لعلها مصادفة فلسطينية بامتياز، بالمعنى الكلاسيكي الذي يتيح امتزاج المهزلة بالمأساة، أن تتكشف معلومات جديدة حول ألغاز وفاة القائد الفلسطيني ياسر عرفات (1929 ـ 2004)، مسموماً بمادّة البولونيوم هذه المرّة؛ وأن يعلن "قائد" فلسطيني آخر، هو أحمد جبريل، وقوفه التامّ (وكأنه يستطيع تنفيذ نصف وقفة مثلاً!) مع النظام السوري، لأنّ "ما يدور في سورية ليس حراكاً داخلياً محلياً، بل هو تغيير في بنية هذه المنطقة لصالح شرق أوسط جديد". وبعد أن أشفق على حركة "حماس" لأنها لم تحذُ حذوه في البقاء ضمن "محور واحد"، طريقه "بدأ يُعبّد من طهران إلى بغداد إلى دمشق"؛ أعلن صاحبنا أنه اتفق مع إيران و"حزب الله" على أنّ "ما يدور على أرض سورية هي المعركة الفاصلة"... ما دامت فلسطين قد تحررت، وانتهى الأمر!
شتان ما بين عرفات وجبريل، بالطبع، ولكن المصادفة تشاء زجّ الاثنين معاً في سياق مفارقة مؤلمة، بين أشدّ آلامها أنّ فصيلاً يزعم تحرير فلسطين إنما يتلهف على مسخ أنصاره إلى شبيحة وقتلة ورجال استخبارات، سبق لهم بالفعل أن نفّذوا مهامّ أمنية واستهدفوا الفلسطينيين أنفسهم في المخيمات التي شهدت تعاطفاً فلسطينياً مع الانتفاضة (مجزرة مخيم اليرموك، على سبيل المثال، الصيف الماضي، والتي سقط فيها 14 شهيداً فلسطينياً على يد قوّات جبريل). آلام أخرى تمثلت في تطوّع "محرّري فلسطين" هؤلاء، لاختطاف ناشطين سوريين من لبنان، وتهريبهم عبر الحدود، وتسليمهم إلى السلطات السورية حيث تنتظرهم أهوال التعذيب واحتمالات التصفية الجسدية.
وأياً كان الخلاف أو الاتفاق حول خياراته السياسية والفكرية وحتى التنظيمية، فإنّ معارك عرفات كانت من طينة أخرى، أرقى وأشرف وأنبل، بل هي لا تقبل أي مقارنة في الواقع، خاصة خلال الأطوار الأخيرة حين استقرّ في صورة القائد السياسي الذي رفض إحناء الرأس في كامب دافيد، صيف 2002، طيلة تسعة أيّام من الضغط الهائل الذي مارسه الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، على نحو لم يكن له نظير في تاريخ علاقة البيت الأبيض بقضايا الشرق الأوسط. وحين وصلت تفاصيل التسوية إلى حقوق الشعب الفلسطيني الأساسية، خصوصاً القدس وحقّ العودة والإستيطان، قال عرفات "لا"، مدويّة ثابتة راسخة و... مدهشة، في الواقع، إذْ تصدر عن رجل كان مولعاً بـ"سلام الشجعان" دون سواه!
ولقد استحقّ سخط واشنطن مذاك، ثم تكفّل المجتمع الإسرائيلي بانتخاب أرييل شارون لكي يذيق عرفات المزيد من ألوان الضغط والمهانة والعزل والحصار، وفي غضون السيرورة بأسرها كان النظام العربي يُجْهز على ما كان تبقى في نفس الرجل من عناصر أمل ونوازع صمود. قال "لا" حين كانت الـ"نعم" هي المنجاة والإجابة الوحيدة في آن، ولو أنه أحنى الهامة فلعلّنا ما كنّا سنبصره محمولاً على نقّالة طبيّة في سماء باريس؛ وما كان سيلزَم "المقاطعة" محاصَراً. الأرجح أنه كان سيواصل تجواله في عواصم العالم، على متن طائرة أفخم وأحدث، معززاً مكرّماً أكثر بكثير من كلّ أقرانه الحكّام العرب، الذي مسحوا رقم هاتفه في رام الله، راغبين أو مُكرهين!
ولقد سال مداد كثير في وصف محاسن عرفات ومساوئه، خصوصاً تلك الحلقة الضيّقة التي قرّبها منه، وأطلق لها اليد في الفساد والإفساد والتسلّط والترهيب، ومحاكاة مختلف جرائم الاستبداد العربي. ولكنّ الأخلاق البسيطة، فضلاً عن موضوعية الوقائع ذاتها، والحدود الدنيا في الإنصاف، تقتضي عدم التقليل أبداً من حجم المأزق الذي عاشه عرفات في السنوات التي سبقت رحيله، من جانب أوّل؛ ومقدار المرّات التي دُفع فيها إلى الجدار الأخير، أو حُشر في الزاوية الأضيق، من جانب ثانٍ. لعلّه، منذ أن رفض الخنوع لاشتراطات كامب دافيد ـ 2 وحوصر في مبنى "المقاطعة"، كان قد دُفع إلى حافة اتخاذ القرار الأخطر في حياته قاطبة: إمّا الخضوع والاستسلام وبيع التضحيات الفلسطينية الجسيمة بثمن بخس أقرب إلى المجّان، أو الصمود مرّة أخرى... اتضح أنها كانت الأخيرة!
قد يكون قاتله إسرائيلياً بالفعل، بهذا السمّ أو بسواه؛ إلا أنّ الكثير من القتلة كانوا قد مدّوا يد العون للقاتل الأخير، على نحو أو آخر، وفي عواصم عربية "شقيقة"، وأخرى "صديقة"، قبل تلك الأجنبية الغريبة. النظام السوري هو أحد كبار الشركاء في قتل عرفات، حتى قبل أن تصبح أعنة السلطة البعثية إلى يدَيْ حافظ الأسد سنة 1970، وتُنقل من بعده إلى وريثه. التاريخ يبدأ من كانون الأول (ديسمبر) 1964، حين قامت مفرزة تابعة للمخابرات العسكرية السورية باعتقال عرفات، بتهمة "التحضير لأعمال تخريبية"، وذلك بعد تفتيش صندوق سيارته والعثور فيها على أصابع ديناميت. وقد أطلق سراحه بعد 18 ساعة، لكنّ الحادثة بدت غريبة لأن عرفات كان ينقل الديناميت بعلم وتسهيل القيادة السورية، وسبق له أن حصل على الموافقة بنقل أسلحة مختلفة إلى معسكرات تدريب "فتح" في سورية. وكان اللواء أحمد سويداني، رئيس الأركان آنذاك، هو الذي نقل الإذن إلى عرفات شخصياً، بعد مفاوضات بين الرجلين بدأت منذ ربيع ذلك العام.
ما الذي حدث؟ كان أمر الاعتقال قد صدر عن العقيد محمد أوركي، رئيس شعبة فلسطين التابعة للمخابرات العسكرية السورية، إلا أنّ الآمر الحقيقي كان الرجل القوي في الجيش، صاحب النفوذ الواسع في مختلف أجهزة الاستخبارات، وقائد القوى الجوية، اللواء... حافظ الأسد! اللواء السويداني كان، من جانبه، يمثّل طموح حزب البعث الحاكم إلى احتكار القضية الفلسطينية سياسياً وعقائدياً، ولهذا أقنع القيادة بالسماح لـ "فتح" بحرّية الحركة والتدريب على الأراضي السورية. أمّا الأسد فقد كان يمثّل طموحات شخصية للسيطرة على مقاليد الأمور والتمهيد لاستلام السلطة، ولهذا فقد ذكّر عرفات بأنّ صاحب القرار الأقوى، والمرجعية العليا التي يتوجب على "فتح" أن تعود إليها، هو الأسد.
وتلك الحادثة سوف تسجّل بدء تاريخ طويل من العداء بين عرفات والأسد، خصمه العربي الأكثر شراسة ضدّه، وحقداً عليه أغلب الظنّ. الأخير ظلّ مصرّاً على تحويل جميع فصائل حركة المقاومة الفلسطينية، و"فتح" بصفة خاصة، إلى ورقة في جيبه ولصالح خططه التكتيكية والستراتيجية؛ والأوّل ظلّ مصرّاً على ضرورة بقاء البندقية الفلسطينية، والقرار الوطني الفلسطيني، في استقلال تامّ عن كلّ الأنظمة العربية. وهكذا، في أيار (مايو) 1966، وفق مصادر متطابقة، حاولت الاستخبارات العسكرية السورية اغتيال عرفات أثناء وجوده في اجتماع مع رجل سورية داخل المقاومة الفلسطينية، أحمد جبريل (صاحبنا، دون سواه!)، في أحد البيوت السرية في دمشق. ولقد فشلت المحاولة لأنّ عرفات تغيّب، بعد أن "انشقّ" أحد المكلفين بترتيبات الاغتيال، فانضمّ إلى عرفات، وأبلغه بالتفاصيل.
وفي 13 تموز (يوليو) 1971، فور بدء الهجوم العسكري الشامل ضدّ الفلسطينين في الأردن، أمر الأسد، وكان آنذاك قد صار حاكم سورية، بإغلاق الحدود السورية ـ الأردنية أمام "الفدائيين"، ممّا أضعف قدرتهم على المناورة وجعلهم هدفاً سهلاً لقوّات الملك حسين. وكان غرض الأسد التالي هو تصفية الوجود السياسي والعسكري للفلسطينيين، وعرفات أساساً، في كامل الأراضي اللبنانية، وهو بعض الثمن الواجب سداده مقابل سكوت إسرائيل والولايات المتحدة عن الوجود العسكري والسياسي الواسع لسورية في لبنان.
ولعلّ الأسد لم يغفر لعرفات أنه صمد طيلة أسابيع الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران (يونيو) 1982، وكشف بذلك عجز النظام السوري ليس عن مواجهة إسرائيل عسكرياً فحسب، بل حتى عن تأمين العتاد والأغذية للقوات السورية المحاصَرة. في المقابل، لا ينسى أفراد الجيش السوري المحاصرون كيف كان عرفات يوزّع عليهم معلبات الطعام بيديه. كذلك لم يغفر الأسد لعرفات أنه خرج إلى تونس وليس إلى سورية، كما فعلت معظم القيادات الفلسطينية، بعد وقف إطلاق النار وإجبار الفلسطينيين على مغادرة لبنان.
وفي شباط (فبراير) 1983، أثناء انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، بذل الأسد (بمساعدة مباشرة من العقيد معمر القذافي، الذي قرّب جبريل بدوره) كل جهد ممكن لشقّ منظمة التحرير على خلفية "تفريط" عرفات بالقضية الفلسطينية إذا قبل "خطة ريغان" للسلام. المجلس رفض الخطة، كما هو معروف، إلا أنّ صياغة الرفض تركت للمنظمة هامش حركة أقلق الأسد وجعله يخشى، للمفارقة، توطيد التعاون بين عرفات والملك حسين!
وهكذا ولد تمرّد أبو موسى ضدّ عرفات، وبسلاح سوري ومال ليبي وتواطؤ من المتمردين قُصفت مواقع المنظمة في مخيمَيْ شاتيلا وبرج البراجنة، لإخراج عرفات إلى العراء، والتمهيد لمعركة طرابلس الكبرى، صيف 1983. ولا ريب أن الأسد أصيب بالدهشة، والكثير من الغضب، لأن عرفات تحداه وظهر فجاة في سورية لكي يتفاوض مع المتمردين. وإمعاناً في التحدّي، وبعد الاجتماع مع رفعت الأسد، الذي كان في ذروة نفوذه آنذاك، اختفى عرفات عن الأنظار ودخل تحت الأرض. وفي 23 حزيران كانت قافلة عرفات المسافرة برّاً إلى طرابلس، وفي عدادها المرسيدس الشخصية لرئيس منظمة التحرير، قد تعرّضت لهجوم عسكري بالقذائف والأسلحة الثقيلة. لكنّ المفاجأة كانت غياب عرفات عن القافلة، وظهوره سالماً لإلقاء خطاب حماسي في مكان آخر من العاصمة السورية غير متوقع أبداً: مؤتمر الأدباء العرب!
وهكذا لم يجد الأسد مفرّاً من اتخاذ الخطوة الوحيدة المتبقية أمامه، أي طرد عرفات من العاصمة السورية بوصفه شخصاً غير مرغوب فيه. وبالفعل، في يوم 24 حزيران 1983، جرى تأخير موعد إقلاع رحلة الخطوط الجوية التونسية المعتادة، لكي يستقلّها عرفات وحفنة من مرافقيه. وفي كتابه "عرفات"، يروي ألن هارت أنّ جورج حبش، القائد الفلسطيني البارز وزعيم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، كان آخر الفلسطينيين الذين ودّعوا عرفات في مطار دمشق، وأنه قال له بعد احتضانه: "يا الله يا أبو عمار! إذا كنتَ أنت تغادر دمشق هكذا، فكيف سأغادرها أنا؟ ربما في كفن"!
غير أنّ عرفات سيلقي بقفاز التحدّي الأخير في طرابلس، بعد أقلّ من ثلاثة أشهر! ففي أيلول (سبتمبر)، وعلى نحو فاجأ العالم بأسره بما في ذلك مستشاريه، وصل عرفات إلى طرابلس على ظهر قارب صغير، وكان في الواقع أشبه بمَن جرّ نفسه إلى مصيدة: الإسرائيليون حاصروه بحراً، والأسد برّاً. آنذاك، وفي برنامج على راديو BBC، اعتبر الصحافي البريطاني الخبير في الشؤون السورية باتريك سيل أنّ مصير عرفات بات مسألة ساعات معدودات، فوافقه خبير آخر هو بيتر مانسفيلد. من جانبه كان الأسد أكثر واقعية من سيل ومانسفيلد، إذ أطال نهاية عرفات إلى ثمانية أيام: أربعة للمخيّمات، وأربعة للزعيم الفلسطيني ولأنصاره في طرابلس.
الأقدار، من جانبها، مدّت المهلة أطول... أطول كثيراً، إذْ كان عرفات هو الذي عزّى برحيل الأسد، في حزيران 2000، وليس العكس. لقد توجّب أن تتعدد السموم، وتتعدد هويات القتلة ومواقعهم، قبل أن يخلد "الختيار" إلى رقاد ختامي.