وعزّ الشرق أوّله دمشق

الثلاثاء، 27 مايو 2014

إدوارد سعيد الأول

 في مثل هذه الأيام، أواخر أيار (مايو)، ولكن قبل 48 سنة، كان إدوارد سعيد (1935ـ2003) قد نشر أولى مراجعاته النقدية، في مجلة Nation التي ستشهد تعاوناً وثيقاً ومديداً معه؛ سوف يمتدّ حتى الأشهر القليلة التي سبقت وفاته، وسيشمل الكتابة في موضوعات نظرية الأدب والنقد الثقافي والموسيقى والسجالات الفكرية، إلى جانب المقالات السياسية والقضية الفلسطينية بصفة خاصة. كانت تلك المراجعة الأولى بعنوان "تجسيد الموضوعات"، وتناولت كتاب ج. هيليس ميللر "شعراء الواقع: ستة كتّاب من القرن العشرين"، حيث عاد سعيد مجدداً إلى جوزيف كونراد (بعد أطروحة دكتوراه، في هارفارد، سنة 1964). المراجعة شدّدت على وصول التراث الرومانتيكي للقرن التاسع عشر إلى طريق مسدود، مثّلته على نحو أفضل حال تضخّم الأنا العزلاء في عالم ينحلّ ويندثر؛ كما تناولت فضل كونراد: "الذي يصوّر عبثيات الخُلُق الرومانتيكي، متخذاً بذلك هيئة عدميّ يبيّن تعثّر الثنائية الرومانتيكية، بسبب أنّ الإله الذي كان يغذيها لم يختفِ فحسب، لكنه مات على جميع الأصعدة العملية".

السنة ذاتها، 1966، سوف تشهد طباعة أطروحة الدكتوراه، تحت عنوان جديد هو "جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية"، وفيه اعتمد سعيد على منجزات "مدرسة جنيف" في النقد الفينومينولوجي (ولكنه، ليس ضمن انجذاب إلى الفلسفة الوجودية، توقف عند إسهامات جان ـ بول سارتر أكثر من إبستمولوجيا إدموند هسرل أو مارتن هايدغر أو رومان إنغاردن)؛ وطوّع ثنائية شوبنهاور حول عالم مغترب أونطولوجياً عن الوكالة الإنسانية من جهة، و"الفكرة" الزائفة المخلوقة عن العالم إياه في الذهن الإنساني من جهة ثانية؛ واستخدم بعض خلاصات وليام جيمس وسيغموند فرويد وكارل يونغ (حول عبارة "أوالية الوجود بأكملها" التي ظلّت تسكن تفكير كونراد)؛ وسخّر تطبيقات جورج لوكاش ولوسيان غولدمان، (حول ديناميات الوعي الطبقي).

وفي الآن ذاته، وسط هذه المنهجية المتراكبة، لم يغفل سعيد تطويع مناهج هارفارد وتقاليدها الأكاديمية العريقة، ما وسعته الحيلة بالطبع! ومن خلال التدقيق المعمّق في رسائل كونراد، رسم سعيد الخطوط الكبرى لمزاج الروائي البولندي الأصل، لكي يكشف كيفية توليدها للأطر الرئيسية في رواياته؛ ولكي يبرهن على نحو مدهش أن كونراد انشغل دائماً بالتوتّر بين وعيه لنفسه، من جهة أولى؛ وإحساسه بالشروط المتصارعة التي تكيّف وجوده كـ "آخر" فردي ولغوي في التراث المكتوب بالإنكليزية، من جهة ثانية.

والكتاب ينقسم إلى جزئين، يتناول الأوّل رسائل كونراد، والثاني يرصد توازيات رواياته القصيرة مع الديناميات الداخلية التي تجلّت في رسائله؛ وعلى امتداد أحد عشر فصلاً (و219 صفحة، في طبعة الكتاب الأولى)، ساجل سعيد بأنّ كونراد مال إلى الروايات القصيرة أكثر من تلك الطويلة، وأنه رأى حياته الشخصية أقرب إلى سلسلة وقائع قصيرة، لأنه "هو نفسه كان أكثر من شخص واحد، وكلّ واحد من الشخوص يعيش حياة غير مرتبطة بالآخر: كان بولندياً وإنكليزياً، بحاراً وكاتباً". وبمعزل عن الإغواء الشخصي الذي انطوى عليه هذا التفصيل في حياة كونراد، بالنسبة إلى سعيد ذي الشخوص المتعددة بدوره؛ كان ثمة ذلك التحدّي الآخر الذي أغوى الناقد والأكاديمي الشابّ: أن ينشقّ عن المألوف والعرف السائد، فلا يغرق في دراسة روايات كونراد الطويلة، بل أن يتوجه إلى تلك القصيرة تحديداً، في إجراء أوّل؛ وأن يتفحصها من زوايا السيرة الذاتية، ومعطيات الرسائل والحوادث الشخصية، في إجراء ثانٍ.

جدير بالذكر، في ختام هذه الوقفة عند سعيد الأوّل والشابّ (وهو موضوع أعود إليه بتفصيل أوسع، في دراسة تنشرها فصلية "بدايات")، أنّ مفهوم الإمبريالية سوف يدخل مبكراً إلى عدّة سعيد النقدية، ليس بصدد شخصية مارلو في "قلب الظلام"، ومبدأ القوّة والأنانية والتمايز الفرداني كما تُلتمس عند كونراد في أصولها الشوبنهاورية، فحسب؛ بل كذلك في توسيع للمفهوم، سياسي وثقافي، سوف يرافق سعيد على الدوام: "مشكلة الأنانية غير المنضبطة والكفاحية كما فهمها كونراد، كانت تكمن في أنها تصبح إمبريالية أفكار يسهل أن تحوّل ذاتها إلى إمبريالية الأمم (...) وبذلك فإنه يتوجب على الكاتب ذي الفردانية القوية أن يفتش داخل نفسه عن صورة ملائمة وصحيحة تعبّر أفضل تعبير عن فكرة الحقيقة كما يراها: ذلك لأنه، رغم مخاطر الإمبريالية، كانت السيرورة ضرورية للتلاؤم مع الظلمة الداخلية والعالم الخارجي".

وبالطبع، لم يكن مألوفاً، في أوساط النقد الكونرادي، أن يتجاسر ناقد وأكاديمي شابّ فيتكيء على شوبنهاور، لكي يساجل بأنّ كونراد أدرك الركائز الأخلاقية، ثمّ الإبستمولوجية، التي تجعل احتكار الإمبريالية الأوروبية للحقيقة أمراً يصعب الدفاع عنه. منذ 48 سنة، كما في أيامنا هذه! 

الاثنين، 19 مايو 2014

عبادة "البسطار"

 بعد ثلاث سنوات أعقبت وفاة أبيه حافظ الأسد، وتوريثه مقاليد سلطة "الحركة التصحيحية"، خلال وصلة مبتذلة شهدها مسرح الدمى الباصمة، (أو "مجلس الشعب" في تسمية النظام)، اقتضت تعديل موادّ الدستور، الاستبدادي أصلاً، بما يتناسب مع عمر الوريث؛ وضمن استيهاماته الجارفة حول ضرورة تمييز شخصيته، "الشابة" و"العصرية" و"الإصلاحية"، وقتل الأب السياسي والسيكولوجي ما أمكن؛ بلغ بشار الأسد الخلاصة التالية: عسكرة المجتمع على الطراز الكوري الشمالي (نموذج كيم إيل سونغ تحديداً، الذي كان الأسد الأب مولعاً بأفكاره ونظامه وطرائق إدارته للمجتمع والدولة والحزب في آن)، لم تعد لائقة. فضلاً عن أنها أسفرت عن النقيض أحياناً، كما في نجاح جماعة الإخوان المسلمين في اختراق منظمات شبيبة والطلبة التابعة لحزب البعث، "قائد الدولة والمجتمع".

وهكذا، خلع فتيان سورية ثياب "التربية العسكرية"، أو "الفتوّة" في التعبير الأكثر شيوعاً، وعادوا إلى ارتداء أزياء مدرسية موحّدة ذات ألوان أخرى غير الخاكي العسكري التاريخي؛ بل لقد تعمّد خبثاء النظام اختيار ألوان أكثر إنسانية وبساطة وجمالاً، زهرية وسماوية ورمادية، تنزع عن الطلاب والتلاميذ (من حيث المظهر الخارجي، في أقلّ تقدير) صفات "جنود" و"شبيبة" و"أشبال" الأسد. كذلك توجّب تخفيف عمليات العسكرة المباشرة، على طراز مطلع الثمانينيات، حين تولّى رفعت الأسد ومفارز "سرايا الدفاع" تدريب الشبيبة (والشابات، بصفة خاصة) على القفز المظلي مقابل إعفائهم من معدّل الدرجات المطلوب للانتساب إلى كليات الطبّ والهندسة. وعُدّلت، أيضاً، أنظمة عسكرة اتحاد الطلبة عن طريق إلزام الطلاب الجامعيين بأداء تدريب عسكري مستمر، والخضوع لمعسكرات صيفية.

كذلك، وبالتوازي مع هذه "المقاربة" الجديدة، كان مهدي دخل الله (رئيس تحرير صحيفة "البعث"، الناطقة باسم الحزب الحاكم، قبل أن يتولى وزارة الإعلام، في خريف 2004)، قد فاجأ رفاقه البعثيين بهجوم كاسح ضدّ "المنطلقات النظرية" للمؤتمر القومي السادس للحزب (وهذه، لمَنْ لا يعرف، "درّة" و"مفخرة" التيار اليساري في حزب البعث بجناحَيْه، حيث يتردد على نطاق واسع أنّ المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ شارك في كتابتها)؛ وذلك بحجة أنّ "الدهر أكل عليها وشرب"، وآن أوان وضعها على الرفّ! كذلك بدا دخل الله حريصاً على التمييز بين "بعث سورية" و"بعث العراق"، فليس كلّ بعث بعثاً أيها السادة في واشنطن، لندن (وإياهم كان يعني الرجل، ويخاطب)؛ وإلا، فماذا نقول ـ حسب محاججة دخل الله العبقرية! ـ في... "حزب البعث الروسي"!

هذان التطوران، في المستوى التربوي ـ العسكري، والمستوى الحزبي ـ العقائدي، ارتديا أهمية خاصة إضافية، بالنظر إلى ما أخذ النظام يشهده من تفاعلات داخلية وخارجية، نتيجة الاحتلال الأمريكي للعراق؛ وما أسفر عنه المشهد الإقليمي من ضغوط مباشرة على خيارات الأسد، في العلاقة مع الولايات المتحدة تحديداً. انحناء، كان أحياناً أقرب إلى ركوع، أمام العواصف، من جانب أوّل؛ ويقين، من جانب آخر، أنّ الحفاظ على تراث "الحركة التصحيحة" في ملفات بنيوية كبرى (مثل فتح شبكات الولاء على مصراعيها، مقابل تضييق هرمية السلطة بحيث تبقى حكراً على الحلقات الأصغر والصلاحيات الأوسع والامتيازات الأقصى، وقتل أيّ وكلّ حراك سياسي أو مدني يمكن أن يتيح انعتاق الاجتماع السوري من ربقة الاستبداد، وإغراق السوريين في خواف مستديم من سرديات كارثية تُقعد لبنان والعراق...)، يظلّ أهمّ وأبقى.

ليس مدهشاً، إذاً، أن يرتدّ الوريث اليوم إلى فلسفة العسكرة ذاتها التي اعتمدها أبوه طيلة 30 سنة، فلا تنتشر مظاهر عبادة "البسطار" العسكري في المدن والبلدات والقرى الموالية تحديداً، فحسب؛ بل تتعاظم أيضاً أنماط عسكرة الماضي، فلا تقتصر على "التربية العسكرية" وحدها، وإنما تحوّل ما يسمّيه النظام "قوات الدفاع الوطني" إلى قطعات (بل قطعان!) موازية للقوّات النظامية الموالية، وإلى ميليشيات هوجاء عمياء، تؤجج المشاعر الطائفية، مثلما تشتري وتبيع أمن المواطن البسيط، وتتاجر بالسلاح والذخيرة. وعلى مدخل مدينة اللاذقية، مثلاً، حيث أوكار أفواج الشبيحة الأشدّ فاشية وتغوّلاً، احتفل رجال النظام بتدشين "نصب" تذكاري لا سابق له، في التاريخ المتمدن، من حيث ابتذال المعنى وانحطاط الدلالة: حذاء عسكري ضخم، يجاور مجسّماً لطلقة رصاصة!

وبهذا المعنى فإنّ اللون الخاكي يبدو أقلّ مهانة للبشر، أياً كانت انحيازاتهم، من "بسطار" يُرفع على الرأس في مسيرات التأييد، أو تحضنه صبية "منحبكجية" وتُشبعه لثماً وتقبيلاً. كأنها تقول، في تنويع يخطر على البال: "بشار! عسكر! بسطار وبسّ!"...

الجمعة، 16 مايو 2014

"بوكو حرام" بين نيجيريا وأمريكا: انتظار العبرة

 تقول الأنثروبولوجيا الشعبية إنّ نيجيريا هي الموقع الذي تعلّم فيه الإنسان الوقوف على قدميه، للمرّة الأولى في تاريخ التطوّر الحيوي للبشرية. وهذا البلد العريق بالفعل ـ الآهل بنحو 170 مليون نسمة، و36 ولاية؛ المتعدد الأعراق والثقافات واللغات: 500 مجموعة إثنية، وديانات وثنية لا عدّ لها ولا حصر، فضلاً عن الانقسام التقليدي بين مسيحيي الوسط والجنوب، ومسلمي الشمال والغرب؛ المختزن لثروات طبيعية وافرة، والذي يستحق تماماً صفة "عملاق أفريقيا" ـ هذا البلد فشل مراراً في تعليم جنرالاته الوقوف على الأرض في الثكنات، بدل الدوس على رؤوس العباد في قصور الرئاسة المدنية.

كذلك فشل، استطراداً، في تعليم العسكر مبدأ ملازمة الثكنات ذاتها، فدفع مراراً الأثمان الباهظة جرّاء خروجهم منها، وإصرارهم على عدم التفريق بين الثروة الوطنية التي تخصّ البلاد، و"المشاع" الذي يتعجّل الجنرال نهبه قبل أن يتقاعد أو يرحل أو يُقتل. وكأنّ انقلابات العسكر المتعاقبة لم تكن قد جلبت ويلات كافية على نيجيريا، فاندلعت حرب أهلية طاحنة، في أيار (مايو) 1967، بين مناطق البلاد الغربية الشمالية، وأقسامها الجنوبية الشرقية (التي عُرفت باسم بيافرا)؛ دامت 30 شهراً، وقتلت مليون نيجيري على الأقلّ، والبعض يرتفع بالرقم إلى ثلاثة ملايين.
ومنذ أن قرر التاج البريطاني تشكيل نيجيريا الحالية عن طريق تلصيق هذه الرقاع الجغرافية والإثنية والمذهبية والقبائلية كيفما اتفق، والبلاد لا تودّع انقلاباً عسكرياً إلا لتستقبل سواه؛ ولا تستمع إلى جنرال يعد بالحكم المدني، إلا لكي تنتظر خطوته الدكتاتورية التالية. ستة انقلابات ذهب واحدها بهذا الجنرال، ليأتي ثانيها بزميل له في السلاح، وفي شهوة السلطة والاستبداد الفساد. وتوفّر دائماً وعد بمرحلة انتقالية إلى الحكم المدني، يسبقه حلّ الأحزاب السياسية القائمة، وتشكيل لجنة عليا تشرف على تنظيم الانتخابات البرلمانية والرئاسية. الحصيلة الرهيبة أنّ العملاق تضوّر جوعاً رغم زاده الوفير، فتقزّم وهزل وتقطّعت أوصاله في إسار الدكتاتورية والفساد والفوضى والتخلّف.

آخر الجنرالات الانقلابيين كان عبد السلام أبو بكر، الذي بدأ عهده بحلّ الأحزاب السياسية، وكذلك اللجنة الانتخابية العليا التي كان أحدثها سلفه الجنرال الانقلابي ساني أباشا (كبير جنرالات الفساد، إذْ كدّس ثروة شخصية تقدّر بنحو عشرة مليارات دولار أمريكي، ولم يرحل حتى أخذته يد القدر، أو أودت به حبّة الـ"فياغرا" كما أشارت بعض التقارير). أبو بكر قطع خطوات إضافية مختلفة، ميّزته عن سواه، فأطلق سراح السجناء السياسيين، وأسقط عنهم التهم المفبركة أصلاً، وسنّ دستوراً يتيح انتخابات تشريعية متعددة الأحزاب، ثم سلّم سلطة الرئاسة إلى الجنرال المتقاعد أولوسيغن أوباسانجو، الذي انتُخب مجدداً سنة 2003 وسط تزوير واسع لصناديق الاقتراع، ثمّ خسر أمام عمرو يارأدوا، سنة 2007.

توجّب، هنا، أن يأخذ المرء في الحسبان جملة عوامل طرأت على القارّة السوداء، ووجدت طريقها إلى نيجيريا بالتالي، وكانت وراء هذه التطورات ذات الصفة السياسية الإصلاحية. فالقارّة، حينذاك، تخلّصت من نظام الأبارثيد ومحاصصات الحرب الباردة وما كان يقترن بها وبسببها من تفاعلات جيو ـ سياسية دولية وإقليمية؛ فبات فيها رجل مثل نلسون مانديلا، وفي الآن ذاته رحل عنها رجل مثل موبوتو سيسي سيكو. المدّ الديمقراطي كان كبيراً، إذاً، ولعله كان جارفاً في أماكن اخرى من القارّة. وأمّا خارجها، فإنّ العالم أخذ يكتشف إمكانية تشييع الأصنام القديمة (من شاوشيسكو الروماني، إلى سوهارتو الأندونيسي)، دونما مخاض مضادّ عسير، وعلى نحو سلس سلمي غالباً.

وهكذا وقعت "المعجزة"، أخيراً، وتمكنت نيجيريا من إنجاز انتخابات رئاسية، في نيسان (أبريل) 2011، أسفرت عن فوز غودلاك جوناثان، عن "حزب الشعب الديمقراطي"، وأجمع غالبية المراقبين على أنها ـ هذه المرّة، وبعد لأي! ـ الانتخابات الأكثر نزاهة وحرّية منذ 51 سنة أعقبت استقلال البلد عن الانتداب الاستعماري البريطاني. هذا الرئيس، الشرعي والمنتخب ديمقراطياً، هو الذي يرفض اليوم شروط المنظمة الإرهابية "بوكو حرام"، في مبادلة 200 من الطالبات النيجيريات المخطتفات؛ وهو "المدعو فلان" الذي يريد السناتور الأمريكي جون ماكين وضعه على الرفّ تماماً، وعدم استشارته أو التنسيق معه، عند إرسال قوّات أمريكية تتولى إنقاذ الرهائن.

وبمعزل عن التغنّي الزائف بمفاهيم السيادة الوطنية، مدهش أن يستخفّ هذا السناتور المخضرم، المرشّح مرّتين لرئاسة الولايات المتحدة، بأبسط مبادىء القانون الدولي، والشرعية الديمقراطية، فيمتطي الموجة الشعبوية الداخلية والعالمية العارمة، ويسارع إلى منافسة السيدة الأولى ميشيل أوباما (صاحبة الحملة الشهيرة: "أعيدوا بناتنا")، عن طريق البوّابة الأسوأ والأردأ: إضافة الإهانة، على جرح الشعب النيجيري. مدهش، اكثر، أنّ الإدارة الأمريكية (التي سارعت إلى تصنيف "جبهة النصرة" السورية في خانة المنظمات الإرهابية بعد أشهر قليلة أعقبت تأسيسها)، لم تتنبه إلى أخطار "بوكو حرام"، وإلى شخصيتها الإرهابية، إلا بعد 11 سنة على انطلاقها!  

وسبحان محاسن الصدف، إذْ صدر قبل أيام (وتصادف مع وقوع عملية الاختطاف الإرهابية!)، نشر التقرير السنوي الذي يعدّه "مكتب مكافحة الإرهاب"، في وزارة الخارجية الأمريكية، والذي يصف حال الإرهاب والمنظمات الإرهابية خلال العام المنصرم، 2013. هنا تقع "معجزة" أخرى، أمريكية هذه المرّة، فتظهر "بوكو حرام" في اللائحة، ويُشار إلى انها أُضيفت بتاريخ 14/11/2013... فقط! ليس مدهشاً، ثالثاً وفي المقابل، أنّ الحكمة الكبرى التي تهدي تقرير هذا العام هي الأمر التنفيذي رقم 13224، الذي أصدره الرئيس السابق جورج بوش الابن في خريف 2001؛ وكذلك إطاره العريض كما اختزله الأخير: "الحرب على الإرهاب نوع مختلف من الحروب، تُشنّ اعتقالاً إثر اعتقال، وخليّةً إثر خلية، ونصراً إثر نصر. إنّ ما يضمن أمننا هو عزيمتنا وإيماننا الواثق بنجاح الحرية. والولايات المتحدة لن تستكين حتى تربح هذه الحرب".

وأمّا جوهر "الفلسفة" وراء هذه الحملة الأمريكية المستدامة فإنه مستوحى، هنا أيضاً، من أقوال بوش الابن، وتحديداً عبارته الشهيرة التي أطلقها في أعقاب 11/9: "على كلّ أمّة في كلّ منطقة أن تتخذ قرارها الآن. إمّا أنكم معنا، أو أنكم مع الإرهابيين". الرؤية المانوية ذاتها إذاً، حيث العالم خيّر أو شرير، مناهض للإرهاب أو مساند له، منضوٍ في حملة الولايات المتحدة أم محسوب ضدّها بالضرورة، في معمعة القتال ضدّ الشرّ أو القتال ضدّ الخير. ذلك لأنّ الحدود باتت مرسومة مسبقاً، شاء المرء أم أبى في واقع الأمر: "ما من أمّة تملك رفاه البقاء على الخطوط الجانبية، إذْ لا خطوط جانبية بعد الآن"، كما عبّر، ذات يوم، وزير الخارجية الأسبق كولن باول.

وإذا كانت "بوكو حرام" هي إحدى المنظمات الأشدّ انحطاطاً وابتذالاً في زعم الانتماء إلى الإسلام، والأكثر إيغالاً في أساليب الإرهاب والإجرام والترهيب؛ فإنّ حلول التدخل العسكري والعربدة ضدّ حكومات منتخبة ديمقراطياً، على منوال ما يقترح ماكين وأمثاله من رعاة بقر القرن الحادي والعشرين؛ هي القوت السياسي الذي تتغذى عليه "بوكو حرام" وأضرابها من منظمات الإرهاب، أياً كانت مرجعياتها العقائدية. ليس دون تذكرة، ختامية، بإرهاب الدولة الذي مارسته الولايات المتحدة طيلة عقود، وتمارسه هذه الإدارة أيضاً، بأنساقه كافة: من غوانتانامو، والسجون بالإنابة في بلدان أخرى، إلى عمليات الاغتيال بطائرات من غير طيار.

وحتى تنجلي حروب أمريكا عن أيّ "نصر"، من الطراز الذي حلم به بوش، يظلّ المثل الشعبي النيجيري سيّد اللعبة: العبرة ليست في شكل الفطيرة، بل في مذاقها بعد الأكل!     

الخميس، 8 مايو 2014

الجربا في واشنطن: الفراغ أوسع والهوّة أعمق

على ذمة الـ"واشنطن بوست"، التي تنقل، بدورها، على ذمّة سفير "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية" لدى أمريكا، نجيب الغضبان (أو "الغضبيان"، كما أسمته الصحيفة!)؛ قد يقوم الرئيس الأمريكي باراك أوباما بـ"التعريج" على اجتماع سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي في البيت الأبيض، مع وفد الائتلاف، برئاسة أحمد الجربا، وعضوية الغضبان، واللواء عبد الإله البشير، ومايكل كيلو (حسب التسمية التي اختارها له "معهد الولايات المتحدة للسلام"). في عبارة أخرى، وحتى يثبت العكس، ليس ثمة برمجة لأيّ لقاء رسمي يجمع أوباما وأقطاب الائتلاف هؤلاء؛ وقد يُكتفى من "الغزوة"، بأسرها، بلقاء آخر مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، والله يحبّ المحسنين...

أمّا ذروة الغنائم، فهي منح الائتلاف صفة "البعثة الأجنبية"، وهذا تطوّر شكلي محض (على نقيض ما تظنّ، وتصرّح، صديقتنا ريم العلاف، التي تشغل الآن موقع "مستشارة" الجربا)، يتفق فيه جميع خبراء التمثيل الدبلوماسي. الرابح الأكبر من الخطوة قد يكون الغضبان نفسه، الذي سيتمتع بحراسة أمنية أفضل (من طراز سبقه إلى التمتع به أمثال برهان غليون وبسمة قضماني، في باريس)؛ وتسهيلات مصرفية، تخصّ التحويلات المالية إلى الولايات المتحدة ومنها؛ وتحسينات لوجستية على مقرّ الائتلاف في واشنطن ـ جادة بنسلفينيا، وافتتاح مكتب في نيويورك. وأمّا على صعيد الأموال، فإنّ الخارجية الأمريكية تكرّمت ولوّحت بمبلغ مقداره 27 مليون دولار، ما تزال تأخذ شكل "المساعدات غير الفتاكة"، دون سواها.

وفي مقابل كشف النقاب عن اقتراب موعد تنفيذ القسط الأوّل من صفقة سلاح بين روسيا ونظام بشار الأسد (تسع مقاتلات Yak-130، من أصل 36 طائرة، سدّد النظام قيمتها بمبلغ 100 مليون دولار، كجزء من قيمة العقد الإجمالية التي تبلغ 550 مليون دولار)؛ ما يزال البيت الأبيض على تحفظه في توريد أية اسلحة متطورة للجيش السوري الحرّ، وليس مضادات الطيران وحدها، بل مضادات الدروع، أو أيّ وكلّ طراز آخر من الأسلحة يمكن أن تعترض إسرائيل على إدخاله إلى سورية. وفي المقابل، كذلك، وصل الجربا إلى واشنطن بعد دخول قوّات النظام السوري إلى حمص القديمة، وبعد صولات للنظام سقط خلالها مئات الشهداء، ودُمّرت مئات المساكن وعشرات الأحياء، واستُخدمت فيها الأسلحة كافة: من قصف القاذفات الثقيل، إلى البراميل، فالأسلحة الكيماوية.

مفيد، في مناسبة وصول الجربا إلى واشنطن، وتباشير هذه الحصيلة الفقيرة، والمنطقية المنتظَرة، في آن؛ استذكار تلك الحقيقة التي تقول إنّ الجربا صعد إلى رئاسة الائتلاف ليس بسبب أيّ توازنات أو تطوّرات أو معادلات (سلبية كانت أم إيجابية، وتافهة عابرة أم ذات قيمة وديمومة) ذات صلة بمشهد المعارضة السورية الرسمية. لقد تمّ ترئيس الجربا كجزء من "تأثيث" بيت هذه المعارضة بعد أن تمّ تلزيمه إلى المملكة العربية السعودية، في عهدة الأمير بندر بن سلطان؛ وكان الرجل تكملة، على غرار ذرّ الرماد في العيون، لمعارك الضجيج والعجيج (من غير طحن، بالطبع) التي خاضها أمثال ميشيل كيلو، من أجل تعزيز وجود السعودية عبر أكذوبة توسيع الائتلاف.

ولعلّ أكبر إنجاز حققه الجربا، وتلك كانت برهة وحيدة، واحدة ومنفردة، كان الخطاب الذي ألقاه في افتتاح مؤتمر جنيف ـ 2 (وأقصد، هنا، نصّ الخطاب ومنطوقه العامّ؛ وليس الإلقاء، الذي كان كارثياً كالعادة). أمّا "المآثر"، فللمرء أن يحدّث دون حرج: من صفع الآخرين، وتلقّي الصفعات منهم؛ إلى التمديد، الذاتي، للفترة الرئاسية؛ ليس دون نسيان مسارح التصويت الانتقائي على هذا الإجراء أو ذاك، وترقية تلك الكتلة هنا، مقابل خسف تلك الكتلة هناك. وليس أدلّ على ألعاب الكراسي الموسيقية هذه، من سلسلة المناورات والمناورات المضادة التي بدأت بمجيء الجربا في عداد "الكتلة الديمقراطية"، وانتهت بخروجه منها، وعليها؛ وكذلك خروج الكتلة منه، وعليه!

والأرجح أنّ الجربا يقفز، اليوم، في فراغ أوسع هوّة من ذاك الذي كان أمامه، حين ارتقى سدّة رئاسة الائتلاف؛ وذلك بعد سحب الملفّ السوري من يد الأمير بندر، وتلزيمه إلى جهاز أمني ـ بيروقراطي سعودي، أكثر طواعية للتخطيط الأمريكي، وأكثر استعداداً للتنفيذ الحرفي، وأقلّ نزوعاً نحو استعراض القوّة (كما في مثال ذهاب الأمير إلى روسيا، والايحاء بالضغط على واشنطن من باب اجتذاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين). وهو فراغ لا يقتصر على مقدّرات المحيط الإقليمي الذي تتشابك فيه خيوط الانتفاضة السورية ومصير نظام الأسد وحلفائه، فحسب؛ بل صارت تدخل عليه، عمقياً، معادلات السخط الشعبي الواسعة، داخل سورية، ضدّ بؤس أداء الائتلاف، على مستوى الإغاثة وخدمات الحدّ الأدنى في المناطق المنكوبة، من جهة أولى؛ ثمّ متغيرات الأرض العسكرية الأخيرة، في القلمون وحمص وبعض ريف دمشق، التي افتُضحت خلالها أركان الائتلاف العسكرية، من جهة ثانية.

ولهذا فإنّ حال الجربا، اليوم، هي من حال سادته وداعميه، في أوّل المطاف ونهايته؛ ما دامت سياسة أوباما، تجاه الملفّ السوري، باقية على حالها، في المدى المنظور على الأقلّ. وتلك، للتذكير المفيد ربما، سياسة نهضت على تأجيل أيّ جهد أمريكي يساعد على إسقاط النظام، أو إبطاء الحسم فيه ما أمكن: ريثما تتضح الصورة أكثر (خلال الأشهر الأولى لانطلاقة الانتفاضة)، وتنجلي موازين القوى بين النظام والشعب؛ وتفعل عوامل تفكك النظام فعلها تلقائياً، حسب مبدأ "الهبوط السلس" (الذي اعتمدته الإدارة خلال الأشهر الوسيطة)؛ مما يتكفل بتسعير ثلاث حروب استنزاف، متزامنة ومترابطة، على الأرض السورية أو تحت مفاعيل الملفّ السوري (خلال الأشهر الأخيرة، وحتى الساعة، أو إلى المدى الذي يصبح فيه اللعب بالنار أشدّ قابلية للارتداد على اللاعب).

حرب استنزاف أولى ضدّ إيران، إذْ لم يعد خافياً أنّ تورّط إيران في الشأن السوري لا يضعفها عسكرياً واقتصادياً فقط، بل يرهقها سياسياً على مستويات إقليمية أيضاً، ويربك استقرارها تنموياً، ويعرقل برامجها التسليحية ولا سيما النووي منها، وبالتالي يضعفها أكثر ممّا تفعل العقوبات الاقتصادية الراهنة. وما تخسره إيران على الأرض السورية، تكسبه أمريكا في الحساب البسيط، دون عناء يُذكر. وحرب استنزاف ثانية، على الأرض السورية دائماً، ضدّ "حزب الله" اللبناني، الذي تراكمت خسائره الفادحة، البشرية والسياسية والمعنوية، منذ أن أُجبر على القتال مع النظام، فصار مرغماً على الانخراط في استقطابات إقليمية ومذهبية أبعد خطراً وعاقبة. وحرب استنزاف ثالثة ضدّ روسيا، في لعبة شطرنج خبيثة يبدو الظفر فيها منعقداً للروس؛ للوهلة الأولى فقط، في الواقع، لأنّ تورّط موسكو يضرّ بالكثير من مصالحها، الاقتصادية والجيو ـ سياسية، على الأمدية البعيدة.

فإذا أضاف المرء ما يتوجب إضافته، دون إبطاء، أي المصلحة الإسرائيلية المباشرة في استمرار حروب الاستنزاف الثلاثة هذه؛ فإنّ ثبات إدارة أوباما على خياراتها الراهنة بصدد الملفّ السوري، يظلّ مرتهناً باضطرارها، ومعها حليفتها إسرائيل، إلى اتخاذ نهج آخر. وتلك نقلة لن تكون، إذا اقتضتها مراحل الصراع الآتية، إلا استجابة لأسباب تنبثق من واقع الأرض، في داخل سورية، بموجب اعتبارات صارت للأسف عسكرية محضة في المقام الأوّل، ثمّ سياسية واجتماعية، وربما مجتمعية صرفة أيضاً؛ وليس بتأثير أية زيارات مسرحية جوفاء، أو حروب طواحين تُخاض في اسطنبول، أو من... واشنطن ـ جادّة بنسلفينيا!