وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 30 سبتمبر 2019

شيراك وآل الأسد: لا محاسن تُذكر للموتى

هيئة تحرير "ميديابارت"، الموقع الصحفي الاستقصائي المستقل الأبرز في فرنسا، اختصرت إرث الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك (1932 - 2019) في هذه العنوان الصارخ: "هوس السلطة"؛ وهذه العبارة: "يترك خلفه 40 سنة من المعارك السياسية. لكنّ الإرث هزيل فعلاً ما دام ذلك المسار قد قام على طموح أوحد للفوز بالسلطة، ثمّ الحفاظ عليها. وهذا على حساب حروب الخنادق المتواصلة، والتحالفات والتحالفات المضادة، والخيانات والفضائح، من الكلّ والنقيض". موقع ناقد ودائب الانشقاق مثل "ميديابارت" لن يلتزم بمبدأ مماثل لما هو شائع في ثقافتنا، لجهة ذكر محاسن الموتى، ولهذا فقد بدا التوصيف قاسياً رغم اتكائه على مقدار كثير من الصواب؛ وهذا خيار لم يمنع التحرير من التوقف عند ثلاث محطات "استثنائية"، في زحمة المحطات الكثيرة الداكنة التي طبعت حياة شيراك.
الأولى خطابه في 16 تموز (يوليو) 1995، بعد أيام قليلة على انتخابه، حين أقرّ بمسؤولية فرنسا عن ترحيل اليهود خلال فترة الاحتلال النازي؛ وكان ذلك الإقرار نقلة أولى كبرى عن رفض فرنسي مديد، حكومي وشعبي كما يتوجب القول، لفتح ملفات الماضي ونشر الغسيل القذر. المحطة الثانية كانت زيارة شيراك إلى القدس المحتلة، في تشرين الأول (أكتوبر) 1995، حين ضاق ذرعاً بالطوق الذي فرضه عليه رجال الأمن الإسرائيليون، فهتف عبارته الشهيرة، وبالإنكليزية: "ماذا تريدون؟ أن أرجع إلى طائرتي وأعود إلى فرنسا؟"؛ ممّا استدعى اعتذاراً رسمياً من رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي لم يكن غافلاً بالطبع عن قناعة شيراك بحلّ الدولتين. وأمّا المحطة الثالثة فقد كانت رفض الرئيس الفرنسي الانخراط في تحالف جورج بوش الابن لغزو العراق، سنة 2003، على قاعدة ركن قديم في السياسة الديغولية تجاه الشرق الأوسط؛ ويومذاك شكّل خطاب دومنيك دو فيلبان وزير الخارجية الفرنسي، في مجلس الأمن الدولي، صفعة بليغة لخطاب الحرب الأمريكي.
من جانبي، كمواطن سوري، أسجّل للرئيس الفرنسي ثلاث محطات موازية في ما يخصّ سوريا والسوريين؛ تبدأ الأولى من إقدامه، وهو رئيس جمهورية لواحد من أبرز بلدان حقوق الإنسان في التاريخ البشري، على استقبال الفتى بشار الأسد، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1999؛ رغم أنّ الأخير لم يكن يملك أية صفة رسمية، ما خلا أنه يترأس "الجمعية المعلوماتية السورية"! بالطبع، كانت صفة الأسد الابن الثانية، والفعلية، أنه نجل دكتاتور سوريا حافظ الأسد، والوريث المنتظَر الذي كانت ترتيبات إعداده للخلافة تجري على قدم وساق؛ بعد مقتل شقيقه البكر باسل الأسد في حادث سيارة، وكان الأخير هو المرشح الأوّل. وأمّا دافع شيراك لاستقبال هذا الفتى في قصر الإليزيه، فلم يكن ولعه بشخصية الأسد الأب (إذْ كان يعرف، حقّ المعرفة، جرائم الحرب والمذابح التي ارتكبها بحقّ السوريين)؛ بل تمّت الزيارة، للمفارقة التاريخية، بناء على إلحاح أحد مموّلي حملات شيراك السياسية، رئيس وزراء لبنان يومذاك رفيق الحريري؛ والذي سوف يتكفل نظام الأسد الوريث بتأمين لوجستيات اغتياله، في شباط (فبراير) 2005.
المحطة الثانية هي مشاركة شيراك في جنازة الأسد الأب، حزيران (يونيو) 2000، وكان بذلك الرئيس الوحيد الأوروبي، وممثل قوّة عظمى وديمقراطية عريقة؛ فصرّح يومها أنّ "الأسد طبع التاريخ على مدى ثلاثة عقود، وكان رجل دولة متمسكاً بعظمة بلاده". بعض تلك "العظمة" سبق أن كشف النقاب عنها صحافي فرنسي، وليس ابن أيّ بلد آخر، هو سورج شولاندون من صحيفة "ليبيراسيون"؛ الذي تسلل إلى مدينة حماة تحت اسم مستعار، وكشف بعض التفاصيل المروّعة عن مجزرة حماة، 1982. وكان شيراك قد استقبل الأسد الأب في باريس، تموز (يوليو) 1998، فكسر بذلك عزلة خانقة امتدت 20 سنة لم يطأ فيها الأخير أيّ بلد غربي. فوق هذا، أحاطه شيراك بمظاهر احتفال فائقة وتكريم ملحوظ؛ غير جاهل بأنّ هذا "القائد إلى الأبد" يواصل حكم سوريا منذ 1970، وقد تناوب على حكم فرنسا أربعة رؤساء: جورج بومبيدو، فاليري جيسكار ديستان، فرانسوا ميتران، وشيراك نفسه!
المحطة الثالثة هي استقبال الأسد الابن مجدداً، صيف 2001، بعد أقلّ من سنة على الكرنفال السياسي والدستوري والبرلماني الذي انتهى إلى تنصيبه وريثاً لأبيه في حكم سوريا. وفي اجتماعه مع أرباب العمل الفرنسيين انتبه الأسد الوريث إلى أنّ هؤلاء ليسوا البتة متحمسين للاستثمار في بلد تسري على شعبه واقتصاده أحكام عرفية مطلقة، وأنه ليس للإصلاح الاقتصادي أيّ معنى ولن يكون له أيّ أفق ملموس ما دامت قوانين "التحديث" خاضغة في آخر النهار للقانون الأعلى الذي لا يعلو عليه تشريع أو تدبير: قانون الطوارئ. في المقابل كان شيراك قد "كسب" من الأسد الوريث خطاباً جديداً، على نحو ما، بصدد السلام مع دولة الاحتلال: "من الطبيعي أن يكون هناك اعتراف، أي علاقات عادية، علاقات طبيعية كأي علاقات بين أي دولتين أو أي شعبين في المنطقة"، قال الأسد. وبالطبع، توجّب أن يسخر من "ربيع دمشق" على النحو الأشدّ ابتذالاً واستخفافاً: "كلمة ربيع لا تعنينا كمصطلح، فالربيع هو فصل مؤقت، والربيع فصل يعجب البعض والبعض الآخر يحب الشتاء"؛ قبل أن يدخل مستمعيه، خلال مؤتمر صحفي، في جدل تحليلي حول خصائص الفصول: "وإذا أردنا أن ندخل في التحليل نقول: إنّ الثمار تأتي في الصيف. ولكن لا يوجد ثمار من دون ربيع تتفتح فيه الأزهار. ولا يوجد ربيع دون أمطار تهطل في الشتاء"...!
هذه عيّنة من حصيلة تلك الزيارة "التاريخية"، التي ستشهد أيضاً تقليد الأسد أعلى وسام شرف فرنسي (واقعة فاضحة سوف تنتظر الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون للاستجابة إلى طلبات سحب الوسام من مجرم حرب)؛ وفي الإطار ذاته، ، سوف يكون شيراك أوّل زعيم غربي يسبغ شرعية سياسية وأمنية على وجود قوّات النظام السوري في لبنان، خلال خطبة افتتاح القمّة الفرنكفونية في بيروت 2002. ولسوف يردّ الأسد الوريث أفضال شيراك عليه، بطريقتين: 1) الإضرار بمصالح فرنسا الاقتصادية العليا، وبمصداقية الرئاسة الفرنسية بالذات، حين كان شيراك قد تدخل شخصياً كي تحصل شركات فرنسية على عقد لاستثمار الغاز السوري بقيمة 759 مليون دولار، فتلقى من الأسد الابن وعداً صريحاً بذلك، لكنّ العقد ذهب إلى تجمع شركات أمريكية ـ بريطانية ـ كندية ذات مصالح مع بيت النظام؛ و2) اغتيال الحريري، ولسوف تتبدّل نبرة شيراك جذرياً في توصيف آل الأسد، بين جنازة القرداحة 2000 وبيروت 2005.
ويبقى أنّ 40 سنة من معارك شيراك السياسية شهدت، في الملفّ السوري، محطات خيبة وخذلان لأبسط آمال الشعب السوري في الحرية والكرامة والديمقراطية؛ الأمر الذي لا يعني بأيّ حال من الأحوال أنّ رؤساء فرنسا السابقين، في الجمهورية الخامسة، لم يقتفوا نهجاً مماثلاً، رغم وجود استثناءات محدودة عبّرت عنها مواقف الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند من الانتفاضة الشعبية في سوريا. ولعلّ التلميذ النجيب الأوّل لنهج شيراك بصدد المسألة السورية كان خَلَفه وابن حزبه نيكولا ساركوزي، الذي لم يتورّع عن دعوة الأسد الوريث إلى الاحتفال بذكرى الثورة الفرنسية، في قلب جادة الشانزيليزيه.
وفي أية حال، وعلى مستوى سياسي واجتماعي فرنسي أوسع نطاقاً، كان صعود شيراك بمثابة "فشة خلق" مارسها الشارع الشعبي الفرنسي ضد الرئيس الأسبق فرانسوا ميتيران وحزبه الأشتراكي، الذي انقلب في تلك الحقبة إلى تذكرة صريحة بغيضة بأسوأ مآلات الاشتراكية الإصلاحية. وليس غريباً، والحال هذه، أنّ "يمين" شيراك، أسوة بنظيره "يسار" ميتيران، يقفّ كلّ منهما اليوم على حافة اندثار صريح.
27/9/2019

وزير بشار الأسد ونمر زكريا تامر

كان رياض عصمت، المؤلف المسرحي والمخرج والقاصّ والناقد السوري، خامس وزير ثقافة يعيّنه بشار الأسد، بعد مها قنوت ونجوى قصاب حسن ومحمود السيد ورياض نعسان آغا؛ فتسلّم الوزارة بين تشرين الأول (أكتوبر) 2010 وحتى حزيران (يونيو) 2012. هو اليوم، حسب المعلومات المدوّنة عنه على موقع دار نشر "بالغريف ــ ماكميلان"، يقيم في الولايات المتحدة، وقد أصدر مؤخراً كتاباً باللغة الإنكليزية عن هذه الدار، عنوانه "الفنانون والكتّاب والربيع العربي"، يقع في 175 صفحة.
طريف، وغريب أيضاً، أنّ مقدّمة عصمت للكتاب تتحدث عن انتفاضات "الربيع العربي" عموماً، وتسهب على نحو خاصّ في تفصيل الانتفاضة السورية، ولا تُغفل الإشارة إلى النظام السوري والآمال التي عُلّقت على "الرئيس الشاب" ثم لاقت الخذلان؛ ومع ذلك... لا يشير عصمت، البتة، إلى أنه كان وزيراً للثقافة طوال 15 شهراً على الأقلّ من عمر الانتفاضة الشعبية في سوريا، التي انطلقت كما هو معروف من دمشق ودرعا في آذار (مارس) 2011. هذه حكاية أخرى ليس هنا مقامها، إذْ تحتاج إلى وقفة خاصة حول سلسلة الأفكار التي يسوقها عصمت في مقدّمته؛ سواء تلك التي تخصّ رؤيته لـ"الربيع العربي" إجمالاً، أو قراءته لمعمار سلطة الأسد على ضوء ثماني سنوات من عمر الانتفاضة في بلده، أو مواقفه وتصريحاته وسلوكه خلال فترة تولّيه حقيبة الثقافة.
هذه السطور معنية بفصول الكتاب الأخرى، التي تنطلق من فرضية بسيطة (ليست، في الواقع، بديهية كما يوحي عصمت)، مفادها أنّ عدداً من الكتّاب والفنانين العرب استبقوا انتفاضات بلدانهم في كتاباتهم وأعمالهم المختلفة، وتحايلوا على الرقيب لالتقاط "ظروف الإحباط السياسي، وتنبؤاتهم بالمستقبل القاتم الذي سيأتي إذا لم يُطبّق التغيير"؛ الذي يشمل "الديمقراطية، الشفافية، حرّية التعبير، الانتخابات العادلة، والمحاسبة". وهكذا كان هؤلاء "روّاد عدالة اجتماعية"، على غرار نجيب محفوظ (الرمزية ضدّ الواقعية)، وتوفيق الحكيم (أهرام الدراما العربية)، ونزار قباني (الياسمين لا يموت أبداً)، وغادة السمان (موزاييك الذاكرة)، ويوسف شاهين (المصير). كما كانوا كتّاب قصّة "متمردين"، أمثال يوسف إدريس وزكريا تامر، خيري الذهبي وجمال الغيطاني وحليم بركات، صنع الله إبراهيم وفواز حداد ونوال السعداوي (حسب ترتيب عصمت). وأخيراً، كانوا أهل "دراما الثورة"، وفي عدادهم مسرح تونس الحديث، ثمّ ألفرد فرج وسعد الله ونوس، ممدوح عدوان ومحمود دياب ونجيب سرور، سعد الدين وهبة ووليد إخلاصي، صلاح عبد الصبور ورشاد رشدي، محمد الماغوط وعلي سالم.
ولعلي أتوقف، هنا، عند الجزء المخصص للقاصّ السوري الكبير زكريا تامر، من زاويتين؛ الأولى أنّ عصمت يصيب حقاً في وضع تامر ضمن سياق دقيق، فنّياً وتاريخياً، هو الانشقاق عن مدرستين في آن معاً، هيمنتا على القصة القصيرة السورية ابتداءً من خمسينيات القرن الماضي؛ أي الواقعية النقدية، والواقعية الاشتراكية. كان بين أبرز ممثلي هاتين المدرستين أسماء رائدة بدورها، أمثال ألفت الإدلبي وعبد السلام العجيلي وياسين رفاعية وحسيب كيالي وغادة السمان وفاضل السباعي وعادل أبو شنب وسعيد حورانية وعبد الله عبد وجورج سالم، ممّن أرسوا سلسلة من الأشكال والأساليب والموضوعات طبعت الحقبة بأسرها. الزاوية الثانية أنّ عصمت يجحف تماماً بقامة تامر، الفنّية والريادية تحديداً، حين يجزم بأنّ قصته باتت جامدة في المراحل الأخيرة بذريعة أنها "لم تتجاوز إنجازاته السابقة، بل كررت ما كان يُعتبر تجديداً في الستينيات". وهذه فرضية ركيكة تماماً، ولاتاريخية، بل لعلها مدعاة سخرية أيضاً، لأنّ أمر التجاوز هنا لا يُختزل إلى ميزان مقارنات بين الماضي والحاضر، فحسب؛ بل يبدو وكأنه يفرض "مساطر" قياس مسبقة الصنع، تتكيء على إنجازات سابقة فقط، ومنها حصرياً تشتقّ للكاتب حقوق تطوير فنونه وآفاقها.
والحال أنّ عصمت يقتبسني بالحرف (في صفحة 68، ولكن دون أن يذكر اسمي!)، متفقاً معي بصدد موقع تامر في القصة السورية والعربية خلال ستينيات القرن المنصرم؛ حيث أساجل (في مقالة بالإنكليزية نشرتها مجلة "بانيبال" 53/ 2015، المخصص لتكريم تامر)، بأنه لم يكن مألوفاً، ولا حتى مقبولاً بصفة عامة في الأدب العربي، ظهور قصة قصيرة على الطراز الذي اقترحه تامر بقوّة: لا تحكي حكاية، ولا تلتقط برهة، ولا تصوّر كياناً، ولا تثير تجربة، ولا تطوّر أحدوثة، ولا تنقل رسالة سياسية مباشرة. فهل توجّب على تامر أن يتجاوز ذاته نحو خصائص فنية أخرى؟ وما نوعيتها، سوى كتابة قصة قصيرة جداً، (!) كما يقترح عليه عصمت؟
"نمر القصة القصيرة" هي التسمية التي يختارها عصمت للقاصّ الكبير، مستوحياً العنوان الشهير "النمور في اليوم العاشر" أغلب الظن؛ أو لأسباب مجازية أخرى تخصّ التنمّر ربما، ولكن في معانيه الأشدّ إيجابية، ونزوعاً نحو التمرد، كما حين يسرد عصمت واقعة افتتاحية تامر الأولى حين تسلّم رئاسة تحرير مجلة "المعرفة"، التي تصدر عن وزارة الثقافة، حيث كرّسها لمنتخبات من "طبائع الاستبداد" للكواكبي، فصودرت المجلة وأُقيل الرجل من منصبه.
وقد يصحّ القول إنّ بعض التأرجح بين الإنصاف والإجحاف مردّه أنّ بين رئيس تحرير نمر مثل تامر، ووزير ثقافة أسدي مثل عصمت، ثمة عُجَر وثمة بُجَر!
16/9/2019

نصر الله ونتنياهو: أيّهما أكثر جعجعة... بلا طحن؟

على ملأ من "حضور كبير" اعتبره "أوّل ردّ على الاعتداءات الإسرائيلية" التي استهدفت مواقع تابعة لـ"حزب الله" في الضاحية الجنوبية من العاصمة اللبنانية، وكذلك في عقربا جنوب العاصمة السورية؛ كان حسن نصر الله، الأمين العام للحزب، قد توعد جيش الاحتلال الإسرائيلي هكذا: "قفْ على الحائط على رجل ونصف وانتظرنا، يوم، إثنان، ثلاثة، أربعة، انتظرنا". وإذْ كرّر أنه لا يمزح، و"جيش إسرائيل" حسب تعبيره يعلم أنّ السيد لا يمزح، وإذا قتل جيش الاحتلال أياً من "إخواننا" في سوريا (الأمر الذي وقع بالفعل، في ضواحي دمشق)، فإنّ الردّ على القتل سيكون "في لبنان وليس في مزارع شبعا"؛ فلعلّ تل أبيب أرادت اختبار مدى انطباق هذه الأقوال على الأفعال، جزئياً بادئ ذي بدء، فقصفت موقعاً لـ"الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة" في البقاع.
ولعلّ بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال، أراد من جانبه استعراض عضلاته في سباق مَن يعرف وماذا يعرف، فذكّر بأنّ نصر الله يعرف جيداً أنّ دولة الاحتلال تعرف كيف تدافع عن نفسها. صحيح أنّ مفردة "إخواننا" قد لا تنطبق تماماً على جماعة أحمد جبريل، لكنّ القصف الإسرائيلي استهدف حليفاً للحزب، وذراعاً ضاربة ترتزق لدى النظام السوري، وعضواً في "جبهة الممانعة" دون سواها، والموقع المستهدف يقع على مبعدة أمتار قليلة من قواعد الحزب؛ وبالتالي ثمة الكثير الذي يوحي بأنّ "جيش إسرائيل" لا يستفزّ أقوال نصر الله فحسب، بل يلوح أنه يستحثه على الردّ. وحتى ساعة كتابة هذه السطور تكون خمسة أيام، وليس أربعة، قد انقضت على مهلة إبقاء جيش الاحتلال على "رجل ونصف"، بموجب وعيد نصر الله، من دون أن تعكّر صفو الحدود اللبنانية ــ الإسرائيلية أية واقعة لها صفة الردّ من جانب الحزب؛ إلا إذا اعتُبر إطلاق الجيش اللبناني النار على طائرات مسيّرة إسرائيلية، في العديسة وكفر كلا، مأثرة للحزب في الآن ذاته.
مَنْ يعشْ يرَ، في كلّ حال، ليس دون استئناس عقلاني بتلك المقولة البسيطة التي تضع "حزب الله" في خانة كتيبة ملحقة بعديد كتائب المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، باعتراف نصر الله ذاته؛ وبالتالي فإنّ قرار الردّ، سواء أكان رمزياً أو حتى تجميلياً يحفظ ماء الوجه أغلب الظنّ، أو كان محض اكتفاء بالوعيد اللفظي والخطب الطنانة الرنانة، هو في طهران وحدها، وليس في بيروت أو الضاحية أو حيث يختبيء نصر الله منذ 13 سنة. وبهذا المعنى، وقياساً على المنطق البسيط هنا أيضاً، وعلى جلاء عناصر المشهد و"قواعد الاشتباك" إياها، فإنّ خامنئي ليس بصدد اتخاذ قرار بخوض حرب مع دولة الاحتلال؛ حتى في مستوى معارك محدودة النطاق، وبالإنابة فعلياً، في لبنان أو في سوريا أو في العراق. ولو كانت طهران تمتلك هذه النيّة، لوجدت في مناسبات سابقة ذرائع أجدى لشنّ الحرب ودفع الأكلاف، حين وجّه جيش الاحتلال ضربات قاصمة لأهداف إيرانية مباشرة، أدسم بكثير من اغتيال اثنين من عناصر "حزب الله" في عقربا السورية.
وبهذا المعنى أيضاً، أي اتضاح خضوع "حزب الله" لقرارات خامنئي في كبائر الأمور على الأقلّ، وبينها دخول سوريا للقتال إلى جانب نظام بشار الأسد، أو مناوشة دولة الاحتلال في جنوب لبنان ثمّ الامتناع عن أيّ وكلّ "مقاومة" منذ آب (أغسطس) 2006، أو تدريب ميليشيات الحوثي في اليمن؛ فإنّ خطابات نصر الله فقدت تسعة أعشار البريق الذي كانت تحظى به في أسماع شارع عربي عريض، عابر للطوائف والمذاهب. كذلك توجّب أن يكشف نصر الله عن الصبغة الشيعية الصريحة التي حرص طويلاً على تمويهها تحت ستار الوحدة الوطنية اللبنانية، وبات مضطراً إلى إعلان انضواء الحزب في مبدأ الولي الفقيه، بل ذهب أبعد صيف 2013: "نريد أن نقول لكلّ عدو ولكلّ صديق، نحن شيعة علي بن أبي طالب في العالم"؛ و"نحن حزب الله. الحزب الإسلامي الشيعي الإمامي الإثنا عشري"؛ و"قولوا رافضة. قولوا إرهابيين. قولوا مجرمين. اقتلونا تحت كل حجر ومدر، وفي كل جبهة، وعلى باب كلّ حسينية ومسجد، نحن شيعة علي بن أبي طالب!"...
والأرجح أنّ الكثير من هذه الخطب تحوّل إلى جعجعة بلا طحن، وإلى أكاذيب عارية عن الصحة في الحدود الدنيا، وإلى خداع ومخادعة عليهما تنطبق القاعدة الأخلاقية في الحديث النبوي الشهير: مَنْ غشّنا ليس منّا. لقد كذب السيد منذ أولى خطاباته التي تضمنت المراوغة حول وجود عناصر "حزب الله" في سوريا، زاعماً أنّ "الجيش العربي السوري ليس بحاجة إلينا"؛ وكذب بصدد الدفاع عن المقدسات الشيعية في ظاهر دمشق، حين كانت ميليشياته تقاتل في القصير، البلدة السورية ذاتها التي آوت مقاتلي الحزب من ويلات القصف الإسرائيلي سنة 2006؛ ويكذب اليوم، أكثر من ذي قبل، حين يزعم أنّ الانتفاضة الشعبية السورية كانت مجرّد "مشروع" تآمري "لم يكن هدفه لا الديمقراطية ولا التغيير السياسي الداخلي، وإنما استهدف في الحقيقة نظاماً مقاوماً، وأبعد من ذلك، كانت هناك خريطة للسيطرة على المنطقة وتدمير المنطقة وإعادة تقسيم المنطقة على أسس عرقية وطائفية ومذهبية".
وهو يغشّ نفسه، قبل سامعيه، جهاراً نهاراً حين يعلن أنه "في نهاية المطاف، اليوم الدولة في سوريا، القيادة في سوريا، الجيش في سوريا، الرأي العام في سوريا، في أحسن حال، في أعلى وضوح، في استعادة للعافية والقوة والقدرة على صنع الإنجازات والانتصارات"؛ كلّ هذا حين يكون النظام رهينة موسكو وطهران وأنقرة وواشنطن، وتعربد في أجوائه دولة الاحتلال الإسرائيلي متى شاءت واينما ارتأت. لهذا فإنّ الحال الراهنة من خطاب نصر الله تذكّر بإفراطه الشديد في تلميع صورة الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، أثناء زيارة الأخير إلى لبنان، خريف 2010؛ وكيف أنّ تضخيم سجايا نجاد القيادية كان منعطفاً فاضحاً، وفاقعاً، في معجم نصر الله: "نشمّ بك يا سيادة الرئيس رائحة الإمام الخميني المقدّس، ونتلمس فيك أنفاس قائدنا الخامنئي الحكيم، ونرى في وجهك وجوه كلّ الإيرانيين الشرفاء من أبناء شعبك العظيم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه".
ومَنْ يعشْ سوف يرى أيهما ــ في قادم الأسابيع القليلة المقبلة ــ أكثر جعجعة، بلا طحن: نصر الله، الذي ينتظر قرار طهران؛ أم نتنياهو، الذي... ينتظر، بدوره، القرار الإيراني ذاته! ومع الفوارق، الكبيرة والكثيرة غنيّ عن القول، بين القدرات العسكرية للمنتظرَين كليهما؛ وهامش المناورة المتاح أمام كلّ منهما، بالقياس إلى مؤسسات القرار المختلفة، والسياقات السياسية والظرفية التي تبيح لكلّ جعجعة أن تسفر عن طحن أو محض ضجيج أجوف؛ ثمة وقائع متراكمة، ولا تكفّ عن التراكم عملياً، لا تبدو أمْيَل في الكفّة لصالح الأمين العام لـ"حزب الله". وليس مرجحاً، في المدى المنظور على الأقلّ، أن تُشعل طهران حرباً بأيّ مقدار ملموس من الجدّية العسكرية، الآن إذ تدخل في جهود حساسة مع الرئيس الفرنسي، ومن ورائه رعاة الاتفاق الدولي حول البرنامج النووي الإيراني، لتنشيط أقنية حوار مع واشنطن لا تقتصر على النووي وحده، ولا على العقوبات الامريكية؛ بل تشمل معظم، أو حتى كامل، سلّة النفوذ الإقليمي الإيراني على امتداد الشرق الأوسط.
 29/8/2019

سوريا وأشغال الإمبريالية الثقافية

يُعتبر إدير واحيس (قبائلي جزائري الأصل، أغلب الظنّ) أحد أبرز الباحثين، غير السوريين، ممّن تخصصوا في تاريخ سوريا خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، وتعمقوا في الشطر الاستعماري، والثورات ضدّ الانتداب الفرنسي على وجه التحديد. له فصول ثمينة حول التجريب الزراعي، والتعليم، والمواطنة، والبعثات التبشيرية الكاثوليكية، والهيمنة على قبائل البدو؛ من زاوية ممارسات السلطات الاستعمارية الفرنسية خلال سنوات الانتداب. نال واحيس الدكتوراه في التاريخ من جامعة إكستر البريطانية، ثمّ تابع دراساته في لندن ــ "سواس"، وهو اليوم يدرّس في جامعة ماربيا، إسبانيا. ومؤخراً صدر كتابه، الهامّ للغاية، "سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي: الإمبريالية الثقافية وأشغال الإمبراطورية"؛ بالإنكليزية، عن I.B.Tauris.
في فصل تمهيدي يناقش واحيس المؤسسات الثقافية والصراع من أجل تعريف الانتداب، ثمّ يخصص ثمانية فصول لاحقة لمناقشة مسائل التنقيب عن الآثار، وضبط التراث الثقافي (المتاحف والسياحة والمعارض)، والمناهج التعليمية، وفرض الرقابة على الصحافة العربية، والتحريف والتمويل لصالح الفرنكوفونية، والبُعد الأممي والصحافة العالمية. وفي خلاصته العامة يشدد واحيس على النزعة الاستشراقية الصارخة التي حكمت مقاربات سلطات الانتداب الفرنسي في القضايا الثقافية، ويتوقف خصوصاً عند تقرير استخباراتي فرنسي شهير كُتب سنة 1925، يقول بالحرف: "السوري شرقي؛ وهو في هذا لا يفهم إلا لغة القوّة، وطلباته تتزايد دائماً حتى يأتي وقت يُجابه فيه بالقوّة. على سوريا أن تفهم أنّ فرنسا باقية هنا، لأنها ليست قوّة انتداب فحسب، بل كذلك أمّة دائنة وتضحياتها التي دعّمت حقوقها العلمانية تعطيها الحقّ في البقاء"!
الكتاب يستحق وقفة مطوّلة مفصّلة، بالطبع، ليس هنا مقامها؛ غير أنّ الإنصاف يقتضي الإشارة إلى موقف مناهض لمشروع الانتداب بأسره، لم يصدر عن أبناء البلد السوريين أو اللبنانيين كما للمرء أن يتوقع، بل اعتنقته واحتضنته صحيفة "لومانيتيه" الفرنسية العريقة. ولقد فتحت صفحاتها لكتّاب من سوريا ولبنان، كما تجاسرت (ليس من دون التعرّض لتهمة "الخيانة الوطنية"، من جانب الاستخبارات الفرنسية والصحافة اليمينية) فنشرت رسالة من سلطان باشا الأطرش، قائد ثورة جبل العرب، يقول فيها: "طوال عقود ناضلنا من أجل حرّيتنا واستقلالنا. كفانا كلمات! بالسيف يتوجب علينا النضال!". كذلك نشرت الصحيفة مقالات من رشيد رضا (وكان يومها أمين "اللجنة السورية ــ الفلسطينية"، وعُرّف كـ"مفكّر إسلامي مصلح")؛ ونداءات من شكيب أرسلان، وأمين "حزب الشعب" السوري، وسواهم كثر. هذا بالإضافة إلى عدد كبير من الكتّاب والمعلّقين الفرنسيين، الذين تصدّوا لفضح ادعاءات الجنرال غورو (المندوب السامي للانتداب، وصاحب نظرية "الهجوم حتى الإبادة")؛ سواء حول "ربحية" المشروع الاستعماري الفرنسي في سوريا، أو حول "المهمة التمدينية" الشهيرة التي زعم المستعمرون أنّ التاريخ ألقاها على عاتقهم تجاه شعوب الشرق "المتخلفة".
وهذه مناسبة لفتح قوسين، واستعادة تاريخ الصحيفة التي أسّسها الاشتراكي الفرنسي جان جوريس (1859 ـ 1914) في سنة 1904، وتقلّبت أقدارها مراراً من "أممية الشغيلة"، إلى أكثر من فريق يساري أو اشتراكي؛ وكان في ذروة أمجادها ذلك الملحق الثقافي الأسبوعي الذي أخذ يصدر منذ مطلع الثلاثينيات، بعنوان "الآداب الفرنسية"، تحت إشراف الشاعر الفرنسي الشهير لويس أراغون. وفي سنة 1930، جرّاء الضائقة المالية الخانقة التي كان الحزب الشيوعي الفرنسي يعاني منها (سوف يتضح، فيما بعد، أنّ قيادة الحزب وافقت على استلام معونات مالية من الإتحاد السوفييتي)، تمّ تنظيم أوّل احتفالية باسم الصحيفة، بغرض جمع التبرعات. ولم يكن يخطر في بال المنظّمين، آنذاك، أنّ النشاط سوف ينقلب إلى عيد شعبي فرنسي، بكلّ ما تنطوي عليه الصفة من تنويعات: سياسية ونقابية، ولكن ثقافية أدبية وموسيقية ومسرحية، ومعارض كتب وفنون تشكيلية، وألعاب أطفال، فضلاً عن مئات المنصّات التي تقدّم أصناف الطعام، من مختلف المناطق الفرنسية. الخطوة النوعية في تطوير "عيد لومانيتيه" كانت دعوة الأحزاب والقوى اليسارية والتقدمية وحركات التحرّر الوطني على امتداد العالم، فاتخذت الاحتفائية هيئة المنبر الدولي الرفيع الذي يتيح التعبير عن الرأي والتبشير بالقضايا.
وفي مقابل مواقف "لومانيتيه"، كانت صحيفة "لا كروا"، التي تواصل الصدور حتى الساعة، قد أدانت ما اعتبرته حالة تآخٍ" بين الشيوعيين و"أعداء فرنسا" في سوريا ولبنان؛ وعلى منوال مشابه سارت المطبوعات الناطقة باسم مجموعات الضغط الاستعمارية، خاصة منظمة "الاتحاد الاستعماري الفرنسي" و"المؤسسة الوطنية للتوسع الاقتصادي"، والتي ركزت على حرف انتباه الرأي العام الفرنسي وتصوير الانتداب كمشروع اقتصادي وتجاري عالي الأرباح. ولا تكتمل مظاهر الإمبريالية الثقافية دون تعاضد/ تضارب بين المركزين الاستعماريين في باريس ولندن، إذْ بينما لم تتوقف الصحافة الإنكليزية الموالية للمشروع الاستعماري البريطاني عن نقد المشروع الاستعماري الفرنسي؛ تبنّت بعض الصحف الفرنسية شبه الحكومية ("لو ماتان"، على سبيل المثال) احتجاج الوطنيين السوريين والفلسطينيين ضدّ وعد بلفور، بل ونشرت مقالة تتحدّث عن سوريا موحّدة تضمّ فلسطين!
وبصفة إجمالية، ومن زاوية بحثية صرفة بادئ ذي بدء، هذه الدراسة تبرهن على حاجة حيوية لربط المؤسسات الاستعمارية العسكرية والسياسية والاقتصادية، بشقيقاتها المؤسسات الثقافية والتربوية والأركيولوجية والأنثروبولوجية وسواها. وفي هذا بعض ردٍّ لجميل إدوارد سعيد في نقد اقتران الاستشراق بالمشروعين الاستعماريين، الفرنسي والبريطاني، على وجه الخصوص.
 18/8/2019

محمود درويش و"الغراميات اليهودية"

خلال واحد من أفضل الحوارات باللغة الإنكليزية مع محمود درويش، الذي مرّت ذكرى غيابه الحادية عشر قبل أيام، يسأل آدم شاتز عن علاقة حبّ جمعت الراحل مع فتاة يهودية إسرائيلية تُدعى شولميت، يتحدث عنها الراحل في قصيدته "كتابة على ضوء بندقية"، مجموعة "حبيبتي تنهض من نومها"، 1970. الحوار نُشر للمرّة الأولى في Journal of Palestine Studies، العدد 3، ربيع 2002؛ وفيه يجيب درويش: "التقينا بعد 1967، وكانت آخر حبّ لي في البلد. لا يتوجب عليّ الإفصاح عن اسمها، فهي على قيد الحياة، كذلك لا رجعة للماضي. تبدلت الأمور، ومثلها الكائنات البشرية".
وكان سؤال شاتز عن شخصية شولميت أحد أبكر الأسئلة في هذا الشأن، وأندرها في الواقع؛ على خلاف الأسئلة الكثيرة التي طُرحت مراراً حول علاقة الحبّ الأولى التي جمعت الراحل مع فتاة يهودية أخرى هي تمار بن عامي، التي اتخذ لها درويش اسم ريتا كما هو معروف. وفي المقابل، لم تكن قصيدة شولميت مشهورة على النطاق العربي مثل شهرة قصيدة "ريتا والبندقية"، من مجموعة "آخر الليل"، 1967؛ أو قصيدة "ريتا أحبيني"، من مجموعة "العصافير تموت في الجليل"، 1969. الأسباب عديدة بالطبع، وليس هنا مقام استعراض أهمها، وتكفي الإشارة إلى أنّ قصيدتَي ريتا انتهجتا العذوبة والغزل الرقيق والإيحاء بالترميز إلى فلسطين، ولم تعكسا مضامين سجالية جلية حول شخصية يهودية تستفزّ التأويل المضاد.
ليس هنا، أيضاً، مقام الخوض في السجالات التي اقترنت بحكاية الغرام بين فلسطيني ويهودية إسرائيلية، بادئ ذي بدء؛ فكيف، تالياً (وهي الطامة الكبرى، كما صرخ بعض المساجلين!) إذا كان العاشق هذا الرجل دون سواه: "شاعر المقاومة"، "أيقونة فلسطين"، "عاشق الأرض"...! لافت أنّ "غراميات محمود درويش اليهودية"، إذْ هكذا صار العنوان العريض لبعض السجالات، لا تنطوي فيها صفحة، فلسطينية مثلاً، أو عربية، أو حتى عالمية؛ إلا وتُفتح صفحة جديدة، في المجلد إياه، على نطاق إسرائيلي هذه المرّة، في أدبيات عبرية وأخرى بلغات عالمية. وكان الراحل قد حسم مطاحن التفسير، وأغلق بوّابات التأويل، حين صرّح ــ خلال حوار طويل ومعمّق مع القناة الثانية في التلفزة الفرنسية ــ أنّ اسم ريتا تعبير استعاري لا صلة له بأيّ ترميز مجازي إلى فلسطين، لكنه لا يخلو من مرجعية واقعية لأنه قصة حبّ فعلية، مضت وانقضت.
وهكذا، لم يكن عرب فلسطين المحتلة وحدهم الذين أغضبهم شريط "سجّل أنا عربي"، الوثائقي الذي أخرجته ابتسام مراعنة ــ منوحين وأعادت فيه سرد قصة الحبّ بين درويش وبن عامي؛ بل امتدّ الغضب أيضاً إلى الأوساط الإسرائيلية ذاتها، وليس في الصحافة اليمينية أو المحافظة فقط، بل في "هآرتز" التي تتفاخر بخطّ ليبرالي أو وسطي أو حتى يساري. ومؤخراً صدر بالإنكليزية، عن منشورات بلغريف ــ مكميلان، كتاب بعنوان "محمود درويش: شاعر فلسطين والآخر بوصفه حبيبة"؛ وقّعته داليا كوهين ــ مور، مؤلفة أعمال عن العالم العربي في عدادها أنطولوجيا للقصة القصيرة بأقلام كاتبات عربيات، وآخر بعنوان "آباء وأبناء في الشرق الأوسط العربي"، وأنطولوجيا أدبية ضمّت "رحلات ثقافية" في العالم العربي.
الكتاب الجديد هذا يستفيض في استعراض تفاصيل غرام درويش/ بن عامي بصفة خاصة، وما إذا كان أقرب إلى "الكفر بالمستحيل"، كما يقول عنوان أحد الفصول؛ قياساً، كذلك، على أمثلة أخرى من غراميات كان اليهودي، امرأة أو رجلاً، طرفها "الآخر": ابتداءً من التوراة وزواج موسى من صافورا بنت شعيب، وانتهاءً بأعمال مؤلفين أمثال إحسان عبد القدوس في "بعيداً عن الأرض"، وخليل بيدس في "الوريث"، وعلاء الأسواني في "شيكاجو". لكنّ الفصل الأطرف في كتاب كوهين ــ مور هو الخامس، الذي يحيل حكاية الحبّ بين درويش وبن عامي إلى سوابقها عند قيس وليلى، وروميو وجولييت؛ وذلك رغم أنّ الفقرات الأخيرة تقترح خلاصات نقدية معقولة، قابلة للأخذ والردّ مع ذلك، حول أسباب امتناع درويش عن ذكر اسم ريتا في قصائد ما بعد 1992.
من جانبي شخصياً، سبق أن عبّرت عن رأي يخصّ قصيدة الحبّ عند درويش، يتجاوز بالطبع ضيق أفق "الغراميات اليهودية" هذه، إلى مقاربة أوسع نطاقاً، وأشدّ تركيباً إذا جاز القول؛ مفادها أنّ معظم قصائد الحبّ التي كتبها درويش كانت مختلفة. سبب أوّل، جمالي وفنّي، ظلّ ينبثق من قناعة درويش بأنّ هذا الغرض الشعري تحديداً جدير بالتطوير والتبدّل والتجديد؛ وسبب ثانٍ، سوسيولوجي هذه المرّة، ظلت تصنعه الضغوطات الهائلة لموقع الشاعر، السياسي والأخلاقي والأدبي، في الوجدان الجمعي. وهكذا فإنّ القصائد سارت، إجمالاً، عكس أعراف الغزل العربي، فكان السبق فيها لوطأة التاريخ قبل وطأة الوجدان، وكان فيها من النفي والغربة والغرباء، أكثر من الاستيطان والفَيءِ واللقاء.
كذلك أرى أنّ قصيدة الحبّ منحت درويش هامشاً ثميناً لممارسة طراز من "المقاومة الفنّية" في حروب الشدّ والجذب مع القارئ، بحيث تحوّلت إلى أوالية دفاع عن برنامجه الجمالي الآخذ في الارتقاء. فهل كان تفضيلاً عابراً أنّ عنوان أوّل مجموعة شعرية أصدرها خارج الأرض المحتلة كان... "أحبّك، أو لا أحبّك"؟
11/8/2019