عن خطأ على الأرجح، لأنّ تلك الحرب كانت قد اندلعت بين حكم جمهوري منتخَب شرعياً وديمقراطياً، وبين الجنرال الدكتاتور فرنشيسكو فرانكو الذي انقضّ على السلطة الشرعية بمساندة من الكنيسة الكاثوليكية وملاّك الأراضي، وبدعم بالمال والرجال والعتاد من أدولف هتلر وبينيتو موسوليني، وسط صمت متواطىء مارسته القوى الأوروبية الأخرى. على النقيض، سارعت فئات وقوى شعبية واسعة إلى التضامن مع الإسبان، خصوصاً بعد أن هالها صعود التيّارات النازية والفاشية النازية في أوروبا وأمريكا: أكثر من 40 ألف متطوّع، قدموا إلى إسبانيا من 53 بلداً (بينها مصر والمغرب!)، وانخرطوا في "الفصائل الأممية" التي شاركت الإسبان في حرب لاحَ أنها ـ لمرّة واحدة على الأقلّ ـ ذات معنى بالنسبة إلى الشعوب التي تدفع عادة أثمان الحروب، وليس القوى الحاكمة التي اعتادت جني الثمار.
"إنها حرب الشعراء"، ردّد خصوم الحملة الأممية، ممّن لم يجدوا وسيلة ثانية لمداراة ما انتابهم من حرج شديد وهم يتناقلون أسماء المنخرطين في صفّ الجمهورية: رفائيل ألبيرتي، أنطونيو ماشادو، ميغيل هرنانديز، غارسيا لوركا، بابلو بيكاسو، خوان ميرو، بابلو نيرودا، سيزار فاييخو، أوكتافيو باث، ألكسي تولستوي، إرنست همنغواي، بول روبسون، جون دوس باسوس (وهو شخصية محورية في شريط كوفمان)، أندريه مالرو، سانت ـ إكزوبيري، كلود سيمون، ستيفن سبندر، لويس ماكنيس، و. هـ. أودن، جورج أورويل، كريستوفر سانت جون سبريغ (سيوقّع باسمه المستعار، كريستوفر كودويل، كتاب "الوهم والواقع"، الذي يُعدّ أوّل إسهام معمّق في صياغة علم جمال ماركسي حول الشعر)... والعشرات سوى هؤلاء. كذلك أعطتنا هذه التجربة الفريدة عدداً من أثمن الأعمال الإبداعية، حول المقاومة والتضامن وأهوال الحرب، مثل قصيدة أودن "إسبانيا"، ونصّ أورويل "تحية إلى كاتالونيا"، فضلاً عن لوحة بيكاسو الأشهر "غيرنيكا"، وعمل خوان ميرو "سلسلة الأسود والأحمر".
والحال أنّ تسمية "حرب الشعراء" تلك لم تنطوِ على خطل كبير، بالقياس إلى عدد ونوعية الشعراء الذين شاركوا فيها، أوّلاً؛ وبالنظر إلى أنّ بعض معاركها كانت في واقع الأمر تدور حول الحداثة الإسبانية إجمالاً، والحداثة الشعرية كما بشّر بها لوركا وهرنانديز وألبيرتي بصفة أخصّ؛ بالإضافة إلى كونها معركة من أجل حريّة التعبير، في الأساس. غير أن أكبر دروس تجربة "الفصائل الأممية" أنها كانت مثالاً رفيعاً في التعاضد الأممي على مستوى الشعوب ذاتها، بعيداً عن المؤسسات، أو قريباً من إحدى أرفع مؤسسات الشعوب: الآداب والفنون. وإذا كان العالم قد تبدّل كثيراً، منذ أربعينيات القرن الماضي؛ فإنّ حدود الفارق بين المقاومة والخنوع، والحرّية والاستعباد، والحقّ والباطل... بقيت على حالها جوهرياً.
خصوصاً في هذه الأزمنة الراهنة التي شهدت انتفاضات العرب، وما تزال تشهد فصولها الأشدّ مأساوية في سورية تحديداً؛ ليس بمعنى غياب أنساق التعاضد القديمة، فحسب؛ بل من حيث تحوّلات المفهوم ذاته، وانقلابه رأساً على عقب أحياناً. وهكذا، لا نعدم يساراً ـ عالمياً وعربياً، ماركسياً معتدلاً أو تروتسكياً متشدداً أو حتى ليبرالياً... ـ يقف، عملياً، في صفّ النظام السوري؛ ليس إعجاباً باستبداد وفساد هذا النظام، بل نفوراً من أولئك "الجهاديين" و"الإسلاميين" و"السلفيين"، الذين "تسللوا" إلى قلب الانتفاضة الشعبية. وأياً كان اختلاف المرء مع هؤلاء، في العقيدة مثل الطرائق، وحول الماضي والحاضر مثل المستقبل؛ فإنّ تطوّعهم لقتال النظام هو "تعاضد إسلامي" في الجوهر، يوازي "التضامن الأممي" السالف، أو يعيد إنتاجه بمصطلح الحاضر ومعطياته، حتى إذا خدش الحياء "اليساري"، أو جرح الطهارة "العلمانية".
وفي مستوى آخر، صحيح أنّ النماذج المعاصرة من أمثال همنغواي ودوس باسوس ومالرو وسبندر... لم تهرع إلى تونس والقاهرة وبنغازي ودمشق، للنضال ضدّ دكتاتوريات مستبدة فاسدة أو وراثية؛ إلا أنّ تضحيات أناس من أمثال ماري كالفن، ريمي أوشليك، ميكا ياماموتو، أنتوني شديد، جيل جاكييه، وسواهم من الصحافيين الأجانب الذين قُتلوا أو قضوا في سورية أثناء أداء عملهم؛ هم طبعة أيامنا من همنغواي وغلهورن، بل لعلّ طرائق أجهزة بشار الأسد وشبيحته أشدّ همجية من جيش الجنرال فرانكو! وثمة الكثير من المغزى في أنّ قلّة قليلة، أو بالأحرى: أقلية مخجلة، من ممثّلي الصحافة اليسارية العالمية، تواجدت على أي نحو في حمص أو حلب أو دير الزور؛ إنْ لم يكن بغرض التضامن أممياً مع الشعب السوري الثائر، فعلى الأقلّ من أجل فضح جرائم النظام.
الأرجح أنّ آذانهم لم يبلغها أي جرس يُقرع في سورية، فما بالك بنحيب رضيع قتيل!