بول
فالليلي (الصحافي، رئيس التحرير المشارك في الـ"إندبندنت" البريطانية،
وليس الجنرال الأمريكي المتقاعد)، ناشط بارز على الأصعدة الإنسانية والإغاثية،
وصديق للثقافات غير الغربية، ومناصر للمجتمعات النامية؛ وهو صحافي شجاع، سبق له أن
غطّى مناطق عديدة ساخنة في أفريقيا بصفة خاصة، وكشف سلسلة من الفضائح المرتبطة
بالمجاعات والحروب الأهلية. إنه، أيضاً، صاحب عدد من المؤلفات المتميّزة في شؤون
الدنيا والدين، بينها "السامريون الفاسدون: أخلاق العالم الأول ودَيْن العالم
الثالث"، 1990؛ "أرض الميعاد: أقاصيص السلطة والفقر في العالم
الثالث"، 1992؛ "السياسة الجديدة: التعاليم الاجتماعية الكاثوليكية
للقرن الواحد والعشرين"، 1999؛ "مكان للخلاص: مقاربة مسيحية للعقاب
والسجن"ن 2004؛ واشتهر بمقالة لامعة حملت العنوان الجسور: "الحملة
الصليبية الخامسة: جورج بوش ومَسْيَحة الحرب في العراق".
لكنه، بسبب من هذه الاعتبارات المهنية والسلوكية، ولأنه
يُلقّب بـ"القدّيس المقيم" في صحيفة الـ"إندبندنت"، يصلح
نموذجاً معيارياً في تلمّس شريحة من المواقف تجاه الملفّ السوري، التي صدرت وتصدر
عن نمط خاصّ من الكتّاب والناشطين في الغرب. وهؤلاء تجمعهم المسيحية، بوصفها
مرجعية أخلاقية عريضة بصدد مختلف الجوانب الإنسانية في الحياة المعاصرة (بينها
شؤون الإجهاض والعلاقات الجنسية المثلية ورعاية الطفولة والأمومة وعواقب الحروب
الأهلية والكوارث الطبيعية عموماً)؛ كما تتلاقى مشاربهم، وبعض خلافاتهم العقائدية،
تحت مظلة واحدة، عريضة بدورها، هي تنظيم حملات التبرّع والإغاثة. ولعلّ امتياز
فالليلي أنّ مواقفه لم تتخذ صفة السكون والثبات على خطّ واحد متماثل، بل تحركت
وتبدلت وتقلبت؛ ولها، في هذه السمة تحديداً، فضيلة إذكاء السجال واقتياده إلى
مستويات أكثر ديناميكية.
ففي موقف أوّل، يعود إلى مطلع العام 2012، كتب فالليلي
مقالة بعنوان "انتزع السوريون الخوف من قلوبهم. هل آن أوان منطقة حظر
جوي؟"؛ امتدح فيها اتساع نطاق التظاهرات الشعبية، وامتدادها للمرّة الأولى
إلى دمشق، فازدادت أعداد المتظاهرين في عموم سورية من عشرات الآلاف إلى مئات
الآلاف. كذلك انتقد سلوك نظام بشار الأسد، وراعه أنّ عدد القتلى تجاوز الخمسة
آلاف، وأنّ تعهدات السلطة بتطبيق بنود مبادرة الجامعة العربية ذهبت أدراج الرياح.
ولقد توقف عند عدد من التطورات الإيجابية، مثل سقوط حاجز الخوف، والشجاعة الجلية
التي أخذ يتحلى بها المواطن السوري العادي، والتململ في صفوف النخبة من الضباط
أبناء الطائفة العلوية تحديداً (أشار إلى أنهم يشكلون نسبة 80 في المئة من مجموع
ضباط الجيش السوري)، وارتفاع أعداد المنشقين عن الجيش...
لكن فالليلي شدّد على أنّ مصير النظام مرتبط بثلاثة عوامل:
انقلاب مواقف النُخَب المدينية، ورجال الأعمال والمال تحديداً، من تأييد النظام
إلى مناهضته، أو التوقف عن تمويله على الأقلّ؛ وانهيار الاقتصاد السوري، نتيجة
الركود، وتراجع الصادرات، وانحسار الموارد، وآثار العقوبات الاقتصادية؛ وأخيراً،
تحوّل الموقف الروسي من مساندة النظام بقوّة، إلى الضغط عليه. وكان لافتاً أن ذلك
الموقف، المبكّر نسبياً في تفكير فالليلي حول الشأن السوري، لم يأتِ نهائياً على
ذكر إيران، أو "حزب الله"؛ كما لم ينطو على أية إشارة، أو حتى تلميح،
إلى طابع طائفي أو مذهبي داخل مشهدية الانتفاضة السورية، ممّا يرجح الافتراض بأنّ
فالليلي لم يكن يحتسب هذا كلّه في عناصر الصراع، وبالتالي كان يستبعده عملياً.
إلا أنّ فالليلي يدرج هذه العناصر كلها، ويستزيد أيضاً، في
مقال كتبه بعد ستة أشهر فقط، وسار عنوانه هكذا: "ثمة خطر في أن تتحوّل سورية
إلى حرب طائفية شاملة". صحيح أنه يبدأ بسرد الكوارث الإنسانية التي أخذ الشعب
السوري يعاني منها، وفظاعات المجازر الجماعية والقتل وبتر الأعضاء، خاصة في صفوف
الأطفال؛ وأنه يعتبر سخط العالم تجاه تلك الأهوال محض ردّ فعل "عقيم"،
خاصة بعد اتضاح أدلة دامغة على تورّط النظام في الغالبية الساحقة من تلك الجرائم،
وفي 23 مجزرة على الأقلّ؛ إلا أنّ فالليلي، وبعد الركون إلى مزيج من مشاعر الإشفاق
والإدانة، يجنح إلى الجزم بأنّ المشكلة طائفية ومذهبية، تضرب بجذورها في "هذا
البساط القياميّ المُحاك من أكثر خيوط عصرنا إشكالية"!
خيط أوّل، هو رغبة الولايات المتحدة في شرق أوسط مستقرّ،
يضمن تدفق النفط الذي يظلّ عماد الصناعة المعاصرة؛ وخيط ثانٍ هو روسيا والصين
وإيران (التي تدخل إلى مشهد فالليلي، للمرّة الأولى بعد 15 شهراً على انطلاق
الانتفاضة السورية!)، وما يشكله ائتلاف هذه الدول من "محور مقاومة" في
وجه القوّة الكونية العظمى الباقية؛ وخيط ثالث هو إسرائيل، التي يتوجب على كلّ
رئيس أمريكي أن يعاملها بحرص فائق، بالنظر إلى سطوة الناخب اليهودي. فما ذنب الشعب
السوري إذا كانت هذه الخيوط تواصل حياكة البساط، وهل يتوجب التسليم بأقدارها،
والتوقف استطراداً عن المضيّ بالانتفاضة حتى إسقاط النظام ونيل الحرية والكرامة؟
لا يبدو فالليلي مكترثاً بالإجابة على سؤال كهذا، قدر اكتراثه بربط الخيوط الثلاثة
السالفة بآخر رابع، هو الذي صار عنده جوهرياً وحاسماً: النزاع بين السنّة والشيعة!
يتكيء
فالليلي على معطيات إحصائية، بادىء ذي بدء: "معظم الـ 22 مليون سوري هم من
السنّة، تحكمهم أقلية شيعية، من العلويين، تنتمي إليها عائلة الأسد. ومعظم المجازر
نُفّذت استناداً إلى هذا الانقسام الطائفي"؛ منتقلاً إلى طور جديد في تفكيره،
يُدخل منظمة "القاعدة" إلى المشهد السوري، ويتيح له الحديث عن مسؤولية
عناصرها في استهداف المراقد الشيعية، وضريح السيدة زينب تحديداً. هنا ينتقل مزاج
الإشفاق إلى ما يشبه إخراس الضمير حول طبائع أهوال حرب النظام ضدّ الشعب السوري،
وفالليلي، الذي تفطر قلبه على ضحايا مجزرة الحولة مثلاً، صار الآن يرى طرازاً من
المحاصصة السنّية ـ الشيعية في تنفيذ تلك المجازر؛ بما يُخرج النظام ذاته ـ أي
منظومة الاستبداد والفساد والتوريث، العابر للأديان والمذاهب والطوائف والإثنيات ـ
من معادلة الصراع... السنّي ـ الشيعي، حصرياً!
ها أنّ "قدّيس" صحيفة الـ"إندبندنت" يعود
إلى مسألة الإسلام السياسي، وإلى أسئلة قديمة سبق أن أقضت مضجعه، قبل زمن طويل من
اندلاع انتفاضات العرب، وما حملته في باطن قواها من صعود للتيارات الإسلامية،
معتدلة كانت أم متشددة. ولعلّ من الحكمة الاكتفاء، هنا، بسؤال واحد طرحه قبل سبع
سنوات، غير عجاف البتة في ما يخصّ السجال حول الإسلام السياسي تحديداً: هل تمكّن الإسلام، في السنوات
والعقود الأخيرة، من إخراس الغرب؟ هكذا سار عنوان مقالته التي تفادت
تقديم إجابة قطعية، ومالت في المقابل إلى وضع حيثيات السؤال (ولكن ليس وقائع
السؤال ذاتها) في خلفيات عريضة عامة أبعدت المعنى عن روحية الجزم حول ما إذا كان
الإسلام قد أفلح فعلاً في إخراس الغرب، خاصة بصدد حرّية التعبير، بوصفها واحدة من
القِيَم الكبرى في الغرب.
هنا الوقائع التي سردها فالليلي: بابا الفاتيكان، السابق بالطبع، فشل
للمرّة الرابعة على التوالي في إقناع المسلمين بأنه اعتذر بما يكفي عن اقتباسه
(سيء التقدير، في نظر فالليلي) عبارة الإمبراطور البيزنطي الذي اعتبر الاسلام
"شريراً وغير إنساني"؛ وفي إسبانيا، أقلع القرويون عن عادة قديمة
توارثوها عن أسلافهم، هي حرق دمية تمثّل النبيّ محمّد، احتفالاً بانتصار المسيحيين
على المسلمين في الأندلس؛ وفي فرنسا تلقى أستاذ للفلسفة تهديدات بالموت، ووُضع تحت
حراسة أمنية مشددة، لانه كتب مقالاً ينتقد الاسلام (وهنا لا يرى فالليلي أنّ النقد
ذاك كان مفرطاً أو مغالياً أو سيء التقدير)؛ وأخيراً، في برلين ألغى المسؤولون عن
دار الأوبرا عرض "إيدومينو"، عمل موتزارت الشهير، مخافة إثارة غضب
المسلمين، حيث أنّ أحدث إنتاج لهذه الأوبرا يتضمن مشهداً لم يكن موجوداً في الأصل،
يجري فيه قطع رؤوس إله البحر بوسيدون، ويسوع، وبوذا، ومحمّد (ونعرف، طبعاً، لماذا
لم يتجاسر المخرج هانز نيونفيلس،الذي اقترح المشهد سنة 2003، على إضافة شخصية
يهودية مقدّسة إلى المجموعة!).
ولا
ريب في أنّ الواقعة الأخيرة تمثّل حالة صريحة في الرقابة، ويستوي بالنتيجة أن تكون
ذاتية مباشرة أم خارجية ناجمة عن ضغوط غير مباشرة، ومثلها موقف القرويين الإسبان
من احتفالات الانتصار. ولا ريب، كذلك، في أنّ تهديد الفرنسي روبير ريديكر بالقتل
جرّاء مقالته الناقدة للاسلام شكّل مصادرة عنيفة وغير متمدّنة، بل لعلّها غير
اسلامية كذلك، لحقّه في التعبير عن رأيه (حتى إذا كانت أحكامه سطحية على نحو مذهل،
ركيكة، تعسفية، استعراضية، وانتهازية بصفة خاصة في اتهامه النبيّ بأنه قاتل
اليهود...). وغنيّ عن القول إنّ سلسلة تصريحات الأسف التي صدرت عن البابا السابق،
ورغم أنّ أياً منها لم يرقَ بالفعل إلى مستوى الاعتذار الصريح الواضح البسيط، تدخل
بدورها في نسق الرقابة الذاتية اللاحقة إذا جاز التعبير، خصوصاً وأنّ أقوال الحبر
الأعظم لا يمكن أن تندرج في سياق حرّية الرأي والتعبير.
جوهر
ما غاب عن مقالة فالليلي، وعن قسط كبير مما يدور السجال حوله هذه الأيام في ملفّ
العلاقة بين الإسلام والعنف، لكي لا نتحدّث عن العلاقة بين الإسلام والإرهاب، هو
الأبعاد السياسية والثقافية والتاريخية والاجتماعية لظواهر (لأنّ من السخف
اعتبارها محض ظاهرة واحدة، متماثلة متطابقة) معقدة وشائكة ومتباينة، ليس من الحكمة
أبداً ردّها إلى باعث عقائدي أو عقيدي واحد، أو حتى سلسلة أسباب ذات صلة بما يُسمى
صراع الحضارات وحروب الثقافات. في عبارة أخرى أشدّ اختزالاً للمشهد: ثمة السياسة
أوّلاً، وقبل العقائد، في علاقات الشعوب مع أنظمتها، الاستبدادية منها بصفة خاصة؛
وثمة ميزان القوّة الكوني الراهن، في تجلياته العقائدية والدينية والثقافية،
ثانياً؛ وثمة، ثالثاً، ذلك التاريخ الطويل من حروب الإخضاع والهيمنة والغزو، على
الجانبين.
وليس
ارتداد مواقف فالليلي ـ من التعاطف مع الشعب السوري، وإدانة النظام بوصفه مرتكب
المجازر؛ ومن الارتياع لمقتل خمسة آلاف سوري، إلى اعتبار مئة ألف قتيل منهم مجرّد
ضحايا حرب مذهبية؛ إلى توزيع المسؤولية عن المجازر على الطرفين، وفق خطوط طائفية
ومذهبية صرفة؛ وصولاً إلى الاكتفاء بإشفاق القلب، دون إعمال العقل النقدي الكفيل
بإبصار عناصر المشهد كاملة، متداخلة ومتراكبة وجدلية، والانحياز على قضايا الشعوب
بدل التنميطات الاستشراقية العتيقة ـ سوى ارتداد نحو منطقة صارت شائعة لدى فئات من
المفكّرين والكتّاب والصحافيين، في الغرب خصوصاً؛ لا تذكّر بإسكات حرّية التعبير،
بقدر ما تكشف ذلك الطراز المتخفي، والخفيّ، من إخراس الضمير!