من المتوقع أن يرتفع إنتاج البئر إلى 1,8 مليون برميل يومياً. في المقابل، سوف يحصل الاتحاد هذا على أجر مالي، وليس حصة نفطية، بقيمة 1,39 دولار أمريكي عن كلّ برميل؛ مقابل عرض شركة "توتال" الفرنسية وCNPC الصينية باستخراج 1,405 مليون برميل يومياً، لقاء 1,75 دولار للبرميل. ومن حيث المبدأ، تلك هي الخطوات الأولى على طريق إخراج البلد من "لعنة" تصدير كمية نفط يومية تقارب المليونَيْ برميل، وتقلّ عن الكمية التي كان العراق يصدّرها في عهد صدّام حسين!
بيد أنّ المغزى السياسي لأسلوب المزادات، الذي أسفر ـ للمفارقة، غير المبهجة للولايات المتحدة ـ عن فوز الشركات الأوروبية والصينية بحصّة الأسد، كان توجيه صفعة جديدة إلى واحدة من أهمّ ستراتيجيات غزو العراق كما عبّر عنها، في صيغة أو أخرى، أمثال الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، ونائبه ديك شيني، ووزير دفاعه دونالد رمسفيلد، فضلاً عن رهط المحافظين الجدد في الإدارة السابقة وخارجها. تلك الستراتيجية كانت تستهدف وضع النفط العراقي في القبضة الأمريكية، أو تحت وصايتها شبه التامة، بما يعيد صياغة القسط الأعظم من شروط اللعبة الجديدة لإدارة حروب الطاقة، على الجبهة الأورو ـ آسيوية بأسرها، وبرصيد لا يقلّ عن 115 مليار برميل من المخزون العراقي المؤكد.
المغزى السياسي الآخر هو دحر النظرية التي بشّر بها أمثال بول ولفوفيتز وريشارد بيرل، من أقطاب البنتاغون خلال حقبة الغزو، حول قدرة العراق على تمويل مشروعات إعمار البلد ذاتياً، واعتماداً على الثروة النفطية، ودون اللجوء إلى مصادر تمويل واستثمار خارجية. والحال أنّ معظم وقائع السنوات العشر التي أعقبت غزو العراق عسكرياً، لا تكذّب هذه النبوءة الزائفة، فحسب؛ بل ثمة معطيات متزايدة تشير إلى مأساوية الحال التي بلغتها طرائق توظيف عائدات النفط العراقية، في خدمة نزر يسير من احتياجات العراقيين الماسة. ولم يكن مدهشاً، في هذا الصدد، أن يكسب رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، دعوى قضائية أتاحت له أن يمنع صرف جزء من عائدات النفط إلى أبناء الشعب العراقي!
وهذه حال صارت شبه مستقرّة، شبه دائمة، شبه اعتيادية، تستدعي تلك الأسئلة الشائكة عن عائدات النفط العراقي: ما قيمتها؟ أين تذهب؟ مَن يتحكّم بها؟ وهل توضع في خدمة العراقيين، حقاً؟ ذلك لأنّ ما يتوفر من معلومات رسمية يشير إلى إنّ كامل عائدات مبيع النفط والغاز، بالإضافة إلى مليار دولار اقتُطعت من "برنامج النفط مقابل الغذاء"، كانت قد ذهبت إلى "صندوق تنمية العراق"، دون سواه. ونعلم أنّ ذلك القرار نصّ على وضع الصندوق في عهدة الاحتلال، بغرض استخدام الأموال على نحو شفاف لتلبية الحاجات الإنسانية للشعب العراقي. كذلك نصّ على أن يعيّن العراق هيئة محاسبة تتابع أوجه صرف تلك الأموال، بما في ذلك قانونية العقود التي تبرمها سلطات الإحتلال مع مختلف المتعاقدين.
في المقابل، ما يجهله الكثيرون كان أمثال غازي الياور وإياد علاوي وإبراهيم الجعفري يعرفونه حقّ المعرفة، ويعرفه اليوم جلال الطالباني ونوري المالكي، حول عرقلة أيّ تدقيق لعقود الاحتلال مع الشركة العملاقة "هاليبرتن"، ذات الارتباطات الوثيقة القديمة والمتجددة مع ديك شيني. وهذا استولد أسئلة جديدة من باطن الأسئلة العتيقة حول أنساق النهب، وهل مردّها "أشباح الحرب الأهلية"، و"اقتتال السنّة والشيعة"، و"انقلاب العراق إلى مرتع للإسلاميين المتشددين" من كلّ حدب وصوب، وإلى مختلف صنوف "الإرهاب" و"الإرهاب المضادّ"... كما قالت، وتقول تنميطات "خبراء" الشأن العراقي، في أمريكا بصفة خاصة؟ أم أنّ المسؤولية تقع على عاتق حكومة المالكي، لأنّ الأخير مرتهن لمعادلات حزبية وبرلمانية ومذهبية ضيقة ولاوطنية، داخلية وخارجية؟ أم هي ثقافة النهب والفساد والإفساد، التي دشّنها الاحتلال العراقي، قبل أن يتولى متابعتها أتباع الاحتلال من ساسة العراق؟
وبدل الالتفات إلى مشاكل العراق الداخلية المتزايدة، وعلى رأسها توتر علاقات الحكومة مع شرائح شعبية عريضة، ليس مع الشارع السنّي في الأنبار وسامراء، وكذلك مع الأكراد، فحسب؛ بل أيضاً مع فئة واسعة من الشيعة، جماعة مقتدى الصدر أوّلاً؛ وبدل تكريس جهود الحكومة لخدمة المواطن العراقي، وتوظيف قسط من عائدات النفط لتحسين مستواه المعيشي؛ يقوم المالكي بترحيل مشكلات العراق الداخلية إلى خارج العراق، وتحديداً إلى... سورية! مضى ذلك الزمن الذي شهد اتهاماته للنظام السوري بالوقوف خلف الأعمال "الإرهابية" في العراق، ومطالبة الأمم المتحدة بتشكيل محكمة، أو على الأقلّ لجنة تحقيق دولية، لمحاسبة منفّذي التفجيرات الذين أرسلهم "البعثيون" و"التكفيريون" جماعة النظام السوري. الآن لا يسمح المالكي للطائرات الإيرانية بعبور الأجواء العراقية، ونقل العتاد الثقيل إلى جيش النظام السوري، وبالتالي طعن الشعب السوري في الصدر كما في الظهر، فقط؛ بل ينخرط، أيضاً، في التنظير الفلسفي والسوسيولوجي حول
سورية! يقول: "الحقيقة أنهم منحوا العلويين شجاعة اليأس، ولذلك هم يقاتلون بنسائهم وبرجالهم من أجل البقاء"؛ وأيضاً: "الأقلية العلوية التي ينتمي إليها الأسد ستحارب إلى جانب الأقليات الأخرى ضدّ المقاتلين، ومن بينهم متشددون إسلاميون سنّة"!
وذات يوم كان ستيفن هادلي، مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد بوش الابن، قد سطّر مذكّرة سرّية أثار فيها الكثير من الشكوك حول كفاءة المالكي. ومن الصعب أن يتخيّل المرء سبباً، أو سلسلة أسباب، دعت هادلي إلى التحامل على المالكي؛ ليس لأنّ الأخير كان رجل الاحتلال المفضّل في منصب رئيس الوزراء فحسب؛ بل لأنّ الأوّل ساق جملة من الحقائق البسيطة عن الرجل، بينها هذه مثلاً: "صحيح أنّ نواياه تبدو طيبة حين يتحدث مع الأمريكيين، وثمة تقارير حساسة تشير إلى أنه يحاول مواجهة التسلسل الهرمي الشيعي وفرض التغيير الإيجابي، إلا أنّ الواقع في شوارع بغداد يوحي بأنّ المالكي إما جاهل لما يجري، وبالتالي فهو يسيء تقديم نواياه، أو أنّ قدراته ليست بعد كافية لتحويل نواياه الطيبة إلى فعل".
.. أو أنّ الارتهان للولايات المتحدة لا يُداوى، في حال مرتهن مزمن مثل المالكي، إلا بالذي كان في الأصل هو الداء: الارتهان الأقدم لإيران!