ما يعني هذه السطور، هنا، هو حقيقة أنّ التقرير الأخير، الذي صدر رسمياً في أواخر تموز (يوليو) الماضي، لم يسجّل وجود أية منظمة إرهابية سورية المنشأ (رغم أنّ النظام السوري صُنّف، منذ عام 1979، كدولة راعية للإرهاب؛ ويدرج التقرير عدداً من المنظمات والقوى التي يرعاها النظام، بينها الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، و"حزب الله"، و"حماس"، و"الجهاد الإسلامي"... في لائحة المنظمات "الإرهابية"). لكنّ الخارجية الأمريكية أخذت، مؤخراً، تلمّح إلى إجراء وشيك يقضي بضمّ "جبهة النصرة" ـ التي يقاتل عناصرها في المناطق الشمالية من سورية، وخاصة في محيط مدينة حلب، منطقة الباب ـ إلى اللائحة. ولقد جرى التمهيد لهذا عبر سلسلة تسريبات إلى وسائل الإعلام الأمريكية، كما تولى معلّقون نافذون، وخاصة في الصحافة اليمينية، أمر تضخيم دور "الجبهة" في قتال النظام، والتشديد على انتسابها إلى المنظمة الأمّ: "القاعدة".
وهكذا، قالت فضائية الـCNN إنّ وزارة الخارجية الأمريكية تأمل في وضع اللمسات الأخيرة على مشروع إضافة "النصرة" إلى لائحة الإرهاب، لكي يتمّ اعتماده قبيل اجتماع "أصدقاء سورية" في مراكش، يوم 12 الشهر الجاري. والهدف من القرار، فضلاً عن توقيته، هو "عزل المنظمات المتطرفة في سورية، والدفع أكثر باتجه تأييد مجموعة المعارضة السياسية التي تمخضت عنها قمّة الدوحة، في قطر، الشهر الماضي". وفي توصيف "النصرة"، اختارت الفضائية التركيز على "بيان حلب" الشهير، الذي يدعو إلى "دولة إسلامية عادلة"، كما نسبت إلى "معطيات أمريكية" تقديرها بأنّ الجبهة هذه تشكل 9 في المئة من أعداد المقاومين الذين يقاتلون النظام عسكرياً؛ مع تنويه، لافت، إلى أنّ هذه المجموعة تعمدت عدم إعلان انتمائها إلى منظمة "القاعدة".
دافيد إغناتيوس، أحد أبرز المعلّقين اليمينيين في صحيفة "واشنطن بوست"، كتب قبل أيام عن "تعاظم مثير للقلق" في أعداد مقاتلي "الجبهة"، وتطوّع باقتراح الإحصائيات: بين ستة إلى عشرة آلاف مقاتل، و7,5 إلى 9 بالمئة من مجموع "الجيش السوري الحرّ"؛ بعد أن كانت النسبة لا تزيد عن 3 في المئة قبل ثلاثة أشهر فقط، و1 بالمئة مطلع هذه السنة. أمّا تفسير صاحبنا لهذا التزايد في أعداد مقاتلي "النصرة"، فهو أنّ المجموعة "تظلّ الذراع الأشدّ شراسة ونجاحاً في صفوف القوّة الثائرة"؛ وكذلك لأنّ معظم جرحى وقتلى "الجيش الحرّ" هم من أفراد "النصرة"، كما أفاده أطباء ميدانيون.
ومع ذلك، فإنّ إغناتيوس لا ينفي ما رشح من معلومات، سرّبتها الخارجية الأمريكية عن عمد (إذا لم تكن قد تدّخلت في هندستها، على نحو أو آخر)، تفيد التالي:
ـ "النصرة" تعدّ قرابة 2000 مقاتل، استناداً إلى المؤشرات التي يوفّرها العاملون في مختلف المنظمات الدولية غير الحكومية، والأطباء الذين يقومون بمهامّ إسعافية على الأرض؛ من أصل 15 ألف مقاتل، هم عديد "الجيش الحرّ" في منطقة حلب.
ـ في إدلب، غرب حلب، يقارب عدد أفراد "النصرة" 2500 إلى 3000 مقاتل، أو نحو 10 في المئة من عناصر "الجيش الحرّ" هناك.
ـ وفي دير الزور، إلى الشمال الشرقي، تملك "النصرة" 2000 مقاتل، من مجموع 17 ألف ينتظمهم "الجيش الحرّ" في المنطقة؛ وكانت السيطرة على حقل بترول "الورد" بين عمليات الجبهة الأكثر إثارة هناك.
ـ وفي دمشق، هنالك بين 750 و1000 مقاتل للجبهة؛ ومثلهم عدد يتوزع بين درعا، وحمص، وقرى اللاذقية.
والحال أنّ المرء ليس مضطراً للتعاطف مع "النصرة" لكي يقرّ لها بسلسلة طويلة من الخصائص، العسكرية والسلوكية، التي مكّنتها من احتلال الموقع الراهن في مشهدية القتال المسلّح ضدّ النظام؛ والاختلاف مع أطروحاتها العقائدية، أو الكثير من طرائقها في العمل العسكري، لا يُسقط عنها تلك الحقائق الأخرى التي في صالحها: أنها الأقلّ تعدياً على المواطنين، والأقلّ تطلّباً منهم، والأكثر حرصاً على خطب ودّهم (سواء عبر الانضباط اليومي، أو تنفيذ عمليات باهرة تستدرّ التعاطف)؛ إلى جانب مقدار واضح من الذكاء، الميداني تحديداً، في المسارعة إلى ملء الفراغ الذي يخلقه غياب القيادات الأخرى "المعتدلة"، العسكرية في "الجيش الحرّ" أو السياسية في مجموعات المعارضة. والمرء ذاته إذْ يختلف، كما أفعل شخصياً، مع كامل أطروحات "النصرة"، حول مستقبل سورية عموماً، ومفهوم "الحكم الإسلامي العادل" خصوصاً؛ أمر لا يعني منح التصنيفات الأمريكية لـ"الإرهاب" أية مصداقية أخلاقية، أو حتى مفهومية.
وليس جديداً القول إنّ الخطاب الأمريكي الرسمي حول الإرهاب يمقت التعقيد حين يتصل الأمر بتأويل الأسباب الجوهرية الأعمق وراء صعود الإرهاب، ولكنه يعشق التعقيد كلّ التعقيد حين يتصل الأمر بالتحصين القانوني للحرب ضد الإرهاب. هيلاري كلنتون اليوم، مثل كوندوليزا رايس بالأمس، ومادلين أولبرايت قبلئذ، أو على هدي جميع وزراء الخارجية الأمريكية السابقين، تعطي أذناً من طين وأخرى من عجين لدراسات (أمريكية مئة في المئة!) تشدّد على العلاقات السياسية والسوسيولوجية والسيكولوجية والإيديولوجية وراء نهوض العنف وإنقلابه إلى إرهاب. كذلك تُجمع على أنّ الإرهاب يهيمن في ما يشبه الضرورة حين تجد المجموعة الأضعف أنها مضطرة إلى استخدام العنف ضد المجموعة الأقوى، في شروط من انعدام التكافؤ في موازين القوى. وأما حين تلجأ المجموعة الأقوى إلى استخدام المزيد من العنف ضد المجموعة الأضعف، فإنها تضيف إلى إرهاب الدولة الرسمي صفة القمع المطلق العاري.
على صعيد تعريف مفهوم الإرهاب لا تبدو الكوارث التي حاقت بالولايات المتحدة، وخاصة بعد زلزال 11/9، وكأنها أضافت أيّ جديد إلى التعاريف القديمة المعتمَدة في قانون مكافحة الإرهاب؛ ذاك الذي وقّعه الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون عام 1996، وما يزال ساري المفعول سرمدياً. وهذا قانون يقول التالي:
ـ تعبير الإرهاب يصف العنف المقصود مسبقاً، والذي تحرّكه دوافع سياسية، ضدّ أهداف غير قتالية، على يد منظمات محلية أو شبه محلية، أو عن طريق عملاء سريين، وذلك بقصد التأثير في الرأي العام.
ـ تعبير الإرهاب الدولي يعني الإرهاب الذي يصيب المواطنين أو الأراضي في أكثر من بلد واحد.
ـ تعبير المجموعة الإرهابية يفيد أية مجموعة رئيسية أو فرعية تمارس الإرهاب على نطاق محلي ودولي في آن معاً.
والحال أنّ هذه التعاريف ليست قاصرة وخرقاء فحسب، بل يمكن أن ترتدّ على أصحابها وتدينهم بما يدينون به الآخرين. إذْ استناداً إلى حيثيات هذه التعريفات سوف يكون من المشروع أن تُضمّ إلى لائحة المنظمات الإرهابية أسماء جميع أجهزة الاستخبارات الغربية، التي مارست في السابق عشرات عمليات الاغتيال الفردي، وتدبير الانقلابات العسكرية، وزعزعة الاستقرار الداخلي للدول والأمم. ولسوف يكون من المشروع أن تتصدّر اللائحة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، دون سواها، بوصفها "أمّ الوكالات" الإرهابية، بلا منازع. وقد يليها في أهمية ـ ودناءة، وقذارة، وهمجية... ـ الأداء، جهاز الموساد الإسرائيلي؛ قبل أن تلتحق بهما أجهزة مثل الـ MI5 البريطاني، والـ DST الفرنسي، وما إلى ذلك من مختصرات "متمدّنة" ذائعة الصيت.
كذلك في وسع جماعة "أبو سيّاف" الفليبينية، التي ما تزال مدرَجة على لائحة الإرهاب الأمريكية للعام 2011، أن تطالب بضمّ منظمات "الموساد" و"الشاباك" و"الشين بيت" الإسرائيلية إلى اللائحة ذاتها؛ ليس على خلفية اغتيال عشرات المدنيين الفلسطينيين (الذين لا تذكرهم تقارير الخارجية الأمريكية، لا بالخير ولا بالشرّ!)، فحسب؛ بل أيضاً على خلفية انتهاك حرمة وسيادة دول أخرى في الشرق والغرب، بهدف اغتيال الخصوم. وفي وسع مجموعة "آوم شينريكيو" اليابانية، الباقية بدورها على اللائحة، أن ترفع دعوى تقارن فيها بين فلسفتها القيامية، والفلسفة القيامية لعشرات الفرق الدينية والعنصرية الأمريكية. وما دام ضخّ الغاز السام في أنفاق طوكيو يعدّ عملاً إرهابياً، فلماذا لا ينطبق المبدأ ذاته على تضليل مواطنين أمريكيين من أفراد فرقة "الفرع الداوودي" ودفعهم إلى الانتحار الشعائري الجماعي، حرقاً بالنار المقدسة، أو خنقاً بالغاز السام التطهيري؟ أليس في وسع منظمة "كاخ"، اليهودية الدينية المتطرفة، أن تقارن نفسها بالتطرّف الأمريكي الذي كان وراء تفجير المبني الفيديرالي في أوكلاهوما؟
"جبهة النصرة" ليست فطراً شيطانياً ولد في غفلة من الزمن، أو بمعزل عن ممارسات النظام الوحشية ضدّ أبناء سورية العزّل؛ لكي لا يذهب المرء أبعد قليلاً ـ أو يرتدّ خطوة واحدة إلى الوراء، ليس أكثر ـ فيتلمس طبائع المظالم التي تتخلّق في شروطها عبادة البندقية، وثقافة السلاح، وروحية العنف المضادّ لعنف أصلي أشدّ وطأة وعاقبة. صحيح أن فلسفة "النصرة"، العسكرية والعقائدية، قد لا تكون مستحبة، أو مقبولة؛ ولعلّ الكثيرين، على شاكلتي شخصياً، يرفضها جملة وتفصيلاً؛ إلا أنّ الرغائب والتفضيلات شيء، وما يستولده الواقع على هيئة محصّلة تلقائية، لا رادّ لها، ولا رادع أحياناً؛ شيء مختلف تماماً. وكما يتشدد علماني سوري في مسألة فصل الدين عن الدولة، وحمل غصن الزيتون وحده؛ لا يتردد إسلامي في التشدد، بدوره، حول القتال من أجل "دولة إسلامية عادلة"، والاستشهاد في سبيلها...
العاقبة، في هذَين الأقصييَن، وسواهما كثير، هي الشعب السوري ذاته، أولاً وآخراً، ولا بديل عن محض الثقة العليا لهذا الشعب، ولتاريخه القديم والحديث والمعاصر، وقِيَمه وأخلاقياته، وأنّ انتفاضته من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية ودولة القانون والمساواة... هي المنتصرة أخيراً، وأياً كانت المشاقّ والآلام. وللإدارة الأمريكية، أو سواها، في مؤتمر "أصدقاء سورية" أو في أقبية مؤتمرات أعدائها، أن تضمّ مَن تشاء إلى لوائح التأثيم، أو قوائم الترقية؛ فالمعادلة، في موازين الانتفاضة السورية، من هذا الشعب بدأت، وعنده سوف تبقى.