صدر في نيويورك، قبل أيام، كتاب جديد للأكاديمي الأمريكي، من أصل فلسطيني، شبلي تلحمي؛ بعنوان "العالم في أعين عربية: الرأي العام العربي وإعادة صياغة الشرق الأوسط"، عن دار النشر الأمريكية. والمؤلف يشغل كرسيّ أنور السادات للسلام والتنمية في جامعة ميريلاند، وهو زميل غير مقيم في مركز حاييم صبّان ـ معهد بروكنغز، وعضو في "مجلس العلاقات الخارجية"؛ كما يُعرّف، في الولايات المتحدة خصوصاً، كأحد أبرز الخبراء حول استطلاعات الرأي في العالم العربي. إنه، إلى هذا، صاحب كتاب شهير بعنوان "الرهانات: أمريكا في الشرق الأوسط"، صدر سنة 2003، وتناول المواقف العربية والإسلامية من حرب الولايات المتحدة ضدّ منظمة "القاعدة".
كتاب تلحمي الجديد يغطي موضوعات شتى، بينها هذه: الهويات العربية، ثورة المعلومات والرأي العام، "الجزيرة" بوصفها الفضائية التي يحبّ الأمريكيون أن يكرهوها، نظرة العرب إلى انتفاضاتهم، اتجاهات المواقف العربية من الولايات المتحدة وإيران ومسائل مثل الديمقراطية والمرأة والدين، فضلاً عن فصل خاصّ بعنوان "من 9/11 إلى ميدان التحرير: العرب في أعين أمريكية". مدهش، في المقابل، أنّ سورية، أو بالأحرى الانتفاضة السورية ("الانتفاضات السورية"، كما يفضّل تلحمي تسميتها بصيغة الجمع)، ليس لها إلا مقدار عابر وهامشي من الذكر، لا يتجوز ثماني مرّات، في إحصائي الشخصيّ، على مدى كتاب يقع في 232 صفحة! ومصدر الدهشة مزدوج، في أقلّ تقدير: أنّ هذه الانتفاضة ليست هاجس العرب، وحدهم، بل هاجس الأمريكيين أيضاً، من جهة؛ وأنها، من جهة ثانية، حاضنة يومية لتسعة أعشار الأسئلة التي يرجح تلحمي أنها محور انشغالات الرأي العامّ العربي.
ثمة مبرر أوّل، تقني وميداني على نحو ما، سبق للمؤلف أن أقرّ به، في التوطئة لاستطلاعات جامعة ميريلاند خلال الأعوام الماضية، مفاده أنّ فريق العمل الذي يتعاون معه استبعد الوقوف على آراء الناس في "بلد بوليسي" مثل سورية (وكذلك في العراق، وليبيا، لأسباب أمنية قد تكون مفهومة، جزئياً؛ ثمّ الجزائر وتونس واليمن والسودان وفلسطين وقطر والكويت والبحرين، لأسباب يصعب أن تكون مقنعة)؛ فاكتفى باستبيانات شملت مواطني ستة بلدان عربية فقط، هي مصر والأردن ولبنان والمغرب والسعودية والإمارات العربية. وثمة مبرر ثانٍ، بعيد تماماً عن الشجون التقنية والميدانية والأمنية والبوليسية، هو آراء تلحمي نفسه حول الانتفاضة السورية؛ هذه التي نفتقدها في كتابه الجديد، لكننا لا نفتقر إليها في أحاديثه عبر وسائل الإعلام المختلفة.
إنه، في عيّنة أولى من آرائه، يرى أنّ سورية مسألة لا تحظى بإجماع الرأي العام العربي؛ أو هي "تقسيمية"، بمعنى أنّ العرب منقسمون حول الرأي فيها، وليسوا موحّدين بنسبة عالية، كما هي حالهم في ملفات أخرى. فكيف استقامت عنده نتيجة كهذه، إذا كان آخر استطلاع رأي، أجراه فريق تلحمي نفسه، يشير إلى اتفاق 86 بالمئة من العرب على تأييد الانتفاضة السورية، ضدّ النظام؟ وكيف، إذا كان الاستطلاع إياه يُظهر أنّ فضائية "الجزيرة" تحظى بإقبال لدى المشاهدين العرب يبلغ 43 بالمئة، تليها "العربية" بنسبة 14 بالمئة، والـMBC بنسبة 12 بالمئة، والمحطات الثلاث تغطّي الحدث السوري بتعاطف شديد مع الانتفاضة، وخصومة بيّنة مع النظام؟
عيّنة أخرى من آراء تلحمي حول سورية، هي الجزم بأنّ بشار الأسد ما يزال يحظى بـ"مخزون" من التأييد الشعبي، يظلّ تحديد حجمه غير ممكن، بالنظر إلى صعوبة تلمّس الرأي العام السوري في الظروف الراهنة. ما مصدر الجزم، إذاً؟ الجواب، الوحيد عملياً، هو التالي: أنّ الأسد استطاع الحفاظ على تماسك جيش ضخم، عديده يتجاوز 700 ألف مقاتل! هنا يغادر تلحمي موقع الأخصائي في استطلاعات الرأي، ليتربّع على سدّة محلل سوسيو ـ عسكري، لكنه يتعامى عن تحوّلات هذا الجيش على مدى 27 شهراً من عمر الانتفاضة، وكيف فقد صفة الجيش النظامي ذي التسلسل القيادي الهرمي، وتشرذم إلى قطعات موالية وميليشيات طائفية التركيب، أو أخرى غازية قوامها وحدات من مقاتلي "حزب الله"، و"الحرس الثوري" الإيراني، و"لواء أبو الفضل العباس" العراقي، والحوثيين...
تلحمي حرّ في آرائه، غنيّ عن القول، ولكن إذا كان تكوين تلك الآراء لا يستأنس بالمعطيات التي يجمعها هو نفسه، الخبير في استطلاعات الرأي؛ فعلى أيّ معطيات أخرى اتكأ، إذاً، فاستخلص انقسام العرب حول سورية، رغم أنّ مؤيدي النظام لم يتجاوزوا 14 بالمئة؟ وكيف جزم بأنّ الأسد يتمتع بتأييد شعبي... يصعب تحديد مقداره، مع ذلك؟ ألا يدرك تلحمي أنّ ما يستخلصه، وفريقه، إنما يرتدي أهمية بالغة في تكييف الرأي العام في الولايات المتحدة تحديداً، قبل العالم العربي، وقبل صانعي القرار هنا وهناك؛ ليس حول مسائل خلافية وإشكالية، مثل التدخل العسكري الخارجي، أو تسليح المعارضة السورية، بل أساساً حول قضايا إغاثية وإنسانية وأخلاقية صرفة، تتحكم بمصائر ملايين السوريين؟
"ثمة إغراء في الاستنتاج بأنّ الانتفاضات العربية قد وضعت المنطقة على لوح إردواز ممسوح"، يستخلص تلحمي في كتابه الجديد؛ ما خلا أنّ بعض قارئي مدوّنات الشارع العربي، على اللوح ذاته، يصرّون على النبش في سواد الكلام القديم، بحثاً عن سطور مُسحت واندثرت، أو تكاد!