وها أنّ سنة ثامنة على غياب قصير، تبدأ اليوم في غمرة مشهد لبناني بائس، سياسياً أوّلاً (ليست أسوأ مظاهره حكاية التمديد للمجلس النيابي، واستدارة بنادق "حزب الله" من الجبهة مع العدوّ الإسرائيلي إلى قتال الشعب السوري دفاعاً عن نظام آل الأسد)؛ ثمّ على أصعدة أخرى، اجتماعية وثقافية وأخلاقية وطوائفية (ليس أسوأها، هنا أيضاً، مشروع قانون اللقاء الارثوذكسي، أو المواقف العنصرية تجاه النازحين السوريين في لبنان). غير أنّ نهار اغتيال قصير كان قد انقضى والآمال ضئيلة في صعود معارضة عربية، جديدة ومستنيرة، مثقفة وعصرية؛ و"أوان الورد"، الذي ترقبه الراحل بشغف ولهفة وثقة، بدا مؤجلاً حتى إشعار آخر طويل، ليس في بلدان مثل تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، وحدها، بل في سورية أوّلاً، وربما أساساً من وجهة نظر قصير. فهل انكسرت الأحلام، حقاً؟ وهل تبددت الآمال، كلّها؟
هي ذكرى تذكّر، أيضاً، بأنّ درس الاغتيال الأوّل ـ الأكبر والأبسط، في آن ـ كان إسكات قلم جسور ترتدي كتاباته، وما تصنعه من أواليات وعي واحتجاج ومقاومة، أهمية ستراتيجية تعادل، أو لعلها تفوق، كلّ منتجات التكتيك الصغيرة. لهذا لم يكن اغتيال قصير محض تمرين في الثأر أو التأديب أو تلقين الدروس، بل كان تنبيهاً بربرياً إلى حقيقة أنّ الإطاحة برأس أمني هنا أو تبديل آخر هناك، لا تعني أنّ الوحش قضى أو تمّ ترويضه. الوحش، في الواقع، ظلّ حيّاً يسعى ويفخخ ويقتل، في توقيت محسوب أُريد منه أن يبعث أبلغ الرسائل، وأن يلحق أفدح الأضرار حيث ينبغي؛ وبقي سؤال "عسكر على مين"، عنوان كتاب شهير للراحل ضدر مطلع 2001، يفيد التالي: عسكر على الآمنين!
هي، ثالثاً، ذكرى آمال داعبت الراحل، مثل كثير من اللبنانيين والسوريين، بأنّ الأقنعة قد سقطت عن الوجوه، فباتت مكشوفة ظاهرة للعيان، أضعف من ذي قبل، بل أضعف كثيراً؛ دون أن يعني هذا أنّ النظام الأمني لن ينتقم، ولا حظوا استخدام الراحل لهذه المفردة تحديداً: ينتقم! ففي مقال بعنوان "وسقط القناع"، نُشر قبل أسابيع قليلة من جريمة الاغتيال، اعتبر قصير أن "بعض رموز الطوفان المخابراتي" سوف تحاول "شراء المزيد من الوقت"، و"قد يسعى النظام الأمني مرّة جديدة إلى الانتقام"، و"لكنّ شيئاً لن يقدر على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. لقد ذهب النظام الأمني. فليكن ذهاباً من دون رجعة".
وبالمعنى العامّ لحركة التاريخ، لا ريب في أنّ عقارب الساعة لن تُعاد إلى الوراء، بالقياس إلى ما تمّ إنجازه على أكثر من صعيد سياسي، بما في ذلك انسحاب النظام السوري عسكرياً من لبنان. غير أنّ الصعيد الأمني لم يشهد تحرّك عقارب الساعة إلى الأمام، لكي يُقال إنها لن تعود إلى الوراء في عشرات الملفات، وبينها بالطبع مسلسل التفجيرات وعودة الاغتيالات. وإذا كان ما يشبه "الهجوع" الأمني قد طبع الأسابيع القليلة التي أعقبت اغتيال قصير، لأسباب التقاط الأنفاس وامتصاص الصدمات قبل تنظيم القوى من جديد، فإنّ ذلك الهجوع انقلب إلى استفاقة عنفية طاغية، وتعاقبت عمليات الاغتيال، وعلى منوالها تسارع سقوط الأقنعة. هنا، أيضاً، توجّب أن تتصف الحال بمقادير من جدل الاصطراع: بين عدوان إسرائيلي وحشي على لبنان، صيف 2006، و"غزوة" أنصار "حزب الله" في بيروت، ربيع 2008؛ وبين "مقاومة" لا هدف لها سوى الدفاع عن لبنان ضدّ إسرائيل، و"المقاومة" ذاتها وقد اختزلت إسرائيل إلى بقعة جغرافية صغيرة اسمها "القصير" السورية!
ويبقى من باب تحصيل الحاصل أن يربط المرء بين اغتيال قصير، وسلسلة المواقف الصائبة والشجاعة التي عبّر عنها بصدد تلازم مسارات التحوّل الديمقراطي في سورية ولبنان، على نقيض تلازم المصالح بين النظام الأمني اللبناني وسيّده النظام الأمني السوري، أو: "اللبنانية ـ السورية للتلازم والعلاقات المميزة، شركة غير محدودة اللامسؤولية"، كما أسماها الراحل ساخراً. لهذا فإنّ الانتقام لم يستهدف رمزاً سياسياً أو أمنياً أو اقتصادياً أو طائفياً، بل ضرب حيث ينبغي للرسالة أن تكون مدوية: في قلب الأوساط التي لن يكفيها انسحاب القوّات السورية (وبقاء الأمن السوري هنا وهناك، قوياً مهيمناً)، ولن يرضيها قرار يستبدل هذا المسؤول الأمني أو ذاك (ويُبقي شبكات الولاء على حالها، في باطن الجهاز).
أجدني إذاً، كما فعلت سنة 2011، أستأذن شهداء الانتفاضة السورية في ضمّ شهيد إلى قوافلهم، لم يسقط على ثرى سورية، بل اغتيل لأنه اعتبرنا أبناء وطنه الثاني، وشاطرنا الآمال والآلام، وتلمّس معنا مفردات المستقبل الأفضل.