وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 30 ديسمبر 2013

حوثي/ شبيح.. للأبد!

شريط الفيديو يُظهر يمنياً من أتباع عبد الملك الحوثي، جاء إلى سورية مقاتلاً يناصر نظام بشار الأسد، أسوة بأخوته في السلاح والعقيدة، من عناصر "الحرس الثوري" الإيراني، إلى ميليشيا "حزب الله" اللبناني، والمتطوعين من أنصار "أمل" ونبيه برّي (رئيس مجلس النوّاب في لبنان!)، وأفراد الميليشيات المذهبية العراقية التي لا تبدأ من غلاة "الصدريين"، ولا تنتهي عند مهووسي "حزب الله" العراقي ومرتزقة "لواء أبو الفضل العباس"... هؤلاء هم أطراف ما يُسمّى "المنظومة الشيعية"، التي تقاتل إلى جانب النظام السوري، "حتى انتصار الدم على السيف"، كما يهذون؛ وحتى الرمق الأخير قبيل اندحار حليفهم، كما تقول حكمة التاريخ.

وشريط الفيديو يُظهر المقاتل الحوثي وهو يرفع بندقيته، ويهتف بحياة "أسد العروبة والمقاومة"؛ على نحو يتناغم كثيراً، وعن سابق اقتباس واقتداء أغلب الظنّ، مع ذلك الهتاف الاشهر لدى المنحبكجية" أنصار النظام: "شبيحة للأبد! لعيونك يا أسد!". فإذا هضم المرء، بيسر أو بعسر، حكاية الهتاف للمقاومة، بالنظر إلى ابتذال المفردة حتى صارت ذريعة لتبرير أحطّ سلوكيات "محور الممانعة"، من قمع المعارضين في طهران، إلى اغتيال الخصوم في بيروت، وتجويع فلسطينيي مخيم اليرموك في دمشق؛ فإنّ مفردة "العروبة" هي التي تمتنع تماماً على الهضم: أحوثيّ، زيدي؛ وعروبيّ، قومجي؟

ثمّ أين ذهبت "هتافات الصرخة"، الحوثية التأسيسية الشهيرة دون سواها: "الموت لأمريكا!"، و"الموت لإسرائيل!"، و"اللعنة على اليهود!"، و"النصر للإسلام!"... وهل انطوت إلى غير رجعة؟ لعلّ هذا ما تشير إليه أجواء الصمت، ثمّ الحيرة والبلبلة، التي صارت تهيمن على أيّ سرادق عزاء تشهده منطقة صعدة، شمال اليمن، تأبيناً للحوثيين الذين يُقتلون في سورية، دفاعاً عن الأسد. وأمّا أولئك الذين استدعاهم عبد الملك الحوثي من ساحات القتال في سورية، من جبهات حوران والقصير والقلمون وبانياس، لحاجته إليهم في القتال داخل اليمن، بعد أن اخذت الكفّة العسكرية تميل لصالح خصومه من قبائل حاشد؛ فإنهم توقفوا عن ترديد أيّ هتاف، ورُبطت ألسنتهم عند اجترار السردية المكرورة الجوفاء: الدفاع عن المراقد الروحية الشيعية، في وجه "التكفيريين" و"السلفيين" و"الإرهابيين"!

وقبل أن تنقلب إلى حرب حقيقية بين الجيش اليمني النظامي، ورجال الميليشيات الحوثيين؛ وقبل أن يسقط في مختلف عملياتها قتلى وجرحى بالآلاف وعشرات الآلاف، ويتشرّد 50 ألف يمني معظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال، وتتفكك 500 إلى 600 عائلة؛ قبل هذا كلّه كان ما يُعرف اليوم باسم "تمرّد الحوثيين" في منطقة صعدة قد بدأ في صيغة تحركات شعبية محلية بسيطة، لم تكن موجهة ضدّ السلطة أساساً. العكس كان هو الصحيح في الواقع، لأنّ الطاغية اليمني علي عبد الله صالح كان، منذ 1986، الداعم الأوّل لخلايا الحوثيين الأولى، التي بدأت على هيئة منتديات دراسية وتبشيرية بريئة المظهر. وكان التكتيك بسيطاً، بقدر ما هو مفضوح مألوف لدى هذا الطراز من الطغاة: داوِ سُنّة اليمن، جماعة الإخوان المسلمين و"حزب الإصلاح" تحديداً؛ بالتي قد تكون الداء، أي التيار الزيدي الشيعي.

غير أنّ الحوثيين لم يترعرعوا ويشتدّ عودهم في منطقة صعدة، بالذات، إلا لأنها منبوذة ومهملة ومنفلتة من قبضة الدولة المركزية؛ يقطنها 700 ألف نسمة، لا يخدمهم سوى مشفى واحد، ولا تتوفر لهم مياه الشرب النقية، والكهرباء نادرة، وأوضاع المدارس متردية، والخدمات الحكومية شبه منعدمة، والشائع الأكبر هو ثلاثي الأمية والبطالة والأوبئة. المفارقة تمثلت في أنّ الزيدية هي أقرب فِرَق الشيعة إلى السنّة كما يجمع الكثير من الدارسين، وتتصف عموماً بالاعتدال والابتعاد عن التطرف والغلوّ، ومؤسسها (زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، 695 ـ 740 م) كانت له آراء جريئة في الشريعة والمجتمع والسياسة والفلسفة، تختلف عن إجماع الفقه الشيعي العامّ.

كذلك تجدر الإشارة إلى أنّ نظام الإمامة كان قد تأسس في صعدة تحديداً، سنة 893 م، على يد يحيى بن الحسين، واستمرّ حتى عام 1962 مع إقرار النظام الجمهوري؛ ولهذا فإنّ بعض جذور الصراع مع الحوثيين تضرب في فكرة إحياء الإمامة، على هذا النحو أو ذاك. صحيح، أخيراً، أنّ علاقة الحوثيين مع إيران كانت أقرب إلى التبعية، وقد سبق لهم أن رفعوا علم "حزب الله" بدل العلم اليمني. وفي جولات الصراع اللاحقة، بعد أن حُسمت المعركة لصالح الجيش النظامي سنة 2004، وقُتل فيها الزعيم الروحي والعسكري حسين بدر الدين الحوثي؛ أسوة بجولة القتال الراهنة، التي تتواصل بين كرّ وفرّ؛ كان الدعم الإيراني للحوثيين هو مصل الحياة وشوكة القتال، في آن.

ليس غريباً، إذاً، أن يتقاطر الحوثيون إلى سورية، للانخراط في صفوف مناصري الأسد؛ وليس عجيباً أن تتبدّل شعاراتهم وهتافاتهم، فتنقلب رأساً على عقب أحياناً؛ والمدهش الوحيد، وهو مدعاة حزن أيضاً، أنّ هذا التشبيح لصالح نظام استبداد وفساد وهمجية قصوى، لا يُفقد الحوثيين هوامش التعاطف الطبيعي مع مطالبهم الحقوقية والمعيشية، أو حتى تلك العقائدية، فحسب؛ بل ينسف ما تبقى من حقّ في مفهوم "المظلومية" ذاته: الآن وقد تشوّه المظلوم فصار ظالماً، قاتلاً ومرتزقاً، وشبيحاً!

أسباب إسرائيل في تأييد الأسد.. حتى اندثار البلد!

التسريب الأوّل، حول الاتصالات السرية بين وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان ومقرّبين من بشار الأسد، جاء على صفحات الـ"غارديان" البريطانية، في تموز (يوليو) الماضي؛ وأفاد، يومئذ، بالتالي: تسكت إسرائيل عن ذهاب "حزب الله" و"الحرس الثوري" الإيراني أبعد وأوسع، عسكرياً ولوجستياً، في القتال إلى جانب قوّات النظام على امتداد الحدود السورية ـ اللبنانية في تخوم حمص، ونحو أرياف طرطوس؛ وفي المقابل، يردّ الأسد بـ"معلومات موثقة" حول الطيار الإسرائيلي رون عراد، وكذلك ثلاثة جنود إسرائيليين تمّ أسرهم في قرية السلطان يعقوب اللبنانية، سنة 1982، ويؤجّل ليبرمان الإلحاح على تسليم رفات إيلي كوهين، الجاسوس الإسرائيلي الذي ظلّ صديقاً أثيراً لدى عدد من كبار الضباط البعثيين حتى انكشف أمره وأُعدم شنقاً سنة 1965.

ليبرمان نفسه، في مناسبة تالية هي التعليق على الاتفاق الأمريكي ـ الروسي حول تدمير مخزون النظام السوري من الأسلحة الكيميائية وتفكيك صناعتها، اعتبر أن الأسد "لن يكون مطالَباً بتقديم معلومات وافية عن مخزونه من السلاح الكيميائي فقط، بل هو مُلزَم أيضاً بتوفير معلومات عن كلّ البنى التحتية ذات الصلة، بما في ذلك معامل الإنتاج، ومراكز الأبحاث والتطوير، والمواد الخامّ، والمستودعات". صحيح أنه يومها لم يكن وزير الخارجية، بالنظر إلى خضوعه لمساءلات قضائية حول الفساد؛ ولكن من الصحيح أيضاً أنه كان رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست، وكان مخوّلاً بالاطلاع على المعلومات الأكثر سرّية وحساسية، وبالتالي لم يجد حرجاً في التصريح بأنّ الاتفاق "إنجاز كبير لإسرائيل"، التي ستسهر على مراقبة حسن تطبيقه، وأنّ "الأصدقاء الأمريكيين أنجزوا عملاً عظيماً".

وثالثاً، من موسكو هذه المرّة، حيث يتمتع بمصداقية عالية لدى رجالات الكرملين، أعلن ليبرمان أنه "لا يوجد في سورية نظام ملائم بديل لنظام الأسد"؛ خاصة وأنّ الاتفاق الأمريكي ـ الروسي، حول أسلحة النظام الكيميائية، "يزيل الخطر الأكبر على إسرائيل، من الجانب السوري". لكنّ هذا النظام، وفقاً لتصريحات ليبرمان قبل أيام قليلة سبقت زيارته إلى موسكو، هو ذاته الذي قتل 100 ألف من المواطنين السوريين؛ وهو، ذاته، النظام الذي يواصل "الترهيب وسفك الدماء"! كذلك، كي لا يرتاب أحد في أنه يترك هامشاً لاحتمال أية اتفاقية سلام إسرائيلية مع هذا النظام، قال ليبرمان: "وحده السياسي المصاب بالوسواس هو الذي يمكن أن يعتبر سورية شريك سلام، ليس تحت الحكم الحالي بالتأكيد".

ما يلوح أنه تناقض يكتنف هذه التصريحات، بين إدانة النظام السوري والترحيب ببقائه، ليس من طراز ذلك التناقض المنطقي الذي تتنافى عناصره، أو ينفي بعضها البعض الآخر؛ بل هو، في حقيقة الأمر الواقع، أو حقائق الواقع على الأرض بالأحرى، من طراز ذلك التضاد الظاهري على السطح وحده، نظرياً؛ والذي يتكامل، جدلياً وعملياً، في الباطن والجوهر. هضبة الجولان المحتلة عزيزة على سياسي إسرائيلي يميني مثل ليبرمان، يحدث أنه مستوطن أصلاً، ويعتبر الانسحاب منها بمثابة انتحار؛ وقد بقيت سالمة تحت الاحتلال الإسرائيلي، لا تُطلق فيها بندقية صيد من الجانب السوري، وذلك طيلة 40 سنة ونيف من حكم الأسد الأب والأسد الوريث. فما الذي تريده إسرائيل أكثر، وأيّ نظام يمكن ان يكون أفضل، خاصة إذا أرسى سورية على ركائز سياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية جديدة، متحررة من الاستبداد والفساد، قائمة على دولة الديمقراطية والمساواة والحقّ والقانون؟

منطقي، إذاً، أن يكون ليبرمان، ثمّ رئيسه في الوزارة بنيامين نتنياهو، والغالبية الساحقة من ساسة إسرائيل، يميناً ووسطاً ويساراً، صهاينة ومتدينين، في حلّ تامّ من حكاية عقد السلام مع هذا النظام؛ إذْ لا تعفيه من هذا الهمّ انشغالات النظام في ذبح الشعب السوري، باستخدام الأسلحة كافة، الذكية الصاروخية والمدفعية والكيميائية الوحشية، أو الغبية االبراميلية الأكثر وحشية وهمجية، فحسب؛ بل تعفيه منها، أيضاً، انشغالات حلفاء النظام، إيران و"حزب الله" في عمليات الذبح إياها، والغرق أكثر فأكثر في مستنقعات استنزاف مجانية، تتفرّج عليها إسرائيل فَرِحة سعيدة. وليس غريباً، والمعطيات هكذا، أن يتقصد ليبرمان توجيه نسخة من تصريحاته إلى "تلك الضاحية" في جنوب بيروت، التي تعلن العداء المطلق لإسرائيل، ولكنها تقوم بواحدة من أقذر مهامّ إسرائيل، أي المساهمة في تدمير الطاقات الوطنية السورية، وتنفيذ شعار النظام المقدّس: الأسد، أو اندثار البلد!

ولعله، بهذا، قد انصرم ذلك الزمان الذي شهد المقايضات، السرّية أو العلنية، حول أيّ انسحاب إسرائيلي من هضبة الجولان؛ ومضامين أية اتفاقية سلام تعقب التنازل عن بعض (وليس البتة كامل) الأراضي السورية المحتلة. والمرء، هنا، يستذكر مبادىء أربعة صاغها ذات يوم المعلّق الإسرائيلي المعروف أري شافيت، واعتبر أنها أسس لا غنى عنها من أجل بلوغ "العمق" الضروري قبيل انتظار انسحاب إسرائيلي "عميق" من مرتفعات الجولان المحتلة. تلك المباديء سارت كما يلي:

1 ـ إنّ اتفاقية سلام سورية ـ إسرائيلية ينبغي أن تكون، أيضاً، اتفاقية سلام بين "القومية العربية العلمانية" وإسرائيل، تعبّر فيها أطراف هذه القومية العلمانية (وحزب البعث تحديداً) عن اعتراف كامل ومطلق بحقّ الدولة العبرية في الوجود كـ"دولة يهودية" ذات حدود وسيادة، مرّة وإلى الأبد. وغنيّ عن القول إنّ مثل هذا الإعتراف لن يكون لفظياً وإعلامياً فقط، بل تربوياً أيضاً: في المناهج الحزبية مثل المناهج المدرسية. وسيكون طريفاً أن يقرأ المرء تعليق شافيت على مآل هذا المبدأ الأوّل، بعد أن انتهت "علمانية" القومية العربية، في طبعتها البعثية/الأسدية، إلى بهجت سليمان، "الدكتور في العلوم السياسية" وسفير النظام في الأردن، يشخّص حرب نظام آل الأسد ضدّ الشعب السوري، بأنها "كربلاء العصر" و"انتصار الدم على السيف مرّة أخرى"!

2 ـ إنّ اتفاقية سورية ـ إسرائيلية ينبغي أن تنصّ، بوضوح تامّ، على أنّ الطرف السوري لن تكون له بعد الإبرام أيّ مطالب أخرى، حدودية أو تاريخية أو عقائدية. وينبغي أن يكون النصّ واضحاً لا لبس فيه، وأن تكون لغته خالية تماماً من عناصر الغموض التي قد تترك للأجيال القادمة فرصة التأويل وإعادة التأويل. والحال أنّ المعلومات التي وفّرها الأسد نفسه، تعقيباً على مسارات التفاوض بين نظامه وإسرائيل، والتي رعتها تركيا حين كان الأسد يعتبر أردوغان قدوة سياسية وأخلاقية؛ أفادت بأنّ غالبية الصعوبات تمّ تذليلها، وتوصّل الطرفان إلى الاتفاق على غالبية المسائل موضوع الاختلاف. في عبارة أخرى، لو شهدت أنقرة توقيع اتفاقية سلام من أيّ صنف، بين النظام وإسرائيل، فإنّ ما يطلبه شافيت سوف يكون متحققاً ضمناً، لجهة انتفاء أيّ نزاع مستقبلي حول أيّ من المطالب. مفيد، هنا، أن يتذكر المرء أيضاً تصريح الأسد، الابن، في توصيف طبيعة التفاوض ومآلاته: إنّه يبني مع الإسرائيليين "عمارة سلام"، ولهذا "من الطبيعي أن ننتقل، في مرحلة لاحقة، إلى المفاوضات المباشرة. فنحن ليس بوسعنا تحقيق السلام عبر المفاوضات غير المباشرة فقط"، وإنّ إسرائيل وسورية "تضعان الآن الأساس للسلام من خلال المحادثات غير المباشرة عبر الوسيط التركي"!

3 ـ وينبغي أن تنصّ الإتفاقية على بند يقول صراحة إنه لا تدخّل لطرفٍ في الشؤون الداخلية للطرف الآخر، وتحديداً في مسائل مثل: "طبيعة النظام القائم، والشخصية الوطنية، والعلاقة مع الأقليّات الوطنية". وللوهلة الأولى تبدو هذه الفقرة غريبة بعض الشيء، فما العلاقة بين السلام وإدارة الدولة المسالمة للعلاقة مع أقلياتها؟ وإذا كنّا نستطيع تخيّل علاقة الشعب السوري التاريخية بأقليّات إسرائيل (وتحديداً بالفلسطينيين، على اختلاف عقائدهم)، فما العلاقة بين الدولة العبرية و"الأقليات الوطنية في سورية"؟ وكيف للغموض أن يغيب عن صياغة هذه الفقرة؟ وأيّ وضوح ذاك الذي يمكن أن يغلق باب الغموض؟ اليوم تحديداً، في ضوء تصريحات رامي مخلوف حول تلازم أمن النظام السوري مع امن إسرائيل، والتصريحات الإسرائيلية حول إمكانية "توطين" مواطنين سوريين من أبناء الطائفة العلوية في قرى الجولان المحتلّ، وتسريبات الـ"غارديان" حول قيام ممثّلي الأسد باستمزاج بعض ساسة إسرائيل إزاء فكرة إقامة "كيان علوي"... تعيد، وسواها، تسليط الأضواء على مغزى هذه الفقرة الثالثة في مقترحات شافيت.

4 ـ المبدأ الرابع يتولى خدمة البُعد العربي، أو الفلسطيني بالأحرى، من صيغة السلام المقترحة هذه: "موافقة إسرائيل على حقّ لاجئي 1967 في العودة إلى الجولان بعد انسحاب الإسرائيليين منه، مقابل موافقة السوريين على التخلّي عن حقّ لاجئي 1948 في العودة إلي أرض إسرائيل". وكتب شافيت: "إنّ أحد المكوّنات الحيوية لاتفاقية السلام هو التزام سورية بإخراج اللاجئين [الفلسطينيين] من المخيّمات، ولعب دور رائد في الحلّ السلمي لمأساتهم، بالتعاون مع جميع بلدان المنطقة، شريطة أن يطبّق هذا الحلّ خارج حدود إسرائيل". لا حاجة، بالطبع، إلى أيّ تعليق على هذا البند، سوى استذكار مواقف "الممانعين" الفلسطينيين المؤيدة للنظام، بذريعة "عدم زجّ" فلسطينيي المخيمات بـ"النزاعات" الأهلية السورية؛ أو ممارسات أحمد جبريل، في قتال الفلسطينيين أنفسهم داخل مخيمات دمشق، بالأصالة عن ميليشياته المأجورة وبالنيابة عن النظام. الحلّ يُطبّق، بالفعل، و"خارج حدود "إسرائيل"، ولصالحها؛ ليس دون أن ترافقه معزوفات طبول وزمور يؤديها أمثال عباس زكي، أو سيّده محمود عباس نفسه.

وتبقى تلك المصادفات، التي تبرهن أزمنة لاحقة على اكتنازها بالدروس المستقبلية، وبينها على سبيل المثال أنّ الأسد، في العام 2005، أبلغ وفداً من الكونغرس الأمريكي استعداده لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل، وأنه سوف يستجيب لأية خطة تعيد إحياء أقنية التفاوض؛ وأنّ ذلك الوفد الأمريكي كان برئاسة... السناتور الديمقراطي جون كيري! آنذاك أشارت صحيفة "هآرتز" الإسرائيلية إلى أنّ العلاقات بين كيري والأسد طيبة للغاية، وأنهما التقيا خمس مرّات خلال سنتين، في دمشق، ومن المرجّح أنّ السناتور لمس، هذه المرّة، رغبة أكبر لدى الأسد في تحريك المفاوضات مجدداً.

اليوم لا أحد في إسرائيل يفكر بتحريك أيّ شيء، عدا العربات الروسية المصفحة، التي ستتولى تحميل مخزون النظام من الأسلحة الكيميائية. وأمّا إذا فكّر الأسد بتحريك شاحنة تنقل أسلحة متطورة إلى "حزب الله"، فإنّ القاذفات الإسرائيلية ستكون لها بالمرصاد، حتماً: خطّ أخضر أن يقصف في سورية، ويقتل ويدمّر ويحرق، وخطّ أحمر أن يلعب بأيّ نار تمسّ إسرائيل؛ كما كانت الحال مع الأب، كذلك تظلّ مع الابن!
 27/12/2013

الثلاثاء، 24 ديسمبر 2013

أغاممنون الأسد

من إنتاج الشركة البريطانية "رفيوج"، شهدت العاصمة الأردنية، عمّان، عرضاً مسرحياً بعنوان "نساء طروادة"، نفّذه فريق عمل سوري تألف من ماري إلياس(التي قدّمت ترجمة جديدة لنصّ يوربيديس الكلاسيكي)، عمر أبو سعدة (المخرج، الذي يُعرف له تعاون مميّز في المسرح التفاعلي، مع عدنان عودة ومحمد العطار في "المردود والمكحلة"، 2006)، و48 لاجئة سورية يصعدن للمرّة الأولى على خشبة مسرح (تولت تدريبهن الممثلة ناندا محمد)، وعُهد بالسينوغرافيا إلى بيسان الشريف. ردود الفعل على العرض، كما عكستها التقارير والتغطيات الصحفية، تفاوتت بين الترحيب والرفض، لاعتبارات فنّية تخصّ المسرح والنصّ في المقام الأوّل؛ وأخرى سياسية وأخلاقية تنبثق من إشكاليات الاقتباس، والتطابق أو التنافر، بين المعطيات الإغريقية والمأساة السورية.

ولأني لم أشاهد المسرحية، وقراءة الكتابات التي تناولتها، أو مشاهدة بعض أشرطة الفيديو التي عرضت مشاهد من أطوار عمل الفريق، لا تكفي لإطلاق أيّ طراز من أحكام القيمة؛ فإنّ هذه السطور لن تكون، بالطبع، طرفاً في السجال النقدي حول العمل. الأمر الذي لا يلغي الحقّ، المبدئي، في التعليق على الفكرة الطروادية ذاتها، بصفة مستقلة؛ والترحيب، استطراداً، بمبادرة فنّية وثقافية وتربوية، قد تنطوي أيضاً على العنصر النفسي والعلاجي الذي يمكن أن يوفّره العرض للاجئين السوريين في الأردن (الذين سُمح لهم بحضور العرض مجاناً)، فضلاً عن المردود المادّي الذي سيُخصص لتحسين شروط لجوئهم (حسب وكالة أنباء "رويترز"، حقّقت المسرحية، في يومين، مبلغ 100 ألف دولار أمريكي).

أعود إلى طروادة، إذاً، لأشير إلى أنّ وقائع حصار هذه المدينة، ثمّ سقوطها وتدميرها بعدئذ، صنعت الحكاية غير الدينية الأكثر سرداً وتناقلاً وإلهاماً واستلهاماً على مدى التاريخ. ولقد توفّرت، في كلّ الأحقاب الرئيسية من عمر البشرية، هذه الحزمة أو تلك من الشروط التي تشجّع على استعادة الحكاية وتوظيفها بما يخدم سلسلة من الوظائف الإيديولوجية والأخلاقية والسياسية والتعبوية والمعنوية والثقافية. وإذا كان من غير المدهش أن تتحوّل أمثولة طروادة إلى مصدر للاقتداء والتماهي عند الشعوب والجماعات المقهورة، أو تلك التي تعيش مأزق هوية من أيّ نوع، أو تبحث عن أصل تليد أفضل ممّا تنتسب إليه فعلياً؛ فإنّ من غير المدهش، على قدم المساواة، أن يكون القاهر نفسه محتاجاً، بدوره، إلى الأمثولة ذاتها!

لقد سقطت طروادة على أيدي الإغريق، الذين كانوا المجموعة الأقوى شوكة في تلك الأحقاب؛ ثمّ فرّ الأحياء من أبناء طروادة إلى إيطاليا، بعد أن مرّوا بمملكة قرطاجة وعاثوا فيها فساداً، لتأسيس الإمبراطورية الرومانية التي لن تغرب عنها الشمس، بحيث انقلب المقهور إلى قاهر (كما تروي ملحمة فرجيل "الإنيادة").
وعلى مرّ العصور احتاجت الزعامات الإمبريالية إلى ملاحم من طراز الحروب الطروادية. وحين وطأ الإسكندر المقدوني سهل طروادة الذي شهد سفك دماء الآلاف، كانت أوّل خاطرة تعبر ذهنه هي التالية: من أين لي بهوميروس جديد يفعل معي ما فعل ذلك الشاعر الأعمى مع آخيل! وفي مسرحية شكسبير الشهيرة، لكي يقدّم هاملت العرض المسرحي الأكثر تأثيراً في النفوس، يطلب من الممثلين أداء ذلك الجزء من "الإنيادة"، حين يروي إينياس لملكة قرطاج، ديدو (إليسا، عليسا، أليسار...)، وقائع خراب مدينته طروادة واجتياحها وتدميرها.

وفي سنة 2004، حين شهدت صالات العالم عروض فيلم "طروادة"، أحدث اقتباس هوليودي للملحمة الطروادية وأكثرها كلفة (175 مليون دولار) وفخامة وسطحية؛ لم تكن المصادفة الزمنية هي وحدها التي جعلت الكثيرين  يربطون بين الملك الإغريقي أغاممنون كما يظهر في في شريط ولفغانغ بيترسن، ووزير الدفاع الأمريكي دونالد رمسفيلد كما يظهر في أشرطة البنتاغون! وفي قلب مهرجان كان الفرنسي، اعتبر النجم براد بيت، الذي يؤدي دور آخيل في الشريط، أنّ هذه الحكاية التي تروي التعطش للدماء، وحصار الشعوب، وشهوة السلطة، وجشع الملوك؛ لا يمكن إلا أن تتوازى، مباشرة وبوضوح، مع ما يفعله زعماء أمريكا وبريطانيا في العراق.

وذات يوم، في برهة حاسمة من تاريخه الشخصي الوطني والجمالي، حين كان مكتبه في رام الله محاصراً من دبابات أرييل شارون، قال محمود درويش: "خياري أن أكون شاعراً طروادياً. أنا منحاز تماماً إلى الخاسرين، الخاسرين المحرومين من حقّ تسجيل خسارتهم". وأيضاً: "أنا فعلاً منحاز إلى طروادة لأنها الضحية، ولأنّ تربيتي وتكويني النفسي وتجربتي هي تجربة الضحية. وصراعي مع الآخر محوره: مَن منّا هو الأحقّ بموقع الضحية؟". كذلك، أخيراً: "أختار أن أكون طروادياً. أختار أن أكون شاعر طروادة، لأنّ طروادة لم ترو قصتها. نحن حتى الآن لم نرو قصتنا رغم كل الكتابات التي كتبناها. وهذا ما يفسّر مقطعاً قلت فيه إن من يكتب حكايته يرث أرض الكلام".

لا يُلام السوريون، إذاً، حين يلتمسون في التاريخ الطروادي قبسة ارتقاء بالحسّ التراجيدي، الإنساني الكوني؛ أو حين يبدو الغزو الخارجي في طروادة وكأنه طبعة معاصرة من الاحتلالات العسكرية والأمنية والمذهبية الداخلية في سورية، فيتماهى أغاممنون مع بشار الأسد؛ أو حين يتنبه السوريون، الآن وليس غداً، على نقيض ممّا فعل الطرواديون، إلى الأخطار المحدقة التي تحملها أحصنة كثيرة مطهمة، دخلت إلى قلب الانتفاضة، أو تتزاحم على البوابات!

الاثنين، 23 ديسمبر 2013

على ذمة غالاوي وفيسك: براءة الأسد من دم عباس خان!

إذا ظنّ امرؤ أنه رأى الأقصى، والأشدّ قباحة وفداحة، في الأداء الدبلوماسي لرجال النظام السوري؛ فإنّ ذلك الظنّ سرعان ما يتبدد حين يصغي المرء ذاته إلى تعليق فيصل المقداد، نائب وزير خارجية النظام، على مقتل الطبيب البريطاني عباس خان (32 سنة)، إعداماً أغلب الظنّ، في معتقل كفر سوسة، بعد اعتقال دام 13 شهراً. أمّا إذا كان امرؤ ينتظر من المقداد، أو رئيسه المباشر وليد المعلّم، أو زميله بشار الجعفري مندوب النظام لدى الأمم المتحدة، أداءً أقلّ رثاثة وانحطاطاً وإسفافاً؛ فإنّ الانتظار ذاك لا يقتصر على الجهل بطبائع عمل السلطة هناك، وأواليات اشتغال أجهزة "الحركة التصحيحية" كافة، طيلة 43 سنة؛ بل يشمل، أيضاً، تجاهل سمة كبرى في المعمار السلوكي للنظام: أنّ الكذب ملح الرفاق!

ففي حديث مع إذاعة الـBBC، باللغة الإنكليزية (لكي يبرهن أنه في عداد "وجوه سَحّارة" النظام الدبلوماسية، أي أولئك الذين يتولون تجميل موبقات الاستبداد والفاشية والفساد والهمجية)، يقول المقداد إنه حزن عندما اتصلوا به فجأة وأبلغوه بأنّ "الرجل مات"؛ ويتابع: "أوه! أصابتني صدمة حقاً. ما الذي حدث؟ ثمّ بدأت أجمع المعلومات". وهكذا، قيل له التالي: الطبيب البريطاني استفاق "وهو في أحسن حالاته"، و"معنوياته عالية"، فتناول إفطاره، حوالي الساعة السابعة صباحاً، ثمّ أخلد إلى الراحة "في غرفته"؛ وحين أتوا لاصطحابه "كي يتنفس كالعادة خارج غرفته"، قرعوا بابه، فلم يردّ؛ ثمّ "اكتشفوا أخيراً أنه كان ميتاً، وفي الحقيقة خلع منامته، وعلّقها على شيء ما في النافذة أو الجدار، وانتحر. وهذا ما حدث بالضبط".

وللوهلة الأولى يخال المرء أنّ خان كان نزيل منتجع وليس زنزانة، في ضوء تفاصيل الإفطار والراحة والمعنويات والقرع على الباب قبل الدخول، وكأنّ عناصر الأمن (الذين لا تُعرف عنهم غير الخصال الوحشية والسادية) كانوا خدماً في فندق من فئة خمس نجوم. كذلك يرتاب المرء في أنّ المقداد يستطيع، بافتراض أنه سيغامر ويتجاسر ويحاول، "جمع معلومات" من أدنى عنصر، في أصغر جهاز أمن؛ فيدلي بأيّة معلومة غير تلك التي ستصله عن طريق التسلسل، فيؤمر بترديدها كالببغاء. أمّا حكاية الانتحار باستخدام المنامة، فإنّ تكذيبها أتى أوّلاً على لسان المقداد نفسه، حين ادّعى أنّ الطبيب البريطاني كان في حال نفسية ومعنوية طيبة ذلك الصباح؛ قبل أن يثنّي على تكذيب الكذبة إياها أحد أبواق النظام، النائب البريطاني جورج غالاوي، الذي تساءل: ما الذي يدفع خان إلى الانتحار، بعد موافقة الأسد شخصياً على إطلاق سراحه؟

والحال أنّ مواقف غالاوي، إزاء النظام السوري عموماً، وفي تفسير هذه الواقعة الأخيرة تحديداً، تنقلنا إلى مستوى ثانٍ من الابتذال والإسفاف والتزييف؛ لأنّ النائب البريطاني يساجل على هذا النحو: لسنا نقول إنّ الأسد مسؤول عن موت خان، ولكن لا بدّ من وجود مسؤول ما! إنه، بذلك، يعيدنا إلى تلك الخرافة التي سادت ـ لدى أنماط واسعة النطاق من الساسة والمراقبين، هنا وهناك في العالم، وحتى لدى بعض معارضي النظام السوريين في السنوات الأولى من توريث الأسد الابن ـ وكانت تقول إنّ بطانة الأخير هي وحدها السيئة، وأنه "شابّ" و"عصري" وإصلاحي". وغالاوي يستعيد الخرافة، تماماً على القياس الميكانيكي، المسطح والتسطيحي عن سابق عمد وتصميم، الذي جعله ينزّه النظام عن استخدام الأسلحة الكيميائية ضدّ الغوطتَين الشرقية والغربية، لمجرّد أنّ محققي الأمم المتحدة كانوا يومذاك في دمشق، يقيمون في فندق على مبعدة ستة كيلومترات من موقع الهجمة!

وبسبب صداقته هذه مع النظام، ولكي يُمنح "مكافأة" إنسانية على أتعابه الانتهازية، استقرّ رأي الأسد على اختيار غالاوي بالذات لكي يأتي إلى دمشق، ويتسلّم الطبيب البريطاني اليوم بالذات، الجمعة، بحيث يكون الأخير بين أفراد أسرته وأهله أثناء أعياد الميلاد. وغالاوي يزعم أنه اشترى تذكرة الطائرة، بالفعل، وكان يستعدّ للسفر حين أعلمته أسرة خان بنبأ "انتحار" الرجل في زنزانته؛ الأمر الذي يرفضه غالاوي بالطبع: "حتى الساعة لم يُقدّم لنا تفسير مقبول. أمر يصعب تصديقه أن ينتحر رجل قبل أربعة أيام تسبق الإفراج عنه. اتصل بي وزير سوري بالنيابة عن الرئيس كي أسافر إلى دمشق قبل أعياد الميلاد واصطحب عباس خان. نحن نريد تفسيراً". وكأنّ أيّ تفسير آخر، سوى أكذوبة الانتحار هذه، يمكن للنظام أن يوفّره حتى لأصدق أصدقائه وأخلصهم؛ أو كأنّ التفسير الذي ينتظره غالاوي يمكن أن يشرح، أيضاً، سبب اعتقال طبيب جرّاح بريطاني، ومبرّر إبقائه قيد الاحتجاز والتعذيب طيلة 13 شهراً، ليس لأيّ ذنب آخر سوى أنه جاء متطوعاً لعلاج سوريين مدنيين.

ما لا يقلّ رثاثة وإدقاعاً، فضلاً عن التسطيح المتعمد ذاته، هو موقف الصحافي البريطاني المخضرم روبرت فيسك؛ الذي لا يوفّر مناسبة دون أن يبرهن على أنّ أفدح سقطاته المهنية لم تكن تلك التي قادته، مطلع الانتفاضة السورية، إلى التصديق، ثمّ المصادقة بحماس على، ما يمكن أن يبوح به معتقل تمّ إحضاره إلى مكتب... أحد ضبّاط استخبارات النظام السوري! وفي قضية خان هذه، أدلى فيسك بدلوه فخرج بالنظرية ـ التحفة التالية: "هل كان أحدهم يحاول تخريب العلاقات، المتحسنة باضطراد رغم أنها ما تزال مجمدة، بين الرئيس السوري وبريطانيا والولايات المتحدة؟ مَن الذي سيرغب في منع هذا التحسن؟ السعودية؟ بالطبع. قطر؟ قطعاً. إسرائيل؟ لِمَ لا؟ ولكن الإيحاء بأنّ أياً من هؤلاء الثلاثة يمكن أن يهندس مقتل الإنكليزي الشاب في سجن دمشقي، أمر منافٍ للعقل".

فإذا كان منافياً للعقل، كما يقرّ فيسك نفسه، فما الغاية من طرحه إذاً؛ إلا إذا كانت الخلفية، الأخرى الفعلية التي يتمسك بها فيسك، هي التالية: "موت عباس خان يثير اليوم إمكانية أن يكون أناس داخل الحكم السوري في دمشق يريدون تحدّي سلطة وسمعة رئيسهم نفسه. من الواضح أنّ السوريين أرادوا إبداء ملمح لحسن النيّة تجاه الغرب عن طريق إطلاق سراح الدكتور خان، إلا أنّ وفاته توحي بأنّ ثمة أولئك الذين يرغبون في تدمير فُرَص الأسد في المصالحة مع القوى الغربية التي كانت، قبل أشهر قليلة، تعتزم تدمير نظامه في ضربة عسكرية". وبالتالي، إذا صحّ هذا الافتراض، بعد تأكيد فيسك نفسه بأنه لا يصدّق رواية الانتحار، فمَن هم أولئك الذين يسعون إلى تخريب سمعة الأسد، أو سدّ آفاق مصالحته مع الغرب؟

لا يراهن أحد على أنّ فيسك سيسعف قارئه بإجابة ما، أية إجابة في الواقع، حول هوية هؤلاء؛ هو الذي سبق له أن قابل من رجال النظام كلّ الأصناف، ابتداءً بالوزير الأشبه بالبيدق، مروراً بضابط الاستخبارات، وانتهاءً بحاشية الأسد المقرّبة وأهل بيته. وليس للمرء أن ينتظر معلومة واحدة ملموسة، أو غير منافية للعقل، من صحافي مخضرم سبق له أن امتدح "عصرية" أسماء الأخرس، وتنبأ بأنّ أية انتفاضة شعبية لن تقع في "سورية الأسد"، وهو اليوم يعتبر أنّ "الضربة العسكرية الصغيرة المحدودة للغاية"، التي كان أوباما قد هدّد بها، كانت تستهدف "تدمير" نظام الأسد. وما القول في المحلل المخضرم إياه، يزعم في أوّل مقالته أنّ صلاته الشخصية بمعارفه داخل النظام السوري أفادت بأنّ قضية الطبيب البريطاني "صارت بين أيدي أرفع المسؤولين السوريين"؛ ثمّ يستخلص، في ختام المقالة، أنّ بعض هؤلاء يتآمرون للإضرار بسمعة "رئيسهم"؟

وقبل زمن غير بعيد، حين كانت الانتفاضة الشعبية في أشهرها الأولى، شاء الأسد أن يكون أندرو غليغان، الصحافي البريطاني المعروف بعواطفه الجارفة المنحازة لإسرائيل، أوّل صحافي غربي يجري معه حواراً مباشراً منذ انطلاقة الانتفاضة السورية. كذلك اختار، استطراداً، صحيفة هي الـ"صنداي تلغراف" التي تُعدّ، أسوة  بقرينتها الأمّ، الـ"دايلي تلغراف"، منبراً مكرّساً للدفاع الأعمى عن إسرائيل والصهيونية العالمية، فضلاً عن خطّها اليميني المحافظ إجمالاً. وفي جولة صحفية لاحقة، وقع اختيار الأسد على برباره والترز، الإعلامية الأمريكية اليهودية، لكي تكون صاحبة الحظّ السعيد في إجراء مقابلة متلفزة هي الأولى من نوعها مع قناة رئيسية غربية، الـ ABC، منذ ابتداء الانتفاضة.

كلا المقابلتين اكتسبت خصوصيتها، كما حققت انتشارها الواسع، نتيجة اجتماع عاملين: أنّ الجهة التي أجرتها كانت نافذة إعلامياً وسياسياً، وأنّ الأسد زوّد محاوره ومحاورته بمادّة دراماتيكية شدّت الانتباه (الحديث، مع غليغان، عن إحراق المنطقة إذا تعرّض نظامه لأذى؛ ونفي مسؤولية الأسد الشخصية عن أعمال القتل التي ترتكبها أجهزة النظام، في الحوار مع والترز). ولهذا فإنّ الارتياب في اختيار والترز وغليغان، تحديداً، انبثق من حقيقة مشتركة مفادها أنّ حصيلة المقابلتين كانت واحدة تقريباً، أي تبييض صفحة النظام، والترويج لروايته عن "العصابات المسلحة" و"المندسين"، فضلاً عن تلميع شخص الأسد وإعادة إنتاجه كسياسي شرق ـ أوسطي "عصري"، "منفتح"، "درس في الغرب"، و"يتقن اللغة الإنكليزية" و"متزوج من سيدة تربّت في الغرب". أمّا الشطر الثاني من الحصيلة فقد كان الإيحاء بأنّ العاصمة السورية "آمنة" و"مسالمة" و"خالية من التظاهرات"، حتى أنّ والترز صرّحت بأنها تجوّلت في دمشق دون حارس شخصي، وأنها "لم تشعر في حياتها بالأمان كما شعرت به وهي تتسكع لوحدها في طرقات دمشق"!

وتلك حصيلة كان في وسع المرء أن يتفهمها من إعلام إيراني أو صيني أو روسي، ولكن أن تأتي من إعلاميين يهود أو أصدقاء خلّص لإسرائيل، أمر استدعى ترجيح دوافع أخرى أبعد غرضاً من مجرّد تحقيق السبق المهني. وهذا يقود المرء إلى تساؤل رديف: فماذا، إذاً، عن حصيلة ذات طبيعة مماثلة، تبريرية وتسويغية ودفاعية، مثل هذه التي تأتي من أمثال غالاوي وفيسك، المحسوبين عموماً على اليسار، أو الوسط، أو الصفّ المعادي لليمين؟ ثمة، هنا، إجابات شتى متعددة، سياسية وأخلاقية وإيديولوجية ومهنية؛ ولكنها تنتهي، جميعها، في كثير أو قليل، عند ذاك الضمير الذي يتعطل أو ينحرف أوبتعامى بعد أن  يُشترى، والذي ـ إذْ يتعرى تماماً، وينفضح ويُفتضَح ـ لا يملك إلا الإطراق أرضاً، بحثاً عن ورقة توت... تغطي العورة المنكشفة!
19/12/2013

الاثنين، 16 ديسمبر 2013

هل كان إدوارد سعيد سيناصر الانتفاضة السورية؟

 في ختام محاضرة تشرّفت بإلقائها خلال أعمال مؤتمر حاشد في تكريم الراحل الكبير إدوارد سعيد (1935 – 2003)، نظمته "دار ثقافات العالم" HKW، في برلين، مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي؛ طُرح عليّ السؤال المزدوج التالي: كيف تفترض طبيعة موقف سعيد من الانتفاضة السورية، لو كان اليوم على قيد الحياة؟ وكيف، أو بماذا، كانت نظرته ستختلف عن أمثال طارق علي أو سلافوي جيجيك، اللذَين انتقدتَ مواقفهما في محاضرتك؟

ورغم أنّ السائل لم يكن، البتة، يتقصد اقتيادي إلى شرك، أو يتعمّد دفعي إلى عالم الافتراض بعد أن أدرتُ السجال في محاضرتي حول الواقع والوقائع حصرياً؛ فإنّ السؤال المزدوج كان يفضي إلى هذا وذاك، معرفياً على الأقلّ، ومنطقياً أيضاً. ولهذا فقد بدأت إجابتي بالقول إنني لا أفترض أمراً، بل إنني لا أرجّح كذلك، ولا أستنطق غائباً، وأقصى ما أستطيع السماح لنفسي به هو هامش متواضع من التكهن، أتكاءً على معطيات قياس توفّرها مواقف سعيد وأفكاره بصدد قضايا مماثلة؛ وكذلك ما يتوفر من محطات ذات دلالة، في سلوكه وخياراته الشخصية، إزاء النظام السوري.

ولقد بدأتُ بهذا العنصر الأخير، فاستذكرت أنّ الراحل رفض على الدوام زيارة النظام السوري، رغم أنّ الدعوات كانت تتقاطر عليه، من جهات سلطوية (مكاتب حافظ الأسد، ثمّ وريثه، وقيادة حزب البعث، والنائبة للشؤون الثقافية نجاح العطار...)؛ أو حكومية (وزارات التعليم العالي، والثقافة، والإعلام...)؛ أو شبه سلطوية (اتحاد الكتّاب، واتحاد الصحافيين، ونقابة المعلمين، واتحاد الطلاب...). كان سعيد يدرك القواسم المشتركة التي تجمع هذا النظام بسواه من الدكتاتوريات العربية، ولكنه ميّزه من حيث طبيعة الأذى الشديد الذي ألحقه بالقضية الفلسطينية، ودوره في الحرب الأهلية اللبنانية، وانضمامه إلى تحالف "عاصفة الصحراء". كذلك طوّر، في قرارة نفسه، شعوراً جارفاً بالنفور من هذا النظام تحديداً؛ لأنّ سورية، البلد والشعب والتاريخ والحضارة، لا تليق بها هذه الأنساق البغيضة من الاستبداد والفساد، وتغييب السياسة والثقافة والفكر، وتفتيت اللحمة الوطنية...

وفي مقالاته، السياسية خاصة، تحدث سعيد عن مجزرة حماة، 1982، وكيف ذبح الأسد الأب آلاف المواطنين السوريين في سياق استماتته لدحر المعارضة الإسلامية. وفي قراءة النزاع مع منظمة التحرير الفلسطينية، أوضح أنّ النظام السوري اعتاد امتطاء القضية الفلسطينية لصرف الأنظار عن القمع الداخلي، ولم يستهدف إلا السيطرة والهيمنة، بمعزل عن أيّ قِيَم أو مبادىء أو أفكار، وشنّ على الفلسطينيين حرباَ شعواء بل هوادة. ولم تفته الإشارة إلى أنه واصل إعلان هذه المواقف الناقدة، حتى حين كان بعض أفراد أسرته وأقاربه يقيمون في لبنان، حين كان البلد واقعاً تحت سلطة النظام السوري العسكرية والأمنية.

وفي مقال بعنوان "التجربة الفلسطينية"، يصف سعيد برهة فريدة، أتاحت هذا التعليق الاستثنائي: "حين كانت الطائرة المتجهة إلى عمّان تحلّق فوق دمشق، كان مظهر المدينة من الجوّ يؤكد انطباعي عنها، بوصفها العاصمة العربية الأشدّ استعصاءً. لقد بدت غاصّة بالتبدّلات القسرية الكتيمة. والنظام السوري، الذي شبك الألغاز البلاغية للسياسة البعثية بالمستغلقات السرّية للديانة العلوية، سدّ أبواب الولوج إلى البلد، وحوّل أنظار المراقب بعيداً عن نكهة الحياة فيها". وفي مقال آخر، بعنوان "جناح اليمين العربي"، لا يحكم سعيد على النظام السوري بانفصام الشخصية، بالمعاني المرَضية الأشدّ، فحسب؛ بل يرى أنّ الأسد ظلّ يتصرّف وكأنه مفوّض باتخاذ ما يشاء من قرارات، بالنيابة عن الفلسطينيين واللبنانيين، بعد السوريين!

فإذا جاز التكهن بأنّ مواقف سعيد، لو كان حيّاً بيننا اليوم، سوف تكون متعاطفة تماماً مع الانتفاضة الشعبية السورية، قياساً على بغضه لنظام الأسد الأب أسوة بوريثه؛ فهل يجوز القول، استطراداً، أنه كان سيرى واقع القوى الإسلامية داخل المعارضة السورية، على نحو مختلف، مقارنة بمواقف طارق علي وسلافوي جيجيك؟ أميل، بقوّة، إلى الردّ بالإيجاب؛ وهذا ما سعيت إلى البرهنة عليه في محاضرة برلين، قبل أن أتكهن به ردّاً على سؤال السائل، ضمن الخطّ السجالي التالي: يصعب ألا تكون مواقف سعيد شديدة الاختلاف مع، وناقدة تماماً لتلك، التنميطات الاستشراقية الجديدة، التي تضع كلّ القوى الإسلامية في سلّة واحدة، أو تنتفي تماماً الدينامية الاجتماعية ـ التاريخية، المادية والملموسة، التي كانت وراء صعودها. وصعب، تماماً، أنّ "العلمانية"، الكاذبة الزائفة الجوفاء، التي يتذرع بها النظام السوري، كانت ستخدع سعيد كما خدعت سواه.

هذا معلّم كان سيرشدنا ـ  نحن الأمسّ حاجة إلى التتلمذ على يديه، هنا تحديداً! ـ إلى طرائق الانشقاق عن المألوف، والمعطى الجاهز، والكليشيه، والتنميط المصطنَع المصنَّع؛ ليس في نقد الإسلاميين، والاختلاف معهم، في كلّ ما هو مبدئي وجوهري وصميمي، فحسب؛ بل كذلك في مقارعتهم عن طريق اقتراح برامج بديلة، ديمقراطية وطنية بالمعنى الشعبي الأصيل الأعمق، وعلمانية مدنية تعددية لا تردّ على التشدد بمغالاة وغطرسة، ولا تواجه التطرّف بتعنت وإقصاء. وكنّا، أغلب الظنّ، لن نشفق على جيجيك وأضرابه من الحَوَل الذي يعتور نظرتهم إلى الانتفاضة السورية؛ بل سنردّ بالإمعان أكثر، وأعمق من ذي قبل، في إعادة قراءة المعلّم!

السبت، 14 ديسمبر 2013

شيعة العراق في سورية: من المستنقع إلى الحمأة؟

شريط الفيديو، الذي نُشر مؤخراً على موقع "يوتيوب"، يُظهر مجموعة شبّان عراقيين من أنصار مقتدى الصدر، يرتدون اللباس العسكري المموّه، ويحملون رشاشات ومسدسات، ويهزجون بحميّة دينية طافحة، مطالبين بأخذهم إلى الشام، لمحوها من الوجود. قبل هذا، انتشرت صورة فوتوغرافية لمقاتل عراقي شيعي، يقتاد مواطناً سورياً في ستينيات عمره، من أبناء مدينة النبك، لكي يعدمه رمياً بالرصاص. صورة ثالثة تبيّن مسلحاً عراقياً، باللباس المموّه، وسط نفر من زملائه، يحمل رزمة من النقود لاح أنه قبضها لتوّه لقاء "خدمة" ما، أو نهبها خلال عملية عسكرية. وخلال الأسابيع القليلة الماضية، خاصة مع احتدام المعارك في منطقة القلمون، تكاثرت أشرطة وصور مماثلة، تكشف سلسلة من المظاهر والأفعال والممارسات الفاشية المقترنة بالميليشات العراقية المساندة لنظام بشار الأسد.

المرء يخال، للوهلة الأولى، أنّ هؤلاء نفروا إلى سورية (أو إلى "الشام" تحديداً، كما يقولون)، خفافاً وثقالاً، دفاعاً عن المقدّسات الشيعية، وفقاً للأكذوبة الكبرى (التي أطلقها حسن نصر الله، الأمين العام لـ"حزب الله"، وتتردد اليوم على كلّ شفة ولسان في أوساط هذه الميليشيات المذهبية)؛ وذلك بعد أن طهروا بلدهم، العراق، من "التكفيريين" و"الإرهابيين" و"المتشددين" و"الغلاة"... أجمعين! لكنّ الأخبار تتناهى، كلّ يوم في الواقع، فلا تفيد إلا العكس: أي عودة عمليات "القاعدة" على نحو أشدّ، وأوسع نطاقاً، وأكثر تعقيداً من حيث التكتيك العسكري، خاصة في الجانب الذي يخصّ تنفيذ عدد متزامن من العمليات المتباعدة جغرافياً. كذلك فإنّ أوضاع التنظيمات السياسية العراقية، ذات الطابع المذهبي الصريح أو المستتر، ليست البتة في وضع مريح يتيح لها التفرّغ لأداء "تكليفات شرعية" على أراضي الآخرين.

وبالطبع، ليس جديداً ـ وهو أمر مؤسف، في المحصلة ـ أن يقول المرء إنّ ما يجري في العراق بعد مرور عقد على "التحرير" هو بعض تجليات المعادلة الجدلية العسيرة وراء غزو عسكري سهل، مارسته قوّة عظمى، نصّبت أنصارها وأزلامها في سدّة الحكم، دون التبصّر في معضلات السلام الأهلي الذي يعقب الغزو. ولقد قلنا من قبل، مثل سوانا في الواقع، إنّه سوف يتعين على الغازي الأمريكي مواجهة معضلات عاجلة تحتاج إلى حلول عاجلة، وذلك قبل أن يجد نفسه عالقاً أكثر فأكثر في وحول المستنقع العراقي، وقبل أن يصبح وجهاً لوجه أمام المعضلات الكبرى للشطر الأصعب في سيرورة الغزو: هضم العراق، البلد والحضارة والتنوّع الفسيفسائي المعقد، وبلوغ درجة دنيا من السلام الذي لا مناص من بلوغ بعضه قبل إعلان الظفر الشامل.

وفي مطلع نيسان (أبريل) 2003، حين سقطت العاصمة العراقية بغداد في قبضة الغزو الأمريكي، كان دويل ماكمانوس، الكاتب في صحيفة "لوس أنجليس تايمز" الأمريكية، قد نقل عن ضابط في قوّات الـ"مارينز" قوله، بعد دقائق من توغّل دبابات وحدته في قلب بغداد: "ها قد وصلنا. نحن الكلب الذي اصطاد السيّارة. ماذا سنفعل بها الآن"؟ وفي الواقع كان الضابط الأمريكي (الحصيف، الحكيم، المتطيّر شرّاً، كما يلوح) يعيد باللغة اليانكية صياغة الحكمة الشهيرة التي أطلقها في مطالع القرن التاسع عشر كارل فون كلاوزفيتز، الضابط البروسي الشهير وأحد أعظم أدمغة التفكير في شؤون الحرب ومعضلات السلام الذي يلي الانتصار العسكري: "في الحرب ليس ثمة نتيجة نهائية".

وكان الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، الابن، بحاجة إلى هذه المغامرة العسكرية في العراق، ليس لأنها بدت "نبيلة وضرورية وعادلة"، كما سيقول؛ بل لأسباب ذاتية تخصّ إنقاذ رئاسته الأولى ومنحها المضمون الذي شرعت تبحث عنه بعد مهزلة إعادة عدّ الأصوات في فلوريدا، وبالتالي صناعة ـ وليس فقط تقوية ـ حظوظه للفوز بولاية ثانية. وكان بحاجة إلى هذه الحرب لأنّ مصالح الولايات المتحدة تقتضي شنّها، لثلاثة أسباب ستراتيجية على الأقلّ: 1) تحويل العراق إلى قاعدة عسكرية أمريكية ضخمة وحيوية، تخلّص أمريكا من مخاطر بقاء قوّاتها في دول الخليج، وما يشكّله هذا الوجود من ذريعة قوية يستخدمها الأصوليون لتحريض الشارع الشعبي ضدّ الولايات المتحدة، وتشجيع ولادة نماذج جديدة من «القاعدة» وأسامة بن لادن؛ و2) السيطرة على النفط العراقي، التي تشير كلّ التقديرات إلى أنه الآن يعدّ الإحتياطي الأوّل في العالم، أي بما يتفوّق على المملكة العربية السعودية ذاتها؛ و3) توطيد "درس أفغانستان" على صعيد العلاقات الدولية، بحيث تصبح الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، ومعظم أجزاء العالم في الواقع، مطلقة أحادية لا تُردّ ولا تُقاوم.

آنذاك قال بوش في "الديمقراطية العراقية القادمة" ما عجزت عن تدبيجه أقلام أكبر الكذبة المنافقين من رجالات "المعارضة" العراقية، فلم يترك زيادة لأي مستزيد بينهم: "إنّ عراقاً محرراً يمكن أن يبيّن قوّة الحرّية في تحويل تلك المنطقة الحيوية عن طريق تقديم الأمل والتقدّم إلى حياة الملايين. إنّ اهتمام أمريكا بالأمن، وإيمانها بالحرية، يقودان معاً إلى اتجاه واحد: إلى عراق حرّ ومسالم". وأغلب الظنّ أنّ هذا لم يكن الرأي الفعلي السائد في أروقة البيت الأبيض الداخلية، على صعيد الصقور مثل الحمائم، لأنّ الجميع كانوا يعرفون حقّ المعرفة أنّ أوّل انتخابات حرّة في العراق سوف تجلب أغلبية شيعية مطلقة، وستُدخل إيران من البوابة الأعرض، إذا لم تكن مرشحة لإعادة إنتاج كوارث شبيهة بما حدث في الجزائر بعد فوز "جبهة الإنقاذ الاسلامية". فوق هذا وذاك، هل كان أحدهم يتنبأ آنذاك بما سيجري في، أو ربما سمع لتوّه باسم، مدينة الفلوجة؟ هل كانوا، بمعزل عن السيستاني والحكيم، قد سمعوا باسم مقتدى الصدر؟

ولقد كُتب الكثير في وصف انقلاب السحر على الساحر الأمريكي، ولعلّ من الدالّ أن يقتبس المرء توصيف الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما: هذه الحرب، الأطول من الحربين العالميتين الأولى والثانية، والأطول من الحرب الأهلية الأمريكية، جعلت أمريكا أقلّ أماناً، وأضعفت نفوذها في العالم، وزادت من قوّة إيران، وعزّزت حركة "طالبان" وكوريا الشمالية وتنظيم "القاعدة"... ما لم يقله أوباما هو أنّ هذه هي الحال الكلاسيكية التي أخذت تنتهي إليها جميع حروب الإمبراطورية الأمريكية المعاصرة، بوصفها أسوأ مَن يستخدم الجبروت العسكري، وبالتالي أردأ مَن يتعلّم دروس التاريخ. ويكفي استعراض "طرائق" محاربة "القاعدة" في العراق، والتي تباحث فيها أوباما مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي مؤخراً، لكي يدرك المرء الحدود القاصرة التي انتهت إليها عملية اصطياد السيارة، وفق تعبير الضابط الأمريكي المتشائم.

آنذاك، أيضاً، لم يتلكأ رجل مثل هنري كيسنجر في إطلاق صفة "الحرب الأهلية" على أعمال العنف، والإفتاء بأنّ تقسيم العراق على أسس إثنية قد يكون المخرج؛ هو الذي أنبأنا قبلئذ أنّ احتلال العراق كان محض تفصيل في تخطيط أعلى يستهدف لجم الإسلام المتشدد! ففي مقالة مسهبة بعنوان "دروس من أجل ستراتيجية مخرج"، نشرها أواخر آب (أغسطس) 2005، كتب حكيم الدبلوماسية الأمريكية يقارن بين فييتنام والعراق: "من المؤكد أنّ التاريخ لا يكرّر نفسه بدقّة. فييتنام كانت معركة تخصّ الحرب الباردة؛ وأمّا العراق فهو  أحدوثة Episode في الصراع ضدّ الإسلام الجذري (...) الحرب في العراق لا تدور حول الشأن الجيو ـ سياسي بقدر ما تدور حول صدام الإيديولوجيات والثقافات والعقائد الدينية. ولأنّ التحدّي الإسلامي بعيد النطاق، فإنّ الحصيلة في العراق سيكون لها من المغزى العميق أكثر ممّا كان لفييتنام. فلو قامت، في بغداد أو في أيّ جزء من العراق، حكومة على شاكلة الطالبان أو دولة أصولية راديكالية، فإنّ موجات الصدمة سوف تتردّد على امتداد العالم المسلم"...

آنذاك، ثالثاً، كان ستيفن هادلي، مستشار الأمن القومي الأمريكي، قد سطّر مذكّرة سرّية أثار فيها الكثير من الشكوك حول كفاءة المالكي، رغم أنه غضّ البصر عن ملفات كثيرة تخصّ الفساد وسوء إدارة العوائد النفطية والارتهان لإيران... والإنصاف يقتضي القول إنه ما من سبب كان يدعو هادلي إلى التحامل على المالكي، ليس لأنّ رئيس الوزراء العراقي كان رجل الاحتلال المفضّل في المنصب، فحسب؛ بل لأنّ هادلي ساق جملة من الحقائق البسيطة عن الرجل؛ بينها هذه مثلاً: "صحيح أنّ نواياه تبدو طيبة حين يتحدث مع الأمريكيين، إلا أنّ الواقع في شوارع بغداد يوحي بأنّ المالكي إما جاهل لما يجري، وبالتالي فهو يسيء تقديم نواياه، أو أنّ قدراته ليست بعد كافية لتحويل نواياه الطيبة إلى فعل".  

إذا كانت تلك حال رئيس الوزراء الممثل لكتلة الأغلبية البرلمانية المنتخَبة ديمقراطياً، تحت الاحتلال بالطبع؛ فما الذي يمكن أن تسير إليه قدرات الإرهابيين الذي يقودون مفارز الخطف، والإعدام على الهوية، وإحراق البشر أحياء؟ وكيف يمكن للساسة، الذين يتغنى المالكي بقدراتهم على الحلّ والربط متناسياً أنه يقف على رأسهم، جامعاً تمثيل السلطة التشريعية (بوصفه رجل الأغلبية البرلمانية) والسلطة التنفيذية في آن؛ أن يتمكنوا من تربيع دائرة الدم الجهنمية هذه، إذا كانت الحال بأسرها تسير حثيثاً إلى الهاوية؟ وكيف لمعجزة كهذه أن تقع إذا كانت الحال الراهنة في العراق، حيث البون شاسع شاسع بين النوايا في القلوب وعلى الألسن، والجثث في الشوارع والقبور الجماعية ليست طارئة ونتاج العنف غير المسبوق في الأشهر السابقة، بل هي سيرورة متصلة مترابطة كما سيفكر أيّ عاقل؟

أليس المرء، لا سيما إذا مارس رياضة الربط بين الظواهر سنة بعد سنة وشهراً بعد شهر، لكي لا نقول أسبوعاً بعد أسبوع، مخوّلاً ببلوغ خلاصات جلية حول بدء تلك الحال، ومسيرها، ومآلاتها الراهنة؛ كما تتجلى، على سبيل المثال الأبرز، في تشجيع ورعاية هؤلاء المرتزقة، الهمج الجدد الذين ينفرون إلى الشام، بهدف تدميرها ومحوها عن وجه الأرض؟ وهل في الإمكان تصدير الأزمات والمآزق الداخلية إلى الجوار، واصطناع حمأة صراعات شيعية ـ سنّية في سورية، بينما الأقدام عالقة لتوّها في مستنقعات سياسية واجتماعية واقتصادية ومذهبية وطائفية... تكبّل العراق المعاصر؟   

الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

حرسي علي.. الأسد!

 في غمرة المتبارين حول الانتفاضة السورية، أو المتكالبين عليها، من زاعمي الخبرة الجيو ـ سياسية في شؤون وشجون الشرق الأوسط والعالم العربي والإسلام عموماً، ومدّعي الدراسة والدربة والدراية في أدقّ تفاصيل تاريخ سورية واجتماعها واقتصادها وثقافتها؛ لم يكن ينقص إلا... أعيان حرسي علي، دون سواها: المواطنة الصومالية ـ الهولندية، مؤلفة "العذراء في القفص: صرخة امرأة مسلمة في سبيل العقل"، أحدّ أشدّ الأعمال ركاكة وغثاثة وتلفيقاً واختلاقاً حول الإسلام؛ وبطلة شريط ثيو فان غوغ "خضوع"، الذي ظهرت فيه شبه عارية وقد خُطّت على جسدها آيات قرآنية، وأسفر عن اغتيال المخرج واختباء "النجمة" بعد وضعها تحت حراسة أمنية مشددة...

ماذا أبدعت هذه العبقرية عن الانتفاضة السورية؟ أو، بالأحرى، ما الذي يمكن أن تخرج به قريحتها الضحلة، سوى التنميطات الركيكة التي لم تعد مكرورة وفارغة وجوفاء، فحسب؛ بل صارت أقرب إلى النفخ في قربة مثقوبة، أو تشغيل أسطوانة مشروخة كانت نشازاً في الأصل. ما يجري في سورية، وخاصة سقوط مئة الف ضحية (لإنّ الستّ حرسي علي ما تزال واقفة عند هذا الرقم) ليس ناجماً عن وحشية النظام، ولا عن استخدام جميع صنوف الأسلحة الثقيلة، بما في ذلك صواريخ الـ"سكود" والقاذفات والأسلحة الكيميائية؛ بل هو نتيجة طبيعية لامتناع "الثقافة الإسلامية" عن "قبول الآخر"، وعجز المسلم عن تقديم التنازلات لأخيه المسلم، وانعدام مبدأ التفاوض في الشريعة!

"في سورية، تندلع حرب أهلية تتزايد باضطراد طبيعتها الطائفية. وفي تونس، تتعاظم الاحتجاجات ضدّ الحكومة الإسلامية، في أعقاب اغتيال سياسي علماني آخر. وفي ليبيا يتفاقم العنف بين الميليشيات المتنافسة. وهناك، كما في العراق، نشهد السيارات المفخخة واقتحام السجون"؛ وأمّا "فرصة تدخّل غربي فعّال" للمساعدة في إسقاط النظام، فإنها "نُسفت بسبب سيطرة المجموعات الجهادية على الحرب ضدّ الرئيس بشار الأسد""؛ تكتب حرسان علي، على سبيل توصيف مآلات "الربيع العربي"، في تعليق نشره موقع "هفنغتون بوست" الإخباري الأمريكي. وبفضل علومها النيّرة، ومعلوماتها التاريخية الفذّة، نكتشف أنّ النزاعات الدينية التي تشهدها المنطقة ليست عائدة إلى الانقسام السنّي ـ الشيعي (إذْ لا ترد هذه الثنائية على بال حرسي علي، البتة)؛ بل هي ناجمة عن... سقوط الإمبراطورية العثمانية!

مفيد أن يعود المرء بالذاكرة إلى صيف 2006، حين استقالت الحكومة الهولندية ودعت إلى انتخابات برلمانية مبكرة، بعد انهيار ائتلافها الليبرالي جراء انسحاب الحزب الأصغر في التحالف، احتجاجاً على سعي وزيرة الهجرة ريتا فردونك إلى سحب جواز السفر الهولندي من النائبة حرسي علي. ورغم أنّ فردونك كانت تطبّق القانون بحذافيره، على نائبة يحدث أنها تمثّل الحزب الليبرالي ذاته الذي تنتمي إليه الوزيرة، خصوصاً بعد أن أقرّت حرسي علي علانية بأنها خالفت القوانين المرعية وقدّمت معلومات كاذبة في استمارة طلب اللجوء؛ إلا أنّ البرلمان صوّت على قرار يطالب فردونك بإيقاف إجراءات سحب الجواز، الأمر الذي امتثلت له الوزيرة.

كادت القضية أن تنتهي هنا، إذاً، مع تسجيل نقطة لصالح الديمقراطية ضدّ البيروقراطية، خاصة بعد رضوخ الوزيرة العنيدة؛ لولا أنّ حرسي علي برهنت على عناد أشدّ وأمضى، فلم تكتفِ بالاستقالة من البرلمان، وإنما أدارت ظهرها للبلد بأسره، ويمّمت شطر الولايات المتحدة، لتلتحق بالمعهد اليميني المحافظ "أمريكان إنتربرايز"؛ حيث عملت ـ صدّقوا ما تقرأون! ـ "خبيرة" في شؤون الإسلام! "شهادات الخبرة"، التي جعلت المعهد يسارع إلى توظيفها، نهضت على هذا التقريظ (الذي لفّقه أحد الناطقين باسم المعهد، دون أدنى خجل من التخابث الرخيص في حشر الألقاب الدينية كيفما اتفق): إنها "إبنة الإسلام المتمردة على آيات الله"!

مفيد، كذلك، استعراض الشريط التالي، من وقائع حياة هذه المهاجرة: 1992، تصل إلى هولندا، من الصومال، وتحصل في زمن قياسي على اللجوء السياسي بسبب ما تعرّضت له من اضطهاد على يد الإسلاميين في الصومال؛ 1997، تُمنح الجنسية الهولندية، دون مشكلات تُذكر، وفي زمن ماراثوني بالقياس إلى الغالبية الساحقة من الحالات المماثلة؛ 2002 يضمّها الحزب الليبرالي إلى لائحة مرشحيه للبرلمان، فتضطرّ عندها إلى الإقرار بأنها قدّمت معلومات مضللة في طلب اللجوء والجنسية؛ 2003، تفوز في الانتخابات، وبعد سنة فقط تظهر في شريط ثيو فان غوغ... أيّ مسار "مهني" و"أكاديمي"، ذاك الذي أهّلها للعمل "خبيرة" إسلام ومسلمات ومسلمين، في المعهد الأمريكي العريق، الحصين المنيع الذي لا يدخله إلا ثقاة المحافظين والمرضيّ عنهم من أهل اليمين!

ولكن لِمَ العجب، إذا كانت الدورية الشهيرة "فوريين بوليسي"، التي يصدرها معهد كارنيغي الأمريكي الشهير، اختارتها في المرتبة 37 من لائحة الـ 100 شخصية الأكثر تأثيراً في الوظيفة الحساسة التي يطلق عليها الغرب تسمية "المثقف العمومي"؟ ثمّ ما الغرابة ـ من سيدة لم تنتج إلا ركاكة الأقوال عن الشريعة، والعزف على ذات الأوتار التي تطرب خواف الغرب من الإسلام، وتغذية بعض نزوعاته العنصرية ـ في أن تخاطب سفاح سورية بـ"الرئيس"، فيصفّق لها إعلامه، ويتلهف شبّيحته على نسبها إلى آل بيته، ولعلها بذلك تكتسب كنية جديدة: أعيان حرسي علي... الأسد!

الاثنين، 2 ديسمبر 2013

ادخلوا مصر آمنين.. حقاً؟

بلال فضل (الكاتب في صحيفة "الشروق" المصرية، وأحد القلائل الذين يواصلون القبض على جمرة الشجاعة السياسية والنزاهة الأخلاقية، في مصر هذه الأيام)، نشر مؤخراً عموداً عنوانه "بسلام آمنين!"؛ مستوحى، كما هو معروف، من الآية القرآنية "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين"، والتي يجدها الواصل مدوّنة على مدخل مطار القاهرة. لكنّ فضل يريد المعنى النقيض في الواقع، ومن هنا علامة التعجب في عنوان عموده؛ أو، على الأقلّ، يشدّد على التشكيك في أنّ زائر مصر الراهنة يمكن أن يدخلها آمناً، خاصة إذا كان... سوريّ الجنسية!

والعمود ينقل عن الصحافية المصرية نهلة النمر سلسلة مشاهدات، جرى توثيقها وتصويرها، لأحوال "إخواننا اللاجئين السوريين المحتجزين في الإسكندرية"، ويهدي تقرير زميلته إلى "الفريق أول عبدالفتاح السيسي الذى يقولون إنه سيعيد أمجاد القومية العربية فى مصر، وإلى الرئيس القاضي عدلي منصور الذى أقسم بالله أنه لا يوجد أحد يمنعه من ممارسة سلطاته كاملة، وإلى الدكتور حازم الببلاوي قائد الجناح الديمقراطي فى حكومة الحرية الحمراء، وإلى المناضلين القدامى وزراء الحكومة الديمقراطية ورفاق حامي الأمن والأمان اللواء محمد إبراهيم، وإلى كل من كان لديه قلب أو أوعى السمع فهو شهيد".

والنمر تبدأ بتسجيل حقيقة أولى، مفادها أنّ "أخواتنا السوريات" أصبحن في عرف شرطة الإسكندرية "سجينات"، والتهمة هي "محاولة الهرب" من مصر، واعتقالهنّ دائم مفتوح رغم أنّ جميع قرارات النيابة جاءت بإخلاء سبيلهنّ. التفصيل الثاني في التقرير يشير إلى أنّ جميع المحتجزين، ذكوراً وإناثاً، شيباً وشباباً، لديهم تصاريح قانونية بالإقامة في مصر، ولم يتخذوا القرار الصعب بالمغادرة إلا بعد أن تراكمت عليهم أنساق التضييق والمعاملة السيئة والتحريض، فضلاً عن التشكيك السياسي والتأثيم الأخلاقي، عبر وسائل الإعلام أوّلاً (والمرء يتذكر ذلك المذيع الشهير، البهلوان على النحو الأشدّ خسّة ونذالة وافتئاتاً وبهتاناً، الذي اتهم النساء السوريات بممارسة الدعارة المأجورة في اعتصام رابعة). وأمّا الجانب السوريالي في هذا التفصيل، فهو أنّ الجهات الأمنية المصرية ألغت الإقامات تلك، أو أوقفت تمديدها؛ في حين أنّ الشرطة، وسلطات الاحتجاز، مدّدت الإقامات ذاتها... لكي يصبح الاعتقال قانونياً!

التفصيل الثاني (ونعرضه، هنا، بعد تحويل لغته من العامية المصرية إلى الفصحى)، يسير هكذا، حرفياً: وإذا كنّا لا نفهم غرض الأمن من استمرار حبس نساء وأطفال، بينهم رضّع"، في ظروف غير إنسانية ولأسباب غير واضحة، فإنّ ما لا يُفهم أكثر هو تصرفات ضباط قسم "المنتزه تاني" على وجه التحديد، وممارساتهم الغريبة تجاه النساء السوريات المحتجزات، اللواتي خرجن من بلادهنّ هرباً بأعراضهنّ من الاغتصاب، وأتوا إلى مصر كملاذ وحماية بين ظهراني المصريين، فكان جمالهنّ نقمة عليهنّ في بلادنا. ما تتعرّض له النساء السوريات في هذا القسم هو انماط متعددة من التحرش، بينها الشتائم والسباب بكلّ الألفاظ الجنسية التي لم ترد يوماً على آذانهنّ، إلى حدّ دفع إحدى السيدات إلى أن تصرخ في الضابط المتحرش: "لماذا تخاطبنا هكذا؟ نحن نساء شريفات لم نأتِ إلى هنا بسبب تهمة أو ارتكاب إثم". ردّ الضابط الهمام كان فرض عقوبة جماعية، وإغلاق الأبواب على الجميع، ممّا جعل الأطفال يتبوّلون على أنفسهم!

تفاصيل أخرى تتحدث عن طعام المحتجزين، الذي توفّره أصلاً مفوضية اللاجئين وليس إدارة الشرطة، وكيف يُنهب القسط الأعظم منه، فلا يتبقى إلا الفتات، وهذا بدوره يصبح موضوعاً للابتزاز؛ وحين فكّر المحتجزون في الإضراب عن الطعام، احتجاجاً على سوء المعاملة والتحرّش الجنسي، جاءت الفكرة برداً وسلاماً على ضباط الشرطة وعناصرهم، فاستولوا على مخصصات الطعام بأكملها! حكاية وجود حمام واحد للجميع، أي للشرطة مثل المحتجزات والمحتجزين، وما أسفرت عنه من أهوال أخلاقية؛ تدفع النمر إلى القول: ما أعرفه هو أنّ حماية عرض أي إنسانة في بلدنا، هي جزء من عرض وشرف بلدنا.

وإذا كان فضل قد شاء إهداء التقرير إلى السيسي ومنصور والببلاوي وإبراهيم، فإني من جانبي أهديه أوّلاً إلى مثقفين وكتّاب مصريين على شاكلة علاء الأسواني، الروائي والناشط النجم، الذي انزلق بدوره إلى تلك الهوّة السحيقة، المخزية المعيبة؛ فلم يتخذ موقفاً صريحاً يردع أصوات التجريح بالسوريين على أرض مصر، وأمسك العصا من منتصفها، الزائف والتضليلي: طالب بالتمييز بين "الأبرياء" و"العملاء"، فأنعم على الفئة الأولى بالإشفاق، وأنزل بالفئة الثانية العقاب، وكأنّه ـ أسوة بعناصر أجهزة الأمن المصرية، ومحترفي الردح والشتائم على الفضائيات البذيئة المنفلتة من كلّ عقال ـ حامل غربال سحري قادر على كشف سوأة العميل، وردّ اعتبار البريء.

ولستُ، في المقابل، أجد جدوى من إهداء التقرير إلى أمثال جمال الغيطاني (الذي امتدح جيش بشار الأسد مؤخراً، ونزّهه عن ارتكاب المجازر استخدام السلاح الكيميائي)؛ أو حمدين صباحي (لأنّ "العرق دساس"، ومَن امتدح صدّام حسين ذات يوم، يمتدح أضرابه من الطغاة في أيّ يوم)؛ أو فريدة الشوباشي (العاجزة عن التمييز بين استبداد آل الأسد وغلوّ الجهاديين، وبات أفضل شعاراتها اليوم: "نعم، السيسي هو رئيسي"!)؛ واللائحة، للأسف، طويلة طويلة... تبيح التساؤل الجارح، والمشروع: أما زلنا ندخلها، حقاً، آمنين؟