"لسنا مهتمين بمصير بعض الأشخاص. نحن مهتمون بمصير الشعب السوري بأسره"؛ وتصريح كيري في روما، اليوم التالي:
هنا بأن العلاقات الروسية مع النظام السوري، في عهد الأسد الوريث بصفة خاصة، ظلت تحصيل حاصل متفق عليه، ويحظى بإجماع طبيعي؛ لولا أنّ ما معادلات خافية اكتنفتها ورسّخت منطقاً آخر مختلفاً، لعلّه أطاح بقسط لا بأس به من معنى الحصيلة ذاتها. ذلك لأنّ النظام كان يمدّ يد الصداقة إلى موسكو، ولكنّ القلب يتلهف على تحسين العلاقات مع واشنطن، قبلئذ وبعدئذ وفي الغضون؛ فهذه اكتسبت الأولوية على المستوى العملي التكتيكي، بل حدث أنها صارت غاية عليا على المستوى الستراتيجي كذلك. وموسكو لم تجهل هذا، كما للمرء أن يتخيّل، فكانت تقيم التوازن مع النظام على هذا المعيار، منذ ولاية فلاديمير بوتين الأولى، وحتى سنة 2005 عندما قرّر الأسد اتخاذ خطوة نوعية تجاه موسكو بعد أن ضاقت به سبل ترطيب الأجواء مع واشنطن.
عمود ثانٍ في معمار "صداقة" موسكو مع النظام هو أنّ العلاقات الروسية ـ الإسرائيلية صارت أفضل حالاً من العلاقات الروسية ـ السورية، لا سيما في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، الذي خالف الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية في رفض إدانة سياسة الحديد والنار التي اعتمدتها موسكو في بلاد الشيشان، بل لجأ إلى النقيض فباركها وامتدحها. ولعلّ واقعة قيام بوتين بزيارة إسرائيل ومصر، ولكن ليس سورية، في نيسان (أبريل) 2005، أي بعد أقلّ من ثلاثة أشهر على زيارة الأسد إلى موسكو (حين لاح أنّ العلاقات عادت متينة، بدليل استعداد موسكو لتزويد سورية بصواريخ ارض ـ جوّ متطورة)؛ كانت بمثابة تذكرة صارخة بأنّ المياه لم تعد تماماً إلى مجاريها، وأنّ خيار الأسد في اللعب على حبال روسية، لشدّ انتباه المتفرّج الأمريكي أساساً، لم تكن خافية على موسكو.
عمود ثالث، جيو ـ سياسي بامتياز، إقليمي ودولي، هو أنّ موسكو تضع العلاقات مع النظام السوري في إطار الفلسفة ذاتها التي أخذت تقود نهج روسيا على امتداد المنطقة، والتي تقوم على قاعدة أولى بسيطة: نحن أصدقاء مع الجميع، أنظمة "الاعتدال" مثل أنظمة "الممانعة"، وإسرائيل مثل إيران، و"حماس" و"حزب الله" مثل السلطة الوطنية الفلسطينية وجماعة 14 آذار في لبنان... والفيصل في هذا كلّه هو مصالحنا الاقتصادية العليا، وهذه وفيرة ويمكن أن تكون مجزية تماماً، من جهة أولى؛ فضلاً عن اكتساب سكوت الشارع العريض المسلم، السنّي بصفة خاصة، عمّا ارتكبته وترتكبه موسكو من مجازر وأعمال قمع في بلاد الشيشان، من جهة ثانية. ولهذا فإنّ واحدة من أشهر الحماقات التي تكفلت بتعكير صفو العنصر الأخير، كان تصريحات لافروف، في آذار (مارس) 2012، أنه "إذا انهار النظام القائم في سورية، فسيغري هذا بعض بلدان المنطقة بإقامة نظام سني في البلد"، وهذا سوف "يؤثر على مصير المسيحيين والأكراد والعلويين والدروز، وهو الأمر الذى قد يمتد إلى لبنان والعراق"!
البيت الأبيض، من جانبه، يتلهف على تحريك المياه الراكدة، في مستنقع أغرق الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه فيه، حين تحدّث عن "خطّ أحمر" يمثّله استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية، وأنّ تجاوز ذلك الخطّ سوف يغيّر قواعد اللعبة. الآن يسرّب مساعدو الرئيس، كما فعلوا مع تحرير "نيويورك تايمز" مثلاً، أنّ أوباما تسرّع فارتجل عبارة "الخطّ الأحمر"، وأنها تسرّبت إلى تصريحاته من وحي قاموس التسخين اللفظي المعتمد في الحديث عن البرنامج النووي الإيراني. ولكن هيهات أن تفلح تسريبات كهذه في إرضاء أمثال السناتور جون ماكين، الذي يريد من رئيس القوة الكونية العظمى أن يكون جديراً بالمنصب، وأن يصدق في ما يقول، وفي ما يعد (وهذا، في الواقع، ما أخذ أوباما يشدد عليه في الآونة الأخيرة، كلما سنحت فرصة لمخاطبية الصحافة).
أمّا في الجوهر، فإنّ موقف إدارة أوباما من الانتفاضة السورية حكمه التقدير التالي: تأجيل الحسم، حتى تتضح الصورة أكثر (خلال الأشهر الأولى لانطلاقة الانتفاضة)؛ وحتى تفعل عوامل تفكك النظام فعلها تلقائياً، حسب مبدأ "الهبوط السلس" (خلال الأشهر الوسيطة)؛ ولكي لا يكون للملفّ أيّ تأثيرات سلبية على إعادة انتخاب أوباما، أو المساس بصورته كقائل بعقيدة الامتناع عن زجّ أمريكا في حروب جديدة بعد الخروج من أفغانستان والعراق. وليس عسيراً تلمّس مجموعة الأسباب التي قادت البيت الأبيض إلى هذه المراوحة في الحسم، والتي يراها البعض حال تردّد (لا يراوح في الجوهر، بقدر ما يركن إلى تاريخ طويل من حسن العلاقات مع نظام "الحركة التصحيحية"، وضآلة الرغبة في المراهنة على نظام سواه، قد تكتنفه مجاهيل كثيرة)؛ أو حال تجميد ذاتيّ (يكتفي بالعقوبات، والضغوط الدبلوماسية، والتصعيد اللفظي، وتشجيع الحلفاء الأوروبيين، والإيحاء باحتضان المعارضة).
وهكذا، كان اللقاء الروسي ـ الأمريكي في موسكو مؤخراً، وإعلان الاتفاق على مؤتمر دولي لبحث أوضاع سورية، "يُعقد في أسرع وقت ممكن" كما قيل، هو أحد الحلول الدراماتيكة للإيحاء بتحريك مياه المستنقع الدبلوماسي الأمريكي، والإيحاء بأنّ أوباما عند كلمته، ومصداقيته ليست محلّ تشكيك. أمّا على الجانب الروسي، فإنّ موسكو كانت بحاجة لاسترداد بعض ماء الوجه، في أعقاب الصفعة التي مثّلتها الغارة الإسرائيلية على نظام يُفترض أنه "حليف"؛ وبحاجة، أيضاً، إلى تأكيد حضورها في الملفّ السوري، بعد أن بدا وكأنّ إيران تلتهم النظام السوري قطعة قطعة.
ولعلّ من الخير، هنا أيضاً، التذكير ب