وبعد الجزم بأن ما يجري في سورية هو "حرب أهلية"، فلا يستخدم بالتالي أية مفردة تشير إلى انتفاضة شعب ضدّ نظام استبداد وفساد؛ يسارع مكية إلى استنهاض اختصاصه الأشهر، العراق، فيجري مقارنة بين البعثَين، السوري والعراقي، ويستخلص بأنّ الواحد منهما صورة المرآة عن الآخر. وخلال استبيان عن الدور الأمريكي في سورية، نشرته مجلة New Republic، يكتب: "حُقّ أن تُعاقَب واشنطن بسبب تجربتها الفظة في العراق خلال العقد الماضي. ولكن الكارثة السابقة، حيث أُبيد عراقيون أبرياء كثر وكانت الولايات المتحدة تقف متفرجة، يتوجب أن تصبح حافزاً لواشنطن. سورية اليوم توشك على التحوّل إلى عراق 1991. لا أحد يستطيع الزعم بأنه لم يعرف".
كلام حقّ لا يُراد منه إلا الباطل، وتحديداً لأنه يصدر عن مكية، دون سواه! في مطلع 1991، بعد إعلان وقف إطلاق النار في حرب الخليج الثانية، كتب صاحبنا، في "نيويورك تايمز" الأمريكية، وبتوقيع سمير الخليل وليس كنعان مكية: 1) الفكرة القائلة بأنّ نموذجاً منهكاً من صدّام حسين يمكن أن يحافظ على العراق موحداً، هي فكرة أقرب إلى أضغاث الأحلام؛ 2) لا شيء سيعكس مسار تفتت العراق إلا التدخل الخارجي، ويتوجب على الحلفاء الاعتراف أولاً بالثائرين على صدّام والتعاون معهم، ثمّ يتحلى الجنرال شوارزكوف بالرؤية التي امتلكها الجنرال ماك آرثر [أواخر الحرب العالمية الثانية، حين احتلّ اليابان]، فيزحف عل بغداد؛ 3) الحفاظ على النصر أكثر أهمية من النصر ذاته. ماذا كان سيحدث لو أنّ الولايات المتحدة انسحبت من أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية دونما التزام بالديمقراطية وإعادة البناء الاقتصادي؟ 4) بمشيئة الحلفاء، يبدو محتملاً تماماً أن تقوم في العراق ديمقراطية علمانية تضمن الحقوق القومية للأكراد، وتحمي جيران العراق من مخاوف عدوان جديد في المستقبل؛ 5) الشعب العراقي بحاجة إلى عون الجيوش ذاتها التي دمّرت قدراته، والشعب العراقي سوف يستقبل الجنرال شوارزكوف وجيشه بأذرع مفتوحة.
وفي مطلع كانون الثاني (يناير) 2003، قبل أسابيع قليلة سبقت الغزو الأمريكي للعراق، حين استقبله الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن في المكتب البيضاوي، بحضور مستشارته للأمن القومي آنذاك، كوندوليزا رايس، قال مكية إنّ الشعب العراقي سوف يستقبل القوّات الأمريكية بالحلوى والزهور، وعلى الرئيس أن يتأكد من هذا تماماً. وحين أخذت القاذفات الأمريكية تدكّ بغداد، كتب في New Republic، ذاتها، يمتدح القصف: "هذه القنابل لها وقع الموسيقى في أذني. إنها أشبه بأجراس تُقرع للتحرير في بلد تحوّل إلى معسكر اعتقال هائل".
في صيف 2007، نقلت عنه "نيويورك تايمز ماغازين" مشاعر الندم التي تلاحقه وتسكنه (هكذا، بالحرف)؛ وبادر كاتب التحقيق، دكستر فلكينز، إلى وصم مكية وأمثاله من الذين كانوا متحمسين للغزو بـ"السذاجة" و"الطيش". ربيع 2010، في حوار مع معد فياض، سوف يقول: "العراق انتقل من جمهورية الخوف إلى جمهورية السرقة والفساد"! هل يقول شيئاً، ذا قيمة ومصداقية، عن الانبار والفلوجة و"الربيع العراقي" (قياساً على تعبير أخر استخدمه راهناً: "الربيع السوري")؛ أو عن حكومة نوري المالكي، و"العراق الجديد"، الذي: "بالتأكيد لا أسميه جمهورية الديمقراطية، فهذا آخر تعبير في الدنيا قد ينطبق عليه، وأبعد ما يكون عنه، لكنني أسميه جمهورية التشرذم والسرقة"؛ أو عن زيارات المتكررة إلى إسرائيل، بدعوى "إسماع الصوت إلى دولة عظمى في المنطقة"، وعدم "إدارة الظهر لها"، و"عدم الخشية من التحدث إليها"؟
أن يصل مكية متأخراً، خير من أن لا يصل أبداً؟ ليس تماماً، في الواقع، لأنّ هذا الإقرار بالوضع الكارثي في العراق لا يتعدى الاعتراف البسيط بتحصيل حاصل صار ملايين الأمريكيين، وبعضهم كانوا من غلاة المتحمسين لغزو العراق، يرونه على نحو أشدّ وضوحاً ممّا فعل مكية، وأشدّ نقداً، وأعلى صوتاً، وأرقى سلوكاً. ولا يكفي أن يقف وأمثاله موقف الرثاء والأسى، وذرف دموع التماسيح على "عراق تحكمه المافيا"، بعد أن بشّروا العراقيين بأنّ التدخل العسكري يحمل التحرير والديمقراطية على ظهر دبابة، وبعد أن طمأنوا الغزاة. وعليهم، قبل ممارسة النقد الذاتي، أن يتوجهوا بالاعتذار إلى أبناء شعبهم جرّاء ما اتضح أنه كان بالفعل طيشاً وليس مجرّد سذاجة.
وليكفّوا، بعدئذ، عن ممارسة الإدمان ذاته، واقتراح الترياق القاتل إياه، لعلاج عذابات الشعوب!