الأوّل، فاليري غانيتشيف، باسم اتحاده العتيد، ثمّ باسمه شخصياً؛ كان قد منح بشار الأسد جائزة "أحد أهمّ رجال الحقل السياسي والاجتماعي والحكومي"، وذلك بسبب "صموده في مقاومة الهيمنة الغربية في محاولة إملاء إرادة مستعمري عالمنا الحالي على الشعب السوري". وقال غانيتشيف، في خطبة تسليم الجائزة إلى سفير النظام في موسكو: "توجد مجموعات متضررة من مقاومة الهيمنة تحاول استثارة الشارع، ونرى ازدواجية المعايير في التعاطي مع الأحداث في المنطقة"؛ مشدداً على أنّ "سورية، كاحدى أروع التشكيلات الاجتماعية، تتعرض لهجمات همجية لتفتيتها تحت اسم ثورة". وكانت "سانا"، وكالة أنباء النظام، قد نقلت عن غانيتشيف هذه الدُرَر التنظيرية: "سورية هي بلد مسلم، ولكن جنباً الى جنب مع المسيحيين والديانات الأخرى والمعتقدات المختلفة. وهذا التنوع يشكل نموذجاً للتعايش والصداقة بين أطياف الشعب الواحد، وإن محاولة تغيير هذا النسيج بتهديدات واعتداءات على سورية والقيام بالأعمال التخريبية نرفضه جملة وتفصيلاً".
الثاني، سيرغي لافروف، اعتبر أنّ قرار أحمد معاذ الخطيب، رئيس الائتلاف الوطني السوري، برفض تلبية الدعوة الروسية لزيارة موسكو (وتشديده، في المقابل، على الاستعداد لحوار يشترط تنحّي رأس النظام)؛ كان مفاجئاً له، وهو قرار ناجم عن انعدام خبرة الخطيب في السياسة. في المقابل تجلّت خبرات لافروف السياسية على هذا النحو: "هدف الائتلاف الوطني السوري هو إسقاط النظام السوري، وهذا يخالف ما اتفقنا عليه في جنيف"، ولا نعرف مَن اتفق مع مَن، على ماذا، ساعة إعلان تشكيل الائتلاف؛ أو هذه: "إذا كان رئيس الائتلاف سياسياً جدياً، فإنّ من واجبه أن يسمع تحليلنا"، وكأنّ ذلك "التحليل" لم يشتهر في أربع رياح الأرض، وبدأ وتواصل وانحصر في تأييد النظام، وتسليحه، وتعطيل قرارات مجلس الأمن الدولي.
شتان، مع ذلك، بين حماقة رئيس اتحاد كتّاب ستاليني محنّط، وضلالة رئيس دبلوماسية القوّة الكونية العظمى الثانية، الأمر الذي يستدعي إلى الذاكرة شطحة لافروفية سابقة، هيهات عندها أن يقاوم المرء رغبة استدعاء عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحدٌ علينا/ فنجهل فوق جهل الجاهلينا! ففي واحدة من مداخلاته الألمعية حول الوضع السوري، أدلى لافروف بالتصريح التالي لإذاعة "كوميرسانت إف إم" الروسية: "فى حال انهار النظام القائم في سورية، فسيغري هذا بعض بلدان المنطقة لإقامة نظام سنّي في البلد"؛ وهذا ما يقلق صاحبنا، لأنه سوف "يؤثر على مصير المسيحيين والأكراد والعلويين والدروز، وهو الأمر الذى قد يمتد إلى لبنان والعراق"!
مَن الناصح الأريب الذي وضع في دماغ لافروف أنّ الأكراد أقلية طائفية، في المقام الأوّل؟ وإذا كان هؤلاء، والحديث يخصّ أكراد سورية تحديداً، ينتمون إلى السنّة، في الغالبية الساحقة، فكيف يمكن أن تهددهم "دولة سنّية"، أو تؤثر على مصيرهم؟ وهل ثمة أي معنى ملموس، أصلاً، وراء هذا التعبير، الخاطىء والقاصر والركيك؟ وإذا كانت "دولة سنّية" هي الشبح الآتي الذي تريد موسكو تفاديه، فما هي إذاً تسمية الدولة الراهنة التي تساندها الحكومة الروسية، وتريد الإبقاء عليها؟ وكيف فات لافروف أنّ السنّة في سورية يشكلون قرابة 70 بالمئة من السكان العرب، وبالتالي فإنهم ليسوا "طائفة" هنا (كما هي حالهم في العراق أو في إيران، مثلاً)، لأنهم ببساطة أغلبية السكان، والكتلة الأكبر ضمن التشكيلات الدينية والمذهبية والإثنية واللسانية السورية.
وكيف تعذّر على خبراء وزارة الخارجية الروسية، إذْ لا حاجة في هذا إلى علماء اجتماع من العيار الثقيل، أن يشرحوا للسيد الوزير تلك الحقيقة البسيطة التي تقول إنّ التطلع إلى الحرّية والمستقبل الأفضل ليس موضوع اختلاف بين أديان السوريين وطوائفهم، بل هو هدف الإجماع الأعرض اليوم، مثلما كان محلّ اتفاق وتراضٍ في الماضي أيضاً. ما لا يقلّ أهمية، في المقابل، هو أنّ النظام الحاكم ليس ابن طائفة واحدة منفردة، حتى إذا كانت إحدى ركائزه تقوم على تجييش محموم لطائفة بعينها، والإيحاء بتمثيلها، وتعهّد مصيرها. وليس للنظام دين واحد، أيضاً، مهما أتقن رجاله ألعاب التمسّح بالأديان أو التزلف للمتدينين، وخاصة في أوساط السنّة... للمفارقة، غير المدهشة أبداً.
وبين غانيتشيف ولافروف، وأضرابهما كثر هناك، ثمة طراز مشترَك من التشبيح الدولي، تحت ستار قوّة عظمى تتصرف على نحو "مسؤول" و"متعقّل"، وتسعى إلى التهدئة والسلام، وليس إلى التسخين والحرب. فلا عجب، إذاً، أن يأنف معاذ الخطيب التبحّر في "خبرة" كهذه!