وعزّ الشرق أوّله دمشق

الأربعاء، 15 يونيو 2011

استعادة قديم، بمناسبة رسالة أدونيس المفتوحة إلى بشار الأسد 3ـ 3: متى سيخون أدونيس وطنه؟

في عددها للأسبوع الماضي نشرت أسبوعية "الوسط" حواراً مطوّلاً مع أدونيس احتوى، في ما احتوى، على مواقف مدهشة ـ نقضية ومتناقضة، في آن معاً ـ تجاه مسألتين: تصويب "سهامه النقدية نحو الشعر الوطني"، والإستعارة ليست من عندنا بل استخدمها محرّر "الوسط" في العمود الذي يعرض لموادّ العدد؛ وإعمال الفأس (والإستعارة من عندنا هذه المرّة) في مختلف اتجاهات الفكر العربي، الذي يرى أنه "أصولي لأنه ينطلق من حقائق نهائية". وليس في آراء أدونيس أيّ جديد لم يقله من قبل، في الصحافة الفرنسية تحديداً، وإنْ كانت صياغاته للآراء المكرورة تلك تكتسب في هذا الحوار نبرة غلواء دراماتيكية لافتة، كما تنهض على تناقض بين القول وما يسري بعدئذ على القائل، وبين المقال وما يكشف عنه المقام الذي يضع القائل نفسه فيه، بنفسه.

حول المسألة الأولى يبدي أدونيس الحزن لأنّ "الشعر عندنا، حتى في وعي معظم شعرائنا لا يزال 'ربابة' و'طنبوراً' من أجل إطراب 'الشعب' وتمجيد 'الوطن'. والحقّ أنّ الشاعر لا يكون وطنياً أو غير وطني بالشعر". ولكن، هل يصحّ التصريح ـ هكذا، بنبرة التعميم شبه التامّ، التي اعتاد عليها أدونيس ـ أنّ الشعر في وعي "معظم" شعرائنا لا يزال ربابة وطنبوراً؟ معظم شعرائنا، حقّاً؟ وإذا صحّ أنّ الشاعر لا يكون وطنياً بالشعر، فهل يصحّ القول تالياً إنّ "الشاعر الذي يوصف شعره بأنه 'وطني' لا يمكن أن يكون إلا شاعراً رديئاً"، كما يعمّم أدونيس هنا أيضاً؟ ليس صحيحاً بالطبع، حتى إذا قصد أدونيس الحديث عن الشاعر المرتبط بالسلطان. وإذا كان التاريخ قد حفظ لهذا النوع من الشعر تسمية أخرى أكثر وضوحاً هي "التكسّب"، فإنّ التاريخ ذاته يعلّمنا أنّ هذا الشعر بالذات لم يكن رديئاً على الدوام، وأنّ الحكم الأخلاقي على نماذجه لا يلغي خصائصها الفنّية التي قد تكون رفيعة، شاء المرء أم أبى.

"جميع الشعراء الكبار كانوا خونة لأوطانهم"، يقول أدونيس في المانشيت، ويقتبس شعراء "خونة" من أمثال بودلير، رامبو، مالارميه، باوند، إليوت، دانتي، المعرّي، المتنبي، أبي نواس. كيف خانوا أوطانهم؟ لا يشرح أدونيس، وإنْ كان يوحي بأن خيانتهم تلك تتمثّل أساساً في أنهم لم يكونوا "شعراء وطنيين". ولكن إذا كان أدونيس شاعراً كبيراً (وهو كذلك دون ريب)؛ وإذا لم يكن شاعراً متكسباً (وهو ليس كذلك، إذا حذفنا قصيدته في مديح الرئيس السوري شكري القوتلي أيّام الصبا المبكّر، وأخرجنا مدائحه للزعيم السياسي أنطون سعادة من باب التكسب، واعتبرنا رثاءه للإمام الخميني واجب علاقات عامّة)؛ ولا يريد أن يكون شاعراً وطنياً (إذا سرنا مع منطقه، فاستبعدنا أن تكون قصيدته في رثاء جمال عبد الناصر شعراً وطنياً)... فكيف خان أدونيس وطنه، إذاً؟ وإذا لم يكن قد فعل حتى الآن، فمتى سيخون؟ وماذا ينتظر؟

ذلك يقودنا إلى المسألة الثانية في الحوار. "الفكر العربي في مختلف اتجاهاته، فكر أصولي، سواء تناول قضايا المجتمع الراهنة أو قضايا الحضارة"، يقول أدونيس بعد أن يذهب مباشرة إلى التعميم هنا أيضاً: "في مختلف اتجاهاته"، بلا استثناء كما يبدو. وهو يتابع: "العمل الأوّل للفكر هو نقد أصله وأصوله، هو نقد المسلمات، لا نقدها وحسب، وإنما الخروج منها كذلك، كلّ شيء يجب أن يخضع للسؤال والبحث. عندما يمارس الفكر العربي هذه الحرية، يمكن القول عنه آنذاك إنه فكر خرج من الأصولية".

كلام جميل ولا اعتراض عليه، لولا أنّ أدونيس نفسه يعفّ (وعَفّ مراراً في الواقع) عن ممارسة الحرّية هذه. وحين يروي لمحاوِرته أنه لم يحاول حتى الآن كتابة اليوميات لسبب ذاتي، فإنه يضيف السبب الثاني "الموضوعي"... الذي لا نحتاج إلا إلى ثلاثة سطور تالية لكي نكتشف أنه سبب ذاتي بدوره، بل شخصي وعائلي أيضاً! يقول أدونيس: "كتابة اليوميات بالمعنى الذي تقولينه [وهو، كما يسير نصّ السؤال، ليس أكثر من معنى انفصال وتأمّل ضمير المتكلم الذي وُضع على الورق] ترتّب على الكاتب مسؤولية لا يتحملها وحده ـ وتلك هي الكارثة ـ وانما يتحملها أفراد العائلة التي ينتمي إليها وبخاصة أخوته وأخواته وأهله الأقرباء"!

ماذا يعني ذلك؟ هل كان في وسعنا أن نشهد أيّ انشقاق ضد أيّة سلطة جائرة (أيّاً كان محتوى سلطتها السياسية أو الإيديولوجية) إذا راجع المنشقّ نفسه مسبقاً، وتذكّر أخوته وأخواته وأهله الأقرباء؟ وكيف ستمارَس الحرية، بوصفها شرط خروج الفكر من الأصولية، إذا قرّر الموشك على الإنشقاق أنّ الوازرة تزر الوازرة الأخرى دائماً، و... "تلك هي الكارثة"؟ وماذا كان سيفعل أمثال محمد شكري وعبده وازن وليلى العثمان وعالية شعيب (الذين يقتبسهم أدونيس كضحايا للسيرة الذاتية)، لو أنهم أقتفوا دربه وتبصّروا في عواقب "الكارثة"؟

ثمّ ألا يقول أدونيس نفسه، في الحوار إياه، إنّ "الشعر تحديداً انشقاق. أو لأكرر ما يراه نيتشه، بعبارة أخرى يكون الشعر مضاداً أو لا يكون"؟ ألا يقول، بوضوح تامّ، إنّ كتابه القادم سوف يكون "نوعاً من سيرة ذاتية، لكن بقدر ما تسمح الأوضاع التي أشرت إليها ـ وإن كنت سأحاول خرق هذه الأوضاع"؟ أيّ "أوضاع" هذه؟ وكيف سيلتزم بما تسمح به "الأوضاع"، وسيحاول خرقها، في آن؟ وكيف سينشقّ حقّاً إذا راعى "الأوضاع"؟

ومتى... متى سيخون الشاعر الكبير وطنه، والحال هذه؟
"القدس العربي"، 7/11/1999