وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 16 ديسمبر 2013

هل كان إدوارد سعيد سيناصر الانتفاضة السورية؟

 في ختام محاضرة تشرّفت بإلقائها خلال أعمال مؤتمر حاشد في تكريم الراحل الكبير إدوارد سعيد (1935 – 2003)، نظمته "دار ثقافات العالم" HKW، في برلين، مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي؛ طُرح عليّ السؤال المزدوج التالي: كيف تفترض طبيعة موقف سعيد من الانتفاضة السورية، لو كان اليوم على قيد الحياة؟ وكيف، أو بماذا، كانت نظرته ستختلف عن أمثال طارق علي أو سلافوي جيجيك، اللذَين انتقدتَ مواقفهما في محاضرتك؟

ورغم أنّ السائل لم يكن، البتة، يتقصد اقتيادي إلى شرك، أو يتعمّد دفعي إلى عالم الافتراض بعد أن أدرتُ السجال في محاضرتي حول الواقع والوقائع حصرياً؛ فإنّ السؤال المزدوج كان يفضي إلى هذا وذاك، معرفياً على الأقلّ، ومنطقياً أيضاً. ولهذا فقد بدأت إجابتي بالقول إنني لا أفترض أمراً، بل إنني لا أرجّح كذلك، ولا أستنطق غائباً، وأقصى ما أستطيع السماح لنفسي به هو هامش متواضع من التكهن، أتكاءً على معطيات قياس توفّرها مواقف سعيد وأفكاره بصدد قضايا مماثلة؛ وكذلك ما يتوفر من محطات ذات دلالة، في سلوكه وخياراته الشخصية، إزاء النظام السوري.

ولقد بدأتُ بهذا العنصر الأخير، فاستذكرت أنّ الراحل رفض على الدوام زيارة النظام السوري، رغم أنّ الدعوات كانت تتقاطر عليه، من جهات سلطوية (مكاتب حافظ الأسد، ثمّ وريثه، وقيادة حزب البعث، والنائبة للشؤون الثقافية نجاح العطار...)؛ أو حكومية (وزارات التعليم العالي، والثقافة، والإعلام...)؛ أو شبه سلطوية (اتحاد الكتّاب، واتحاد الصحافيين، ونقابة المعلمين، واتحاد الطلاب...). كان سعيد يدرك القواسم المشتركة التي تجمع هذا النظام بسواه من الدكتاتوريات العربية، ولكنه ميّزه من حيث طبيعة الأذى الشديد الذي ألحقه بالقضية الفلسطينية، ودوره في الحرب الأهلية اللبنانية، وانضمامه إلى تحالف "عاصفة الصحراء". كذلك طوّر، في قرارة نفسه، شعوراً جارفاً بالنفور من هذا النظام تحديداً؛ لأنّ سورية، البلد والشعب والتاريخ والحضارة، لا تليق بها هذه الأنساق البغيضة من الاستبداد والفساد، وتغييب السياسة والثقافة والفكر، وتفتيت اللحمة الوطنية...

وفي مقالاته، السياسية خاصة، تحدث سعيد عن مجزرة حماة، 1982، وكيف ذبح الأسد الأب آلاف المواطنين السوريين في سياق استماتته لدحر المعارضة الإسلامية. وفي قراءة النزاع مع منظمة التحرير الفلسطينية، أوضح أنّ النظام السوري اعتاد امتطاء القضية الفلسطينية لصرف الأنظار عن القمع الداخلي، ولم يستهدف إلا السيطرة والهيمنة، بمعزل عن أيّ قِيَم أو مبادىء أو أفكار، وشنّ على الفلسطينيين حرباَ شعواء بل هوادة. ولم تفته الإشارة إلى أنه واصل إعلان هذه المواقف الناقدة، حتى حين كان بعض أفراد أسرته وأقاربه يقيمون في لبنان، حين كان البلد واقعاً تحت سلطة النظام السوري العسكرية والأمنية.

وفي مقال بعنوان "التجربة الفلسطينية"، يصف سعيد برهة فريدة، أتاحت هذا التعليق الاستثنائي: "حين كانت الطائرة المتجهة إلى عمّان تحلّق فوق دمشق، كان مظهر المدينة من الجوّ يؤكد انطباعي عنها، بوصفها العاصمة العربية الأشدّ استعصاءً. لقد بدت غاصّة بالتبدّلات القسرية الكتيمة. والنظام السوري، الذي شبك الألغاز البلاغية للسياسة البعثية بالمستغلقات السرّية للديانة العلوية، سدّ أبواب الولوج إلى البلد، وحوّل أنظار المراقب بعيداً عن نكهة الحياة فيها". وفي مقال آخر، بعنوان "جناح اليمين العربي"، لا يحكم سعيد على النظام السوري بانفصام الشخصية، بالمعاني المرَضية الأشدّ، فحسب؛ بل يرى أنّ الأسد ظلّ يتصرّف وكأنه مفوّض باتخاذ ما يشاء من قرارات، بالنيابة عن الفلسطينيين واللبنانيين، بعد السوريين!

فإذا جاز التكهن بأنّ مواقف سعيد، لو كان حيّاً بيننا اليوم، سوف تكون متعاطفة تماماً مع الانتفاضة الشعبية السورية، قياساً على بغضه لنظام الأسد الأب أسوة بوريثه؛ فهل يجوز القول، استطراداً، أنه كان سيرى واقع القوى الإسلامية داخل المعارضة السورية، على نحو مختلف، مقارنة بمواقف طارق علي وسلافوي جيجيك؟ أميل، بقوّة، إلى الردّ بالإيجاب؛ وهذا ما سعيت إلى البرهنة عليه في محاضرة برلين، قبل أن أتكهن به ردّاً على سؤال السائل، ضمن الخطّ السجالي التالي: يصعب ألا تكون مواقف سعيد شديدة الاختلاف مع، وناقدة تماماً لتلك، التنميطات الاستشراقية الجديدة، التي تضع كلّ القوى الإسلامية في سلّة واحدة، أو تنتفي تماماً الدينامية الاجتماعية ـ التاريخية، المادية والملموسة، التي كانت وراء صعودها. وصعب، تماماً، أنّ "العلمانية"، الكاذبة الزائفة الجوفاء، التي يتذرع بها النظام السوري، كانت ستخدع سعيد كما خدعت سواه.

هذا معلّم كان سيرشدنا ـ  نحن الأمسّ حاجة إلى التتلمذ على يديه، هنا تحديداً! ـ إلى طرائق الانشقاق عن المألوف، والمعطى الجاهز، والكليشيه، والتنميط المصطنَع المصنَّع؛ ليس في نقد الإسلاميين، والاختلاف معهم، في كلّ ما هو مبدئي وجوهري وصميمي، فحسب؛ بل كذلك في مقارعتهم عن طريق اقتراح برامج بديلة، ديمقراطية وطنية بالمعنى الشعبي الأصيل الأعمق، وعلمانية مدنية تعددية لا تردّ على التشدد بمغالاة وغطرسة، ولا تواجه التطرّف بتعنت وإقصاء. وكنّا، أغلب الظنّ، لن نشفق على جيجيك وأضرابه من الحَوَل الذي يعتور نظرتهم إلى الانتفاضة السورية؛ بل سنردّ بالإمعان أكثر، وأعمق من ذي قبل، في إعادة قراءة المعلّم!