وعزّ الشرق أوّله دمشق

الخميس، 19 أكتوبر 2017

"تحرير" الرقة: لقاء السبهان الوهابي مع أوجلان اللينيني!


لكي لا يكون مشهد "تحرير" مدينة الرقة، من توحش "داعش" وإرهاب "الخلافة" الزائفة، خالياً من عناصر التشويش والتشويق، ثمّ السوريالية أيضاً؛ سارع ثامر السبهان، وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج، إلى زيارة الرقة، فلم يجتمع مع الضباط الأمريكيين المشاركين في قيادة وتوجيه ومساندة "قوات سوريا الديمقراطية"، "قسد"، فقط (فلا شيء في اجتماع كهذا يحيل إلى السوريالية، بالطبع)؛ بل اجتمع، حسب تقارير صحفية متقاطعة، مع ضباط كرد، يدينون بالولاء العقائدي إلى الماركسي ـ اللينيني عبد الله أوجلان! جاء الرجل ليتسلّم مواطنيه السعوديين الذين كانوا يقاتلون في صفوف "داعش"، يقول دفاع أوّل عن مجيء السبهان إلى الرقة، في استغفال فاضح للعقول؛ أو، يسير دفاع آخر هكذا، أكثر ميلاً إلى زعم العقلانية: الوزير يستكمل، هنا في الرقة مع ضباط الـPKK، ما اتفق عليه مليكه، هناك في موسكو مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكأنّ الكرملين صار معقّب معاملات الخيارات الأمريكية في سوريا!
وليس بعيداً عن السوريالية، أيضاً، مسارعة "قسد" إلى رفع صور أوجلان، وبعضها يذكّر فعلاً ــ من حيث الحجم والطابع الطوطمي، على الأقلّ ــ بصور حافظ وبشار الأسد، ثمّ أبي بكر البغدادي بعدهما، في الأمكنة والساحات ذاتها تقريباً. وكأنّ قيادات الكرد تناست حقيقة مريرة ساطعة، هي سقوط كركوك بيد الجنرال الإيراني قاسم سليماني وقوّات "الحشد الشعبي"، في غمرة صمت أمريكي مطبق؛ وحقيقة أخرى مفادها أنّ "قسد" قد لا تكون أكثر من أداة عسكرية محلية، ترميها أمريكا بعد استخدام أوّل، ليس له استخدام ثانٍ. وكان منتظَراً من "قسد"، لو أنّ قياداتها حكّمت المنطق الوطني السوري، الكردي والعربي معاً، وليس إملاءات جبل قنديل؛ أن تشدد على البُعد المختلط لوحداتها العسكرية (مجلس منبج العسكري، المجلس العسكري السرياني، شمس الشمال، جيش الثوار، جبهة الأكراد...)، بين عرب وكرد، مسلمين ومسيحيين، معارضين إجمالاً لنظام آل الأسد، من منطلق طموح مشترك إلى سوريا ديمقراطية مدنية يتعايش مواطنوها ضمن مساواة مطلقة في الحقوق والواجبات.
في عبارة أخرى، كان يمكن للأيقونات الأوجلانية أن تنتظر، وأن تؤجل قليلاً، حتى يتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وحتى يكتسب "التحرير" مضامينه الإنسانية والسياسية والأمنية الأعرض. كأنْ نعرف، مثلاً، مصائر عشرات الناشطين الرقاويين؛ الذين احتجزتهم "داعش" لأنهم كانوا نقائض فكرها الجاهلي الإرهابي التوحشي؛ أو تتكشف صورة المحاصصات السياسية في طور ما بعد "التحرير"، بين القوى المحلية والإقليمية والدولية التي تتنازع أو تتوافق يومياً على الأرض السورية؛ أو تظهر إلى العلن ــ أخيراً، بعد لأيٍ! ــ أسرار الأوامر التي كانت تصدر من الرقة لتنفيذ عمليات إرهابية في باريس وبروكسيل ولندن، وتنكشف هوية الآمرين بها. وليست الأهلّة، التي حصرت مفردة التحرير في السطور السالفة، إلا وجهة طباعية لمساءلة طراز في إعلان هزيمة "داعش"، دون إلحاق الفعل العسكري المحض بمآلات ملموسة تثبت اندحار التنظيم، وذلك بمنأى عن الأنساق السرية المرذولة من المحاصصات والتسويات والصفقات. على رأس هذه السلّة ثمة، بالطبع، ذوبان عناصر "الخلافة" في الهواء الطلق، كأنّ الأرض انشقت وابتلعتهم؛ أو التأتأة حول ترحيلهم إلى جهات أخرى، قتالية بالضرورة؛ أو الغمغمة حول وجود أمثال السبهان، واحتشاد المدينة بضباط أمن أجانب آتين من أربع رياح الأرض...
وليس للأهلّة التي حصرت مفردة التحرير أن تطمس، بأيّ حال، ابتهاج هذه السطور بانعتاق مدينة الرقة من الأسر الداعشي، أسوة بأية بقعة خضعت لاحتلال "خلافة" البغدادي، في أية جهة على هذه البسيطة. هذا أمر، يُفترض أنه مفروغ منه (إلا عند الحمقى، أصالة أو عن سابق قصد)؛ وإخضاع مفهوم التحرير لمحكّ موضوعي، مستمدّ مما جرى ويجري على الأرض، أمر آخر مختلف وجدير بالمناقشة. هنالك، في جانب أوّل، الثمن الإنساني الباهظ التي دفعه المدنيون الرقاويون جرّاء عمليات القصف، الوحشية والعشوائية، التي اعتمدها طيران التحالف الدولي، وأمريكا بصفة خاصة؛ بذريعة تدمير "البنى التحتية" لتنظيم "داعش"؛ وتلك حرب شهدت تدمير واحد من أنفاق التنظيم، مقابل عشرات البيوت ومئات القتلى والجرحى من المدنيين الأبرياء. وثمة، كذلك، روحية الاجتياح الأعمى، التي تحلّت بها بعض وحدات "قسد" في عمليات القتال الميدانية، حيث كان يكفي تمترس مقاتل داعشي واحد في هذا المكمن أو ذاك، لكي يُدمّر الشارع عن بكرة أبيه، نسائه وأطفاله وشيوخه.
وهذه الحقيقة، المأساوية الدامية، زادت في تظهيرها حقيقة أخرى دامغة، أفادت بأنّ مقاتلي "داعش" أظهروا من المعنويات الهابطة، ورغبة القتال والمقاومة؛ ما يتناسب تماماً مع جبن، وخسّة ونذالة، ممارساتهم الإرهابية، وجرائم القتل وهتك الأعراض والترويع والسلب والنهب، حين تكون أيديهم مطلقة آمنة. والمرء هنا يتذكر جعجعة أبو محمد العدناني الشامي، حين كان ناطقاً إعلامياً باسم "داعش"، حين كان يعتزم رفع المعنويات: "لا يطمعنّ مسلم أن تقام دولة الإسلام إلا على الجماجم والأشلاء"؛ أو: "إعلموا أنّ لنا جيوشاً في العراق وجيشاً في الشام من الأُسود الجياع، شرابهم الدماء وأنيسهم الأشلاء، ولم يجدوا فيما شربوا أشهى من دماء الصحوات"؛ أو: "دعونا نبتدرْ ورد الحِمامِ/ ليطفيء برده حرّ الأوامِ/ لقيناهم بآسادٍ جياعٍ/ ترى لحم العدا أشهى طعامِ".... ولقد تبيّن أنّ أسود العدناني الجياع شربت الدماء، بالفعل، فقتلت الأسرى حين اضطرت إلى الانسحاب، في مناطق حلب وإدلب والرقة ودير الزور؛ ولم تفرّق بين أسير طاعن في السنّ، أو يافع لم يخطّ شاربه بعد، واستأسدت استئساداً مضاعفاً على الأطباء والإعلاميين، بل فعلت ذلك على نحو أغلظ وأعنف بصدد المنتمين إلى تيارات إسلامية جهادية كانت إلى حين "شقيقة في الدين"!
حقائق مثل هذه لا تطمس، بدورها، حقيقة ساطعة، ومضيئة مشرّفة، تخصّ دور المرأة المقاتلة في دحر "داعش"؛ سواء انتمت، أصلاً، إلى التيارات التاريخية للـPKK، أو وفدت إلى جبهة الرقة من مواطن كردستانية أخرى في تركيا والعراق وإيران، أو انساقت طواعية إلى أنموذج نسوي تحرري جديد كانت مناخات القتال في الرقة قد رسخته وحرّكته ونشّطته. وبصرف النظر عن الطابع الدعاوي الديماغوجي الذي تعمدت بعض الأوساط إلصاقه بشخصية المرأة الكردية المقاتلة في صفوف "قسد"، وفي جبهات منبج وكوباني قبلئذ؛ فإنّ المهامّ الصعبة التي مارستها وحدات نسائية مقاتلة، في إنقاذ المدنيين على نحو خاصّ، تصحح ذلك الطابع المفتعَل، وتستبدله بواقع مادي على الأرض، اقترن بوظائف قتالية وإسعافية وإغاثية بالغة الحيوية والقيمة.
وإذْ تتكدس المصالح على أرض مدينة الرقة، ثمّ تتقاطع استطراداً، بين الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا والقوى الكردية المختلفة (ويغيب النظام السوري تماماً، إلى حين لاحق على الأقلّ)؛ فإنّ المراقب الحصيف، الذي يثمّن جيداً هذه الهزيمة الداعشية هنا، لا يملك إلا التفكير في كابوس 2007، وتجربة هزيمة "الدولة الإسلامية في العراق". آنذاك، تردد أنّ التنظيم دُحر نهائياً، ولن تقوم له قائمة، لكي يتضح بعد سنوات قليلة لاحقة أنّ تلك "الدولة" لم تُعدْ إنتاج ذاتها، فقط؛ بل قسّمت نفسها في جسوم جديدة، فصارت "دولة الإسلام في العراق والشام"، وبات لها خليفة، وخلافته تتجاوز بلاد العرب إلى هند وسند وفليبين ونيجيريا!
وليس بغير اتكاء، عقلاني ما أمكن، على سيناريوهات كوابيس مماثلة، أنّ المرء يستعين ببعض السوريالية لقراءة اجتماع السبهان الوهابي، مع أوجلان اللينيني، على أرض الرقة "المحررة"!

اليونسكو: صراع عوالم أم حضارات؟


"الأمر أشبه بزوجَين ظلا منفصلين طيلة أعوام، ثمّ قررا أخيراً تثبيت الطلاق"، يقول ريشارد غوان، الباحث في المجلس الأوروبي للعلاقات الدولية، في توصيف قرار انسحاب الولايات المتحدة من اليونسكو. والسبب بالغ البساطة، في الواقع: منذ سنة 2011، حين وافق المؤتمر العام للمنظمة، بأغلبية ساحقة بلغت 107ـ 14 صوتاً (رغم امتناع 52 دولة)، على ضمّ فلسطين بصفة العضو الـ195؛ قامت الولايات المتحدة بتخفيض عضويتها، وامتنعت عن سداد مساهماتها في ميزانية المنظمة، ففقدت حقّ التصويت في المؤتمر العام.
قرار إدارة دونالد ترامب المعلَن اتكأ على اعتبارَين: واحد زائف، وديماغوجي، هو أنّ المنظمة بحاجة إلى إصلاحات جذرية؛ والثاني صريح، ولكنه لا يقلّ ديماغوجية، مفاده أنّ اليونسكو باتت معادية لإسرائيل. السبب الثالث، غير المعلَن، هو أنّ ديون الولايات المتحدة لصالح المنظمة تجاوزت الـ 500 مليون دولار، وليس أفضل من الانسحاب، لاسترضاء اللوبي اليهودي في أمريكا، وتوفير نصف مليار دولار، في آن معاً! لهذا فإنّ إسرائيل اقتفت أثر واشنطن في الانسحاب من المنظمة، ولم يتردد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في التصريح بأنّ المنظمة باتت "مسرح عبث، تزيّف التاريخ بدل الحفاظ عليه".
ليست هذه هي المرة الأولى التي تشهد انسحاب الولايات المتحدة من المنظمة، إذْ سبق أن فعلها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، في سنة 1984؛ حين اعتبر أنّ اليونسكو منحازة أيديولوجياً للاتحاد السوفييتي، ضدّ الغرب. وفي سنة 2002 أعاد جورج بوش الابن النظر في قرار ريغان، لكنّ المندوب الأمريكي، بيتر سميث، الذي كان أيضاً نائب المدير العام والمسؤول عن قطاع التعليم في المنظمة، مارس سياسة ثأرية منهجية؛ ولم يألُ جهداً في حرف ميزانية المنظمة بعيداً عن احتياجات الدول النامية، بصدد الثقافات الأخرى التي لا تتماثل بالضرورة، أو لا تتقارب حكماً، مع المفاهيم التربوية والتعليمية الأمريكية ـ الأوروبية.
على سبيل المثال، اقتطع سميث مبلغ 200 ألف دولار من ميزانية محو الأمية في فلسطين والعراق وموريتانيا (لاحظوا دلالة هذه البلدان، تحديداً!)، لا لكي ينفقها على محو الأمية في اليمن أو السودان أو الصومال؛ بل لكي يموّل مؤتمراً في نيويورك افتتحته لورا بوش، السيدة الأمريكية الأولى آنذاك، واستغرق... نصف نهار! ولم تكن تلك الواقعة خالية من السياسة المباشرة، أي السياسة الداخلية في أمريكا أساساً، لأنّ سميث كان أحد أتباع بوش (الذي عيّنه في المنصب). في تلك الفترة، أيضاً، كانت المجلة المالية الفرنسية "كابيتال" قد نشرت تقريراً مثيراً عن عجائب سميث، استند إلى ما تردد في كواليس المندوبين من أحاديث ــ كانت تدور همساً تارة، وعلانية طوراً ــ حول وقائع المخالفات القانونية والمالية الصارخة التي ارتكبها المندوب الأمريكي.
والحال أنّ فكرة اليونسكو، منذ التأسيس في العقود الأولى من القرن الماضي، انطلقت من مفهوم غربي صرف للتربية وللثقافة، قبل أن يُصاغ الميثاق التأسيسي سنة 1945 وتنضمّ إلى المؤتمر التأسيسي دول أخرى غير غربية، بينها الهند ومصر والعراق. وعلى نحو ما، ظلّت المنظمة تخضع لضغط المفاهيم الغربية ذاتها حتى عام 1946، حين أصرّ جوليان هكسلي، عالم الأحياء البريطاني وأوّل مدير عام للمنظمة، على صياغة "إيديولوجيا كونية موحّدة" تكون بمثابة الفلسفة العليا للمنظمة، وتُلزم بالتالي جميع الدول الأعضاء. ولكنّ السؤال الذي أثير يومها، ما يزال يُثار اليوم أيضاً، بالمشروعية ذاتها، وأشدّ ربما: هل نجحت المنظمة في تجاوز ضغوطات الفكر الواحد، الفكر الغربي تحديداً، وهل من مكان فسيح عادل للقِيَم الأخرى؟
تاريخياً، في المقابل، بات من المعروف أنّ ولاية الإسباني فدريكو مايور (1987 ـ 1999) شهدت سلسلة "إصلاحات"، كانت في الواقع سلسلة "مراجعات"، للسياسة التي كان قد انتهجها السنغالي أحمد مختار أمبو (1974 ـ 1987)؛ وجلبت على اليونسكو اتهامات "التسيّس"، وشيوع مناخات وُصفت بأنها "عالمثالثية" و"معادية للغرب"، الأمر الذي تسبّب في انسحاب أمريكا ثم بريطانيا وسنغافورة. واستطراداً، هل يدور "صراع ثقافات" في اليونسكو، هو الوجهة الأخرى التطبيقية، التربوية والتعليمية والعلمية، لمفهوم "صدام الحضارات" الأشهر؟ أم هو صراع عوالم، بدليل عجز الدول النامية (باستثناء السنغال، لأنّ الرئاسة المكسيكية لدورة 1848 ـ 1952 كانت تكميلية في الواقع) عن بلوغ موقع المدير العام؛ بصرف النظر عن العوامل الذاتية التي تخصّ تبعية أنظمة، أو بؤس حملاتها، أو ضعف مرشحيها، أو صراعاتها البينية؟
وإذا كان المؤتمر العام للمنظمة قد نجح في اتخاذ بعض القرارات، الثقافية والتربوية والآثارية، التي تخدم قضايا أمم غير غربية، بسبب مبدأ التصويت بالأغلبية؛ فمن الصحيح، أيضاً، أنّ تحكّم القوى الغربية الكبرى بالحصص الأعلى في ميزانية المنظمة، ظلّ يمنحها ما يشبه حقّ النقض، إنْ لم يكن سلطة الفرض، في رسم سياسات كبرى عريضة، ومصيرية. ومع انتخاب أودري أزولاي في موقع المدير العام، مؤخراً، تكون فرنسا رابع قوّة استعمارية سابقة (بعد بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا) تتصدر هرم المنظمة؛ وليس هذا بالمحكّ العابر، أو لا يصحّ أن يكون معياراً ثانوياً، بالمعنى الثقافي والتربوي على الأقلّ!
 15/10/2017

كتالونيا: جمرة متقدة تحت رماد قومي لا يخمد



ما الذي يريده مواطنو إقليم كتالونيا، أكثر مما يتمتعون به اليوم، ومنذ عقود: لغة كتالانية مستقلة، برلمان مستقل، شرطة مستقلة، رئيس مستقل، ثقافة مستقلة مرتكزة على هوية خاصة مستقلة؟ يتساءل المراقب المعتاد على القياس المنطقي البسيط، أو ذاك التبسيطي ربما؛ حائراً، في كثير أو قليل، إزاء نتائج الاستفتاء الأخير، الذي انتهى إلى مطالبة ساحقة بالاستقلال عن الجسم الإسباني. صحيح أنّ رئيس الإقليم، كارلس بيغديمونت، وقّع ما سُمّي "إعلان الاستقلال" عن مدريد، الذي ينصّ أحد بنوده على "قيام الجمهورية الكتالونية كدولة مستقلة وذات سيادة تحترم القانون والديمقراطية والمبادئ الاجتماعية"؛ إلا أنّ الرجل قرن التوقيع بقرار موازٍ يقضي بتعليق هذا الإعلان، ريثما يدخل الإقليم في مفاوضات مع الحكومة الإسبانية المركزية، للاتفاق حول تفاصيل تنفيذه.
من جانبها رهنت هذه الحكومة، بلسان رئيس الوزراء ماريانو راخوي، إمكانية الشروع في المفاوضات بتخلّي الإقليم عن فكرة الاستقلال نهائياً؛ وذكّرت بقرار المحكمة الدستورية، لعام 2010، الذي أجهز على مطامح الإقليم في وضع اللغة الكتالانية في مرتبة أولوية أعلى من اللغة الإسبانية، كما شطب كلّ إشارة إلى "كتالونيا بوصفها أمّة". ليس هذا فحسب، إذْ لم يتردد راخوي في التهديد بتعليق مظاهر الحكم الذاتي، وتفعيل المادة 155 من الدستور (التي تشير إلى البلاد كـ"وحدة لا تنفصم")، بما يعني إعادة فرض الحكم المركزي على الإقليم. ورغم أنه لم يلمّح إلى ما ارتكبته الشرطة من أعمال قمع عنيفة ضدّ الكتالانيين قبيل الاستفتاء وبعده، إلا أنّ راخوي لوّح بالهراوة: "ثمة حاجة ملحة لإنهاء الوضع الذي تمرّ به كتالونيا، لإعادته إلى حالة الأمن والاستقرار والهدوء، والقيام بذلك في أسرع وقت ممكن".
فيشنت بارتال، مؤسس ومدير صحيفة "فيلاويب" الإلكترونية، ذات التأثير والانتشار الواسعين، يشدد على خمس حقائق؛ لا مفرّ من أخذها بعين الاعتبار، إذا شاء المراقب أن يلمّ بعناصر مشهد المواجهة الكتالونية مع المركز: 1) أنّ مدريد، الحكومة المركزية، هي التي أخلّت بالقواعد التي وضعتها بنفسها، حين أبطلت المحكمة الدستورية وضع الاستقلال الذاتي كما تمّ التوصل إليه سنة 2005؛ و2) أنّ إسبانيا هي التي رفضت الدخول في حوار مع كتالونيا حول الاستقلال، أو حول أيّ أمر آخر في الواقع؛ و3) أنّ الشعب الكتالوني منح برلمانه، الشرعي المنتخب، تفويضاً ديمقراطياً لإعلان الاستقلال؛ و4) أنّ القانون الدولي يوفّر أرضية شرعية لتقرير المصير وللانفصال من طرف واحد، في آن معاً؛ و5) أنّ التعاطي الدولي الراهن أعطى مساندة صريحة لسيرورات تقرير المصير القومية، فخلق بذلك عُرفاً له صفة قبول الدول الجديدة ضمن إطار منظومة المجتمع الدولي.
لكنّ تعنت مدريد، في وجه نتيجة الاستفتاء الشعبي الكتالوني، ينتهي إلى حال اشتباك عالقة، تنذر بتصعيد غير مسبوق في علاقة مدريد مع برشلونة؛ كما أنها، استطراداً، تهدد بعودة التوتر إلى سابق عهدٍ مشحون، ودامٍ أيضاً، كان الجنرال فرانكو قد دشنه حين استولى على السلطة سنة 1939، فحظر استخدام اللغة الكتالانية، وحلّ جميع المؤسسات الكتالانية، وعلى رأسها الحكومة المستقلة. ولكنّ الحال العالقة، في جانب خاصّ يتجاوز حدود إسبانيا والجزيرة الإيبيرية، نذير جديد بظاهرة استيقاظ القوميات؛ التي قيل إنها انطوت مع تقويض جدار برلين، وشيوع نظريات "نهاية التاريخ" وانتصار "الإنسان الأخير" ابن اقتصاد السوق وحده، واقتصار صراعاته على "صدام الحضارات" وليس التناحر الداخلي بين القوميات والأقوام والإثنيات...
ولقد عفّ بارتال عن استعراض لائحة "الجُزُر" القومية المنزرعة في قلب أوروبا، القارّة العجوز إياها؛ والتي طالبت بالاستقلال عن كيانات أكبر، أو تكتم مطالباتها في انتظار السانحة المناسبة، ليس دون إبقاء جمرات النار حيّة متقدة تحت (ما يلوح أنه) رماد خامد. في وسع المرء أن يبدأ من اسكتلندا، التي لم تتكفل 300 سنة من ملازمة الكنف الاتحادي، أو وجود برلمان مستقل، وحزب قومي التوجّه، واستفتاء رافض للانفصال... في إقناع مواطنيها بأنّ المزيد من قوانين الحكم الذاتي لا تشبع غليل المتعطشين إلى أمجاد الماضي الاسكتلندي، الحافل بالثارات ضدّ التاج البريطاني. وللمرء ذاته أن يعرّج على إقليم الباسك، جار كتالونيا، والذي يتمتع أكثر من سواه بجباية ضرائب مستقلة وقوانين إدارية واسعة النطاق ومتعددة المجالات؛ الأمر الذي لم يخنق الرغائب القومية في الاستقلال، ولم يَحُلْ دون ولادة منظمة "إيتا" التي ظلت إرهابية طيلة نصف قرن، ولم تتخلّ عن خياراتها العنفية إلا قبل ستّ سنوات فقط. وأمّا في ألمانيا، ورغم الاستقرار الاقتصادي والسياسي المتميز على النطاق الأوروبي، وتراث الانقسام إلى ألمانيا شرقية وأخرى غربية؛ فإنّ القوميين البافاريين لم يكتفوا بحزب يمثلهم في البرلمان، هو الوحيد من نوعه، المنخرط في ائتلاف أنغيلا ميركل الحاكم؛ ولهذا فإنّ حلم "ولاية بافاريا الحرّة"، الأكبر مساحة ضمن الاتحاد الألماني، ما انفكّ يدغدغ وجدانهم الجَمْعي، ويلحّ، ويستفيق كلما أغفى قليلاً!
ألا تبدو هذه الجمرات وكأنها توشك على إحراق صورة الهوية الغربية المعاصرة، السابحة بأمان واطمئنان في عوالم وردية من الرفاه والاستقرار والعلم والتكنولوجيا والليبرالية، التي تعبر الثقافات والأمم كما السكّين في قالب الزبدة؟ ألا تبدو استفاقة الأقوام والقوميات، في قلب "أوروبا الرأسمالية الظافرة"، وكأنها استعادة طبق الأصل لكلّ أحقاب الـ "ما قبل" في الحكايات الكبرى للحضارة الغربية؛ من اليونان القديم، إلى روما القديمة، إلى رحلة كريستوفر كولومبوس، إلى عصر الأنوار والحداثة؟ ألا نقف، من جديد، أمام اهتزاز المشهد الغربي برّمته، خصوصاً في تلك الرؤية التي نهضت وتنهض على ثلاثة أقانيم جوهرية: الرأسمالية، واقتصاد السوق؛ وحقوق الإنسان، كما تقترن وجوباً بالشكل الغربي ـ الأمريكي من الديمقراطية العلمانية؛ وإطار الأمّة ـ الدولة، كصيغة هوية، معتمَدة في العلاقات الدولية؟
هذا، غنيّ عن القول، مشهد لا يسرّ المبشّرين بأنّ الاختراع الغربي للرأسمالية، وللعلم والديمقراطية الليبرالية، برهن على نجاح منقطع النظير؛ بل هو يتقدّم حثيثاً لاجتياح العالم القديم والعالم الحديث في آن معاً، ما قبل الحرب الباردة وما بعدها، ما قبل الحداثة وما بعدها، ما قبل التاريخ وما بعده. وأمّا إذا أشاح المرء بنظره بعيداً عن هذه المخططات الوردية للعالم القادم، وحدّق مليّاً في ما يجري اليوم بالذات، بصدد قوميات أوروبا ثمّ في الولايات المتحدة ذاتها، فإنّ الهويّة الغربية قد تبدو قويّة ومدجّجة بالسلاح والعتاد والمال والأسواق، ولكنها ليست تلك الهوية الظافرة المطمئنة الآمنة. وفي قلب أوروبا، في البلقان التاريخي مهد الحروب والسلام، وفي اسكتلندا وبافاريا وبادانيا والباسك وكورسيكا والفلاندرز وبروتانيا وتيرول... ثمة قوميات تستفيق على قرون غابرة، وهويات قيل إنها طُويت أو اندثرت، وصراعات لا يهدأ الواحد منها حتى يندلع آخر.
أليس الـ "ما بعد" هو، أيضاً، هذه الاستفاقة العنفية (من جانب شرطة إسبانيا المركزية) في وجه الاستفاقة القومية (كما عبّر عنها الكتالانيون المصممون على تنفيذ الاستفتاء)؟ وماذا عن هذه الجولات المباغتة في حروب قومية، قيل لنا إنها انقرضت مرّة وإلى الأبد؟ أليست، بدورها، عاقبة شبه حتمية لعجز مجتمعات ما بعد الحرب الباردة عن التلاؤم مع الأقانيم الغربية "الظافرة"؟ وكم من الجمر يتوجب أن يتقد، قبل أن يشتعل الرماد، فيُشعل نيران الأقوام والقوميات؛ في قلب الحلبات التي قيل إنها أقفلت أبواب التاريخ، مرّة وإلى الأبد؟
12/10/2017

الاثنين، 2 أكتوبر 2017

يوم الترجمة العالمي: إذا كانت هذه "خيانة"!



منذ تأسيسها، في سنة 1953، اعتادت "الرابطة الدولية للمترجمين" إحياء يوم الترجمة العالمي، في 30 أيلول (سبتمبر) من كلّ عام. وفي أيار (مايو) الماضي، كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد صوّتت على القرار 71/288، الذي اعتبر هذا التاريخ يوماً سنوياً عالمياً للترجمة. واستندت الحيثيات على سلسلة عناصر، بينها الإقرار بأنّ "احترام تنوّع العالم الثقافي واللساني هو مقتضى جوهري لتعزيز روح الانفتاح والمساواة والحوار"؛ وأنّ "الترجمة الاحترافية، كتجارة وفنّ، تلعب دوراً هاماً في إعلاء مبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة، وفي التقريب بين الأمم، وتسهيل الحوار والتفاهم والتعاون، والإسهام في التنمية، وتوطيد السلام والأمن العالميين".
وأمّا هذا اليوم تحديداً، فإنّ الرابطة الدولية اختارته تيّمناً بالقديس جيروم (347 ـ 420)، المؤرخ واللاهوتي الدالماسي (كرواتيا الراهنة)، الذي سافر إلى فلسطين، وأقام في بيت لحم بدعم من سيدة أرستقراطية، حتى وفاته. وهناك ترجم "الكتاب المقدس" إلى اللاتينية، عن الأصل العبري، كما دوّن سلسلة حواشٍ وشروحات على الأناجيل. وإذْ يسجلّ باحثون معاصرون تحفظات جدّية على مستوى إتقانه للعبرية، وبالتالي يشككون في أمانة ترجماته؛ فإنّ القديس جيروم اعتُبر، مع ذلك، شفيع المترجمين.
في المقابل، إذْ أتشرف بالانتساب إلى رهط المترجمين، فإنّ شفيعي شخصياً ــ والحديث عن "الشفاعة"، هنا، من باب المجاز بالطبع ــ هو المترجم الأمريكي غريغوري راباسا (1922 ـ 2016)، الذي أشرتُ إليه في مناسبات سابقة، باحترام وتقدير وحسّ اقتداء، لأني أعتبره أحد كبار مترجمي الأدب في عصرنا. لقد أهدى إلى الإنسانية عشرات الأعمال الروائية الرفيعة، مترجمة من الإسبانية إلى الإنكليزية، لأفذاذ من أمثال ميغيل أنخيل أستورياس، غابرييل غارسيا ماركيز، ماريو فارغاس يوسا، خوان غويتيسولو، خوسيه ليزاما ليما (صاحب "الفردوس"، التي لا تقلّ في البراعة الفنية عن رواية مارسيل بروست "البحث عن الزمن الضائع")، أوسمان لينس، لويس رافائيل سانشيز (مؤلف "نغمة ماشو كاماشو"، وتُعدّ النظير، في الإسبانية، لرواية جيمس جويس "عوليس")، خوليو كورتازار، خورخيه أمادو، يواكيم ماشادو دو أسيس...
ولا يخفى أنّ ذيوع صيت ماركيز في أربع رياح الأرض كان قد بدأ مع صدور الترجمات الإنكليزية، والأرجح أنها كانت أحد أهمّ الاعتبارات وراء فوزه بجائزة نوبل سنة 1982؛ وليس غريباً، استطراداً، أن يصرّح ماركيز بأنّ "مائة عام من الوحدة" هي، في الإنكليزية، أجمل منها في الأصل الإسباني! كذلك أعلن أستورياس أنه لم يكن يتخيّل كيف كان يمكن لروايته "قبطان الرمال" أن تصل إلى القارئ الغربي، لولا ترجمة راباسّا؛ وغويتيسولو، وهو نفسه ذو باع طويل في الترجمة، كان يُدخل على أعماله التعديلات التي يرتأي راباسا أنها ضرورية عند الترجمة إلى الإنكليزية. وفي كتابه البديع "إذا كانت هذه خيانة: الترجمة ومظّانها"، يدوّن راباسا مذكرات شخصية حول ملابسات ــ هي، في الآن ذاته، مصاعب ومشاقّ ولذائذ وأفراح... ــ ترجمة قرابة 40 عملاً، تمثّل ذُرى فنّ الرواية في أمريكا اللاتينية.
والحال أنّ الترجمة رافقت الوعي البشري، الإيمائي واللفظي والكتابي، على مرّ العصور؛ لأنّ البشر، بادئ ذي بدء، يتكلمون لغات مختلفة، وحقيقة وجود عشرات الآلاف من اللغات، التي استُخدمت أو يتواصل استخدامها على سطح كوكبنا الصغير، إنما هي تعبير بليغ عن الغنى المذهل للذات الإنسانية. وهكذا فإنّ الترجمة ضرورة ما دامت اللغة أبعد بكثير من مجرد اتصال بين متكلّمَيْن، وهي ضرورة مفتوحة لا تنتقص من أهميتها هذه الدرجة أو تلك من "الخيانة"، الدلالية أو اللسانية أو الأسلوبية. وإذا كانت أبسط تعريفات المترجم هو أنه وسيط تحويل الإشارات والتمثيلات والمعاني إلى نظائر موازية في لغة أخرى، فإنّ أعقد تعريفاته ليس ذاك الذي يعتبره جاسر الهوّة بين ثقافة وأخرى.
وكما هو معروف، شهد تاريخ البشرية طورَين ذهبيين ارتقت فيهما ممارسة الترجمة إلى سوية كيفية ونوعية استثنائية، كفلت مناقلة المعارف بين ثقافة وأخرى، على نحو كانت له آثار حاسمة في التطوّر الحضاري: ترجمة النصوص البوذية إلى اللغة الصينية، وترجمة الفلسفات والعلوم من الإغريقية والسريانية إلى العربية. وفي المثال النقيض، لم تتردد أوروبا عصور الظلام في محاكمة الباحث والمترجم والناشر الفرنسي إتيان دوليه (1509 ـ 1546)، وإدانته، وتعذيبه، وخنقه، وإحراق جسده باستخدام نسخ من ترجماته ذاتها؛ وذلك بتهمة الإلحاد، اتكاءً على ترجمة ثلاث كلمات في "محاورات" أفلاطون، أوحت بالتشكيك في فكرة الخلود.
وفي يقيني شخصياً، استئناساً بتجربة في الترجمة أسفرت عن ثمانية أعمال، بين فلسفة ورواية وتاريخ ونظرية أدبية، فضلاً عن مئات القصائد لعشرات الشعراء، ودراسات كثيرة منفردة في ميادين معرفية متنوعة؛ فإنّ أرقى ما يمكن أن يحققه المترجم هو خلق هوية متجانسة بين النصّ الأصلي والترجمة، لا ليكون الثاني بديلاً عن الأوّل، بل لكي يشغل وظيفته ما أمكن. ولعلّ هذا يؤكد أنّ المترجم "بريد الروح الإنسانية"، كما عبّر شاعر روسيا الكبير بوشكين؛ حتى إذا كانت السجادة النفيسة سوف تُبسط على قفاها، كما وصف الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف ترجمة الشعر!

المرأة التونسية: إصلاحٌ أم ورقة توت؟



آمنة قلالي، مديرة مكتب منظمة ''هيومن رايتس ووتش'' في تونس، تصرّ ـ محقة تماماً، في الواقع ـ على التذكير بضرورة إقامة الرابط بين خيارَين مركزيين اتسم بهما سلوك السلطة في تونس خلال الآونة الأخيرة؛ على الرغم من تناقضهما البيّن، حقوقياً وقانونياً أولاً، ولكن سياسياً وأخلاقياً كذلك: تشريعات منح المرأة المزيد من الحقوق، المشروعة مبدئياً، والإيجابية عموماً، ولكن القصوى أحياناً والصادمة اجتماعياً، كما يساجل الكثيرون، من جهة أولى؛ وتشريعات حماية رجال العهد الدكتاتوري البائد من المحاسبة أمام "هيئة الحقيقة والكرامة"، بل تمكينهم في الوزارات والمؤسسات ومواقع الإدارة العليا، من جهة ثانية.
على سبيل المثال الأحدث عهداً، كان السجال يحتدم في تونس، على أصعدة سياسية واجتماعية وفقهية وإيديولوجية شتى، حول مقترحات الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، بصدد مساواة المرأة التونسية مع الرجل في الإرث، وحقّ المسلمة التونسية في الزواج من غير المسلم؛ فماذا كان البرلمان التونسي يناقش، ويقرّ، في المقابل؟ ذلك القانون الخاصّ بإعفاء مسؤولين سابقين في حكومات بن علي من الملاحقة القضائية، رغم أنهم ليسوا متورطين في قضايا فساد وابتزاز فحسب، بل في ملفات تعذيب وترهيب وتنكيل أيضاً. وأمّا اعتراض الشارع الشعبي على هذا التشريع، ومسيرات الاحتجاج التي رفعت شعار “قانون تبييض الفساد لن يمرّ"، فإنها ذهبت أدراج الرياح.
وإذْ لا ينكر أحد أنّ سلسلة القوانين التي تخصّ مدوّنة الأحوال الشخصية التونسية تظل متقدمة على غالبية المدوّنات المماثلة في العالم العربي، وهكذا بدأت أصلاً منذ ستة عقود ونيف؛ فإنّ المراقب الحصيف للمشهد التونسي في أبعاده المتكاملة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ملزَم بأخذ الاعتبارات الأخرى الخافية خلف الاعتمالات الظاهرة للمشهد ذاته. كيف، في سياق مقاربة تكاملية مثل هذه، يصحّ استبعاد سلسلة المناورات المختلفة، الحزبية والسياسية، فضلاً عن تصارع المصالح ومجموعات الضغط وأروقة الفساد المعتمة، التي تكمن وراء هذه التشريعات؟
هل يجوز، حقاً، تنزيه السبسي عن مسعى إعادة استرضاء المرأة التونسية، خاصة في الصفّ العلماني والتحرري، بعد أن حلّ عليه سحطها جرّاء تحالفه مع "النهضة"؟ وهل يبيح العقل، بل منطق السياسة الأبسط، استبعاد احتمال لجوء السلطة إلى استغلال سجالات هذه التشريعات، وربما محاولة تسعيرها أكثر؛ بغرض إلهاء المواطنين عن مشكلات العيش والعمل والسكن والصحة والتعليم والأمن، في ظلّ انحطاط عامّ يصيب هذه القطاعات جمعاء؟ وكيف تُمنح سلطة حاكمة شهادة حسن سلوك حول حقوق المرأة، إذا كانت منظمات حقوق المرأة وحقوق الإنسان تتهم الشرطة التونسية بأنها ليست، أو لم تصبح بعدُ، جمهورية؛ بقدر ما هي "شرطة أخلاقية"، تفرض على وزارة الصحة إجراء فحوص العذرية؟
صحيح، كذلك، أنّ مدوّنة الأحوال الشخصية التونسية كانت على الدوام "ورقة توت"، كما تقول آمنة قلالي، أخفت استبداد السلطة وممارسات الأجهزة الأمنية ضدّ المعارضة بصفة خاصة؛ ولكنها، في الجانب الجدلي الموازي، منحت المرأة التونسية مكاسب قانونية ملموسة ومتقدمة، لا نزاع حول أهميتها في الحياة الاجتماعية عموماُ؛ كما افتتحت، في نطاق جدلي موازٍ أيضاً، منابر نقاش فكري وثقافي وفقهي حول موقع الفرد/ المرأة في المجتمع، إزاء الشريعة الإسلامية، في بلد لا يستلهم دستوره الشريعةَ مباشرة، وإنْ كان يقرّ بأنّ البلد مسلم.
ويبقى أنّ تصويت "النهضة" لصالح قانون إعفاء رجال العهد القديم، ثمّ "اعتدال" زعيمها التاريخي راشد الغنوشي في إبداء الاعتراض على قوانين توريث المرأة وزواجها من غير المسلم؛ مظاهر تثير الارتياب المشروع في أنّ الحركة تمارس بدورها تكتيكات المناورة، بل لعلها تتسابق فيها مع السبسي! الأمر الذي يطرح السؤال، الممضّ والمحقّ معاً: أهذا إصلاحٌ حقيقي صادق، أم إعادة تدوير لورقة التوت العتيقة؟

استفتاء كردستان: بوّابة نزاعات حول حقّ لا يُنازع


مضى زمن غير بعيد، لأنه أقلّ من عشر سنوات في الواقع، شهد إسناد وظيفة عجيبة للجنرال الأمريكي المتقاعد جوزيف رالستون: أنه "الموفد الأمريكي الخاصّ لمجابهة الـ PKK"! اليوم، بالطبع، لا تتعاون الولايات المتحدة، على نحو عسكري وثيق، مع هذا الفريق الذي كان الجنرال يجابهه، فحسب؛ بل تتولى تسليحه، تحت مسميات شتى، بينها "حزب الاتحاد الديمقراطي" الكردي PYD، و"وحدات الحماية الشعبية" PYG، و"قوات سوريا الديمقراطية"؛ ويقوم جنرالات البنتاغون، زملاء رالستون اللاحقون، بأداء مهامّ تنسيقية ولوجستية وعملياتية مختلفة، في صالح مجموعات "حزب الـPKK.
وكان ذلك الموفد الخاص قد رفض، رفضاً قاطعاً كما يتوجب القول، التفاوض مع أية جهة تمتّ بصلة إلى "هذه المنظمة الإرهابية" على حدّ تعبيره. وخلال مؤتمر صحفي مشهود، خاصة عند أولئك الذين لا يردون للذاكرة أن تكون حسيرة قصيرة، أعلن الجنرال أنه نصح كبار المسؤولين الكرد (ويقصد في شمال العراق تحديداً) أن يروا في تركيا "أفضل صديق يمكن أن يكسبه العراق في الجوار، والمصالح الاقتصادية بين تركيا والعراق حاسمة تماماً للبلدين على حدّ سواء". كذلك أوضح أنّ واشنطن لن تقبل "بتحويل الأراضي العراقية إلى "ملجأ آمن لإرهابيي الـ PKK"، لأنّ وجود هؤلاء في شمال العراق "لا يمكن ان يكون في مصلحة العراق". وكان مدهشاً أن يستخدم رالستون، وهو العضو السابق في رئاسة أركان الجيش الأمريكي، عبارة "الملجأ الآمن" بمعنى سلبي وقدحي، متناسياً أنّ هذه هي التسمية التي أطلقها جورج بوش الأب على شمال العراق، بوصفه... ملجأ الكرد الآمن!
هذا تفصيل أوّل يحيل إلى سردية تاريخية تحكمت بمصائر الشعوب الكردية في المنطقة، العراق وسوريا وتركيا وإيران؛ ومفادها أنّ القيادات السياسية الكردية، أسوة بقيادات عسكرية وميليشياتية، عقدت مراراً تحالفات خاطئة مناقضة لطبيعة الحقوق الكردية، وخاصة حقّ تقرير المصير؛ وانتهت بالتالي إلى انقلاب الحليف على القضية الكردية، ضمن نسق مأساوي ظلت عواقبه دامية على الكرد، عدا عما سبّبته من انتكاسات عميقة الغور في تجاربهم المختلفة نحو إحراز حقوقهم. فكيف، اليوم وليس بالأمس البعيد أو القريب، تفسر القيادات التركية تعاونها مع البنتاغون، في مواقع مثل الرقة ودير الزور والرميلان؛ وفي الآن ذاته يتخذ البيت الأبيض موقفاً متشدداً رافضاً للاستفتاء الشعبي في كردستان العراق؟
العقل يقتضي، وكذلك حقّ التاريخ على الكرد بوصفهم أبرز ضحيا التاريخ الحديث، ألا يملّوا من استعادة "لائحة الخيانات"، كما يجوز القول في الواقع؛ التي مارستها القوى العظمى ضدهم، وما تزال تتمتع بشراهة عالية لممارستها مجدداً، كلما بدت الخيانة منفذاً من معضلة تخطيط ما، هنا أو هناك. في عام 1918 نصّت مبادئ الرئيس الأمريكي وودرو ولسون على حقّ تقرير المصير لكلّ الأقليات غير التركية في ظلّ الدولة العثمانية، فظلّ هذا الجزء من المبادئ حبراً على صحيفة. وفي عام 1920 اشترطت اتفاقية سيفر إقامة دولة كردية، لكن اتفاقية لوزان للعام ألغتها بعد ثلاث سنوات فقط، وتمّ توزيع المناطق التي يعيش فيها الكرد على تركيا وإيران والعراق وسوريا والاتحاد السوفييتي. بعد سنة فقط، اعترفت بريطانيا بحقّ الكرد في تأسيس دولة مستقلة، دون أن تتخذ أية خطوة عملية في هذا السبيل. وفي عام 1975، وبعد أن توصل العراق إلى تفاهم مع إيران بموجب اتفاقية الجزائر، تخلّت إيران والولايات المتحدة (بناء على نصيحة مباشرة من وزير الخارجية آنذاك، هنري كيسنجر) عن دعم الكرد. وفي عام 1988 سكتت الولايات المتحدة وبريطانيا عن قصف بلدة حلبجا الكردية بالغازات السامة، بذريعة أنّ المصالح الحيوية الأمريكية تقتضي الحفاظ على استقرار النظام العراقي.
السردية الأخرى تخصّ الأسباب الذاتية، أي سلطات إقليم كردستان ذاتها، حيث لا تتوقف مستويات القلق عند تصارع الحزبين الرئيسيين في الإقليم، "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني"، على أصعدة سياسية وعسكرية، فحسب؛ بل كذلك حول طبقة سياسية فاسدة أخذت تتقرّن بصفة مضطردة، فتكرست في باطن مؤسساتها ميول متعاظمة لممارسة الاستبداد والقمع ومصادرة الحريات العامة وقهر الرأي الآخر. وذات يوم، غير بعيد بدوره، بدت المفارقة مذهلة، ومؤلمة أيضاً، أنّ آلاف المواطنين الكرد في بلدة حلبجا، هذه التي حوكم صدّام حسين بتهمة قصفها بالأسلحة الكيماوية سنة 1988؛ تعرّضوا لتنكيل شديد من سلطات إربيل، لمجرّد خروجهم في تظاهرة سلمية احتجاجاً على الفساد وسوء الإدارة وانحطاط الخدمات العامة.
يُضاف إلى هذا، ويتوجب احتسابه كعنصر حاسم كلما اتخذ الكرد خطوة نوعية نحو تقرير مصير عصري، سليم المؤسسات ومتين الركائز؛ أنّ صياغة طراز ما من "التوحيد" بين مناطق الإقليم (التي كانت، قبلئذ، منقسمة في ولائها بين الحزبين الرئيسيين)، ظلّ شكلياً بصفة عامة، وظلت تتعثر جهود تطبيقه على الأرض وفي سياقات الحياة اليومية. هذه الحال تشمل المحاصصة في الوزارات، وفي المناصب العسكرية الأساسية ضمن قوّات الـ"بيشمركة"، ورئاسة المؤسسات الكبرى في الإدارة المحلية. والأمر تفاقم أكثر، وكان هذا المآل طبيعياً، بعد أن توسعت أشكال التعبير السياسي في الإقليم، ولم يعد الاستقطاب الحزبي يقتصر على رجال جلال الطالباني أو مسعود البارزاني؛ فظهر يسار ووسط ويمين، وتنظيمات ليبرالية علمانية، وأخرى إسلامية سلفية...
صحيح، من جانب آخر، أنّ الإقليم يتمتع لتوّه، ومنذ سنوات، بصيغة متقدمة من الاستقلال الذاتي؛ إذا وضع المرء جانباً ما تمتع به الكرد من امتيازات سياسية وحكومية على الصعيد المركزي (رئاسة الجمهورية، وزارة الخارجية، نيابة البرلمان، رئاسة أركان الجيش...). غير أنّ ذهاب البارزاني ــ من موقعه كرئيس للإقليم، قبل موقعه الحزبي والعائلي التاريخي، كما يصحّ الاستذكار ــ إلى النقطة القصوى في تأطير مطالب كرد العراق، عبر استفتاء الشعب حول الحقّ في تقرير المصير، وما يفتحه من آفاق استقلال أوسع للإقليم (مشروع تماماً، رغم عقابيله ومصاعبه ومخاطره)؛ كان، في بُعد جدلي آخر، يضع سلطته الشخصية ذاتها، وسلطات أجهزة الرئاسة، فضلاً عن المحاصصات الحزبية والعسكرية والإدارية، على محك القرار الشعبي.
في عبارة أخرى، قد يقرأ البارزاني نسبة الـ"نعم" الطاغية ((قرابة 92,73 من الـ 3,305 مليون شاركوا في التصويت) هي اقتراع بالثقة على رئاسته، أيضاً؛ الأمر الذي سيزوّده بتفويض شبه مطلق في التفاوض مع بغداد حول مستقبل العلاقة مع الإقليم. نقّاده، من جانبهم، قد يقرأون هذا أيضاً، من باب الواقعية السياسية الصرفة؛ ولكن لن يكون غير مشروع لهم أن يقرأوا فيه بُعداً تالياً يخصّ الاستئثار بمزيد من الصلاحيات، أو السكوت أكثر من ذي قبل على مظاهر الفساد. وفي هذا، بافتراض أنّ مضامينه التناقضية بلغت سوية التناحر والمواجهة بين القراءتين، فإنّ تاريخ النزاعات الدامية الكردية ـ الكردية في الإقليم ليست غائبة عن الذاكرة.
ولا يستكمل هذا المحذور إلا ملفّ ثانٍ بالغ الحساسية والتفجر، يخصّ التوافق على مدينة كركوك؛ ليس بين بغداد وإربيل فقط، هذه المرّة، بل على صعيد إقليمي يستدخل تركيا إلى الملفّ، وربما إلى الإقليم في مجموعه أيضاً؛ وليس في ما يقتصر على توزيع عائدات النفط، الهائلة كما هو معروف، فحسب؛ بل كذلك حول التركيب الإثني الكركوكي، وخاصة ثنائية الكرد ــ التركمان، فضلاً عن العرب العراقيين المسلمين والمسيحيين، وسواهم.
وهكذا، تقول الخلاصة المنطقية البسيطة أنّ حقّ كرد الإقليم في تقرير المصير لا يُنازع، من جهة؛ ولكنه بوّابة نزاع، بل نزاعات، من جهة ثانية. وفي هذا ثمة مسؤولية مضاعفة على جماهير الكرد، وعلى قياداتهم، في تسيير دفة المستقبل إلى برّ أمان عراقي ــ كردي، ثمّ كردي ــ كردي أيضاً!

الأحد، 1 أكتوبر 2017

ليلة إدوارد سعيد


جرياً على عادة سنوية تأصلت منذ 13 سنة، أي بعد انقضاء عام على رحيل إدوارد سعيد (1935 ـ 2003)، أكرّس ليلة 24/ فجر 25 أيلول (سبتمبر) لقراءات "سعيدية"، إذا جاز لي هذا الاشتقاق اللغوي؛ سواء مع أعمال الراحل، أو ما صدر من جديد حوله في ميادين الدراسات والمؤلفات، فضلاً عن مراجعة (وإعادة مراجعة!) كتاب عنه، أشتغل عليه منذ سنوات، ويتناول شخصية سعيد الناقد والمنظّر الأدبي.  وهكذا، قرأت خلال الليلة الفائتة فصلاً بعنوان "ما بعد الأنسنية والحداثة التكنو ـ رأسمالية"، من كتاب "ما بعد الأنسنية والرواية المصوّرة في أمريكا اللاتينية"؛ وفيه يعتمد المؤلفان، إدوارد كنغ وجوانا بيج، على عمل سعيد "الأنسنية والنقد الديمقراطي"، الذي صدر سنة 2004 بعد وفاته، ونقله إلى العربية فواز طرابلسي.
كذلك قرأت دراسة طريفة، عنوانها "زهرة الأوركيد الفكتورية وأشكال المجتمع البيئي"، بتوقيع لين فوسكويل. وقد يتساءل قارئ عن صلة سعيد بدراسة كهذه، والجواب هو أنّ افتتان الفكتوريين بالأوركيد، ثم جلبها بكثافة من مواطنها الأصلية إلى بريطانيا، وتحويلها إلى مادة تجارية مربحة تماماً، كان يمثّل أحد جوانب المشروع الإمبريالي البريطاني، في جانب أوّل؛ وتحوّل، في جانب ثانٍ، إلى مسعى متعدد الأوجه ــ نباتي، وأنثروبولوجي، وثقافي، وبيئي ــ للبرهنة على أنّ التاج البريطاني أرض خصبة ملائمة لكلّ جديد وغريب و"إكزوتيكي". وأين، أفضل من "الاستشراق"، عمل سعيد الرائد، أمكن للدراسة أن تعثر على سابقة تحليلة معمّقة لهذا الأنموذج الأعلى في التفكير الاستعماري حول "الآخر".
أخيراً عدتُ (كما فعلتُ مرّات ومرّات!) إلى "جوزيف كونراد وقَصَص السيرة الذاتية"، أوّل كتاب متكامل نشره سعيد، سنة 1966، وكان في الأصل أطروحة الدكتوراه التي تقدم بها إلى جامعة هارفارد. وكما هو معروف، ينقسم الكتاب إلى جزئين، يتناول الأوّل رسائل كونراد ضمن خمسة محاور: 1) النزوعات نحو الفردانية، ضمن "أوالية الوجود بأكملها" كما عبّر مراراً؛ و2) الشخصية و"آلة الحياكة"، بوصفها استعارة التجاذب والتنافر بين شخصيتَيْ البحار والروائي؛ و3) نزوعات القَصّ، خاصة خلال الفترة بين 1896 و1912، خاصة وأنه كان يعمل على "لورد جيم" و"مرآة البحر"؛ و4) العوالم في حال الحرب، سنوات 1912 وحتى 1918، حين كان كونراد قد نشر 24 عملاً سردياً قصيراً ومتوسطاً، بينها "قلب الظلام" و"نوسترومو" و"العميل السري"؛ و5) النظام الجديد، حتى سنة 1924، حين اتخذت تأملاته حول عواقب الحرب الكونية صفة تشاؤمية بصدد مستقبل البشرية.
الجزء الثاني يرصد توازيات روايات كونراد القصيرة مع الديناميات الداخلية التي تجلّت في رسائله؛ في أربعة محاور: 1) الماضي والحاضر (حيث تتجلى إشكالية التنازع الشديد بين مفهومه الشخصي لعلاقة الماضي بالحاضر، وبين سلسلة المفاهيم الخاصة بتلك العلاقة كما عكستها شخصياته القصصية)؛ و2) حرفة الحاضر (بين الروائي والبحار، جوهرياً، ولكن ضمن خلفية خاصة هي استعادة الشاعر الفرنسي بودلير ومفهوم الزمن الحاضر في بعده الحداثي)؛ و3) الحقيقة والفكرة والصورة (وهنا يدشن سعيد أولى الأفكار الجنينية في أعماله اللاحقة التي ستتناول معنى الإمبريالية، اتكاءً على تشخيصات مارلو في "قلب الظلام"، وإضافات كونراد الكثيرة المبثوثة في رسائله، فضلاً عن اقتباس جورج لوكاش والإسهامات الماركسية حول الفردانية والاجتماع)؛ و4) "خطّ الظل"، وهو عنوان رواية قصيرة كتبها كونراد خلال سنة 1915، ويرى سعيد أنها تعكس تأملاته حول توازنات القوّة والبأس أمام الدمار واليأس.
وهكذا، على امتداد أحد عشر فصلاً (و219 صفحة، في طبعة الكتاب الأولى)، يساجل سعيد بأنّ كونراد مال إلى الروايات القصيرة أكثر من تلك الطويلة، وأنه رأى حياته الشخصية أقرب إلى سلسلة وقائع قصيرة؛ لأنه "هو نفسه كان أكثر من شخص واحد، وكلّ واحد من الشخوص ظلّ يعيش حياة غير مرتبطة بالآخر: كان بولندياً وإنكليزياً، بحاراً وكاتباً". وبمعزل عن الإغواء الشخصي الذي انطوى عليه هذا التفصيل في حياة كونراد، بالنسبة إلى سعيد ذي الشخوص المتعددة بدوره، كان ثمة ذلك التحدّي الآخر الذي أغوى الناقد والأكاديمي الفلسطيني ـ الأمريكي الشابّ: أن ينشقّ عن المألوف والعرف السائد، فلا يغرق في دراسة روايات كونراد الطويلة، بل أن يتوجه إلى تلك القصيرة تحديداً، في إجراء أوّل؛ وأن يتفحصها من زوايا السيرة الذاتية، ومعطيات الرسائل والحوادث الشخصية، في إجراء ثانٍ.
جدير بالذكر أنّ مفهوم الإمبريالية سوف يدخل مبكراً إلى عدّة سعيد النقدية، ليس بصدد شخصية مارلو في "قلب الظلام"، ومبدأ القوّة والأنانية والتمايز الفرداني كما تُلتمس عند كونراد في أصول ترتدّ إلى شوبنهاور، فحسب؛ بل كذلك في توسيع للمفهوم، سياسي وثقافي، سوف يرافق سعيد على الدوام. وبالطبع، هنا أيضاً، لم يكن مألوفاً في أوساط النقد الكونرادي أن يتجاسر ناقد وأكاديمي شابّ فيتكئ على شوبنهاور، لكي يساجل بأنّ كونراد أدرك الركائز الأخلاقية، ثمّ الإبستمولوجية، الإمبريالية الأوروبية.
كانت ليلة قراءات شاقة، غنيّ عن القول، باعثة على ما يؤرق الذهن ويمتعه معاً. ولكن، لأنها كذلك، خصوصاً في استذكار معلّم كبير، فإنها عندي بألفٍ مما أعدّ لسواها من ليالي "شحن" الوعي.