وهكذا، ينصرم نهار على سورية شهد مقتل أكثر من 150 سورياً، بينهم أكثر من 30 طفلاً وامرأة وشيخاً ذُبحوا بالسلاح الأبيض خلال مجزرة جماعية في بلدة الصنمين؛ وأمّا العالم خارج سورية (ولكن في داخلها، أيضاً، لدى بعض قطاعات "المعارضين"!)، فإنه منشغل بكلمة زعيم "القاعدة" أيمن الظواهري، وبيان قائد "جبهة النصرة" أبي محمد الجولاني، والدعوة إلى إقامة "الخلافة الإسلامية"، وتطبيق الشريعة، وإعلان قيام "الدولة الإسلامية في العراق والشام"... وهذه المرّة لن يكون بشار الأسد، أو أيّ من أبواقه الإعلامية الداخلية والخارجية، في حيرة من الأمر حول طرائق تدبير الأكاذيب الكفيلة بتشويه صورة الانتفاضة وأهدافها؛ فها أنّ الظواهري، زعيم "القاعدة" بجلال قدره، هو الذي يخاطب "شام الرباط والجهاد"، حيث "في كل شبر من ثرى الشام نصرةٌ"!
لنا، في مقال قادم، عودة أكثر تفصيلاً إلى هذه الحال، إذْ لعلّ الكثير من غشاواتها تكون قد انقشعت، بما يجعل الصورة أوضح، وأقلّ احتشاداً باللغو والترهات الديماغوجية. غير أنّ ما استدعى الفقرتين التمهيدتين السالفتين، وحديث "لعبة الأمم" وقواعدها المتغايرة، هو أنّ لعبة أخرى كانت تُدار في الآن ذاته؛ ليس في أيّ من ساحات انتفاضات العرب، وإنْ كان المشهد يوحي بأنّ تلك الساحة لن تكون بمنأى بعيد عن التقاط روحية الاحتجاج التي صنعت وتصنع الحراكات الشعبية العربية. الساحة المعنية هي السودان، وإقليم دارفور تحديداً، حيث فُتحت الملفات مجدداً في العاصمة القطرية، الدوحة، وانعقد "مؤتمر إعادة الإعمار والتنمية في دافور"، ثمّ اختتم أعماله باعتماد أكثر من مليار دولار (تعهدت قطر بنصفه، ولم تتردد البرازيل في المساهمة بثلاثمئة مليون دولار، وألمانيا بمئة مليون دولار!).
ولا يُلام الشيخ أحمد معاذ الخطيب، زعيم "الائتلاف الوطني السوري لقوى المعارضة والثورة"، إذا عاد عن عودته عن استقالته، فاستقال مجدداً احتجاجاً على هذا السخاء العالمي (والعربي، في المقام الأوّل)، تجاه دارفور؛ مقابل ممارسات الشحّ والتلكؤ والمماطلة والتملص... التي يعتمدها الغرب تجاه مؤسسات المعارضة السورية، من الائتلاف ذاته، إلى "المجلس الوطني السوري"، دون إغفال حكومة غسان هيتو العتيدة. ثمة، مع ذلك، ما يعزّي الشيخ معاذ، ويعيد حكاية السخاء هذه إلى جذرها الأصلي، في "لعبة الأمم" دون سواها. ذلك لأنّ المبالغ المعلَن عنها، والتي تصل إلى مليار دولار أمريكي، لن تُصرف إلا بعد ان تفي حكومة السودان المركزية بتعهدها توفير مئتي مليون لأغراض "الإنعاش" و"إعادة الإعمار" و"التنمية" ذاتها، وهيهات أن تؤمّن خزانة الخرطوم هذا المبلغ، خاصة وأنّ موارد النفط قد هبطت بنسبة 75 في المئة بعد انفصال الجنوب!
وفي تفكيك ملفات دارفور، بعيداً عن اللغو والترهات الديماغوجية إياها، هل من المبالغة أن نأخذ بعين الاعتبار حاجة العالم إلى إقليم دارفور، لأسباب نفطية ـ ستراتيجية؟ ألا يتردد، منذ سنوات، ذلك الحديث عن مشروع أنبوب عملاق عابر للقارّات، ينقل الذهب الأسود من العراق والخليج إلى ميناء ينبع السعودي، ثمّ ميناء عروس السوداني، مارّاً بإقليم دارفور، وحقول دبا التشادية، وصولاً إلى المحيط الأطلسي؟ أهي مبالغة أيضاً، ومن جانب آخر، أن نرتاب في أنّ الشركات النفطية العالمية (والأمريكية في طليعتها، بما تملك من نفوذ هائل، أمريكي وكوني)، لا تنظر بعين الرضا إلى استئثار الشركات الصينية والماليزية والأوروبية بصناعة النفط السوداني (قرابة نصف مليون برميل يومياً)؟
ثمة، أيضاً، سلسلة من العناصر التي يُساء توصيفها، عن سابق قصد وتصميم، بحيث تنقل المشهد الفعلي إلى مشاهد أخرى مصطنعة، أو حتى مزيفة تماماً؛ بينها هذه على سبيل الأمثلة:
1 ـ ليس دقيقاً أي حديث عن نزاع أو صراع أو حروب إثنية بين "عرب" و"أفارقة" في إقليم دارفور السوداني، بدليل اندماج أهل هذا الإقليم في صلب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية السودانية طيلة مئات السنين. ألم يكن هذا الإقليم قلعة حصينة للحركة المهدية ولحزب "الأمّة"، قبل أن يخترقه الإسلاميون وحزب "المؤتمر الشعبي"، على يد الشيخ حسن الترابي شخصياً؟ ألا ينتمي أهل دارفور إلى طائفة "الأنصار"، التي لا يُعرف عنها العداء للعرب والعروبة، أياً كان المعنى المراد من هذَين المصطلحين؟ وفي كلّ حال، وبعد توقيع اتفاقية أبوجا سنة 2004، توالى على حكم مناطق دارفور ولاة من قبائل الإقليم وحده، دون أن تخفّ حدّة الصراعات بين تلك القبائل.
2 ـ مع التشديد التامّ على ما جرى ويجري من فظائع في الإقليم، ليست الإبادة الجماعية أو التطهير العرقي أو التعريب القسري هي المصطلحات الملائمة لتوصيف مأساة دارفور. النزاع طبيعي بالمعنى السوسيولوجي للتنازع بين القبائل الرعوية المترحّلة (معظم عرب دارفور)، والقبائل الزراعية المستوطنة (معظم أفارقة الإقليم)؛ وهو ليس أمراً طارئاً لأنه ببساطة يدور حول الماء والمرعى والكلأ، خصوصاً في منطقة صحراوية قفر وجرداء. والأرجح أنّ إهمال الحكومة المركزية للإقليم، وهذه أو تلك من السياسيات التمييزية أو العنصرية التي تحابي عرب دارفور، كانت في طليعة الأسباب التي زادت من حدّة التنازع.
3 ـ ليست من فئة الملائكة تلك النُخب السياسية والعسكرية التي أطلقت تمرّد "أفارقة" إقليم دارفور، وهم أبعد ما يكونون عن صفة الضحيّة. لقد كانت لدى الحزبين الرئيسيين، "حركة تحرير السودان" و"حركة العدالة والمساواة"، أجندة سياسية واضحة حين بادرت ميليشياتهما إلى الاستيلاء على حامية قولو في جبل مرّة، ثمّ الزحف على مدن كتم والفاشر بعدئذ، وإلحاق سلسلة هزائم بالجيش السوداني النظامي الذي وقع أسير المفاجأة الصاعقة. هؤلاء مارسوا، بدورهم، أعمال سطو ونهب وتخريب واغتصاب في المناطق التي بسطوا سيطرتهم عليها، وهذا موثّق في تقارير منظمة الوحدة الإفريقية ومعظم منظمات حقوق الإنسان.
4 ـ ميليشيات الـ"جنجويد" ليسوا ملائكة أيضاً، ولا ضحايا. لقد ارتكبوا من الفظائع وجرائم الحرب وأعمال القتل والاغتصاب والتهجير ما لا يترك زيادة لمستزيد، وهذا أمر لا خلاف عليه في الجوهر. ما هو جدير بالسجال، في المقابل، هو تلك الدرجة المذهلة من تأثيم هذه القبائل، على نحو مطلق معمّم شامل وعنصري أيضاً، لا تمييز فيه بين زيد وعمرو. ولعلّ المرء يبدأ من التسمية ذاتها، التي أطلقها الأفارقة على العرب وتلقفتها وسائل الإعلام قاطبة (وبينها، بالطبع، تلك العربية والإسلامية!) دون تمحيص أو تدقيق. والحال أنّ التعبير يفيد معنى اللصوص والأفاقين وقطّاع الطرق، ومن غير المعقول أن تطلقه عشائر دارفور العربية على نفسها، بنفسها.
5 ـ "عرب الحدود" هو التعبير الذي استخدمه الشيخ حسن الترابي في وصف عواقب الفاصل الزمني الطويل الذي جعل ولادة الهوية العربية في السودان قيصرية، بالمعاني السيكولوجية والسياسية والجغرافية؛ وسهّل، استطراداً، لجوء الإدارة الكولونيالية البريطانية إلى سياسة الباب المغلق المعاكسة تماماً للسياسة التي اعتمدها الروّاد العرب. وفي قاموس التاج الإمبراطوري البريطاني، كان إغلاق الباب على عرب الشمال المسلمين يعني فتحه على مصراعيه أمام قبائل الجنوب عبر تقسيمه إلى ثلاثة أقاليم، وتأسيس وضع خاص بكلّ إقليم، وإسناد الخدمات التربوية والاجتماعية إلى البعثات التبشيرية، وتكليف زعماء القبائل بالشؤون الإدارية المحلية، وإحياء اللغات الإثنية والثقافة القبلية على حساب الإسلام واللغة العربية.
6 - إذا كانت حكومة عمر البشير "إسلامية"، كما تقول معظم وسائل الإعلام الغربية في استسهال عجيب، فلماذا والحال هذه تنحاز إلى عرب دارفور ضدّ أفارقة الإقليم المسلمين... الذين كانوا في طليعة مساندي الثورة المهدية أواخر القرن التاسع عشر، والذين قدّموا ثلاثة نوّاب إسلاميين في انتخابات 1986؟ وكيف يستقيم استمرار الحديث عن "إسلامية" البشير، ضمن شروط صدامه العنيف مع الشيخ حسن الترابي؟ وما معنى "إسلامية" أيّ نظام حكم في السودان، أو حتى في أيّ بلد عربي؟
7 ـ ألم يكن من المفارقات ذات الدلالة العميقة أن "الاستبداد العلماني"، كما يصف الصحافي الأمريكي ملتون فورست أسلوب حكم جعفر النميري بعد انقلاب 1969، حظي بدعم مبدئي من الشيوعيين وبمعارضة من الشيخ الترابي الذي بقي رهن الاعتقال طيلة سبع سنوات؛ ثم انقلبت الأقدار سريعاً، فأعدم النميري عشرات القادة الشيوعيين، قبل أن يهتدي إلى فضائل الشريعة وتطبيق الحدود في قوانين أيلول (سبتمبر) 1983، فلا يكتفي بالإفراج عن الترابي، بل ويعيّنه وزيراً للعدل؟ أليست المفارقة الأخرى أن اكتشاف النفط كان الكاشف الحاسم لاختبار سلسلة القوانين الاستبدادية (غير العلمانية هذه المرة)، وطرح ورقة انفصال الجنوب على نحو عنيف حصد أكثر من مليون ضحية؟
هذه العناصر يمكن، في ضوء تفكيكها إلى مكوّناتها الفعلية، أن تنقلب إلى مضامين أخرى، مضادّة لتلك المضامين ـ الكليشيهات التي يجري تداولها كلما تقاطعت الخيوط في لعبة دولية/إقليمية جديدة، وانتعشت معها عقلية الاستسهال دون سواها، وشاع إغماض العين عن الجوهر (حروب النفط والذهب في إقليم دارفور، وانتفاضة الشعب من أجل الحرية والكرامة في سورية)؛ مقابل إبراز السطح (الحروب الإثنية بين "عرب" و"أفارقة" في إقليم دارفور، وحروب "الجهاديين" من أجل "خلافة إسلامية" في سورية)، والاتكاء عليه وحده. وهي عناصر توفّر قراءة أخرى، لعلها تتيح تجاوز الضلال والتضليل والاتجار الرخيص بمأساة البشر، وتذهب أبعد ممّا هو متاح في خطابات النفاق المعتادة، والتي تتعالى كلما انطلقت "لعبة أمم" جديدة.
وكلما تماثلت في المحتوى، عملياً؛ وتغايرت قواعدها في الشكل، وحده.