وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 28 سبتمبر 2012

سورية في بورصة الكوارث: تعددت السيناريوهات والمآل واحد

صار شائعاً وسهلاً، بل مستسهَلاً أيضاً، الخوض في غمار المستقبل السوري؛ الآن، في الراهن، وقد ربط النظام بقاءه ببقاء البلد، بشراً وكياناً وطنياً وعمراناً؛ وفي المستقبل، إذْ يواجه البلد مصائر صعبة، وخيارات تنعقد على مخاطر كبرى، بعد قرابة نصف قرن من حكم حزب البعث، بينها 42 سنة من نظام "الحركة التصحيحية". و"الغمار" هنا صار أشبه ببورصة صاخبة، يتدافع فيها المراهنون بالمناكب، كلٌّ يدلي فيها بدلو: تارة يقرأ المرء عن سيناريو الكابوس الوشيك، الذي يمكن أن يبدأ من تقسيم البلد وتفتيته و"انفجار" سورية؛ وطوراً يقفز سيناريو الحرب الطويلة، المديدة والمستدامة، ليس بين فئات المجتمع السوري الإثنية و/أو الطائفية والدينية، فحسب، بل على مستويات عربية وإقليمية.

ولن يعدم المرء فقيهاً ينصح باتفاقية طائف سورية، هي خشبة الخلاص الوحيدة، خاصة وأنّ ميزان الطوائف في سورية ليس أقلّ انطواء على عناصر الشقاق من نظيره الميزان اللبناني؛ أو آخر، يزعم التفقه في التاريخ ما قبل الكولونيالي للبلد، يقول إنّ سورية كانت دائماً "تركيبة هشة"، أقرب ـ على شاكلة، وربما أكثر، من الأردن ـ إلى دولة "المنطقة العازلة" Buffer State، وخاصة في المفهوم الذي سوف تبتدعه اتفاقيات سايكس ـ بيكو. وحين يبالغ المبالغون (وهم كثر!) في تضخيم حجم، ونفوذ، عشرات المقاتلين العرب والأجانب، المتسللين إلى المناطق المحررة، في حلب وجبل الزاوية خصيصاً؛ فإنّ الكثيرين منهم لا يترددون في التخوّف من "أفغنة" سورية، وانشطارها إلى إمارات حرب، يتزعمها أمراء طوائف!

فإذا بدأ المرء من خصوم البلد، أو تلك الجهات التي لا تضمر خيراً لسورية حتى إذا ادعت تأييد مطامح السوريين إلى إسقاط النظام، فإنّ الملاحظة الأبرز التي تطغى على سيناريوهات هؤلاء هي استبعاد الشعب السوري كطرف فاعل، بل انتفاء دوره أحياناً. تُخلط الأوراق، وتختلط القوى، وتتداخل التيارات، وتتعدد المصالح... فلا تخرج الحصيلة إلا بانتفاضة منزوعة الإرادة، مستلَبة من الخارج، رهينة "التحالف الأمريكي ـ القطري ـ السعودي"، أسيرة "الجهاديين" القادمين من أربع رياح الأرض، سجينة كتائب الجيش الحرّ التي يهيمن عليها الإسلاميون وحدهم، ضحية الطائفيين الغلاة المتشددين وكارهي الأقليات والتعددية... إلى ماهنالك، وإلى كلّ ما يخطر على البال، أو لا يخطر، من مثالب وعثرات وأخطاء وقبائح و... جرائم حرب، أيضاً وأيضاً!        

لا أحد من هؤلاء يتجاسر على إعلان تفضيله لبقاء نظام الاستبداد والفساد (الذي يظلّ، في نظرهم، "العلماني" حتى إذا كان دكتاتورية دموية، "ضامن الاستقرار" حتى إذا شنّ ضدّ الشعب السوري أقذر الحروب واستخدم كلّ وأثقل الأسلحة، "الكفيل الأفضل" للاحتلال الإسرائيلي في الجولان...)؛ فالحياء، والنفاق، وذرّ الرماد في العيون، كلها تقتضي عدم التصريح بتأييد مستبدّ قاتل، ضدّ شعب قتيل. ولكنّ مسرد ما يعلّقونه على الانتفاضة من نواقص، سرعان ما تنقلب إلى مخاطر ومخاوف وسيناريوهات كارثية، يفضي إلى هذه النتيجة الوحيدة، الجلية رغم كلّ أفانين تمويهها: أنهم يفضّلون بقاء النظام، فإذا تعذّر هذا بفضل صمود الشعب السوري وإصراره على المضيّ بالانتفاضة حتى ساعة النصر الختامية، فمن الخير عرقلة هذا المآل قدر المستطاع، أو إبطاؤه ما أمكن.

أمّا أصدقاء الشعب السوري، أي أولئك الذين يصدقونه قولاً وفعلاً ونيّة، فإنهم يسوقون سلسلة مخاوف مشروعة، ويضربون أمثلة على أخطاء فادحة، ويحذّرون من انحرافات بالغة الخطورة، ويقتبسون وقائع لا يصحّ البتة أن تقترن بأية حركة شعبية ثورية، وذلك على مستويات سياسية وعسكرية وأخلاقية. هم على حقّ في هذا، لا جدال بالطبع، خاصة حين يتصل ما يسوقونه بتلك المعادلة الطاحنة المزدوجة: ما ينفع النظام يضرّ بالانتفاضة، وما يطيل ساعة النصر يمدّ في عمر النظام. والذين يضيقون ذرعاً بملاحظات الأصدقاء، وخاصة عندما تطال "مؤسسات" المعارضة السورية على اختلافها، جدير بهم أن يتوسلوا صدور تلك الملاحظات، وأن يروا فيها صيغة بناء في المقام الأوّل.

غير أنّ البعض من هؤلاء الأصدقاء لا يعتمد مبدأ الإنصاف، الذي يبيّن ما للانتفاضة، وما عليها، سواء بسواء؛ ويدفعه حسّ النقد (البنّاء، غالباً، والحريص المنحاز للحقّ) إلى ملامة الانتفاضة في ما ليس للانتفاضة يد فيه، أو حيلولة دون وقوعه. وهكذا، يُراد من الانتفاضة أن تكون من صنع بشر أقرب إلى الملائكة، وأن تكون خالية، أو تكاد، من أي خطأ جسيم؛ رغم أنّ أحداً لا يصرّح بهذا، غنيّ عن القول، إذْ هو مطلب محال ولا صلة له بالعالم الآدمي. ورغم اعتراف هؤلاء الأصدقاء بأنّ ما اجترحه الشعب السوري، ويجترحه منذ سنة ونصف، أشبه بالمعجزة، على الصعيد العربي في أقلّ تقدير؛ فإنّ إسباغ هذا الشرف يترافق، على نحو شبه آلي في الواقع، بمسرد محاذير يحيل المعجزة تلك إلى... أسطورة!

جدير بالتذكير، إذاً، ذلك المبدأ البسيط ـ العادل والمنصف، بمعايير شتى ـ الذي يقول إنّ الانتفاضة فعل شعبي معقد، أكثر بكثير مما يُظنّ عموماً، وأشدّ انطواء على سيرورات شاقة مركبة، لا ينفع معها تطبيق أيّ مبدأ مانوي يقسم الظواهر إلى أبيض أو أسود، سلمية أو عسكرة، استقلال عن قوى الخارج أو ارتهان لها، وتمسك بسراط الوحدة الوطنية أو انحراف نحو تخندقات طائفية أو دينية أو إثنية أو مناطقية. جدير بالتذكير، أيضاً، هذا الاعتبار المتمم: لأنها فعل شعبي معقد، فإنّ الانتفاضة بالتالي فعل اجتماعي بامتياز، تتجاوز تعقيداته كلّ، وأية، "خطاطة" مثالية تمّت تنقيتها من الأوشاب جميعها. وهي فعل يمكن أن ينقض، في كثير أو قليل، أية "وصفة" مسبقة الصنع، مسبقة التصوّر، مسبقة التخيّل، خالية تماماً من العثرات والأخطاء والانحرافات.

ليس ثمة انتفاضة طوباوية، ملائكية، وردية، سلمية مسالمة لا ينيخ عليها الواقع بأثقاله ومعضلاته وانقساماته؛ فكيف إذا اختُبرت طيلة سنة ونصف، واستُخدمت لقهرها كلّ صنوف الأسلحة، من الدبابة إلى الحوامة فالقاذفة والزورق الحربي، مروراً براجمة الصواريخ والمدفعية الثقيلة والقنابل الانشطارية والمسمارية والغازات المحرّمة دولياً؟ وكيف إذا صارت نقطة اجتذاب، وإغراء وإغواء، لما هبّ ودبّ من صنوف الساعين إلى نصرة الإسلام، عن حقّ أو عن باطل، بما تنطوي عليه صفوفهم من ألوان التشدد ضدّ الآخر، إذا خالفهم الرأي واليقين، حتى إذا كان من أهل "دار الإسلام" التي نفروا للجهاد في سبيل نصرتها؟ فإذا كان الصحافي الأجنبي قادراً على التسلل إلى الداخل السوري، عن طريق الحدود التركية الطويلة، وبعد انهيار الكثير من المعابر الحدودية؛ فلماذا لا يفلح في التسلل مقاتل عربي أو أجنبي؟ وهل يملك كتائب الجيش الحرّ رفاه تأجيل قتال جيش النظام، أو تأجيل الدفاع المصيري عن النفس، بهدف التفرّغ لمقاتلة هؤلاء المتسللين؟

جدير بالتذكير، ثالثاً، أنّ الانتفاضة، بوصفها فعلاً شعبياً اجتماعياً على وجه الدقة، ليست ثمرة توافق مطلق في المصالح والغايات والأساليب والعقائد، حتى إذا كانت شعاراتها الأبرز (إسقاط النظام، بعد الاقتناع نهائياً بأنّ المركّب الأمني ـ العسكري ـ الاستثماري الحاكم ليس راغباً في الإصلاح الحقيقي، وليس قادراً عليه أصلاً؛ والتطلع إلى سورية حرّة ديمقراطية تعددية مدنية، لكلّ أبنائها، على اختلاف انتماءاتهم العقائدية أو الدينية أو الإثنية)، تحظى بإجماع عريض. ولهذا فإنّ المظاهرة الواحدة يمكن أن تضمّ اليساري واليميني والإسلامي والمسيحي والليبرالي؛ المسيّس المنتمي، مثل المستقلّ الوافد حديثاً إلى السياسة؛ المعتدل أو المتشدد أو الوسطي، المؤمن بسلمية الانتفاضة، مثل ذاك المطالب بحرب العصابات؛ والمقتنع بأنّ "المحور الأمريكي ـ القطري ـ السعودي" يتآمر علينا، مثل ذاك الذي يعتبره أحد منافذ نجاة الشعب السوري من المجزرة المفتوحة التي انقلب إليها سلوك النظام...

هذا ـ على سبيل تذكير الأصدقاء، وليس الخصوم والمنافقين والكذبة ـ هو مجتمع الانتفاضة الفعلي، الحقيقي، الواقعي، غير المجمّل ولا المزوّق ولا المعدّل؛ ولا تنفع أية كيمياء طوباوية في تنقيته إلى صبغة واحدة (بافتراض أنّ التاريخ شهد، ذات يوم، ابتكار تلك الكيمياء، عند أي شعب!). وهذا مجتمع لا يجوز فرزه إلى سلسلة "ألوان"، طاغية غامقة هنا، أو كامدة فاتحة هناك؛ على نحو يختزل الزخم الشعبي المعقد ـ والمركّب جداً، كما يتوجب التشديد دائماً ـ إلى "فئات" و"شوارع" و"أطراف"... يخضع، كلّ منها، للقاعدة المانوية ذاتها، التي تضع الأبيض على نقيض الأسود، والمؤمن بسلمية الانتفاضة في وجه حامل الكلاشنيكوف. وسواء كان هذا على خطأ، أو ذاك على صواب، أو العكس؛ أو كانت معادلة الاتفاق، أو الاختلاف، في منزلة بين منزلتين؛ فإنّ القواعد المانوية هي أسوأ معايير وزن الوطنية عند زيد أو عمرو، وأقلّها اكتراثاً بروح الجدل، خاصة إذا نُظر إلى الانتفاضة على نحو مجرّد تماماً، بمعزل عن الزمن وتحولاته، ودون وضع وحشية النظام الدفاعية في قلب المعادلة، وفي كفّة الميزان.

إلى جانب هذه المسائل، يثير بعض أصدقاء الانتفاضة مشكلة تشرذم المعارضة السورية، بما يوحي أنها لو توحدت فإنّ النظام سيضعف أكثر، أو تخور قواه؛ وأنّ الانتفاضة، في المقابل، سوف يشتدّ عودها، وترتقي، وتتقدّم أكثر في برامجها السياسية والنضالية. صحيح، في القياس المنطقي المبسط، أنّ الوحدة خير من الانقسام، ولكن هل كانت المعارضة/ المعارضات السورية هي مُطْلِقة الانتفاضة في المقام الأوّل، لكي تنقلب إلى رافعة لها اليوم؟ وهل قيادة الانتفاضة الفعلية هي "المجلس الوطني السوري"، بمحاسنه ومساوئه، سواء على مستوى هيئاته، أم على مستوى الأفراد فيه، وخاصة "نجوم" الفضائيات وفرسان معارك الديكة واختيال الطواويس؟ الجواب هو النفي، بالطبع، وغالبية المعارضين هرولوا خلف الانتفاضة عند انطلاقتها، فمنهم من لحق بها وانضمّ إلى ركبها، صادقاً أو كاذباً؛ ومنهم من تعثر، أو تقطعت به السبل، فتخلّف، ولكنه ركب الموجة مع ذلك، لأنه رفض أن يقرّ بعجزه.

ويبقى أنّ السلاح معضلة، والتجييش الطائفي والتخويف من الحرب الأهلية معضلة أخرى، وهزال الهيئات التي تزعم القيادة معضلة ثالثة، وتعليق الآمال على أعداء النظام اليوم/ أصدقائه حتى الأمس القريب معضلة رابعة، وموقع سورية الجيو ـ سياسي الخاصّ والحساس معضلة خامسة... ولكن الذين انتظروا أن تسير الانتفاضة ـ في هذا البلد بالذات، ضدّ هذا النظام تحديداً، وسط هذه التعقيدات كلها ـ كما السكين في قالب زبدة؛ هم الجديرون بالتباكي على بورصة سيناريوهات تكهنوا بها، فخاب فألهم. على الأرض يتواصل جدل احتدام المعضلات، والتعقيدات والمصاعب والتضحيات، لكي ينتهي إلى المآل الوحيد الذي لم يعد يصحّ سواه: انطواء صفحة الاستبداد، مرّة وإلى الأبد.

الاثنين، 24 سبتمبر 2012

"الربيع العربي" ودموع التماسيح


من جانب أوّل، يراهم المرء يرفعون راية حقّ (صيانة حرّية التعبير، حتى إذا استثارت الحساسيات الدينية)، ولا يشيرون إلى ما يمكن أن تنطوي عليه الراية ذاتها من باطل (التعبير الحرّ، ولكن على نحو رخيص، وعن سابق تصميم، يكفل استفزاز الغلاة). ومن جانب ثانٍ، إذا فشل مقدار كبير من أهداف المخطط (لأنه كذلك في الواقع، أياً كانت المعاني البريئة أو الخبيثة وراء التخطيط)، فإنهم يجنحون إلى الاختزال الفاضح، والنسبية المبتذلة؛ فيعتبرون، مثلاً، أنّ واقعة هجوم 500 سلفي متطرف على القنصلية الأمريكية في بنغازي هي المقياس والمعيار والمرجعية، ولا تُقارَن، ولا تُحال إلى نقيض، خروج 5000 متظاهر ليبي ضدّ أولئك السلفيين أنفسهم، استنكاراً  لما ارتكبوه من أعمال عنف. كلّ هذا في بلد هو الأوّل الذي شهد، ضمن ما جرى من انتخابات في بلدان "الربيع العربي"، تفوّق قوى غير إسلامية.

وهؤلاء، أهل الكيل بعشرات المكاييل، هم أنفسهم نفر المراقبين ـ والمحللين والأخصائيين والمستشارين... أو فقهاء علوم الشرق الأوسط، باختصار ـ الذين رحبوا بـ"هبوب رياح الديمقراطية" على المنطقة، واستسهلوا تسمية ربيع (جاء في أواخر الحريف، مطلع الشتاء عملياً!) مستمدّ من بطون رطانة اصطلاحية غربية لا تعبأ باختلاط حابل بنابل. ولهذا، ما أن أسفرت أولى العمليات الانتخابية عن تقدّم الإسلاميين في صناديق الاقتراع، في تونس ومصر (ولكن في المغرب أيضاً، قبل أن تبشّر أية سنونوة بدنوّ الربيع!)، حتى وجدهم المرء يطرحون السؤال: أهذا هو "الربيع العربي"؟ في عبارة أخرى، لا يرجحها الظنّ وحده: أهذا هو "ربيعنا" الذي صفقنا له، نحن، أهل الغرب؟ وأمّا حين وقع الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي (ولم يقع أي هجوم على مكاتب أسبوعية "شارلي إيبدو" الفرنسية!)، فإنّ السؤال انقلب إلى جزم، أقرب إلى القرار: كلا، ليس هذا هو "الربيع العربي"!

وراهنوا أنّ الأسئلة لن تُطرح بهذه الشفافية (وتلك فضيلة، لغوية على الأقلّ!)، بل ستُلوى وتُحوّر وتُشوّه، بما يقوّي حجة القائلين بأنّ الربيع انقلب إلى شتاء أو خريف؛ ولكن، أيضاً وعلى نحو أخبث: لكي تُجرّد انتفاضات العرب من أغراضها الشعبية الكبرى، في الكرامة والحرية والمساواة، وتُسحب إلى حيثيات أخرى ترفع، هنا أيضاً، راية حقّ لا يُراد منها إلا الباطل. توماس فريدمان، المعلّق الشهير في "نيويورك تايمز" كتب مقالة بعنوان "الربيع العربي الآخر"، بدأها بافتراض تحريفي رديء (أنّ البوعزيزي أحرق نفسه، في تونس، وسط مناخات ارتفاع أسعار المواد الغذائية عالمياً؛ وأنّ الفلاحين، في درعا السورية، ثاروا على النظام بسبب منعهم من بيع أراضيهم المحاذية للحدود مع الأردن)؛ واختتمها بتحذير أشدّ عجباً، ورداءة: الخطر الأكبر، الذي يتهدد البشرية، هو... التصحّر البيئي!

وفي فرنسا، بمزيج من السخرية والاستهجان، يهتف أوليفييه روا، أحد كبار الأخصائيين في شؤون الإسلام والشرق الأوسط: "ما الذي دهاكم! هل نبدأ من جديد؟ صدام الحضارات، وسخط المسلمين، والعالم المسلم الذي يلتهب، وعجز الإسلام عن قبول الروح النقدية وحرّية التفكير"... والرجل، الذي استهلّ "الربيع العربي" بتوبيخ زاعمي معرفة الإسلام والمسلمين، بمقالة شهيرة لاذعة عنوانها "ليست ثورة إسلامية"؛ يناشد الناس أن لا يجرّموا "الربيع العربي" اتكاء على أعمال العنف التي أعقبت الفيلم المسيء، وحدها: صحيح أنها لم تلجأ إلى هذا المستوى من العنف، ولكن ألم تتظاهر جماهير مسيحية في الغرب، وعلى نحو عنيف أحياناً، ضدّ "الإغواء الأخير للمسيح"، شريط مارتن سكورسيزي، سنة 1988، يسأل روا؟ ألم تضغط الكنيسة الكاثوليكية، وإنْ بطرائق أقلّ صخباً وأكثر فاعلية، ضدّ ملصقات "نزهة الجلجلة"، شريط رودريغو غارسيا، سنة 2011، يسأل روا ثانية؟ 

فإذا انتقل المرء إلى الساسة، وأهل الصفّ الأوّل بينهم، جدير بالتذكّر أنّ بين كبريات فضائل برقيات "ويكيليكس" كانت الكشف عن سلسلة تقارير وبرقيات وتقديرات تخصّ تلك الخديعة الكبرى، التي انخرط فيها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، وكبار مساعديه، وبعض رجالات الصفّ الأوّل من "المحافظين الجدد"؛ والتي سُمّيت "نقل فيروس الديمقراطية إلى العرب"، من خلال احتلال العراق، وإقامة نظام ديمقراطي غير مسبوق، ثمّ تصديره إلى الجوار بطريق الإغواء أو القسر أو العدوى. خَلَفه، باراك أوباما، تابع نهج سلفه، ولكنه أضاف إليه "مسحة أسلوبية" شخصية، هي مداهنة المسلمين (في خطبتَيه أمام البرلمان التركي ومن جامعة القاهرة)، في العلن؛ والإمعان أكثر فأكثر في تخريب العلاقات مع العالم المسلم من خلال سياسات الانحياز المطلق لإسرائيل، ومراقصة الطغاة، وتعليق الأمل على نواياهم "الإصلاحية" حتى ربع الساعة الأخير قبيل سقوطهم (المر يتذكّر مدائح هيلاري كلنتون، لأمثال زين العابدين بن علي وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح، وحتى بشار الأسد نفسه).

وإلى مواقف المعلّق والمراقب والسياسي، حيث انطلقت مواسم الوقوف على أطلال "الربيع العربي" وذرف دموع التماسيح، ثمة ذلك النصح البارد الذي أتى من برنارد لويس، "بطريرك الاستشراق" بلا منازع: الكثير ممّن نسمّيهم "أصدقاء أمريكا" في المنطقة هم "ثلّة فاسدين"، ولكنهم "خير لنا من الراديكاليين الإسلاميين". بالتأكيد، شريطة أن يستطيع الغرب إحياءهم من رميم، أو انتشالهم من هوّة السقوط الأكيد! 

الاثنين، 17 سبتمبر 2012

الإسلام والمسيء الأكبر

 لم أشاهد دقيقة واحدة من شريط "براءة الإسلام" ـ ولستُ واثقاً أنّ هذه الترجمة الشائعة للعنوان، هي الصحيحة التي تشفي غليل المنتج، أو تغطّي مساحة أحقاده ـ ولا أنوي ذلك، أغلب الظنّ؛ إذْ تكفيني جملة آراء أثق بأصحابها، انتهت إلى أنّ الشريط أتفه، وأسخف، من أن ينساق المرء إلى مشاهدته تحت ضغط ما أثاره من ضجيج. هذا أمر، والرأي في ما أقدمت عليه جموع المتشددين من أعمال عنف، ونهب وتخريب، ضدّ السفارات الأمريكية، أمر آخر مختلف تماماً: الأوّل غير جدير بإضاعة الوقت، حتى من باب إشباع الفضول البسيط؛ والثاني جدير بتأمل أعمق، يذهب أبعد من الاستنكار الواجب، أو الإشفاق على العباد، البسطاء منهم والغلاة، من شرور الجهل والجهالة.

فمن جهة أولى، ينشغل آلاف المسلمين، والأحرى القول إنهم أقرب إلى "تَأَسْلُمٍ" متطرّف عنيف، منهم إلى الإسلام الحقّ، بالذود عن حياض الدين إزاء إساءات تصدر عن أبناء ديانات أخرى؛ لكنهم لا يكترثون، أو لا ينشغلون إلا بمقادير أقلّ، هزيلة وفاضحة، بما يرتكبه مسيئون آخرون من أبناء جلدتهم، مسلمون، أو يعلنون الإسلام على الأقلّ. فهل مشاهدة شريط يصوّر ضابطاً من جيش النظام السوري، يطالب معتقلاً أن يهتف بأنّ ربّه هو بشار الأسد وماهر الأسد، أقلّ إساءة للإسلام؟ أو، كما قالت لافتة بليغة رفعتها تنسيقية بلدة عامودا: "كلّ يوم من سورية تُعرض أفلام تسيء لله وللرسول، فأين أنتم يا مسلمون؟". فكيف إذا كانت تلك "الأفلام" ليست محض شرائط ولقطات وحوارات، بل مجازر مروعة من طراز بابا عمرو والحولة وداريا؟

ومن جهة ثانية يتناسى الغلاة المتأسلمون أنّ النظام العربي ـ الكاذب في تسعة أعشار ما يعلن، والعاري على الملأ رغم كلّ ما يتسربل به من أقنعة ـ اعتاد إراقة دموع التماسيح استنكاراً لكلّ ما يسيء للدين الإسلامي، لكنّ رؤوس هذا النظام ورجالاته هم أشدّ انتهاكاً للديانة، ليس في معمارها الأخلاقي الصرف، بل كذلك في صلب نواهيها التي تخصّ تكريم ابن آدم، واحترام حياته وحقوقه وحرّياته. صحيفة "تشرين"، السورية شبه الرسمية، لم تجد من واقعة اقتحام القنصلية الأمريكية في ليبيا، ومقتل السفير هناك، إلا... مؤامرة أمريكية لنشر وحدات الـ"مارينز"، وذلك لأنّ "حسابات حقل 'الربيع العربي' لم تأتِ تماماً على مقاس البيدر الأمريكي، فكان لا بد من إعادة الزرع وإعادة الحصاد"! هذا في "التحليل"، فماذا عن "المعلومة"؟ تؤكد "تشرين": "التحاق المتهمين بقتل السفير الأمريكي بالميليشيات الإرهابية في سورية"!

وفي العودة بالذاكرة إلى زمن قصير سابق، وإلى واقعة أخرى هي الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها صحيفة "يولاندس بوستن" الدانمركية، في مثل هذه الأيام سنة 2005، كان النظام السوري قد أوحى بالتظاهر، ومقاطعة الجبنة الدانمركية، بل والإقدام على حرق السفارات؛ وفي الآن ذاته كان يواصل قمع الحرّيات العامة، ويمنع أيّ حقّ بسيط في المطالبة بالحرّية والخبز والعيش الكريم، ويعتبره "وهناً لعزيمة الأمّة"، وجريمة تستدعي المحاكمات القرقوشية. آنذاك، تناقلت وكالات الأنباء الخبر المثير عن إحراق السفارتَين، الدانمركية والنروجية، والصور الأكثر إثارة عن ألسنة اللهب المتصاعدة منها. ما لم يصل إلى أسماع الكثيرين (لأنّه لم يكن موضوعاً جذاباً لشاشات التلفزة، أو فاتحاً لشهية الفضائيات)، هو أنّ هذه السلطة ذاتها كانت، قبل أسبوع واحد فقط، قد منعت عدداً من المواطنين، بينهم بعض معتقلي الرأي الذين تمّ الإفراج عنهم مؤخراً، من عقد مؤتمر صحفي بسيط في مكتب المحامي هيثم المالح.

من جهة ثالثة، يتناسى المتشددون، حارقو السفارات وناهبوها، أنّ حكومة الولايات المتحدة، وقبلها الحكومة الدانمركية ـ سواء أسعدتها أعمال مثل شريط "براءة الإسلام" أو الرسوم الكاريكاتورية، أم أحزنتها؛ واتفقت معها، أم عارضتها ـ ليست الجهة التي ينبغي أن تُلام. وأياً كانت مقادير السخف أو الإساءة أو الحقد أو التحريض المجاني أو الأجندات السرّية وراء مثل تلك الأعمال، فإنها ممارسات تكفلها القوانين المرعية، ويُحاسب أصحابها عليها في قاعات المحاكم، وليس أمام أسوار السفارات، عن طريق الحرق أو النهب. وإذا صحّ أنّ معظم تشريعات الغرب تفتقر إلى قوانين خاصة تحمي مشاعر المسلمين، كما يساجل البعض، فإنّ لهذا سلسلة أسباب تاريخية وثقافية ودينية معقدة، لا تغيب عنها حقيقة أنّ الجاليات الإسلامية مفككة مشتتة منشغلة، وعاجزة عن تشكيل مجموعات ضغط تدفع باتجاه استصدار تلك القوانين.

ليس غريباً، أخيراً، ان يلتقي المتشددون المتأسلمون مع السلطات العربية في كره الصحافة الحرّة، والمخيّلة الحرّة، والإبداع الحرّ، بصرف النظر عن أي انزلاق متعمّد نحو الإساءة. كذلك يتعامون عن مبدأ استقلال التعبير، فلا يبصرون إلا صورة جهاز الدولة الرسمي الذي لا يعقل أن يُنتج شريط دون موافقته؛ وبالتالي فإنّ "براءة الإسلام" إنتاج حكومي بالضرورة، تُسأل عنه البعثات الدبلوماسية الأمريكية، في بنغازي والقاهرة وتونس (وأبناء العمومة في الخرطوم استعاضوا عن الأمريكية بالبريطانية، والألمانية!)...

من جانبه، يسير المسيء الأكبر خلف هذه الجموع، يطبّل لها، يحرّضها، ويمنحها "الحقّ في التعبير"؛ ليس دون أن يضحك، في عبّه، على أمّة ضحكت من جهلها الأمم!

الاثنين، 10 سبتمبر 2012

ألكسندر كوبرن: كبوة ضمير

 محزن أنّ الكاتب والصحافي الإرلندي ألكسندر كوبرن (1941 ـ 2012) رحل عن عالمنا هذا، قبل أيام، ونحن معه على خلاف عميق، يتجاوز الرأي الآخر إلى جوهر مبدئي، لعله لم يكن سياسياً أو فكرياً فحسب، بل أخلاقياً أيضاً. والـ"نحن"، هذه، أسمح لنفسي بالقول إنها قد تشمل جمهرة من أنصار شخصية كوبرن الراديكالية، كمثقف دائب الانشقاق، على الطراز الذي حلم به الراحل الآخر الكبير، إدوارد سعيد؛ وكذلك بوصفه أحد كبار شرّاح، ومشرِّحي، أضاليل "الحلم الأمريكي"، بدأب وعناد ويقظة وسخط، وبعمق قلّما نجد له مثيلاً في الأساليب الصحفية السائدة في الغرب، عموماً.

خلافنا معه (وهنا، أيضاً، أسمح لنفسي بافتراض فئات هذه الـ"نحن": جماعات شتى، من السوريين بصفة خاصة، ومن العرب، وأبناء ما كان يُسمّى "العالم الثالث"، ومجموعات أخرى في أربع رياح الأرض كما أقدّر)، يدور حول تشخيص الانتفاضة السورية، وطبيعة القوى الشعبية المشاركة فيها، وآفاق تطوّرها، واحتمالات وقوعها في قبضة الإسلاميين السلفيين و"القاعدة؛ وأيضاً، والأهمّ ربما: كيف يستقيم أنّ الإمبريالية العالمية، والولايات المتحدة بخاصة، تؤيدها وتساندها؟ ليس هنا المقام المناسب لمناقشة هذه الأسئلة، إذْ أنها تجليات حال خلافية مع تيّارات واسعة في صفوف اليسار الغربي، ومع جبهات وقوى تصنّف عقيدتها تحت مسمّى "مناهضة الإمبريالية"، وكذلك مع كتّاب ومعلّقين اعتادوا ـ كما اعتدنا، في الواقع ـ اعتماد التشكيك التامّ في أي موقف غربي ـ إمبريالي، لمَنْ يشاء ـ متعاطف مع قضايا الشعوب، ضدّ أنظمة الاستبداد والفساد.

يكفي القول، في هذا المقام، أنّ كوبرن رحل وهو وفيّ لهذا المبدأ التشكيكي الكبير الناظم، حتى إذا كنّا نرى أنه ـ وهو الماركسي، ربيب الجدل والمادية التاريخية ـ اجتزأ الكثير من عناصر المشهد السوري، واقتفى بُعداً واحداً، وأحادياً أيضاً، قاده إلى ترجيح بغض سياسات البيت الأبيض، وكذلك بريطانيا وتركيا والسعودية... فلم يرجّح، وربما لم يتعمّق ملياً في، الكفة الأخرى الوازنة سياسياً وأخلاقياً، أي قضية الشعب السوري الثائر على نظام دكتاتوري وراثي فاسد، اعتمد ويعتمد العنف الوحشي الأقصى في قمع الانتفاضة، فضلاً عن أنه لم يكن في أيّ يوم عدوّاً فعلياً للإمبريالية!

كما أنّ إنصاف كوبرن يقتضي الإشارة إلى أنه رحل وهو وفيّ لمبدأ آخر ناظم، طبع حياته ومواقفه وكتاباته، أي عدم مهادنة الطغاة أينما كانوا، الأمر الذي جعله لا يتردد في وصف النظام السوري بأبشع النعوت، فلم يقع في السقطة الفاضحة التي قادت بعض الكتّاب اليساريين إلى نفي الصفة الدكتاتورية عن نظام بشار الأسد، أو اعتباره "شبه دكتاتورية"، أو حتى "دكتاتورية بلا دكتاتور"! لم يرحل، إذاً، وقد ألحق بتاريخه وصمة عار فاضحة، على غرار السقطة ـ المهنية أوّلاً، قبل أي اعتبار آخر ـ التي انحدر إليها روبرت فيسك مثلاً، حين صدّق، بل تطوّع للمصادقة بحماس على، ما يمكن أن يبوح به معتقل، في مكتب أحد ضبّاط استخبارات النظام السوري!

رحل كوبرن وهو الضمير القلق أبداً، المنشقّ عن المألوف والروتيني والتنميطي، الذي يتلمس الدروب الشاقة في ليل الظاهرة (سياسية كانت أم اجتماعية أم أدبية، جليلة أم تافهة، محلية أم كونية)، بحثاً عن الخفيّ والمخفيّ، لكي يكشف دائماً عن صحّة القاعدة الذهبية: ما خفي كان أعظم! في حرب الخليج الثانية، 1991، كان أوّل مَنْ امتلك شجاعة التشكيك في صحّة حكاية حاضنات الأطفال الرضّع في مشافي الكويت، حين كان السواد الأعظم (في الغرب والشرق، على حد سواء) يستشيط غيظاً وألماً وتوجّعاً من "السلوك العراقي البربري". وأثبتت الأيام أنّ الحكاية مفبركة تماماً، وأنّ مؤسسة عملاقة تختصّ بالعلاقات العامة قبضت مبلغاً خيالياً لإعداد السيناريو الكفيل بكمّ أفواه مَنْ ينوي الاعتراض على الحرب في جلسة الكونغرس.

وحين فاز الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في انتخابات الرئاسة الأولى، كان كوبرن الوحيد الذي كشف النقاب عن الحقائق (الصاعقة!) التالية: أنّ كلينتون متورّط من رأسه حتى أخمص قدميه في عمليات تبييض أموال المخدّرات، وفي تسويق البضاعة، وذلك من بلدة مينا، في ولاية أركانسو، حيث كان كلينتون هو الحاكم، ورفض مئات العرائض التي طالبت بإغلاق مطار البلدة الفاسد. وكان كوبرن هو الذي ذكّر العالم أنّ البطل القومي البريطاني وحامل جائزة نوبل، ونستون تشرشل، هو أوّل من أعطى الإذن باستخدام الأسلحة الكيماوية والغازات السامة، وتجريبها على بدو العراق في الجنوب، تحت الذريعة الصريحة التالية: "الأسلحة الكيماوية تمثّل تطبيق العلوم الغربية على الحرب الحديثة. إننا لا نستطيع تحت أي ظرف الضغط باتجاه منع استخدام أية أسلحة متوفرة وقادرة على إنهاء الفوضى السائدة على الحدود".

وهكذا، في مؤلفاته، كما في مقالاته الساخنة الفضّاحة التي واصل كتابتها في مجلة The Nation والموقع الإلكتروني CounterPunch، ظلّ كوبرن محارباً قديماً شديد المراس، متطرفاً تماماً في الحقّ، متزمتاً في الدفاع عن القضايا الخاسرة، متشدّداً في السباحة عكس التيّار السائد. ومع ذلك، فلكلّ ضمير كبوة، إذا جاز القول، من باب تثمين قامة الرجل، التي ظلت شامخة عالية حتى ساعة رحيله.

الجمعة، 7 سبتمبر 2012

"شبح" الإسلام السياسي: واقع يجبّ الخرافة.. مجدداً!

ليس كثيراً، أغلب الظنّ، أن يقتبس المرء كارل ماركس وفردريك إنغلز، في تلك الفقرة الأشهر التي تحدّثت عن "شبح يجوس أوروبا"؛ ولكن ليس للإشارة إلى الشيوعية، هذه المرّة، بل إلى شبح يجوس الانتفاضة السورية" اسمه "الإسلام السياسي" تارة، و"جماعة الإخوان المسلمين" طوراً؛ إذا وضع المرء جانباً تسميات قصوى مثل "الجهاديين" و"السلفيين" و"القاعديين"... ورغم الفارق الدلالي الشديد، ومثله السياقات التاريخية والإيديولوجية، والوقائع والقوى والمضامين والتوازنات، فإنّ شيئاً من روح المغالاة (التي تلامس التطيّر أو اتقاء الشرّ أو الخشية أو الإشفاق) تبرّر سوق هذه المقارنة: بين شبح الشيوعية، في أوروبا ثورات 1848، أو "ربيع الشعوب"، ما قبله وخلاله وبعده؛ وبين انتفاضات العرب، هنا وهناك، ولكن في سورية على وجه الخصوص، بل الخصخصة!

أقلّ الآراء تشدداً، في هذا الصدد، سوف تساجل بأنّ "الشبح" استولى على الانتفاضة السورية، وحرفها عن مسارها المدني والعلماني والسلمي، وذهب بها إلى التطرّف الديني والتمييز الطائفي والخطاب الإقصائي. أما أعلاها صوتاً، وبالتالي أشدّها تشبهاً بمنطق "الشبح الذي يجوس..."، فهي تلك الآراء التي تقول (ليس، دائماً، اتكاءً على مسوّغات غبية أو سطحية أو جاهلة او تجهيلية أو ترهيبية!): ما يجري هنا هو الشطر السوري من "مؤامرة صهيو ـ وهابية"، هدفها تفتيت الشرق الأوسط إلى دويلات (كأنه، ما شاء الله، شرق أوسط واحد موحّد!)، يسهل بعدها تطبيق مبدأ "الأفغنة" على دوله التي شهدت انتفاضات شعبية، وصولاً إلى "أسلمة" مجتمعاتها، إنْ لم يكن بالقوّة والقمع، فبشرعية صندوق الاقتراع.

حسناً، فلماذا سورية، أكثر من تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين؟ الجواب بسيط، جاهز ومسبق الصنع ومعلّب: سورية هي بلد "الممانعة"، حليفة "محور المقاومة" الإيراني/ السوري/ العراقي/ الفلسطيني/ اللبناني (كما سيبشّر عبقري مثل أحمد جبريل)، وممرّ السلاح إلى "حزب الله"، أي إلى خطّ المواجهة الأوّل ضدّ إسرائيل. وهل كان من الضروري أن يُقتل أكثر من 25 ألف سورية وسوري، بينهم آلاف الأطفال؛ وأن تتعرّض عشرات القرى والبلدات والمدن إلى عمليات قصف من الجوّ والبرّ والبحر، لا تُبقي حجراً على حجر؛ وأن تأخذ الوحدة الوطنية السورية مسارات، قسرية أو تكاد، تفضي إلى التوتير الطائفي والديني والإثني... للحفاظ على هذه "الممانعة"؟ وإذا كنتَ "ممانعاً" أو "علمانياً" أو "مقاوِماً"، وتخشى المساس بالممانعة والعلمانية والمقاومة، فكيف يستقيم أنك لا تخشى على الشعب السوري الأعزل، من بطش نظام يحرق الأخضر واليابس، ولا يردعه رادع، ولم يتبقّ له أي محرّم أخلاقي لم يتجاوزه بعد؟

يندر أن تجد إجابة، على أيّ من هذه الأسئلة، لا تعتمد اللغة المتخشبة المتقرّنة المتيبّسة، ولا تبدأ من سؤال مضادّ بليد وركيك، وغير تاريخي لأنه لا يضع في الاعتبار تقلبات السياسة وتغيّر المصالح، بل يقفز إلى الغطاء الديماغوجي المضلل وحده: فسّروا لنا السبب في أنّ دولة رجعية مثل السعودية، أو زعيمة إمبريالية مثل الولايات المتحدة، تدعم الانتفاضة السورية؟ هكذا يسأل "ممانع" أريب، يحدث أيضاً أنه "تقدّمي" مخضرم "يساري" لا يهادن، و"ضدّ ـ إمبريالي" لا يُشقّ له غبار، وقد يحدث أنه أستاذ في جامعة أمريكية! غطاء ليس أقلّ ديماغوجية، سوف يتبدّى هكذا: مَنْ، سوى إسرائيل و"الرجعية العربية" والإمبريالية العالمية، له مصلحة في تدمير الجيش العربي السوري، وتصفية "رفاق السلاح" و"الشهداء" من أمثال آصف شوكت؟ ولماذا، في توسيع نطاق الغطائين الديماغوجيين إلى ثالث أقرب إلى البذاءة منه إلى خفة العقل، لا تقبل المعارضة السورية بمجموع "الإصلاحات" التي قام بها النظام السوري حتى الآن، من إلغاء المادة الثامنة، إلى وقف الأحكام العرفية، إلى الدستور الجديد، إلى انتخاب مجلس شعب جديد...؟

وقبل أن يقترح المرء إجابات على هذه الأسئلة، غير متخشبة وغير مضللة وغير ديماغوجية، يداهمك السائل إياه بتلك "السقوف" التي لا مفرّ بعدها من إغلاق السجال، إذا جازت تسميته هكذا في المقام الأول: هذه مؤامرة صهيو ـ وهابية، تستكمل ما جرى في بلدان عربية أخرى؛ وهذا تدخّل خارجي متعدد الأطراف، متعدد الأشكال، يشمل السلاح والمال والتدريب والتضليل الإعلامي؛ ونحن، رهط "الممانعين" و"المقاوِمين"، إذْ نتعاطف مع الشعب السوري ونرفض "أساليب النظام العنفية"، نحرص في الآن ذاته على "وحدة سورية، أرضاً وشعباً"، ونرفض "تفتيت" البلد بذريعة الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان. ذاك، بالطبع، خطّ في التفكير السياسي لا ينتهي إلى مساواة الضحية بالجلاد، فحسب؛ بل يعيد إنتاج أسوأ أنماط مرض الطفولة اليساري، حيث لا علاج إلا بالكيّ الشديد، كما علّمنا وعلّمهم فلاديمير إيليتش لينين!   

والحال أنه لا أحد، إلا إذا تعمّد الأمر من باب التعنت الصرف، ينكر أنّ الإسلاميين كانوا الأذكى في إدارة معاركهم السياسية، والانتخابية، في أطوار ما بعد تفكك الدكتاتوريات العربية، مقابل تواضع أداء القوى الأخرى العلمانية، على اختلاف مشاربها (والحال البائسة التي انتهى إليها اليسار التونسي، مقابل "النهضة" مثلاً، هي المثال الماثل الذي صار كلاسيكياً، عميق المغزى). ولكن من السخف الافتراض، في المقابل، أنّ هذا سوف يكون مآل الانتفاضة السورية، بالضرورة الميكانيكية أو بالقياس الدوغمائي، خاصة وأنّ شرط صعود الإسلاميين في المثال السوري تنامى من خلال، وعلى امتداد، وفي سياقات، مراحل الكفاح ضد النظام، وليس بعد أن تفكك في كثير أو قليل. لقد كانت للشرط دينامياته الخاصة التي أتاحت مشاركة الإسلاميين في المظاهر السلمية المبكرة للانتفاضة، مثلما أتاحت ـ بل أبرزت، وأفردت، وأوضحت ـ خصوصيات تصدّرهم للخيارات العسكرية والعنفية اللاحقة.

فعلى سبيل المقارنة، لأغراض منهجية محضة، لو أنّ الجيش المصري، أو التونسي، لجأ إلى البطش العسكري الساحق الماحق منذ ساعة الانتفاضة الأولى، واستخدم صنوف الأسلحة والنيران كافة، وبالتالي امتدّ الصراع مع النظام طيلة 18 شهراً، كما في النموذج السوري؛ فهل كانت حال إسلاميي تونس ومصر ستبقى على ما شهدناه في البلدين: ترقّب حذر، ثمّ امتطاء للموجة، فانقضاض على الشارع، فتنظيم القوى وحشدها، وصولاً إلى إدارة معركة صندوق الاقتراع؟ كذلك فإنّ طول المعركة في سورية حوّل شعور السوريين بالمرارة ـ نتيجة عجز المجتمع الدولي، وبؤس المعارضة الخارجية، وتغوّل النظام، وعوامل أخرى كثيرة ـ إلى يقين بأنّ الخيار العسكري في مواجهة مجازر النظام وجرائمه هو الردّ الأنجع. ولأنّ الإسلاميين لم يكونوا أفضل تمويلاً، بل أفضل تسليحاً أيضاً، فإنّ انحيازهم المبكّر إلى السلاح أكسبهم جاذبية خاصة في ناظر الشارع الشعبي، الأسير أو الجريح أو القتيل.

وكما أنه من السخف إنكار هذه الحقيقة البسيطة، وهي ليست خلاصة سياسية بل معادلة سوسيولوجية أيضاً؛ فإنّ من السخف الافتراض بأنّ المال السعودي، خصوصاً ذاك الذي أخذ يُصرف في عهد رجل مثل بندر بن سلطان، يمكن أن يساوي بين الإسلامي السوري وشقيقه العلماني السوري، سواء في تضميد جرح أو في منح بندقية. سخف، في مستوى ثالث، ذاك الافتراض الذي يذهب إلى أنّ  السعودية يمكن أن تسلّح عناصر "القاعدة" في سورية، وتسهر ليل نهار على مكافحتهم في أرجاء المملكة. وأمّا الذروة في دفن الرأس بالرمال، عند أهل المادية التاريخية والتحليل الماركسي للتاريخ بخاصة، فهو اليقين بأنّ "الرجعية العربية" لا بدّ أن تتحالف مع "الرجعية التركية"، بقيادة من الإمبريالية الأمريكية، ومخفرها الأمامي دولة إسرائيل، لإسقاط النظام السوري، "الوطني التقدمي"، "المدني"، "العلماني"، "الممانع"، و"المقاوِم"...

وفي التذكير بالقضايا البسيطة التي تكتنف حساب موازين نفوذ الإسلاميين داخل الانتفاضة السورية، راهناً ومستقبلاً، من المفيد التشديد على أنّ خصائص المجتمع السوري الأصيلة، أي تلك التي اقترنت بالمحطات الكبرى الفاصلة في تطوّره السياسي والمجتمعي والثقافي في الأطوار الحديثة، تضع البلد على نقيض صريح من تلك الأطروحة الأحادية التي تجعل الإسلاميين بديل التغيير الوحيد. ذلك لأنّ مبدأ التعددية السياسية، في ذاته أوّلاً، لا يمكن أن يغلق الباب مسبقاً أمام أيّ فصيل يقبل بالمبدأ ويقرّ بقواعده الأخرى، بما في ذلك الاحتكام إلى صندوق الاقتراع، وفصل السلطات، وإقرار العلمانية، وترك الدين لله، وإبقاء الوطن للجميع. أكثر من هذا، هل يمكن لأيّ ائتلاف ديمقراطي معارض للاستبداد وللدكتاتورية، أن يُسقط من حسابه ضرورة اجتذاب معارضة إسلامية مستنيرة؟ وفي الأساس، هل يمكن لأية معارضة أن تكون فعالة، في أيّ بلد ذي أغلبية شعبية مسلمة، دون إسلام مستنير؟

وبالمقدار ذاته من الأهمية، التي تُعطى لاجتذاب إسلام سياسي مستنير، يتوجب عدم "مراعاة" ذلك الإسلام بذريعة "تطبيع" وجوده في صفوف معارضة تعددية، خصوصاً في المسائل الجوهرية الكبرى ذات الطابع التشريعي والحقوقي والثقافي (كأن تتمّ محاباة الإسلاميين في أية صياغة ـ سيّما إذا كانت غامضة، ركيكة، تلفيقية، وتوفيقية ـ تنصّ على دور أعلى تفوّقي أو تمييزي للإسلام على سواه). فالأمر هنا ليس سلاحاً ذا حدّين فقط، بل هو في الأغلب سلاح ذو حدّ واحد يرتدّ إلى نحور الغافلين عنه. كذلك، في المقابل الموازي والضروري، فإنّ مسخ العلمانية إلى غربال عشوائي، وكاريكاتوري، يحيل إلى سلّة المهملات جميع الجوانب الإنسانية والثقافية المضيئة في مختلف الأديان والعقائد، هو بدوره سلاح ارتدادي من النوع المماثل، إذا لم يكن أسوأ وأشدّ ضرراً وأعظم عاقبة.

لا الإسلام السياسي هو اللاعب الوحيد، أو حتى الأهمّ والأكبر؛ ولا سورية، الماضي والراهن والمستقبل، هي ملعب ذلك الإسلام وحده؛ والإسلاميون ليسوا خارج صفوف المعارضة، ولا خارج مشروع النضال من أجل سورية الديمقراطية، ولا هم البديل الوحيد عن سورية الاستبداد والنهب والمافيات وحكم العائلة. وليس بخافٍ على أحد أنّ تنسيقيات الإنتفاضة ولجانها الشعبية المختلفة، مدنية كانت أم عسكرية، تضمّ العلمانيين والإسلاميين، الليبراليين والمحافظين، النشطاء المتمرسين والنشطاء المتدربين؛ أنصار رياض الترك، وأتباع الشيخ العرعور... ولكن، أهذا عيب واعتلال، أم مظهر عافية واغتناء؟ وكيف لهذه الهيكلية القاعدية أن تمثّل الأطياف الأعرض من المجتمع السوري، في مستوى الخطّ السياسي أو الفكري أو الثقافي مثل الموقع الاجتماعي أو السنّ أو الانتماء الإثني أو الديني، إذا كانت لا تتصف بكلّ ذلك التنوّع، ولا تسعى إلى سواه أيضاً؟

"شبح يجوس..."، ربما؛ ولكنّ أدبيات الانتفاضة، وتسعة أعشار السلوك النضالي لأبنائها، لم تخرج، حتى في أصغر التفاصيل، عن مفردات شعار الإجماع: سورية وطنية، ديمقراطية، مدنية، تعددية، عصرية. وهنا، ومجدداً: لا ينتصر الواقع على الإستيهام والتضليل والخديعة والذريعة الزائفة، فحسب؛ بل يجبّ الخرافة، غثّها وسمينها، أيضاً!

الاثنين، 3 سبتمبر 2012

تونس وسورية: الحال والمآل

 شرّفني الاتحاد العام التونسي للشغل بدعوة كريمة للمشاركة في نشاط شعري وغنائي ونقدي، شهدته العاصمة تونس ومسرح قرطاج الأثري، يكرّم محمود درويش في ذكرى رحيله. ورغم أنّ هذه المؤسسة النقابية العريقة تتحلى بعراقة من طراز آخر، هي الاحتفاء بالمبدعين والمثقفين، والدفاع عنهم؛ إلا أنّ المبادرة هذه بالذات كانت مبهجة لأنها نادرة على النطاق العربي، أولاً؛ ولافتة، في ظلّ ظروف تونس الراهنة، المعقدة والحبلى بالمشكلات المحلية، ثانياً؛ وهي، كما يتوجب القول ثالثاً، تحتفي بشاعر غير تونسي في نهاية المطاف.

تونس ما بعد الثورة إذاً، في خضمّ تحوّلات سياسية مفتوحة على احتمالات شتى، تنخرط في سيرورة تجريب ديمقراطي (لعله شبكة سيرورات، شائكة ومعقدة) تفرز اختلاطاً شديداً للقوى والتحالفات والعقائد والحساسيات، على أصعدة تتجاوز مستويات العمل السياسي المباشرة، لأنها تشمل استحقاقات اجتماعية واقتصادية ومعيشية وثقافية وإعلامية... مواجهتها تبدو أشبه بالسير في حقول الألغام. ثمة، في يقيني الشخصي، الكثير من التنميطات المسبقة، التي تتكشف عن أوهام أو اختلاقات أو استيهامات، بعد السير نصف ساعة، لا أكثر، في جادة الحبيب بورقيبة. وثمة ما لا تكون السلسلة ذاتها قد كشفته، لأنها أصلاً لم تكن قد اكتشفته، أو تقصدت عدم كشفه أو تعمدت طمسه؛ يلمسه المرء بعد وقفة لا تتجاوز خمس دقائق أمام أي كشك للصحف، في تعليقات التوانسة القصيرة اللاذعة، وفي ما يخطف أبصارهم من مانشيتات.

ورغم أنني لم أترك صحيفة تونسية إلا وقرأت منها ثلاثة إصدارات متتالية، على الأقلّ؛ كما تحدّثت، مطوّلاً ومفصّلاً، مع أصدقاء مختلفي المشارب والميول والمهن، من الأستاذ الجامعي العليم إلى الشاعر الجامح الحرون، مروراً بالسياسي المحترف؛ فإنّ مشاهد الحياة اليومية، المتفجرة العفوية أو المدبّرة المنهجية، في حرارة ابتدائها مثل برودة انتهائها، كانت الدليل الأهمّ إلى روح تونس الراهنة. وقد يُدهش امرؤ مثلي (قبل أن تسعفه الظاهرة ذاتها بأكثر من تفسير مريح!) لمرأى تظاهرة أمام المسرح البلدي، مثلاً، تجمع العشرات، وتعلن عن ولادة تحالف سياسي جديد، ثمّ لا تصدح مكبّرات الصوت فيها إلا بأغاني الشيخ إمام ومرسيل خليفة!

وقد يُدهش، أيضاً، لأنّ صبيّة شاعرة، لا يقلّ عمرها عن عشرين سنة، تلقي قصيدة (تقريرية خطابية ركيكة، هي التي تقتضيها الحال طبعاً)، تعد، وتتوعد، بأنّ الدرجة صفر هي التي ستغيّر وجه تونس! تفهم ـ أنت الغريب، بعد حيرة وتعجب ـ أنّ القصد هو امتداح الأحزاب والقوى والتجمعات التي لم تحصل في انتخابات المجلس التأسيسي الأخيرة إلا على نسبة مئوية تقلّ عن الرقم 1، أي "صفر، فاصل..."، وكأنّ هذه فضيلة نضالية وامتياز بطولي! الشرطة تراقب المكان عن كثب، ليس خوفاً من التظاهرة ذاتها، بل خوفاً عليها من اعتداء "السلفيين"، هذه الفزّاعة الجديدة التي صارت لعبة كوابيس وكوابيس مضادة، بين "النهضة" وغالبية الأحزاب الأخرى، بما في ذلك تلك المنضوية في حكومة حمادي الجبالي النهضوية. ومع ذلك، يؤكد لك أصدقاء كثيرون، غير إسلاميين، أنّ الشيخ المحامي عبد الفتاح مورو هو الأكثر شعبية في الشارع التونسي العريض، وهو استطراداً قد يكون الأوفر حظاً للفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة!

كذلك، في مفارقة أخرى وأخيرة، تجد أصدقاء توانسة يبدون من القلق على "احتمالات تفتت سورية" جرّاء الانتفاضة الراهنة، أكثر من إبداء استنكارهم للجرائم الوحشية التي ارتكبها ويرتكبها النظام السوري، وكأنّ الإشفاق على مستقبل سورية يقتضي التسليم بالقضاء والإبقاء على نظام الفساد والاستبداد. بعض هؤلاء الأصدقاء ـ وهم يساريون، ديمقراطيون، علمانيون... ـ يقفون قاب قوسين أو أدنى من الإيحاء بفكرة زائفة، وقبيحة قاصرة بذيئة في توصيف آخر منصف، تقول التالي: ألم يقدّم النظام بعض التنازلات؟ ألم يلغِ الأحكام العرفية؟ ألم يعدّل الدستور؟ لماذا لا تقبلون بها، وكفى الله السوريين شرّ القتال، والاقتتال؟

إذا كنتَ سورياً طويل البال، فستسعى إلى إقناعهم بالحسنى، وأنّ النظام غير قادر على ايّ إصلاح ديمقراطي حقيقي، وأنّ عشرات الآلاف في السجون رغم إلغاء مبدأ الاعتقال التعسفي، وأنّ الدستور مهزلة تضيف الإهانة على الجرح (وهيهات أن تفلح، أغلب الظنّ، لأنّ لسانهم يشفق على بلدك سورية، ولكنّ قلبهم واجف من أفاعيل "النهضة" في تونس!). أمّا إذا شئتَ تسفيه هذه المحاججة الكسيحة، فستذكّر أولي العقل بينهم أن يحمدوا الله، ركعاً وسجوداً، لأنّ الجنرال رشيد عمار، رئيس هيئة أركان الجيوش في تونس ساعة الانتفاضة، لم يكن من طينة جنرالات النظام السوري، أبطال عشرات المجازر الأشدّ همجية في التاريخ السوري، والعربي، الحديث.

ولهذا فإنّ أيّ تأخر في حسم معركة الشعب السوري ضدّ ذلك النظام، سوف يعرقل الكثير من عناصر الحسم الديمقراطي في ميادين الانتفاضات العربية الأخرى، أياً كانت الوشائج بين هذه الميادين، وسواء اتخذت تفاعلاتها وجهات ديناميكية أم ميكانيكية. مآل الانتفاضة التونسية ـ خاصة وقد صارت "ثورة" في خطاب أبنائها ـ مرتبط بحال الانتفاضة السورية؛ ولعلنا، نحن السوريين، نشفق بدورنا أن تصبح الأولى مُرجأة أو معطَّلة أو مرتدة، كلما تأخر انتصار الثانية. : "هوكا هو"، كما في التعبير التونسي الشائع!