عُرف عنه انتقاده الشديد، عبر الكتابة والسينما التسجيلية والنشاط المباشر، لمسائل واسعة النطاق، تبدأ من النظام الرأسمالي الأمريكي (بما في ذلك أنظمة حقوقية، وقوانين مدنية، وتشريعات اجتماعية داخل الولايات المتحدة ذاتها)؛ ولا تنتهي عند غزو أفغانستان والعراق، والعولمة الوحشية، والإمبريالية المعاصرة. فإذا وقف مع انتفاضات العرب، في تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن، فالأمر خير على خير؛ إلا إذا... انحاز، أيضاً، إلى الانتفاضة السورية، فهنا الطامة الكبرى، وهنا يهبط في نظر الممانعين العرب إلى أسفل سافلين، فلا يعود تقدمياً، ولا نزيهاً، ولا شريفاً، وليس كثيراً أن يكتشفوا عمالته للمخابرات المركزية الأمريكية!
إنه المخرج السينمائي والكاتب والناشط الأمريكي مايكل مور، الذي جرّ على نفسه سخط المستحاثات إياها حين أعلن وقوفه، بلا تحفظ ولا تأتأة، مع حقّ الشعب السوري في الحرّية والديمقراطية، وخاطب السوريين عبر رسالة متلفزة بليغة، جاء فيها: "في كثير من الأحيان، لا تُقدّم الحرية على طبق من فضة. أحياناً يكون عليك أن تنهض وتنتزعها. أحياناً يجب عليك أن تقف وتطالب بها. وأحياناً، يكون على البعض أن يضحوا بحياتهم، وهؤلاء هم من ستعيش ذكراهم إلى الأبد. لا تستسلموا! التاريخ في صفكم! كلّ دكتاتور وكلّ طاغية على مرّ التاريخ سقط واحترق. كلهم يرحلون عاجلاً أم آجلاً، مهما بلغ شرّهم. التاريخ يتقدم، والبشرية تتطور، وهذا هو ما يحدث الآن في سورية".
استكثر السادة "الممانعون" أن يعلن مور هذا الموقف الصريح، الواضح والأخلاقي، وأن يختم رسالته بعبارة طاش لها صوابهم كما للمرء أن يتخيّل، لأنها ببساطة تجزم بانتصار الشعب وسقوط الطغيان: "لدي إيمان كبير بقدرتكم على تحقيق ذلك، الجميع هنا يؤمن بذلك، لديكم مؤيدون ودعم كبير ليس فقط بين أبناء الشعب الأمريكي، بل بين شعوب العالم أجمع، وفي العالم العربي طبعاً. أنظارنا موجهة إليكم الآن. فليكن الله معكم". ومنذ أن وجّه الرجل رسالته، في أواسط أيار (مايو) 2011، لا يحدث أن تُقتبس فقرة منها في أي مناسبة، إلا ويهبّ "الممانعون" مجدداً، فيكيلون له التُهَم العتيقة المكرورة، كما يبتكرون أخرى جديدة مستوحاة من واقع الحال ("يساريّ الحلف الأطلسي"، على سبيل المثال الأحدث!).
والحال أنّ مور يواصل الوفاء لفلسفة في العلاقة بين الفنّ والحياة، أو الفنّ والسياسة لمَنْ يشاء، لاح أنها انقلبت عنده إلى رسالة؛ كما لاح، بالتوازي مع ذلك الوفاء، أنّ العالم أقرّ للرجل بنجاح باهر في تركيب المعادلة على وجه سليم. شريطه "فهرنهايت 11/9" فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الـ 57، سنة 2004، وقوبل انتهاء عرضه بتصفيق دام 20 دقيقة (بين الوصلات الأطول في تاريخ المهرجان). كما نال، قبلها بسنتين، جائزة لجنة التحكيم في المهرجان ذاته، عن شريطه التسجيلي الشهير "باولنغ كولومباين"؛ ثمّ انتزع جائزة أوسكار من شدق الأسد الهوليودي، قبل أن يقيم الدنيا دون أن يقعدها حول فضيحة رفض شركة والت ديزني توزيع "فهرنهايت 11/9" على صالات العرض الأمريكية.
بدأ مور حياته المهنية صحافياً في جريدة محلية مغمورة تصدر في بلدة فلنت، ولاية ميشيغان، قبل أن يلفت انتباه مطبوعة كبيرة هي Mother Jones فتعيّنه محرّراً، ثمّ تقيله لأنه رفض نشر مقال متحيّز ضدّ ثوّار نيكاراغوا. وشركة "جنرال موتورز"، إحدى أكبر أيقونات الرأسمالية المعاصرة، حفزت مور على إنجاز فيلمه التسجيلي الأوّل "أنا وروجر"، 1989، الذي يروي مسؤولية الشركة، ورئيسها روجر سميث شخصياً، عن تحطيم الاقتصاد المحلّي في بلدة فلنت. ولقد حقق الشريط نجاحاً مذهلاً، وحصل على جوائز أساسية في العديد من المهرجانات، مما شجّع مور على متابعة الموضوع ذاته في شريط ثانٍ بعنوان: "لحمٌ أم حيوانات أليفة: العودة إلى فلنت".
أعماله اللاحقة، "سيكو" و"رحلة الكابتن مايك عبر أمريكا" و"انتفاضة المتهرّب"، و"الرأسمالية: قصة حبّ"، واصلت سيرورة الوفاء إياها، ليس دون أن تكافئه تطوّرات الحياة المعاصرة، فتبرهن على صواب خلاصاته الثاقبة وانتقاداته اللاذعة. حدث ذلك، مؤخراً، في الانتصار القانوني الذي لقيه مشروع قانون الضمان الاجتماعي (موضوع شريط "سيكو")، وافتضاح خرافة أسلحة الدمار الشامل في العراق، واندحار الكثير من أطروحات المحافظين الجدد. هذا، إذاً، رجل سينمائي من رأسه حتى أخمص قدميه، ولكنه ناشط سياسي لا يكلّ ولا يملّ. وأن يكون المرء داعية ماهراً (في الكتابة والخطابة والنشاط اليوميّ...)، وفناناً مشهوداً مكرّماً (في الفنّّ السينمائي، وفي فرع شاقّ منه هو الفيلم التسجيلي تحديداً...)؛ أمر لا ينطوي على تناقض منطقي، من حيث المبدأ. وليس نجاح هذا الرجل في الفنّ وفي السياسة معاً إلا بعض تجليّات نجاحه الفائق في تفكيك أطراف تلك المعادلة الشائكة، على نحو متوازن متلائم لا يليق إلا بموهبة فريدة.
ولعلّ التعبيرات العصبية، التي تتسم بها مواقف بعض "الممانعين" العرب الغاضبة من تعاطف مور مع الانتفاضة السورية، إنما ترتدّ في بواطنها إلى مخاوفهم من أن تثبت الحياة صحّة تقديرات الرجل، خاصة هذه على وجه التحديد: "كلّ دكتاتور وكلّ طاغية على مرّ التاريخ سقط واحترق. كلهم يرحلون عاجلاً أم آجلاً، مهما بلغ شرّهم"!