ثمة، إلى هذا، عداء اصطلاحي قديم بين الربيع والأسد، يعود في جذوره إلى سنة 2011، حين شاع تعبير "ربيع دمشق"، قبل عشر سنوات من أوّل انطلاقة للانتفاضات العربية، ولقي من إعلام النظام أقذع الشتائم بحقّ هذا البائس التعس: فصل الربيع! ففي زيارته إلى فرنسا، سنة 2001، سارت سخرية الأسد على هذا النحو: "كلمة ربيع لا تعنينا كمصطلح. فالربيع هو فصل مؤقت، والربيع فصل يعجب البعض والبعض الآخر يحبّ الشتاء". الصيغة التالية للسخرية اتخذت هذه الوجهة: "الثمار تأتي في الصيف. ولكن لا يوجد ثمار من دون ربيع تتفتح فيه الأزهار. ولا يوجد ربيع دون أمطار تهطل في الشتاء"! من غير المرجح، منطقياً على الأقلّ، أنّ الأسد لم يدرك أنّ سائله لم يكن يقصد الاستماع إلى تحليل فصولي، بل كان يريد السؤال عمّا آل إليه "ربيع دمشق" السياسي تحديداً.
وفي أواخر العام 2003 أدلى الأسد بحديث مطوّل لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، قد يكون الأكثر كشفاً عن الذهنية العامّة التي تقود أقواله وأفعاله وسلوكه إجمالاً؛ فضلاً عن توفير قرائن حول الفلسفة السكونية التي تخيّم على تفكيره بصدد أبرز معضلات الوطن الداخلية: الاستبداد، والفساد، والحريات، والسياسة. خصوصية أخرى في ذلك الحديث، كانت فريدة ومدهشة: النصّ الإنكليزي، كما نشرته "نيويورك تايمز" في موقعها على الإنترنيت، بلغ قرابة 11.200 كلمة؛ وأمّا النصّ الذي لم يُترجم إلى العربية، وبالتالي حُذف نهائياً ولم يُنشر في وسائل إعلام النظام الرسمية، فقد بلغ قرابة 4.400 كلمة، في إحصائي الشخصي.
وطيّ تصريحات استغرقت قرابة 2000 كلمة، ألمح الأسد إلى "ربيع دمشق" وتجربة المنتديات، وامتدح المعارضة السورية (في الداخل والخارج، نعم!): "دعني أعرض لك رأي المعارضة السورية الموجودة أينما كان، سواء داخل سورية أو خارجها. إنهم لا يؤيدون النظام، ولا الدستور، ولا الحكومة، ولكنهم ضدّ تصدير الديمقراطية بالقوّة أو بأية وسيلة أخرى. هذا هو رأيهم؛ إنه واضح تماماً وتستطيع أن تراه على التلفزة، أو في الصحف. تستطيع أن تسألهم". الربيع آنذاك ظلّ رجيماً قميناً بالذمّ والقدح، حتى حين مال الأسد إلى تنزيه المعارضين عن الارتباط بأي أجندات "ذات منشأ ربيعي"، ولم تكن انتفاضات "الربيع العربي" تحمل لرأس النظام كلّ هذا الكرب والتنغيص.
الأساس، بالطبع، لا يخصّ تفضيل فصل على آخر، اتكاءً على ثمار الصيف وأزهار الربيع وامطار الشتاء، كما تهكم الأسد؛ بل الأمر أنّ الابن ظلّ يعيد إنتاج خطاب أبيه في مسألة الديمقراطية، مع تغيير وحيد هو اللغة المتحذلقة التي يستخدمها كاتب خُطبه، والتي بدت مختلفة عن اللغة الجافة الاستعلائية التي استخدمها كاتب خُطب الأسد الأب. وذات يوم، حين انطلقت عمليات البيريسترويكا في الاتحاد السوفييتي، أعلن الأخير أنّ سورية سبقت ميخائيل غورباتشوف إلى هذا النوع من العلانية والإصلاح والمحاسبة، وضرب مثلاً على ذلك في... الجبهة الوطنية التقدمية، دون سواها! الابن، حين ورث الأب، أعلن أنه إنما يسير (وسار بالفعل، طيلة 13 سنة بعدها) على نهج والده، فأغدق المديح على صيغة الجبهة بوصفها المثال على "نموذج ديمقراطي تمّ تطويره من خلال تجربتنا الخاصة"، وتناسى أنها جثّة تخلقت هامدة منذ البدء، وتعفّنت طويلاً، وزكمت رائحتها الأنوف، وأحزابها ليست سوى حلقات تصفيق وتهليل ومباركة ومبايعة.
كذلك قال الوريث، مستعيداً خطاب المورِّث: "الديمقراطية واجب علينا تجاه الآخرين قبل أن تكون حقاً لنا"؛ أيّ أنّ ممارسة الديمقراطية ليست حقّ المواطن أوّلاً، بل هي التالية بعد واجبه تجاه "الآخرين"، الذين لا يمكن أن يكونوا سوى النظام ذاته. ذلك هو جوهر الفذلكة في التهرّب من المسألة الجوهرية التي تقول إنّ انفصال الحقوق عن الواجبات، أو تفصيل الحقوق على مقاس الواجبات، هو المدخل الكلاسيكي الذي مكّن أنظمة القمع والاستبداد من تدجين المواطن وتغييب حقوقه.
بيد أنّ الانتفاضة السورية، التي انطلقت بالفعل عند بشائر فصل الربيع، منتصف آذار (مارس) 2011، وضعت النظام وجهاً لوجه أمام مصائر أبعد عاقبة من التفلسف الساخر حول الربيع. وليست فقاعات الصابون الأخيرة، التي أطلقها الأسد في دار الأوبرا، سوى أحدث فصول "أوبرا الصابون" التي يجترها النظام، منذ أن هلّت تلك البشائر. وإذْ ينسدل ستار الخاتمة، أسرع فأسرع، فإنّ الفقاعات تتطاير جفاء!