وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا العمل بالذات، في ترجمة سمارة أيضاً، كان قد عُرض صيف 2009 في المهرجان المسرحي الدولي الأبرز، الذي تشهده مدينة أفينيون الفرنسية كلّ عام، بإخراج السوري فداء محيسن؛ الذي سبق له أن قدّم ونوس، "الملك هو الملك"، في باريس، سنة 2000؛ كما دمج مقاطع من مسرحيتَي "الاغتصاب" و"يوم من زماننا"، في عرض بعنوان "كتاب دمشق والنبوءات"، أواخر 2012. ومن جانبه، كان البسام قد عرض "طقوس الإشارات والتحولات" في مدينة مرسيليا، قبلئذ؛ إلا أنّ عرض باريس، على خشبة "بيت موليير"، وهي التسمية الأخرى الجميلة للمسرح، هو الذي استأثر حقاً بصفة الحدث الثقافي الفرنسي ـ العربي الأهمّ.
المسؤولون عن برمجة النصوص الأجنبية لا يخفون حقيقة أنّ ما تشهده سورية من وقائع مأساوية راهنة كان له أثر جلي في اختيار نصّ ونوس، وهذا ما يشير إليه الملفّ الرسمي للعرض إذْ يقتبس عبارة نقلها الصحافي الفرنسي جان ـ بيير بيران على لسان مواطن سوري من مدينة حماة، حول مجزرة 1982: "هنا، حتى الحجر يصرخ!". وإذْ تذكّر بأنّ 70 ألف مواطن قضوا، طيلة سنتين، وتعرّض البلد للتخريب والتشوّه؛ تشدّد افتتاحية الملفّ على القيمة الرمزية العالية لاختيار عرض يكرّم كتابة في ذاتها، مثلما يقيم حواراً مع الثقافات الأخرى.
ومن المؤكد أنّ مسؤولي الـ"كوميدي فرانسيز" استمزجوا آراء عدد من المسرحيين والمثقفين العرب، وحصلوا على ترشيحات متباينة، ثمّ توصلوا إلى توافق، بدرجة كافية، حول ونوس. والأرجح، عندي شخصياً، أنّ موضوعات مثل نقد المؤسسة الدينية الرسمية، والفضائح الجنسية، ومباذل السلطة عموماً، والمسائل النسوية، والمثلية الجنسية... لعبت كلها دوراً، ليس ضئيل الشأن ربما، في ترجيح كفة "طقوس الإشارات والتحولات".
ذلك لأنّ هذه المسرحية ليست أفضل أعمال ونوس، في يقيني، ولا تعكس تلك الاختمارات الأسلوبية الكبرى التي انتهت إليها مسارات ثلاثة عقود ونيف من التجريب العاصف. ففي أواسط الستينيات كان وعي ونوس منشطراً بين أقصيَين: العبث الوجودي كما عكسه مسرح ألبير كامو، والموقع الكفاحي للمثقف وللنصّ الأدبي كما عكسه مسرح بيتر فايس وبرتولت بريخت. وكانت العواصف التي يطلقها جان جينيه وأنتونين آرتو في فرنسا تبلغ أسماع ونوس وهو بين القاهرة ودمشق وباريس، مثلما كانت تقلقه الأسئلة التي طرحها مسرح العبث عند توفيق الحكيم، ومسرح التغريبة الملحمية عند ألفريد فرج وجلال خوري. لكنّ "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، التي كتبها على امتداد سنتَي 1967 ـ 1968 وعُرضت للمرّة الأولى في دمشق سنة 1970، دشّنت طور النقلات الحاسمة التي أنزلت الراحل، مرّة وإلى الأبد، من الأبراج العاجية كافة.
وهكذا شهدنا "مغامرة رأس المملوك جابر"، 1971، حيث استخدم ونوس المادّة التاريخية لصناعة حكاية قادرة على إعادة إنتاج الحاضر في شكل إسقاطات سياسية واجتماعية معاصرة؛ و"سهرة مع أبي خليل القباني"، 1973، حيث اختار تقنية المسرح داخل المسرح وألوان الفرجة الشعبية وخيال الظلّ، لكي يوجّه النقد الشديد للخطاب الأصولي والمؤسسة الدينية المتحالفة مع السلطة؛ "والاغتصاب"، 1990، حيث بلغت شحنة الرسالة السياسية في النصّ المسرحي ذروة دراماتيكية جلبت على ونوس تهمة التبشير بالسلام مع إسرائيل؛ و"منمنمات تاريخية"، 1993، حيث يتعرّض المثقف العربي، ممثّلاً هنا بالمؤرّخ وعالم الاجتماع ابن خلدون، لنقد توبيخي بالغ القسوة؛ و"الأيام المخمورة"، 1996، حين أخذت المحنة الذاتية (داء السرطان) شكل يأس داخلي متعاظم يطمس قدرة الوعي على إدراك وتحليل اليأس الخارجي...
وتبقى تلك المفارقة التي شاءت أن تتصادف عروض باريس مع تاريخَين، يسجلهما يوم 15 أيار (مايو) ذاته: "النكبة" الفلسطينية، ونهار رحيل ونوس؛ فهل نضيف، أيضاً، الذكرى الثانية لتصريحات رامي مخلوف، صيرفي الفساد والاستبداد، حول ارتباط أمن إسرائيل بأمن النظام، وتصريحات بعض الإسرائيليين اليوم حول "الأسد الصديق"؟ والذكرى الثانية لاقتحام بلدة بانياس وقرية البيضا، والتنكيل بنسائها وأطفالها وشيوخها، على مرأى ومسمع من العالم، في الأرجاء ذاتها التي شهدت مؤخراً سلسلة مذابح التطهير الطائفي، على مبعدة كيلومترات قليلة من "حصين البحر"... مسقط رأس ونوس؟