شهد العام 1979 ذروة غير مسبوقة في الصراع المسلح بين النظام السوري والأجنحة العسكرية لجماعة الإخوان المسلمين، ممّا أجبر مؤسسات السلطة على محاولة رأب الصدع مع المجتمع، من خلال سلسلة لقاءات وحوارات، بدأها حافظ الأسد نفسه (إذْ ألقى خطابات فاقت، في العدد والمُدد الزمنية الماراثونية، كلّ ما ألقاه منذ تولى السلطة، خريف 1970). هكذا فعلت القيادة القطرية لحزب البعث، ومنظمات السلطة واتحاداتها، من العمال والفلاحين والطلبة، إلى الرياضيين والكتّاب والطلائع؛ مروراً بما يُسمّى "الجبهة الوطنية التقدمية"، أي جملة الأحزاب المتحالفة مع النظام.
وهذه، أي الجبهة، عقدت اجتماعاً، صار شهيراً بعدئذ، مع "اتحاد الكتّاب العرب"، ترأسه محمود الايوبي، الذي كان نائب الأسد في قيادة الجبهة، وشغل أيضاً منصب رئيس الوزراء. وبين أبرز المداخلات، وأسخنها، وأشدّها صراحة وتعمّقاً في الجذور السياسية والأمنية والاجتماعية والطائفية لما اعتبره النظام "أزمة" آنذاك، كانت تلك التي ألقاها الشاعر الراحل ممدوح عدوان ((1941ـ2004). ولقد تناقل السوريون التسجيل الصوتي لكلام عدوان، واستغرق أكثر من 9 دقائق، على نحو سرّي ومتكتم في البدء؛ ثمّ تكفّلت ممارسات النظام اللاحقة بإعادة ذلك التسجيل إلى الأذهان، مراراً في الواقع؛ كما تداولته المواقع الإلكترونية على نطاق أوسع بعد رحيل عدوان، وخلال أشهر الانتفاضة.
في مستهلّ مداخلته ـ وتُقتبس فقرات منها، هنا، على نحو شبه حرفي، يراعي استبدال بعض التعابير العامية بمرادفاتها الفصحى ـ أشار عدوان إلى مسألة كذب النظام على الشعب: "من ضمن الأسباب الداعية لاجتماعنا هذا، هو إحساس الجبهة الوطنية أنها بعيدة قليلاً عن الناس. والجبهة الوطنية جزء من هذا النظام، الذي يحس أيضاً أنه بعيد عن الناس. بُعد هذا الشارع السياسي السوري عن السلطات السورية المتتالية سببه تاريخ من وقوع هذا الشعب ضحية لكذب الأنظمة. الأنظمة السياسية كذابة، لذلك لا يصدّقها. لا يصدّق بياناً عن معركة، بخصوص عدد الشهداء، ولا يصدّق حتى درجات الحرارة القصوى والصغرى! الإعلام كمعبّر عن السلطة يكذب أيضاً. أنا أشتغل في إعلام أخجل منه لأنه يكذب بهذا المقدار. يكذب بدرجة الحرارة. يكذب بإخفاء الكوليرا، هل هناك احد يخفي الكوليرا؟ يكذب بالتستير على اللصوص، وعلى التجار والمرتشين وشركائهم، ويشكك بي وبكم حين كنتم تقولون إن الفساد قائم".
ثمّ يسأل عدوان: "لماذا يكذب النظام؟ ولماذا يكذب الحزب؟ ولماذا تكذب فئة ما؟ الكذب ينطلق من الخوف، الخوف من الآخرين. والسلطات التي تكذب، هي سلطات تخاف الشعب، وتخاف أن يراها على حقيقتها (...) كلنا في هذا الاجتماع تجنبنا الحديث عن مسائل معينة. لا أحد تحدث عن سرايا الدفاع. لا أحد تحدث عن المخابرات. لا أحد تحدث، إنْ لم نقلْ عن الوجه الطائفي للسلطة، فعلى الأقل عن الممارسة الطائفية لبعض العناصر في السلطة (...) في الماضي كان أحدهم يهتف في الشارع: حرامي! فيركض ألف مواطن لإلقاء القبض عليه. الآن يُقتل الإنسان بوضح النهار، بطلقات مسدس، ويسير القاتل، ولا أحد يدلّ عليه".
وفي ختام مداخلته تطرّق الراحل إلى أحد "المحرّمات" الكبرى، أي انتقاد "سرايا الدفاع"، مؤسسة السلطة العسكرية الأعلى سطوة حينذاك، وكانت بقيادة رفعت الأسد: "أنا عندي سؤال أريد الجواب عليه الآن: اشرحوا لي ما هي سرايا الدفاع هذه؟ لماذا امتيازاتها؟ لماذا امتيازات جندي في سرايا الدفاع أكثر من ضابط في القوات العاملة؟ ولماذا لا نجرؤ على الحديث عنها؟ لماذا يتحدث الناس عنها وشوشة وهمساً فقط، وأنتم تعرفون هذا، بل إنكم أنتم أنفسكم تتحدثون عنها وشوشة وهمساً؟". لم يحظَ عدوان بإجابة، غنيّ عن القول؛ لا في ذلك الاجتماع، ولا في أيّ من الاجتماعات اللاحقة (وسيغمز الأسد، الأب، من قناة الراحل دون أن يسمّيه، في كلمته أمام الجلسة الختامية للمؤتمر القومي الثالث عشر لحزب البعث، صيف 1980، مشيراً إلى أنّ "البعض" هرّب إلى بيروت تسجيلات صوتية لأقواله أمام لجنة الأيوبي، وتضمنت "شتائم أكثر مما سمعنا أيام أحمد سعيد"!).
وفي مقال سابق، قبل عام ونيف، استعدتُ فصلاً من كتاب عدوان "حَيْوَنة الإنسان"، 2003، عنوانه "السلبطة السلطوية"، رأيتُ أنه يكتسب دلالات راهنة بالغة الخصوصية في ضوء الانتفاضات العربية، لأنه ببساطة يناقش شخصية "الشبّيح". واليوم، إذْ تتعاقب أنباء المجازر الوحشية ـ حماة، بابا عمرو، الحولة، درعا، زملكا، داريا، الحفة، التريمسة، دوما... ـ أجدني منساقاً إلى استعادة قصيدة عدوان "الدماء تدقّ النوافذ"، 1974: "هو ذا زمن فيه أعداؤنا ينبعون من البيت/ يسرون بين خيوط الدماء/ يسحبون الخناجر/ يأتون من سُحَن الأصدقاء/ ومن سحن الأقرباء/ سقطت عنهم الأقنعة/ والأفاعي التي تطمئن/ وتظهر أنيابها/ ثم تهجر أوكارها/ سوف نعرفها.. حيّةً.. حيّةً/ حنشاً.. حنشاً/ فلتعجّ البراري بها/ جاءنا زمن القتل/ لم يبق شهر حرام/ فتعالي نعلّمْ حجارتنا أن تشير إليهم وتتقن أسماءهم/ أخذوا عمرنا من بدايته/ ولنا سوف تبقى فصول الختام".
هل كان ممدوح عدوان، في استبصاراته هذه، وسواها، شاعراً رائياً، أم مواطناً مقهوراً قيد "الحَيْوَنة"، أم تحلّى بالصفتين معاً؟ أم لعلّه كان، ببساطة، ناطقاً بوجدان ملايين السوريين؟