فمن منطلق اليقين بفوائد عسكرة المجتمع منهجياً، على الطراز الكوري الشمالي (نموذج كيم إيل سونغ تحديداً، والذي كان الأسد الأب مولعاً بشخصيته ونظامه وطرائق إدارته للمجتمع والدولة والحزب في آن)؛ استحدث النظام "اتحاد شبيبة الثورة" في المدارس الإعدادية والثانوية، وأخضع الطلاب لمعسكرات تدريب، إلى جانب ما يتلقونه من "معارف" المنهاج العسكري ذاته؛ ثم جعل نشاط "الاتحاد الوطني لطلبة سورية" يقتصر على الجامعات، وألزم الطلاب الجامعيين بمعسكرات تدريب عسكرية. واحدة من المهازل الكبرى لهذه السياسة وقعت في مطلع الثمانينيات، حين تولّى رفعت الأسد، ومفارز "سرايا الدفاع" التي كان قائدها، تدريب عشرات من "الشبيبيات" على القفز المظلي، مقابل إعفائهن من معدّل الدرجات العالي المطلوب للانتساب إلى كليات الطبّ وطبّ الأسنان والصيدلة.
غير أنّ طرازاً ثالثاً من العسكرة القسرية، كان الأخطر والأخبث أيضاً، تمثّل في استحداث منظمة جديدة باسم "طلائع البعث"، عُهد إليها بالإشراف على التربية السياسية للأطفال في المدارس الابتدائية. ولأنّ الانتساب إلى المنظمة كان إجبارياً بالطبع، وجزءاً من منهاج التعليم، الذي يتضمن معسكرات طلائعية أيضاً؛ فقد شبّت أجيال كاملة على العبارة الكليشيه: "بالروح! بالدم! نفديك يا حافظ!"؛ وكان الأطفال يكبرون وهم يستدخلون مبدأ عبادة الفرد في اللاوعي الجنينيّ، بوصفه سلوكاً وطنياً طبيعياً تماماً، وكانوا ـ عن طريق القسر المباشر، أو التطبّع الغريزي ـ يتشرّبون صورة "الأب القائد"، الحاكم في المدرسة والبيت والحيّ والبلدة والمدينة والوطن...
ولأنّ 49% من سكان سورية كانوا فتياناً أقلّ من 15 سنة، فإنّ منظمة "طلائع البعث" لعبت دوراً حاسماً في تنشئة الأجيال الجديدة على قائد واحد، وحزب واحد، ومنظمة واحدة، وسياسة واحدة؛ وزرعت في نفوس الصغار حسّ الطاعة العسكرية، والولاء الأعمي للقائد؛ وجهدت لكي تكون هذه التربية بمثابة لقاح مبكّر يحول بينهم وبين التقاط مرض السياسة، حين ينتقلون من مرحلة إلى أخرى في الدراسة والعمر والوعي. وبهذا المعنى يمكن فهم الخلاصة التي تقول إنّ شرائح عديدة من شباب المجتمع السوري واجهت صدمة في الوعي حين رحل الأسد، لأنها في الواقع لم تعرف أي "رئيس" سواه طيلة 30 سنة، ولم تمتلك فرصة النشوء على أيّة "سياسة" أخرى سوى تلك التي تربّي على افتداء الأسد بالروح والدمّ.
ورغم أنّ النظام، بعد انطلاق الانتفاضة، كان قد أفلت على الشعب آلاف الشبيحة، من المجرمين خرّيجي سجون الحقّ العام، والسفاحين المحترفين، والمأجورين كاسري التظاهرات؛ وأنشأ مجموعات مختلطة التكوين، مدنية وعسكرية وبعثية، أدّت العديد من المهامّ التي توكل عادة إلى الميليشيات المنظّمة ("كتائب البعث" في حلب، و"اللجان الشعبية" في حمص وبعض مناطق الساحل السوري، مثلاً)؛ فإنّ الحنين إلى مادّة "التربية العسكرية" ظلّ يراود أهل النظام، وأخذت زمام المطالبة بها جهات لا يُنتظَر منها هذا الأمر عادة: مجلس محافظة دمشق، على سبيل المثال، الذي اقترح في أيار (مايو) الماضي إعادة نظام "الفتوّة"؛ أو صحيفة "تشرين"، التي تغنّت باللباس الخاكي و"السيدارة" العسكرية، وتحسرت على "مدرّب الفتوّة" الذي كان ضامن الانضباط والوعي القومي!
وأمّا المشروع الأحدث في مضمار تجنيد جمهور الموالاة، فهو ما نقله مراسل قناة "روسيا اليوم"، الذي يُوحى له ولا ينطق عن هوى، من أنّ النظام يزمع تشكيل "جيش الدفاع الوطني"، الذي سوف يتألف من 10 آلاف مقاتل، من المدنيين الذين سبق لهم أداء الخدمة العسكرية؛ يتقاضون رواتب شهرية، ويرتدون زياً موحداً، ويتولون مهامّ "حماية الأحياء من هجمات مسلحي المعارضة". في عبارة أخرى، توجّب أن تمرّ سنتان، تقريباً، لكي يعثر النظام على تسمية تجميلية للمسمّى الفعلي، القبيح، الذي ستنتظم فيه كتائب هذا الجيش العرمرم: قطعان الشبيحة.
وإذا كان الشارع السوري لم يشهد، بعد، "مآثر" هذا الجيش؛ وما إذا كان سيسير على منوال "جيش المهدي" العراقي و"فيلق القدس" الإيراني، أم سيستعيد تراث "الحرس القومي" البعثي خلال ستينيات القرن الماضي، أم سيخرج بخليط من "خصال" هذه التشكيلات، بعد أن يستهدي أيضاً بأبغض ما وفّرته تراثات نازية وفاشية وستالينية من أفانين القمع؛ فإنّ الجلي، حتى دون انتظار إشعار آخر، هو التالي: الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري ومعظم وحدات جيش الموالاة النظامي، لا تترهل وتتفكك وتندحر وتشيخ، كلّ يوم، فحسب؛ بل هيهات أن يفلح جحفل مرتزقة جدد، في إعادتها إلى صبا الأيام الخوالي!