ألا يخطر في بال أحدهم أنّ هذا الصاروخ لن يذهب بأرواح الأحياء، بل سيقضي على ما يختزنه التراب من آثار وأوابد وكنوز متحفية؛ وسيطمس، مرّة وإلى الأبد، وثائق لا تُقدّر بثمن، حول أزمان غابرة حافلة، لا تضيء تاريخ سورية فحسب، بل تاريخ العالم بأسره، بالنظر إلى ما تشغله سورية من صدارة كبرى في أرشيف الإنسانية، وفي ألفيات الماضي الكونيّ وقرونه؟ ولكن، قد يقول قائل، إذا كانت علاقة أولئك بالوطن السوري يحرّكها مبدأ "الأسد، أو نحرق البلد!"؛ فأنّى لهم الإحساس بالمسؤولية تجاه أية قيمة أخلاقية او إنسانية أو مجتمعية أخرى، غير تلك التي تقترن بذلك المبدأ؟ والذي فقد حسّ الانتماء إلى أيّ تاريخ آخر سوى 43 سنة، شغلها النظام في عمر بلد قطنه الإنسان منذ 750 ألف عام، كيف له أن يثمّن روح التواريخ؟
قصف بالصواريخ والمدفعية والطائرات، أهوج عشوائي أعمى، وحاقد يائس مذعور، في آن معاً؛ تسبب، ويتسبب كلّ يوم، في تخريب عشرات المواقع الأثرية القائمة (من قلعة صلاح الدين إلى قلعة الحصن، ومن الجوامع العمرية والأموية إلى كنيسة أمّ الزنار ودير سيدة صيدنايا...)؛ وتلك التي ما تزال مطمورة تحت الأرض، قيد التنقيب أو تنتظر، في طول سورية وعرضها. لكنه ليس الوجه الوحيد للتدمير الذي يتعرّض له تاريخ سورية، القديم والوسيط والحديث، جرّاء استهتار أهل النظام، أو أحقادهم، أو انحطاطهم أدنى فأدنى في الخيارات العسكرية العنفية. ثمة، أيضاً وبالتوازي، أعمال النهب المنظّم لآثار سورية، وتهريبها خارج القطر، وبيعها بأبخس الأثمان، في أردأ أسواق مافيات الآثار.
وإذا صحّ القول بأنّ هذه التجارة القذرة تنزلق إليها، أيضاً، بعض المجموعات المسلحة داخل صفوف المعارضة، والتي لم تلتحق بجبهات قتال النظام كرمى للحقّ والحرية والديمقراطية، بل لكي تمارس بدورها بعض أسوأ قبائح النظام؛ فإنّ هؤلاء اللصوص، الأفراد القلّة المبعثرين، ليسوا البتة في محلّ مقارنة مع عصابات النهب الكبرى، المنظمة المتمكنة المخوّلة أمنياً وعسكرياً، والمرتبطة بمافيات السلطة وكبار ضباع الفساد النهب. هنالك "تشبيح آثاري"، جرى علانية وبتسهيل وتواطؤ من ضباط جيش النظام وأجهزته، في إدلب ومعرّة النعمان وسائر جبل الزاوية، حيث مملكة إيبلا وتل مرديخ (الألف الرابع قبل المسيح)، ودير سنبل البيزنطي، ودير سيتا الروماني؛ وكذلك في تل حموقار، في منطقة الجزيرة، حيث تقع مدينة تعود إلى 3500 سنة قبل الميلاد، ويتفق الآثاريون على أنها واحدة من أقدم مراكز العمران.
وخلال أشهر الانتفاضة الأولى، حيث كانت جميع مناطق سورية في قبضة النظام، شهد متحف مدينة حماة سرقة قطعة ثمينة للغاية، هي تمثال ذهبي نادر لآلهة آرامية. وقد اتضح للمحققين أنه لم تقع عمليات خلع لأبواب المتحف أو كسر للزجاج، وأنّ السارق تجوّل في المكان بحرّية تامة، وتوفّر له كلّ الوقت اللازم لنزع التمثال من قاعدته ونقله خارج المتحف. وقبل أيام أعلنت لبانة مشوح، وزيرة ثقافة النظام، أنّ 18 لوحة فسيفسائية، تصوّر مشاهد من أوديسة هوميروس، استُخرجت من أحد مواقع التنقيب ونُقلت خارج القطر. الطريف، والفاضح كذلك، أنّ مشوح تؤكد، في تصريحات لصحيفة "تشرين" الحكومية، أنّ "المتاحف مؤمّن عليها بشكل جيد"، وعناصر هيئة الآثار والمتاحف "يقومون برصد يومي لما يحدث في المواقع الأثرية"!
ولكي يحتكم المرء إلى جهة ثالثة، بين النظام والمعارضة، تفصل في أمر الاتهامات المتبادلة حول هذا الجزء بالذات من تخريب تاريخ سورية (إذْ لا يعقل أن يُتهم الجيش الحرّ بقصف أعمدة تدمر بصاروخ "سكود"، أو قصف أعمدة بصرى بقاذفة "ميغ" مثلاً!)؛ ثمة هذه الشهادة الأممية. ففي تقرير رسمي رفعه مؤخراً إلى منظمة اليونسكو والاتحاد الأوروبي، قال الإسباني رودريغو مارتين، الذي سبق له أن ترأس مجموعات تنقيب في سورية: "لدينا حقائق تُظهر أنّ الحكومة تعمل مباشرة ضدّ تراث البلد التاريخي. وهنالك مجموعات عديدة قامت بتنفيذ حفريات سرّية، أشرفت عليها قوى أمنية. وهنالك مجموعات أخرى تمارس النهب، تحت سمع وبصر الجيش الحكومي".
وهكذا فإنّ فاقد التاريخ يمقت التاريخ، على نحو غريزي وبهيمي ربما، فيقصف صروحه كأهداف معادية تارة، أو يهرّب شواهده كبضاعة مجزية طوراً، ويقزّم أحقابه، جاهلاً أنه هو الذي يتقزّم. طبيعيّ أن يستوي عنده الوطن والعالم والإنسانية، مثل الماضي والحاضر والمستقبل، هو القابع خلف صاروخ، أو المنكمش في قمرة طائرة، أو المختبيء في سراديب محصّنة معتمة؛ المنقلب، في كلّ حال، إلى وحش أعزل نازف، على عتبة اندثار.