قبل أن يتحفنا الأخضر الإبراهيمي، المبعوث الأممي ـ العربي حول سورية، بنبوءته عن انزلاق البلد نحو "الصوملة"؛ كاد دانييل بايبس، المعلق الأمريكي الصهيوني، أن يقسم بأغلظ الأيمان أنه يرى سورية، أسوة باليمن، تسير نحو المصير الجهنمي ذاته. وقبل هذا وذاك، كان خوزيه راموس ـ أورتا، رئيس تيمور الشرقية السابق والحائز على جائزة نوبل للسلام، قد حذّر ـ دون أن يتنبأ تماماً، والحقّ يُقال! ـ من صوملة وشيكة في سورية. وإذا كان الأوّل يواصل أشغاله ضمن آجال ضائعة، أو مستقطَعة؛ والثاني يرتعد خوفاً على أمن إسرائيل، في الجولان المحتلّ بصفة خاصة، من مآلات انتصار الانتفاضة السورية؛ فإنّ الثالث خرج باقتراح عجيب، صاعق إذْ يأتي من حامل أرفع جائزة دولية للسلام: لا حلّ إلا عن طريق العسكر، على غرار ما فعلوا مع حسني مبارك في مصر، وسوهارتو في أندونيسيا، ويفعلون اليوم في مينامار!
وكان المرء يخال أنّ تعبير "السَوْرَنة"، بعد "اللَبْنَنة" و"العَرْقَنة"، كافٍ بذاته لإحداث القشعريرة في أوصال الرأي العام الدولي، حين يكون ذاك هو الغرض من اشتقاقات كهذه؛ لولا أنّ البعض لا يلقي بالاشتقاق على عواهنه، كيفما اتفق، فحسب؛ بل لا يدمن إلا استخدام اشتقاق اهترأ واستُهلك وأكل الدهر عليه وشرب، حصرياً وتحديداً. فما شهده لبنان من أهوال أهلية، ثمّ العراق من بعده، واليوم سورية... يكفي، بل يزيد ويطفح، لكي يصحو الضمير العالمي من سباته العميق، فيبصر بأمّ العين ما جرى ويجري، وما تكرر ويتكرر. وأمّا إذا كانت الغاية هي ترهيب أهل البلد أنفسهم، فإنّ المكتوي بالنار ليس بحاجة إلى شارح يطنب في تبيان طبائع اللظى، وليس بعد أن يكون الاكتواء قد بلغ مؤشرات قصوى في القتل والدمار والوحشية. هذا بصرف النظر عن مقدار الإهانة للصومال والصوماليين، من حيث تحويل فصول دامية من تاريخهم الحديث إلى أمثولة دائمة، تتعامى تماماً عن الواقع المعاصر.
الأرجح أنّ هذا الميل إلى تعميم "الصوملة" إنما يضرب بجذوره في معادلة خرقاء قديمة، لا تكفّ عن تجديد مقولاتها، رغم أنها انطوت على نتائج مدمّرة بعيدة الأثر، تختصرها تلك "الفلسفة" الأمنية والسياسية التي تسمّيها الولايات المتحدة بـ"الحملة ضدّ الإرهاب". وتلك معادلة تدير الميزان التالي: أغلقوا هنا ثغراً (أي: حاضنة!) للتشدد الإسلامي، الذي يهييء المناخات، ويصنع ويصنّع موضوعياً، ظواهر التطرّف والإرهاب؛ وافتحوا، هناك، ثغراً جديداً لتشدّد مماثل، أو أدهى، بهوية مختلفة وأجندات ملتهبة. ولكي نبقى في مثال الصومال، كانت الصياغة العملية للمعادلة قد اتخذت الوجهة التالية: أغلقوا ثغور ("الإرهاب"، افتراضاً) في أفغانستان، حيث الطالبان؛ وافتحوا ثغور "إرهاب" أخرى في الصومال، حيث "المحاكم الشرعية"!
وفي ذروة انشغال الغرب، وبعض الجوار الإقليمي، بتنصيب فزّاعة "الصوملة"، وتصعيد عواقبها وأخطارها وشرورها، كانت ميليشيات "المحاكم الشرعية" تحكم السيطرة على مدينة جوهر (دون قتال، عملياً)، ثمّ مدينة مهداي، وقبلهما العاصمة مقديشو ذاتها، فتطرد منها أمراء الحرب للمرّة الأولى منذ العام 1990. الترجمة الموازية لتلك الانتصارات كانت هزيمة القوّات التابعة لأمراء الحرب هؤلاء، الذين ضمّهم "التحالف من أجل السلم ومكافحة الإرهاب"، المدعوم ـ مباشرة، وكما ينبغي أن يوحي الاسم! ـ من واشنطن. في الآن ذاته كان البرلمان الصومالي، وبعد انهيار المفاوضات مع الإسلاميين، يصوّت على مبدأ استقدام قوّات أجنبية لحفظ الأمن في البلاد.
والحال أنّ هذا الاعتبار الأساسي بالذات، أي حفظ الأمن وتسيير شؤون المواطنين في الجانب القضائي والأمن والحياة اليومية تحديداً، كان البذرة الأولى التي أنبتت "المحاكم الشرعية" في الصومال، بعد انهيار الحكومة العسكرية سنة 1991، وشيوع الفوضى وأعمال الشغب والنهب المنظم والعنف المسلح والجريمة والخطف. وكان هذا الغياب للدولة، بمعنى الغياب التامّ لأية جهة قضائية قانونية في المقام الأوّل، هو الذي جعل الشيخ الأزهري محمد معلم حسن يؤسس أوّل محكمة شرعية محلية في أحد أحياء مقديشو الفقيرة. وغنيّ عن القول إنّ هدفه لم يكن يتجاوز الفصل في شكاوى الناس والتحكيم بينهم، اعتماداً ـ بالطبع، وفي ظلّ غياب أيّ قانون ـ على أحكام الشريعة الإسلامية. كذلك كان طبيعياً أن تنقلب هذه المحاكم إلى ما يشبه وزارة الظلّ، ثمّ فيما بعد وزارة الأمر الواقع، لشؤون العدل والداخلية.
وهكذا فإنّ "المحاكم الشرعية" لم تبدأ كدعوة إسلامية تبشيرية، أصولية أو وسطية أو معتدلة؛ ولم تتكيء على منطلقات دينية أو مذهبية أو سياسية ـ حزبية، أياً كانت تقاطعاتها مع مختلف أنساق الإرهاب المنظّم؛ ولم يكن لها برنامج عمل تنظيمي أو جماهيري، ولا سياسة تحالفات محلية أو إقليمية. لقد بدأت من الحاجة، الماسة الصرفة، لتصريف أمور العباد في ظلّ سيادة الفوضى وغياب الدولة وحاجة المواطنين إلى جهة مرجعية متماسكة نسبياً، ذات غطاء شرعي وقوام إداري وسلطة تنفيذية، ليس أكثر. وليس أقلّ أيضاً، في الواقع، لأنّ هذا الموقع الوظيفي الحيوي أتاح لرجال "المحاكم الشرعية" أن يلعبوا الدور الوظيفيّ الآخر التالي، الذي لا يمكن إلا أن يكون طبيعياً وتلقائياً وتحصيل حاصل: الهيمنة السياسية.
نتيجتان، بين عوامل أخرى، زيّنتا لغالبية ملموسة من الصوماليين الانضواء تحت راية هذه المحاكم: الأولى هي بغض الشارع للطبقة السياسية ـ العسكرية التي زادت في خراب البلد وتخريبه، فضلاً عن فقدان الثقة بأمراء الحرب إجمالاً، وتحميلهم المسؤولية الأساسية عمّا حاق بالصومال من كوارث. النتيجة الثانية هي بغض الشارع ذاته لكلّ ما يقترن بالسياسة الأمريكية، وكلّ مَن يشتغل لصالح واشنطن أو يعمل بإمرتها ويحظى بدعمها، لأسباب محلية تخصّ التاريخ الدامي بين الصومال والولايات المتحدة، ولأسباب أخرى ذات صلة بسياسة واشنطن تجاه القضايا العربية والعالم الإسلامي عموماً.
وزاد الطين بلّة أنّ واشنطن، في أعقاب هزّة 9/11 وانطلاق ما أسماه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش بـ"الحملة الصليبية" على الإرهاب، صنّفت "المحاكم الشرعية" في عداد القوى الداعمة للإرهاب، استناداً إلى ما افترضه البيت الأبيض من علاقة وثيقة بين المحاكم و"الاتحاد الإسلامي"، المنظمة التي تدرجها وزارة الخارجية الأمريكية في اللائحة الرسمية للمنظمات الإرهابية، ثمّ بمنظمة "القاعدة" في نهاية المطاف. ذلك أسفر عن نتيجة معاكسة، بالطبع، لأنّ شعبية المحاكم زادت واتسعت واكتسبت بعداً كفاحياً ضدّ "الصليبية الأمريكية الجديدة"، كما عبّرت دعاوة المحاكم (ولم يكن بغير أسباب وجيهة أنّ معركة مقديشو، الفاصلة، استحقت عند الصوماليين تسمية "معركة الأمريكيين")، من جهة أولى؛ ومنحت قياداتها الحقّ في توطيد شوكتها العسكرية، بذريعة الدفاع عن النفس وحماية المواطنين وتطبيق القانون والحدّ من الجريمة والفوضى، من جهة ثانية.
في غضون هذا كلّه كانت واشنطن تواصل تنسيقها مع الرئيس الإثيوبي ميليس زيناوي، الذي ظلّ يدير لعبة خبيثة مزدوجة في الصومال: إنه، في البلاغة الرسمية، يتباكى على وحدة أرض الصومال، ويشفق عليه من تسلل "القاعدة"، أو ظهور مصعب زرقاوي جديد على يد الكوموري فاضل عبد الله محمد (الذي اتهمته واشنطن بالمشاركة في نسف السفارتين في كينيا وتنزانيا)؛ وأمّا في الفعل المستتر فإنّ زيناوي ناب عن واشنطن في الدعم العسكري والمالي لأمراء الحرب، الذين أبقوا الصومال في حال دائمة من الاقتتال والتحارب وانعدام الاستقرار، أي الوضع المثالي الذي يُبقي زيناوي مسيطراً في القرن الأفريقي.
ولماذا، في اجتماع عناصر هذا المشهد السياسي والعسكري والعقائدي والاجتماعي المعقّد ذي الدينامية المتفجرة، راود البعض الظنّ بأنّ حركة "المحاكم الشرعية" لن تنقلب إلى طالبان جديدة في الصومال؟ ألم تبدأ طالبان أفغانستان من هنا، مع فارق أنها حظيت بغمزة رضا وتراضٍ من واشنطن في مراحل الانطلاق المبكرة؟ ألم يكن الهوس الأمريكي بمنع الصومال من الوقوع في يد إسلاميي "المحاكم الشرعية"، وكأنه ترخيص لهذه المحاكم بالذهاب أبعد من فضّ المنازعات القضائية بين الأهالي، أي إلى حكم البلاد بأسرها وفرض الشريعة الإسلامية بقوّة السلاح هذه المرّة (وهو، للمفارقة، سلاح أمريكي ـ إثيوبي في الغالب، غنمه مقاتلو المحاكم في معاركهم ضدّ أمراء الحرب وعملاء أمريكا وزيناوي)؟
ولا يظنن أحد أنّ الصومال، من حيث التاريخ والعقيدة والوقائع، أفقر من أفغانستان في معطيات تشكيل حاضنة التطرّف الإسلامي الذي ينتهي بعضه إلى أنساق الإرهاب ذاتها التي قوّضت برجَي نيويورك في 9/11. الأمريكيون، خصوصاً، لم يكونوا بحاجة إلى مَنْ يذكّرهم بأنّ تلك الصومال التي كانت توشك على الولادة قد تصبح أفغانستان ثانية؛ ولهم، في تاريخهم هناك، دروس وعِبَر! ففي أواخر العام 1992، حين رست أولى قطع الأسطول الحربي الأمريكي على شواطىء الصومال، تردد أنّ السفير الأمريكي في كينيا استقبل وحدات بلاده بهذه العبارة الصقيعية القاتلة: "إذا كنتم قد أحببتم بيروت، فلسوف تعبدون مقديشو". أي، في ترجمة أوضح ربما: إذا كانت بيروت (خصوصاً بعد العمليات الإنتحارية، وانسحاب المارينز المهين) هي النار، فإنّ مقديشو هي سقر!
والولايات المتحدة اكتشفت أفريقيا في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، ومنذئذ ظلّ مخططو السياسة الخارجية الأمريكية يمارسون في القارّة دور الثور الضخم البليد، الغارق في النوم حتى تلوح في الأفق نجمة حمراء سوفييتية، وعندها فقط يهيج ويرغي ويزبد، فيحيك المؤامرات ويشتري العملاء ويسلّح الطغاة حتى النواجذ. خلال الثمانينيات صرف الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان مئات الملايين من الدولارات لإغواء واجتذاب أسوأ دكتاتوريي القارّة، في ليبيريا وكينيا والصومال وزائير وسواها. وخلال تلك الحقبة بالذات قبض محمد سياد بري، دكتاتور الصومال الأشهر، أكثر من 700 مليون دولار على شكل مساعدات مالية وعسكرية من إدارتَيْ ريغان وجورج بوش الأب، استخدمها في بناء شبكات الولاء العشائرية، وقمع الشعب الصومالي، وتفتيت الوحدة الوطنية الداخلية.
وهكذا، في وسع المشفقين على سورية من "الصوملة" أن يقرأوا دروس التاريخ الأبسط، التي يحدث أنها الأعمق أيضاً؛ إذْ سيصبح أيسر عليهم، ربما، تشخيص العوامل السياسية والاجتماعية المحلية، وتلك الإقليمية والدولية، التي تكفلت بصعود "جبهة النصرة" في سورية؛ ولماذا بقيت الجبهة، وستبقى غالباً، أقلية داخل صفوف المقاومة المسلحة ضدّ النظام؛ ولماذا، ثالثاً، تحظى بشعبية واسعة، لأسباب شتى متداخلة. ولعلّ المقارنة، شرط أن تكون حصيفة متبصرة، سوف تقودهم إلى نزع كلّ ما هو مفزع، مصطَنع بطبيعة صناعته، عن الفزاعة الزائفة ذاتها: "الصوملة"!