المرء، غنيّ عن القول، لا ينتظر من مذيعة "الإخبارية"، ولا من زميلها، أن يتجاسرا على طرح أي سؤال غير تلك الأسئلة التي طُلب منهما طرحها على الأسد؛ والأمر، استطراداً، ليس فيه جديد على تقاليد إعلامية رسّخها حزب البعث منذ انقلابه الأوّل، سنة 1963؛ وزادها رسوخاً بعد الانقلاب الثاني، سنة 1966؛ ثمّ مسخها نظام "الحركة التصحيحية"، 1970، إلى ما يترفع عنه البوق أو الببغاء. ولكن، ما دام الأسد قد استأنف عاداته الأثيرة في التفاصح والتفلسف والفذلكة، أمام عدسات التلفزة خاصة؛ وأتى على حديث "القاعدة" و"حرب بكل ما تحمل الكلمة من معنى" تشنها الولايات المتحدة ضدّ نظامه، و"مجموعة من المرتزقة تأخذ الأموال من الخارج"، و"مجموعة من اللصوص"، و"قوى تكفيرية"، ودول إقليمية عربية وغير عربية يفضحها "الدور السوري الشفاف تجاه القضايا المختلفة"... فلماذا تغييب الجولان، إذاً؟
أكثر من هذا، اجترح الأسد نظرية تقول إنّ "سورية في مثل هذه الظروف تتعرض لمحاولة استعمار جديدة بكل الوسائل وبمختلف الطرق. هناك محاولة لغزو سورية بقوّات تأتي من الخارج من جنسيات مختلفة ولو أنها تتبع تكتيكاً جديداً يختلف عن التكتيك التقليدي للاستعمار الذي كنا نسميه الاستعمار الحديث، الذي كان يأتي بقوّاته إلى المنطقة وآخره كان الاحتلال الأمريكي للعراق ولأفغانستان". وبموجب هذه النظرية، فإنّ قوّات النظام لا تقاتل "الإرهابيين" و"المرتزقة" و"القاعدة"، فحسب؛ بل هي تقوم بعمليات عسكرية تقليدية على سبيل "تحرير الأرض"، قبل متابعة تطهيرها من الأعداء. فماذا عن الجولان، إذاً: أهو محتلّ، أم محرّر، أم في منزلة ثالثة أو رابعة او خامسة، لا يمتلك فقه توصيفها إلا الأسد؟
ثمّ إذا كانت مناسبة الإدلاء بهذا الحديث هي ذكرى الجلاء، التي تعني "ماضي العزة وحاضر الكرامة" حسب الأسد؛ فلماذا يلوح أنّ الأكثر تذكيراً بجلاء القوّات هي، تماماً على النقيض، تلك الواقعة اللاوطنية المتمثلة في جلاء قوّات سورية عن... الجولان المحتلّ؟ هنا يقفز إلى التفلسف الأسدي طراز جديد من التنظير، مفاده أنّ بقاء الاحتلال الإسرائيلي في الجولان خير لسيادة سورية وعزّتها، من تحرير الجولان؛ نعم... صدّقوا ما تقرأون! يقول الأسد: "إذا كانت هناك أرض محتلة ولكن شعبها حرّ، أفضل بكثير من أن يكون لدينا أرض محررة وشعب فاقد للسيادة ودولة فاقدة للقرار الوطني". في صياغة أخرى، كان الشعب السوري حرّاً منذ خسران الجولان سنة 1967، في عهد حافظ الأسد، وزير الدفاع آنذاك؛ وصار حرّاً أكثر بعد انقلاب الأخير على رفاقه، خريف 1970؛ وحرّاً أكثر فأكثر، بعد خسران المزيد من أرض الجولان سنة 1973، وتوقيع اتفاقية سعسع لفصل القوّات؛ وحرّاً، في المطلق ربما، بعد توريث بشار الأسد، سنة 2000... فلِمَ تحرير الجولان، وفقدان الحرّية والسيادة، إذاً!
من جانب آخر، ورغم أنه لا يتردد في تحقير تركيا، ممثلة برئيس وزرائها رجب طيب أردوغان، ووزير خارجيتها أحمد داود أوغلو (رغم أنهما كانا، قبل سنتين فقط، في عداد الأحبّ إلى قلبه وعقله)؛ فإنّ الأسد لا يستذكر ـ البتة، هنا أيضاً ـ أرضاً سورية أخرى، عزيزة وسليبة، هي لواء الإسكندرون، المنطقة الواسعة التي قامت تركيا بغزوها سنة 1938، قبل أن تسلخها سلطات الانتداب الفرنسية عن الجسم السوري، وتضمّها إلى تركيا. أيكون السبب، الأوّل، هو أنّ نظام "الحركة التصحيحية"، الأسد الأب مثل الأسد الابن، سكت كلّ الوقت عن سلخ اللواء؛ بل بلغ الأمر بالوريث أنه أقرّ، ضمنياً، بالسيادة التركية التامة على الإسكندرون، خلال سنوات شهر العسل بين النظام وحكومات "حزب العدالة والتنمية" التركي؟ أم يعود السبب، الثاني، إلى النظرية الأسدية ذاتها، المشار إليها أعلاه، حول احتلال أفضل للسيادة من تحرير ينقض الحرّية؟
لافت، إلى هذا، أنّ الأسد يستسهل استلاب ذاكرة السوريين، والعالم بأسره، حين يكيل الشتائم إلى أردوغان: "الخسائر التي مُني بها سياسياً داخل تركيا على خلفية فشله بما سمي سياسة صفر مشاكل والتي تحولت إلى صفر سياسة وصفر رؤية وصفر أصدقاء وصفر مصداقية وصفر أخلاق. أصفار بكل الاتجاهات الأخرى ما عدا صفر مشاكل". ولكن، مهلاً... أليس هذا هو أردوغان، نفسه، شريك الأسد الستراتيجي، والصديق الصدوق، والوسيط في المفاوضات السرية مع إسرائيل؟ ألم يكن الميزان التجاري بين البلدين (الرابح تماماً بالنسبة إلى تركيا، والخاسر على نحو فاضح من الجانب السوري)، قد بلغ 2,5 مليار دولار في سنة 2010، بزيادة تقارب 43 بالمئة، وكان يُنتظر له أن يبلغ خمسة مليارات في السنتين القادمتين؟ ألم تكن الاستثمارات التركية في سورية قد تجاوزت 260 مليون دولار، واحتلت الشركات التركية المرتبة الأولى من حيث عدد المشاريع التابعة لجهات أجنبية؟
وفي العودة إلى الجولان، كان الوسيط التركي شاهداً على إمعان النظام السوري في جعل الأراضي المحتلة مادّة بورصة مفتوحة، أقرب إلى مزاد غير علني بين مختلف الأحزاب والقوى السياسية الإسرائيلية، من جهة أولى؛ والولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، مثل فرنسا وبريطانيا، من جهة ثانية؛ فضلاً عن توظيف المرتفعات المحتلة في الخطاب الديماغوجي الموجّه للاستهلاك، الداخلي السوري وكذلك العربي والإقليمي، حول "الصمود" و"التصدّي" و"الممانعة". وفي أواخر 2008 كان الوسيط ذاته، التركي الذي يذمّه الأسد اليوم، هو حامل مذكّرة النظام السرّية حول ترسيم حدود الجولان، أو بالأحرى ترسيم ما يمكن أن يصبح الحدود الدولية بين سورية وإسرائيل في حال التوصّل إلى اتفاقية سلام نهائية. والصحافة الإسرائيلية والتركية، ولكن ليس السورية بالطبع، كشفت النقاب عن ستّ نقاط جغرافية ترتكز إليها تلك الحدود، ونقل مسؤولون غربيون على لسان الأسد أنه "يريد أن يعرف وجهة نظر إسرائيل حول ما يشكّل أراضٍ سورية محتلة، قبل إحراز أيّ تقدّم".
تلك كانت خطوة عجيبة، من حيث المبدأ والتوقيت والغرض، قريباً كان أم بعيد المدى. فهل صارت حدود الجولان الوطنية الرسمية التاريخية، أو كما هي بحسب خرائط 4/6/1967 في أقلّ تقدير، مجهولة لدى الجانب الإسرائيلي، أو غير واضحة الخطوط والتضاريس والمعالم؛ ولهذا فإنّ المذكّرة السورية الجديدة تؤكد عليها، مجدداً؟ وإذا كان هذا الافتراض سوريالياً، وكانت مفاوضات سابقة قد تناولت الحدود السورية للجولان بالمتر الواحد وليس بالكيلومتر (كما قيل في الخلاف الشهير بين إيهود باراك وحافظ الأسد، مطلع سنة 2000 وقبيل رحيل الأخير، حول بضعة أمتار على الضفة الشمالية ـ الشرقية لبحيرة طبريا)؛ فأيّ حدود هذه التي كانت ترسمها، أو تعيد ترسميها، المذكرة السورية؟
كانت إجابة أولى تنبثق من احتمال أوّل يخصّ لعبة الردّ والردّ المضاد بين الأسد وأولمرت، إذْ تناقلت التقارير خبراً عن رسالة إسرائيلية، عبر الوسيط التركي دون سواه، تسأل دمشق عمّا ستكون عليه علاقات النظام السوري مع إيران و"حزب الله" و"حماس" في حال التوصّل إلى اتفاقية دائمة؛ وأنّ خلاصة ردّ الأسد كانت التالية: لا يحقّ لأحد أن يملي علينا سياساتنا الخارجية، ولكن من الطبيعي أن تتبدّل الخريطة السياسية للمنطقة بموجب سلام سوري ـ إسرائيلي. الاحتمال الثاني هو اقتناع الأسد بأنّ المؤسسة السياسية الإسرائيلية قد تأخذ على محمل الجدّ توصية جاءت في التقرير السنوي الدوري لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، نصحت بالانسحاب من الجولان (كان التقرير قد أوصى، كذلك، بشنّ ضربة جوية تدميرية ضدّ المنشآت النووية الإيرانية!).
وأمّا في سوق البورصة الفعلي، حيث تناقش المؤسسة السياسية والأمنية والعسكرية الإسرائيلية مسائل احتلال الجولان بمنطق مختلف تماماً، فإنّ مذكّرة النظام السوري حول ترسيم الجولان كانت وثيقة استهلاك للوقت، أو لعب في الضائع منه. ولهذا فإنّ حدود الجولان الوحيدة ظلت تلك التي يعتمدها الاحتلال، والتي تقول التالي، بين إحصائيات أخرى: إسرائيل تستولي على مياه نهرَي اليرموك وبانياس، وتعتمد على الجولان في تأمين 50% من احتياجات المياه المعدنية، و41% من احتياجات اللحوم، و21% من كروم العنب المخصصة لصناعة الخمور (38% منها تصدّر للخارج)، وقرابة 50% من احتياجات الفاكهة وهنالك 18 ألف مستوطن إسرائيلي، يقيمون في 33 مستوطنة، ويحتكرون استغلال الغالبية الساحقة من الأراضي الصالحة للزراعة. وهي حدود تقول، هذه الأيام، إنّ قوّات الأسد تغادر الجولان المحتلّ، لتنتشر في دوما وداريا، وأحياء جوبر وبرزة والقدم ومخيم اليرموك في دمشق...
وفي وصلة تفلسف، علمية ـ مخبرية هذه المرّة، زوّد الأسد مستمعي "الإخبارية" بالمعلومة الخطيرة التالية: "لا بد أن ننظر إلى سورية ككتلة واحدة على طريقة الأواني المستطرقة. إذا وضعنا سوائل في عدد من الأوعية ووصلنا بينها بأنابيب فتغير منسوب الماء في مكان يؤثر في كل الأوعية الأخرى". حسناً، فماذا وقد غابت سوائل الجولان عن كلّ الأوعية، ولم يرتفع أي منسوب آخر سوى مقولة "إنْ لم ننتصر فسورية تنتهي"، التي تطابق شعار "الأسد، أو نحرق البلد"؟ وبعد تجميل احتلال الجولان، واتهام "الإرهابيين" بهدم مئذنة الجامع العمري، وأنّ "الجزء الأكبر من المظاهرات مدفوع"، و"المنصب ليس له قيمة"، و"الأولوية دائماً بالنسبة لنا هي حماية أرواح المواطنين"... أيّ سوائل أخرى سوف يضخّ الأسد، وفي أية أوانٍ مستطرقة!