تأويل آخر قد يرى العكس، فيذهب ببساطة إلى أنّ الخابية ثابتة مكينة، ودور الحجر لا يتجاوز ترسيخ ما هو ثابت أصلاً، بدلالة تأكيد نصر الله أنّ "حزب الله" هو آخر المتدخلين في سورية؛ فيردّ تأويل ثالث بمساجلة على هذا النحو مثلاً: حتى إذا صحّ أنه آخر المتدخلين، فهل التأخر يلغي الضرورات التي أدّت إلى التدخل، أخيراً، من حيث حاجة الخابية إلى حجر؟ وأمّا تأويل رابع، فقد يذهب إلى أنّ لجوء نصر الله إلى استخدام مفردة الحجر (وليس "البحصة" أو "الحصوة"، كما في التنويعات الأخرى الأكثر أمانة للمثل الشعبي)، مقصود تماماً، لأنّ دور مقاتلي "حزب الله" في اجتياح القصير كان أوسع نطاقاً، وأشدّ فعالية، من أن يُختزل إلى محض حصاة، تقبع في ظلّ خابية!
وجهة أخرى للتأويل، هي العودة بالذاكرة إلى آخر مناسبة شهدت سيرورة معاكسة: أنّ الخابية (جيش النظام السوري) سندت الحجر (مقاتلي "حزب الله")، سواء ضدّ إسرائيل (العدوّ المشترك، لفظياً على الأقلّ، لكلّ من النظام والحزب)، أو ضدّ معارضي الحجر، وهم كثر، وتكاثروا منذ 1982؛ فلم تقتصر المنازعات معهم على أبناء المذاهب أو الأديان الأخرى، إذْ ضمّت الشيعة أيضاً، ومنظمة "أمل" في المقام الأشهر. وتلك مناسبة ليست نادرة فقط، بل لعلها غائبة تماماً بأيّ معنى يشبه الخدمة العسكرية الكبرى التي أسداها الحزب للنظام في القصير، ويواصل استكمالها هنا وهناك في العمق السوري.
غياب المناسبة لا يحول دون استذكار بعض مفارقاتها، ليس إحقاقاً لحقوق الذاكرة الجَمْعية للشعبين السوري واللبناني، والتي انتُهكت مراراً، وابتُذلت وقُزّمت، فحسب؛ بل كذلك لأنّ صاحب "الوعد الصادق" يفترض، كما بات جلياً في أقواله ما بعد القصير، أنّ تلك الذاكرة قصيرة حسيرة، أو هي اندثرت تماماً. وهكذا، يُستذكَر ذلك اليوم من شهر آب (أغسطس) 2006، في أوج العدوان الإسرائيلي على لبنان، حين وصل وليد المعلّم، وزير خارجية النظام، إلى بيروت (عن طريق حمص ـ طرابلس، لأنّ الطيران الإسرائيلي كان قد دكّ طريق دمشق ـ بيروت). آنذاك صرّح المعلّم بأنّ النظام "يقول أهلاً وسهلاً" للحرب الإقليمية، خصوصاً وأنّ "سورية بدأت تستعدّ، ولا نخفي استعدادنا، وسنردّ على أي اعتداء اسرائيلي فوراً"؛ وأنه، شخصياً، مستعدّ أن يكون "جندياً عند السيد حسن نصر الله".
الأرجح أنّ الأخير لم يكن سعيداً بتجنيد هذا المتطوّع بالذات، في رخاء السلم كما آنذاك في شدّة الحرب، لأسباب تتجاوز بكثير تلك الاعتبارات المبدئية التي تخصّ اللياقة البدنية للمقاتل. والأرجح كذلك، بل المنطقيّ البسيط، أنّ نصر الله كان سيسعد، أكثر، لو أنّ وحدات الهندسة في جيش النظام السوري بادرت (لكي لا نقول: تحدّت آلة العدوان الإسرائيلية!) فأصلحت طريق بيروت ـ دمشق عند نقطة المصنع؛ لا لكي يدلف منها المعلّم إلى لبنان، بل لكي تُستأنف من جديد حركة العبور الطبيعية بين البلدين، ويُتاح للمهجّرين خصوصاً أن يجدوا بعض الملاذ الآمن لدى أشقائهم السوريين.
وبالطبع، مَن يصغي إلى المعلّم وهو ينذر بأنّ ردّ النظام العسكري (الخابية إياها، للتذكير) سوف يكون فورياً، يخال أنّ إسرائيل لم تكن حتى تلك الساعة قد اعتدت على السيادة السورية، أو حلّقت فوق القصور الرئاسية، أو قصفت داخل العمق السوري، أو مارست الاغتيال الفردي لبعض القيادات الفلسطينية الإسلامية اللاجئة في دمشق ( لم تكن إسرائيل، يومذاك، قد اغتالت عماد مغنية في قلب دمشق، ودمّرت مجمع "الكبر" في ظاهر دير الزور)... ولعلّ المرء ذاته سوف يخال أنّ جيش النظام قادر، بالفعل، على الردّ الفوري وإنزال أفدح الخسائر بالعدوّ، وما امتناعه عن ذلك إلا لأنّ العدوّ لم يتجاسر على الاعتداء؛ أو، حسب الحكمة الرسمية الشائعة، لأنّ "القيادة السورية" لا تقع في فخّ الاستفزاز، وهي التي تحدد مكان وزمان الردّ!
والحال أنّ الفخّ هو ذاك الذي انساق إليه "حزب الله"، حين كفّت أحجاره عن مساندة الخوابي المواجهة للعدوّ الإسرائيلي، فانخرطت في حرب بشار الأسد ضدّ الشعب السوري، في القصير وحمص والغوطة وحلب وإدلب ودير الزور. هي، إلى هذا، وضمن أنساق المقاومة التي سيبتدعها السوريون في وجه ذلك الانخراط، وخاصة على مستوى المجتمع المدني قبل ذاك العسكري، أحجار غازية لن تلقى طيب العيش على غرار حجر تميم بن مقبل: تنبو الحوادث عنه، وهو ملموم!