كان ينبغي لإغماضة عينيه الأخيرة أن تكتمل في لوبية، قضاء طبرية، مسقط رأسه؛ وذاك منتهى توق الفلسطيني الذي شُرّد عن وطنه، ومرتع صباه، سنة 1948، في مستهلّ النكبة. أو، عند مشتهى أقلّ، كان من حقّ العينين أن تُغمَضا على مشهد سوري ـ فلسطيني في شارع الجاعونة، مخيّم اليرموك الدمشقي، حيث وفد مع أسرته سنة 1956، ودرس، وتخرّج من جامعة دمشق، ثمّ درّس وكتب وتألق. لكنّ أحقاد النظام السوري على المخيّم، واستهدافه بقصف مدفعي وصاروخي شبه يومي، شاءت ردّ الناقد الفلسطيني الكبير يوسف سامي اليوسف (1938 ـ 2013) إلى لبنان، المحطّة الأولى في أوديسّة الراحل؛ وإلى مخيّم نهر البارد تحديداً، غير بعيد عن "ويفل"، تلك الثكنة الفرنسية القديمة التي حُوّلت إلى ملجأ للفلسطينيين.
ومنذ أواسط السبعينيات، باندفاع أمضى أعقب صدور كتابه الاختراقي الممتاز "مقالات في الشعر الجاهلي"، جاهد اليوسف من أجل الانتصار للمثال الأعلى ـ الصافي والراقي والمتسامي والمتعالي... حسب مفرداته الأثيرة ـ في ما اعتبر أنه جوهر "الشعر العظيم". وأغلب الظنّ أنه كان بين آخر الفرسان، الكبار النبلاء، المنتمين إلى مدرسة في التحليل النقدي لا ترى غضاضة في إعلاء شأن المثال والمثالية في النموذج الشعري؛ ولعلها أيضاً، وهذا تفصيل هامّ واستثنائي في آن، لم تخضع، البتّة، لمختلف ضروب "الإرهاب" الفكري، القدحي والتشهيري والابتزازي. ولم يكن الراحل بين آخر هؤلاء الفرسان على مستوى عربي، فقط، بل على مستوى عالمي أيضاً.
واليوسف كان مثالياً، باعتزاز شخصيّ جدير بالانتباه والاحترام، ليس في ما يتّصل بمنهجيته المفتوحة في قراءة النصّ الشعري قديمه وحديثه، فحسب؛ بل كان رسولياً في دفاعه عن سلسلة مصطلحات أقرب إلى أحجار الأساس عنده: الروح، الوجدان، الذائقة، القيمة وحكم القيمة، المعيار، الخيال، وحرية الخيال. وهو لم يتلعثم، بل توقّد يقيناً وانحيازاً، حين كتب: "الجرعة الوجدانية هي العنصر اليخضوري الفعال في تحديد قيمة النصّ الأدبي"، أو: "الحميم هو المحتوى الأوّل لكلّ أدب عظيم"، أو: "في الحقّ أنّ كلّ نصّ أدبي هو استحضار لصباغ عصره، أو لما يستتبّ في ذلك العصر من ماهية. وهذا يتضمن ما فحواه أنّ النصّ البكر لا ينتجه إلا عصر بكر، أو طور تاريخي لم يرضخ بعد لشيخوخة الروح. وفي صلب الحقّ أن عصرنا الراهن لم تعد له أية بكارة، مهما تك نسبتها، ولهذا فلست أحسبه شديد القدرة على إنتاج الكثير من الأدب الأصيل"!
الاقتباسات السابقة تتيح الوقوف على عنصرين، في لغة اليوسف: الجرعة المثالية، المتسامية والشجاعة معاً، وراء مواقفه من واجبات ولادة، وقراءة، النصّ الشعري؛ وخصوصية قاموسه النقدي، ذلك المزيج الناجح من الفصحى العالية، التي تتقعرّ لغوياً عن سابق قصد، دون أن تفقد طلاوتها وسحرها وطرافتها؛ والفصحى الفلسفية الميسّرة، التي تغرف من معين التراث الصوفيّ إجمالاً، ومن ابن عربي والحلاج بصفة خاصة.
وهكذا فإنّ قرّاء اليوسف باتوا على ألفة مع سلسلة مفردات، نحتها الراحل وارتقى بها إلى مستوى المصطلحات الصانعة للعدّة التحليلية؛ وأحسب، شخصياً، أنها ألفة لم تخلُ من مشقّة معجمية وتركيبية أحياناً، ولكنّ مثوبتها كبيرة وقائمة في كلّ حين. فإلى جانب مصطلحه الشهير حول "البرهة الطَلَلية" في القصيدة العربية الجاهلية، شاعت في كتابات اليوسف عبارات مثل "تهجّس أسرار الوجود"، و"حوزة السداد"، و"تسريح النفس"، و"الرحم الراخم في اللغة"، و"لباب الإنسان"، و"مملكة الهيف والدماثة"، و"عرام الأدب"، و"الألطاف الحسنى"، و"استنباع اللغة... وهذا الرجل، الذي يتفق العارفون على حقيقة أنه أفضل مَن ترجم ت. س. إليوت إلى العربية، بدا في الشعر منذهلاً إلى دانتي أليجييري وشكسبير، أكثر من و. ب. ييتس وإزرا باوند وإليوت.
ولست، شخصياً، بين الذين ينقبّون في الشعر عن المثال المتسامي المتعالي وحده؛ كما أنني لا أجد أنّ المآلات التاريخية المعقدة التي أفضت إلى أفول نجم الفلسفة المثالية، وربما في مواقفها من الوجود والفنّ بصفة خاصة، يمكن أن تشهد "صحوة" إعجازية تعيدنا أكثر من قرنين إلى الوراء. ولذلك أختلف في كثير، وليس في قليل فقط، مع آراء اليوسف حول ماهية الشعر، و"رَوْحَنة" الظاهرة الإبداعية، وتحويل الهاجس الميتافيزيقي إلى قلبٍ وقالبٍ للعمل الإبداعي.
غير أنّ اختلافي هذا لا يحجب، بأيّ مقدار، احترامي البالغ لمنجز اليوسف النقدي النظري، وكذلك التطبيقي (وأخصّ بالذكر كتابه التطبيقي "الشعر العربي المعاصر"، 1980، وفيه دراسات عن السياب، و"الشعر المقاوم"، فضلاً عن اثنتَين من أعمق الدراسات في شعر أدونيس)؛ ولطرائقه المستقلّة في البرهنة على ما يجيش في روحه (ولست أعني المجاز هنا، بل أقصد المعنى الحرفي) من قلق نبيل حول واقع الشعر؛ ولثقافته العميقة، السمحة والتعددية، التي ساعدته في أن لا يتعصّب ولا ينتبذ ولا يجرّم؛ ولدأبه، طيلة ثلاثة عقود ونيف، على خوض الحملة تلو الحملة، انتصاراً للشعر العظيم.
رحيله في نهر البارد لا يُخمد شيئاً من طاقاته اليخضورية التي استولدت مشهداً نقدياً وفكرياً وثقافياً عميقاً، فيه امتزجت "رعشة المأساة" الفلسطينية بأكثر من "برهة طللية"، في "عرام" تاريخ سورية المعاصرة.