ليس هنا المقام المناسب لاستعراض بواطن العلاقات بين دول الـG-7، أمريكا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان وكند؛ والاتحاد الروسي، خاصة في حاله السياسية الراهنة القائمة على صيغة "ديمقراطية التبادل" الدورية، بين بوتين رئيساً ودميتري مدفيديف رئيساً للوزراء، ثمّ العكس. غير أنّ أبرز الباطن، المخفيّ عن عمد وليس المسكوت عنه في الواقع، هو منح روسيا، في شخص بوتين أو مدفيديف، حقّ التفاخر أمام الشارع الروسي بمناطحة الغرب، من موقع الندّ للندّ، بما لا يعزف على وتر الحنين النوستالجي إلى أزمنة الحرب الباردة، فحسب؛ بل ينفخ أوداج الزعماء الروس أكثر ممّا كان يفعل نيكيتا خروتشوف نفسه!
أمّا حين يتوجب أن يحصل الغرب من الاتحاد الروسي على موقف لازم، حاسم وضروري، تقتضيه أيضاً ألاعيب الإيحاء بالتعاون التامّ بين "المجتمع الدولي" وروسيا؛ فإنّ الكرملين لا يمتلك فسحة تردد واسعة، وتضيق هوامش المناورة والمداورة، مثل حجوم التكشيرات والابتسامات، ويصدر القرار المطلوب، تماماً كما كان مطلوباً. المثال الاحدث هو ضجيج موسكو وعجيجها، قبل الموافقة على التدخل العسكري في ليبيا؛ وقبله كان المثال الأبرز هو الموقف الروسي من غزو العراق، سنة 2003، و1990. امّا في الأمثلة النظيرة، أي حين يكون الطرف الروسي هو "المتعنت"، فإنّ المواقف من المأساة السورية الراهنة، والمماطلة في الضغط على نظام بشار الأسد، هو المثال الذي أتاح عودة بوتين من منتجع لوخ إيرن، إرلندا الشمالية، "ضاحكاً" و"سعيداً" و"منتصراً" على نظرائه في قمّة الثماني.
في عبارة أخرى، سوف يغيب عن ذهن الكثيرين أنّ روسيا هذه الأيام ليست الاتحاد السوفييتي تلك الأيام، وأنّ بوتين/ مدفيديف ليسا خروتشوف/ بريجنيف، أياً كان طراز الحروب الباردة التي يخوضها الكرملين مع الغرب، وبصرف النظر عن محتوى الملفات موضوع الصراع. وطبيعيّ، استطراداً، أنّ هذا الغياب سوف يفسح المجال أمام "حضور" النظير الروسي على الساحة الدولية، بما ينطوي عليه من استيهامات كسر القطبية الكونية الأحادية (أمريكا)، لصالح قطبية ثنائية وليدة (يكاد البعض يشبهها بثنائيات مثل المعسكر الرأسمالي/ المعكسر الاشتراكي، أو الحلف الأطلسي/ حلف وارسو!). ولن يعدم المرء عبقرياً لوذعياً، لبنانياً أو إيرانياً أو عراقياً، يبشّر بانضمام روسيا إلى... "محور الممانعة"!
فلنعد قليلاً إلى الوراء، أواخر العام 2004؛ وإلى العراق تحديداً، ليس بعيداً عن الجوار السوري. أنظار العالم كانت منشدّة إلى أكثر من موقع صانع للأخبار الساخنة: تدمير الفلوجة وذبح مئات الأبرياء من أهلها بذريعة محاربة الإرهاب (الذي بدا وكأنه غادر كلّ أوكاره العالمية واستقرّ هناك فقط!)، وانكشاف أولى العلائم حول طبيعة المصائر التي سيلاقيها العالم إذْ يوضع مجدداً في عهدة الرئيس الأمريكي جورج بوش لسنوات أربع قادمة، واستقالة وزير خارجية الولايات المتحدة كولن باول، في غمرة خطاب ينبّهنا إلى أنّ الجنرال المتقاعد كان آخر "الحمائم" في إدارة بوش الإبن، وتوطيد صفوف "الصقور" في الإدارة ذاتها بعد ترشيح كوندوليزا رايس لقيادة الدبلوماسية الأمريكية، واحتمالات المستقبل الفلسطيني المفتوحة على مجاهيل عديدة...
في تلك الغضون، دخل على الخطّ رجل لم يكن أحد ينتظر اقتحامه للمشهد الإخباري، وما كان له أصلاً أن يُدعى إلى صناعة أية واقعة ذات دلالة: بوتين! لقد بشّر العالم، ضمن اجتماع مع أركان القيادة العسكرية الروسية، أنّ روسيا سوف تنشر في الأعوام القليلة القادمة أنظمة صواريخ نووية جديدة متفوّقة على كلّ ما تمتلكه جميع القوى النووية الأخرى. وتابع يقول، في تصريحات نُقلت مباشرة على شاشات التلفزة الرئيسية، إنّ بلاده لا تكتفي بالأبحاث النووية والاختبارات الناجحة للأنظمة الجديدة، بل هي ستتسلّح بها فعلياً خلال السنوات القليلة القادمة: "أنا واثق أنّ هذه التطوّرات والأنظمة غير متوفرة لدى الدول النووية الأخرى، ولن تكون متوفرة في المستقبل القريب"...
هل كان يمزح، رئيس القوّة النووية الكونية الثانية؟ وما مناسبة ذلك التفاخر؟ وهل كان يمهّد لصفقة جديدة مع الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو صندوق النقد الدولي؟ قبل يوم واحد فقط كان رودريغو راتو، المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي آنذاك، قد قام بزيارة خاطفة إلى روسيا للبحث في ضرورة سداد موسكو ديون الصندوق (بوصفه الدائن الأكبر)، اعتماداً على الوفر الخاصّ الذي نجم مؤخراً حينها عن ارتفاع أسعار برميل النفط. وكان على روسيا أن تسدّد مبلغ 2.7 مليار دولار أمريكي في 1 كانون الثاني (يناير) السنة القادمة. فهل كان بوتين يخاطب راتو، إذاً، ولكن من خلال ميكروفون نووي؟
الثابت، في كلّ حال، أنّ إدارة بوش لم تأخذ تصريحات بوتين على محمل الجدّ، إذا قرأنا ما بدا مبطّناً في أقوال الناطق باسم البيت الأبيض، سكوت ماكليلان، الذي أعلن أنّ الخبر ليس جديداً على الإدارة: "نحن على إطلاع تامّ حول جهودهم الثابتة لتحديث آلتهم العسكرية. ونحن اليوم حلفاء في المعركة العالمية ضدّ الإرهاب". من جانبه كان المعلّق العسكري الروسي ألكساندر بيكاييف قد أوضح أنّ بوتين يقصد صاروخ "بولافا" العابر للقارّات، والذي كان قد اختُبر للمرّة الأولى قبل أسابيع، ولهذا فالأمر لا يعدو التفاخر أمام العسكريين والرأي العام الروسي. ما أشبه اليوم بالبارحة، إذاً، حين يتباهى بوتين باختلافه مع الغرب حول الملفّ السوري (فيوبّخ كاميرون على تسليح آكلي القلوب في صفوف المعارضة السورية!)؛ وأمّا من بوّابة براندنبورغ، في برلين، فإنّ الرئيس الأمريكي باراك أوباما كان هو الذي أعلن البشارة الحقة: الاتفاق مع روسيا حول محاربة الإرهاب، والدعوة إلى خفض الترسانة الصاروخية النووية بمقدار الثلث!
ولأنّ التفاخر بالتفاخر يُذكر، بصدد روسيا بوتين تحديداً، كان الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي، جورج روبرتسون، قد تباهى بأنّ الـ"ناتو" بات يضمّ دولاً تمتدّ مساحتها من فانكوفر في كندا إلى فلاديفوستوك شرق روسيا. واستكمل بوش الابن نطاق المباهاة الغربية هذه، فأعلن أنّ الحرب الباردة لم تنته عملياً إلا حين صدر إعلان روما، وتضمّن تشكيل المنتدى الأمني الجديد بعضوية دول حلف شمال الأطلسي التسع عشرة، بالإضافة إلى روسيا. في عبارة أخرى، لم تنتهِ الحرب الباردة على يد جورج بوش الأب وميخائيل غورباتشوف، ولا على يد بيل كلنتون وبوريس يلتسين، بل على يد بوش الابن وبوتين. وآنذاك، كما اليوم، أصبح انضمام روسيا إلى المنتدي الجديد محض إجراء وقائي ـ تجميلي، يستهدف التطويق أكثر من الإشراك، خاصة وأنّ قوانين المجلس الجديد هذا تنصّ على أنّ كلّ دولة عضو أصيل في الحلف تملك حقّ استبعاد روسيا من مناقشة أيّة قضية أمنية ذات حساسية خاصة ولا تحظى بإجماع الدول الأعضاء!
لكنّ سلسلة مآزق روسيا لا يختزلها أيّ طراز من التباهي حول رفعة البلد نووياً، أو أي ذرّ للرماد في العيون حول "انتصار" بوتين في الملفّ السوري ضدّ سبعة من قادة الاقتصادات الكونية الأغنى؛ وذلك حين تكون رفعة روسيا الجيو ـ سياسية، ومثلها المكانة الاقتصادية، أكثر تواضعاً وانحطاطاً. وفي روسيا، وليس في طاجكستان أو تركستان أو جورجيا أو أوكرانيا، يلجأ الملايين إلى سلاح الإضراب المفتوح، لا من أجل زيادة الأجور أو تحسين شروط العمل أو تحقيق مطالب مهنية، بل ببساطة من أجل استلام الأجور ذاتها، ليس أكثر! وفي روسيا انحدار متواصل لمستوى المعيشة، وتآكل ثابت في القدرة الشرائية، وفشل متواصل في الخطط الاقتصادية، وتضخّم وعجز وبطالة وعصابات مافيا.
أليس ثابتاً أنّ أحداث روسيا تراجعت وتتراجع إلى مراتب دنيا في لوائح اهتمام العالم بما يجري في بقاع ومناطق ومراكز هذا العالم؟ أليس مقلقاً أنّ هذا التراجع يطال دولة ما تزال القوّة العظمى الثانية، نووياً على الأقل، وما تزال مرشحة للعب دور القطب الثاني الموازي للقطب الأمريكي الأول، أياً كان معني القطبية هنا؟ ألا يرتاب المرء في أنّ بوتين يعاند في مساندة نظام الأسد سياسياً وعسكرياً، ويواصل تأثيم المعارضة السورية على نحو لا يليق برئيس دولة عظمى لا يرى من انتفاضة شعب إلا مشهد مختلّ يلوك قبل خصمه... لا لأيّ اعتبار آخر سوى انّ روسيا لم تعد حاضرة في عناوين الأخبار إلا عبر الملفّ السوري؟
وإذ تنكمش روسيا هذه الأيام إلى ملفات زائفة، توحي بمناخات زائفة، حول حروب باردة زائفة؛ فذلك لأنّ القوّة الكونية النووية الثانية تعود أيضاً من بوابة واحدة وحيدة هي كاريكاتور التحديث الليبرالي، الذي يتجلّى في صوره الأكثر بشاعة وهزالاً وابتذالاً. ولأنها، كذلك، مخلوق عاجز عن مجاراة أعدائه الرأسماليين القدماء، تماماً مثل عجزه عن مجاراة حلفائه الشيوعيين القدماء (الصين بصفة خاصة)؛ فإنّ روسيا هذه الأيام لن تفلح في استرداد موقع الاتحاد السوفييتي تلك الأيام؛ وهيهات لأمثال بوتين ومدفيديف أن يلبسوا لبوس أمثال خروتشوف وبريجنيف. وأياً كانت طبائع اللعب بين الغرب وبوتين، كما تكشف الكثير منها في قمة الثماني الأخيرة؛ وأياً كانت أصناف الحروب التي يخوضها الشعب السوري، ضدّ النظام أو إيران أو "حزب الله" أو روسيا أو أمريكا، من أجل حرّيته وكرامته؛ فإنّ سورية ليست دار حرب باردة كما يريد بوتين تصويرها، وليست مناطحة بين الـG-7 ضدّ الـ G-1، أو بين واشنطن وموسكو.
وكما للّعب حدوده، مثل تقاسم أدوار التفرّج على عذابات السوريين، فإنّ تجاوز الحدود يفضي غالباً إلى انفراط عقد اللعب، وانقلاب السحر على السحرة، أنفسهم... ربما بأشدّ ممّا أذاقوا ضحاياهم!