في يومية The National الإماراتية، تنتاب فيري بيدرمان مشاعر نوستالجية، فيحنّ إلى تفاصيل رومانتيكية سبق له أن عاشها شخصياً في العاصمة السورية دمشق: مقهى النوفرة، على سبيل المثال، حيث "كان بمقدور السياح (وكذلك الصحافيين الباحثين عن موضوع غرائبي خلاب)"، أن يقصدوا المقهى الشعبي الشهير، في قلب دمشق القديمة، للاستماع إلى الحكواتي وهو يستجمع "الحكايات الملحمية عن أمجاد العرب الغابرة"؛ هذه التي "تشعل حماس المستمعين، رغم معرفتهم بأنّ الحكايات مطرّزة". بيدرمان، الذي عمل بين 1999 و2010 مراسلاً لصحيفة "فايننشيال تايمز" في سورية، كان يعلّق على اندلاع المواجهات العسكرية بين شباب الانتفاضة وقوّات النظام الموالية، وصار أغلب الظنّ يرى دمشق مختلفة عن تلك التي عرفها خلال سنوات إقامته. وهكذا، لاح أنّ المدينة اتخذت عنده صفة جديدة، عسكرية هذه المرّة، لعلّها أخذت تمحق الصورة السياحية ـ الاستشراقية، على نحو أو آخر ـ كما كان يكرّسها مقهى النوفرة.
وحين يهبط، مجدداً، على أرض الواقع الفعلي، حيث الشعب والنظام وشبكة التعقيدات التي تكتنف هذه الانتفاضة، يحاول بيدرمان السير على حبل من مسد، بين الحقّ تارة، والباطل طوراً، ليس دون الركون أيضاً إلى مزيج من الأقصيَيْن! فهو، في حال أولى، يقرّ بأنّ القوى الكبرى في الغرب والولايات المتحدة سكتت عن النظام، أو تواطأت مع سرديات شتى تجمّل ذلك السكوت (بينها، مثلاً، نظرية "الهبوط السلس" Soft Landing، التي جعلت بشار الأسد ضامن استقرار وسلم أهلي، رغم التوريث والاستبداد والفساد). وهو، في حال أخرى، يعتبر أنّ وقائع 17 شهراً من عنف النظام ضدّ الشعب، فضلاً عن أفعال النظام طيلة 11 سنة من حكم الأسد الابن، ليس في سورية وحدها بل في لبنان والعراق، أقنعت السوريين بأنّ النظام لم يعد قادراً حتى فرض نسخته الخاصة، المزيفة، من "الاستقرار"، رغم اللجوء إلى مستوى أعلى من الوحشية والعنف.
إلى هذا، ثمة إشكالية إضافية، مهنية وأخلاقية، تقترن بالخلاصات التي يبلغها بيدرمان اليوم ـ لا سيما استنكاره احتمالات نجاح "مرحلة انتقالية" في سورية، واعتبارها "أضغاث أحلام"، و"استيهام مخجل" ـ وهي أنّ تغطياته للمشهد السوري، على امتداد عقد ونيف، لم تكن قد أشارت إلى ما يشخصه اليوم حول زيف استقرار النظام، أو تركيبته الطائفية. وإذْ اعتاد على التحذير من انتقال المخاطر العراقية إلى سورية، فإنّ بيدرمان لم يتوقف، على أي نحو نقدي يشبه ما يفعله اليوم، عند زيف سردية "الهبوط السلس"، التي صار اليوم يعتبرها "خرافة"؛ حتى ليصحّ القول، دون إلحاق كبير غبن بالرجل، أنه إنما اكتشف السردية مؤخراً فقط، حين انتقلت إلى مصافّ الخرافة!
بيدرمان جزء من ظاهرة، بالطبع، صنعتها وتصنعها تلك الطرائق القاصرة، أو الملتوية، أو الغافلة، أو الجاهلة، أو المتجاهلة عن عمد وتصميم... التي يعتمدها مَنْ يأنسون في أنفسهم اكتساب "معرفة" ببلداننا، وتكديس "خبرة" بشؤونها وشجونها؛ لا نعجز عنها، نحن أبناء القضايا وأهلها وضحاياها، فحسب؛ بل لا يجوز لنا، أصلاً، أن نتفكر فيها بصفة مستقلة عن "العارفين" و"الخبراء" أولئك، في الغرب وفي الولايات المتحدة خصوصاً. نتذكر، هنا، ذلك المقال الذي نشرته أسبوعية الـ"إيكونوميست" البريطانية، في ربيع 2010، ودار حول السؤال التالي: هل يمكن لطبق من أسماك الـ"سوشي" أن يفضي إلى الحرّية، في سورية؟ وهل مضى، وانقضى، زمن صحن الحمّص و"الرغيف المسطح"؟ والمطاعم الدمشقية، التي صارت، توفّر مختلف المطابخ العالمية، هل تعلن أنّ "اشتراكية البعث" لم تعد "طيّبة المذاق؟"
سؤال الـ"إيكونوميست"، حول الصلة بين طبق الـ"سوشي" والحرّية، كان يستبطن ذلك الافتراض الليبرالي العتيق الذي يربط ـ على نحو آلي محض غالباً، جامد ودوغمائي في تنظيرات عديدة ـ بين حرّيات السوق الاستثمارية، والحرّيات المدنية والسياسية. وضمن التطبيق الكاريكاتوري، الكامن في خلفية معادلة المجلة الاقتصادية الأكثر رصانة، توجّب على طبق الـ"سوشي" أن يفسح المجال لترخيص حزب سياسي معارض مثلاً؛ أو أنّ طبقاً آخر من الـ"فوتوماكي" سيتكفل بمنح الطبقة المتوسطة هامشاً أوسع في التعبير والرأي؛ وثمة، بالتالي، رباط وثيق مباشر بين تحرير الاستهلاك وتحرير الإنسان، وبين السوق والإصلاح...
وخلال الأشهر القليلة التي سبقت الانتفاضة كانت وسائل إعلام غربية، وبينها تلك الأمريكية بالطبع، تتسابق على تجميل سحنة النظام السوري، وإسباغ الألق على هذا "الحاكم الشاب"، "طبيب العيون"، "خرّيج المشافي البريطانية"؛ وعلى عقيلته "الأنيقة"، "صاحبة الابتسامة الرقيقة"، "وردة الصحراء" التي ترعرعت في بريطانيا... عدوى الإعجاب هذه انتقلت من الصحافيين والساسة والخبراء، إلى أناس يصعب أن ينتظرهم المرء في هذا المقام. (في أواخر العام 2009 كانت الطائرة الخاصة للمخرج الأمريكي الشهير فرنسيس فورد كوبولا قد مُنعت من الهبوط في مطار بيروت، تنفيذاً لبنود مقاطعة إسرائيل، لكن الأسد سمح بأن تهبط في دمشق، ثمّ انتقل كوبولا بعدها إلى بيروت في طائرة أخرى، بعد وليمة رئاسية دافئة، ومديح لـ"الرؤيا" التي يحملها الأسد عن سورية!).
كانت عمليات امتداح "الهبوط السلس" تسير على قدم وساق، إذاً؛ وذلك رغم أنّ المؤشرات، كلها، كانت تُفضي إلى مدرّج واحد وحيد: حمامات دماء السوريين!