وعزّ الشرق أوّله دمشق

الأربعاء، 29 يناير 2014

أديان توني بلير

  لا يُدهَش المرء، بل قد يُتاح له الضحك إلى حدّ القهقة العالية، إزاء تطوّر يفيد بأنّ توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، هو المنجذب الأحدث إلى إغواءات نظرية صمويل هنتنغتون حول صدام الحضارات والأديان؛ الآن وقد شبعت احتضاراً، ودُحرت مراراً وتكراراً على أرض الواقع، معظم أطروحات تلك النظرية. كأنّ بلير يدخل إلى أسواق التنظير القديمة، هذه وسواها، على هيئة زائر منذهل مأخوذ بما يكتشف من عجائب؛ أو كأنّ تمثيل اكتشاف الجديد هو التكتيك الأصلح لاستغفال العقول، و... استدراج التمويل، قبلئذ وبعدئذ!

ذلك لأنّ راعية هذا التطوّر هي "مؤسسة توني بلير للإيمان"، التي أسسها صاحبها سنة 2008، في نيويورك، ولها فروع وشراكات وتعاقدات ومشاريع في عشرات البلدان، وقد جمعت تبرعات بعشرات الملايين، ورواتب كبار مسؤوليها تُحتسب بستة أرقام. وإذْ تعلن المؤسسة أنّ فلسفتها المركزية هي التقريب بين الأديان التوحيدية الثلاثة، فضلاً عن البوذية والهندوسية والسيخية؛ فإنّ بلير نفسه لا يعود إلى استلهام هنتنغتون إلا لكي يشدّد على اصطراع الأديان والمذاهب، وأنّ "الخلاف الديني، وليس الايديولوجيا، هو محرّك المعارك الملحمية في هذا القرن"، كما يقول عنوان مقالته التي نشرتها صحيفة "الأوبزرفر" البريطانية، يوم أمس.

ما نشهده من "هجمات إرهابية في الأماكن الواضحة"، يكتب بلير، ويسمّي سورية وليبيا والعراق ولبنان ومصر واليمن والباكستان (ثمّ، في استطراد لاحق: نيجيريا، وأماكن كثيرة في أفريقيا الوسطى، وروسيا، وآسيا الوسطى...)؛ هي بعض تلك "المعارك الملحمية"، التي قد يعتبرها البعض منفصلة، أو ـ كما يوصي حكيم الإيمان، وتعايش الأديان ـ يتوجب "البدء في رؤية القاسم المشترك بينها، والبدء في إنتاج ستراتيجية كونية أصيلة للتعامل معها". كيف؟ الوصفة بسيطة، جدّاً في الواقع، ولهذا فإنها سحرية استطراداً: "يجب أن نشجّع التعليم والتسامح، إذا شئنا تحقيق السلام في الشرق الأوسط والعالم"؛ هكذا، ليس أكثر!

كذلك، إذْ يضرب بلير سورية مثالاً على تصارع الأقليات الدينية، فقط ـ وليس، البتة، صراع الشعب ضدّ نظام استبداد وفساد، متعدد الطوائف، فاشيّ البنية، وحشيّ الأدوات، همجي الأجهزة، بربريّ الأنصار... ـ فإنّ "الديمقراطية ليست سبيلاً في التصويت. بل هي سبيل في التفكير". نحن، بذلك، شعوب لن تتخذ معاركنا صفة الصراع من أجل أنظمة سياسية أفضل، كالديمقراطية ضدّ الاستبداد مثلاً؛ بل سيكون جوهر الصراع هو "الفارق الثقافي والديني"، وحده وحصرياً. وهيهات، حسب بلير، أن نرى سورية مستقبلية يتعايش فيها السوريون على قدم المساواة، بغضّ النظر عن الدين الذي يعتنقونه، أو الجزء الذي ينتمون إليه من ذلك الدين؛ "طالما أنّ مجموعة أقلية تحكم بلداً غالبيته مختلفة الانتماء، أو طالما أنّ صفوف أولئك الذين يقاتلون النظام تضمّ أيضاً عناصر ترغب في الحكم على أساس الفارق الديني".

أقدارنا مختومة مرسومة مسبقاً، إذاً؛ ولا سبيل إلى ارتياد آفاق جديدة، ديمقراطية وعصرية ومدنية وتعددية، ما دام هذا "الفارق" خالداً أبد الدهر، أزلي العواقب، مطلقاً ومغلقاً وكتيماً...؟ ومَن الذي يشخّص حالنا هذه، هذه الأيام تحديداً، سوى بلير دون سواه: ذاك الذي كانت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية قد قدّرت أتعابه بمليونَيْ جنيه سنوياً من مصرف بريطاني كبير، ونصف مليون من شركة خدمات مالية سويسرية، وأجور تتراوح بين 50 و170 ألف جنيه لقاء محاضرات متفرقة، إلى جانب أرباح مؤسسة "بلير وشركاه" للاستشارات عبر البحار؛ وعلى نحو تقريبي، بلغت حصيلة ما جناه بعد أن ترك المنصب، سنة 2007، قرابة 15 مليون جنيه إسترليني.

كلّ هذا حين كان على أعتاب المثول أمام "لجنة شيلكوت" البرلمانية البريطانية، التي تولت التحقيق في خلفيات التحاق بريطانيا بالولايات المتحدة أثناء غزو العراق واحتلاله، وسط إصرار بلير على أنه كان سيشارك واشنطن في الإطاحة بنظام صدّام حسين حتى دون التأكد من وجود أسلحة الدمار الشامل. أكثر من هذا، بلغ به الصلف حدّ التصريح، علانية، بأنّ عدم العثور على تلك الأسلحة كان تفصيلاً "فنّياً" محضاً؛ وأمّا "الصورة الأهمّ" في المشروع بأسره، أي الغزو والاحتلال وقلب النظام، فإنها كانت ثقته القصوى بصواب قراراته، ومشروعيتها وأخلاقيتها.

معروف، أيضاً، أنّ بلير زاود على البيت الأبيض، ذاته، في تصعيد الحرب النفسية، خصوصاً حين نشرت حكومته ما أسمتها "تقارير سرية خطيرة"، عن وجود ترسانة عراقية مرعبة، خرجت بغتة من مغارة على بابا: صواريخ سكود سليمة مصانة، وأطنان (نعم، أطنان!) من المواد الكيماوية الجاهزة للتحوّل إلى أسلحة كفيلة بإبادة "سكان الأرض بأكملهم"، كما جاء في النصّ الحرفي حينذاك. ولقد تطوّع لتبرير فضائح بيل كلنتون الجنسية، خائناً بذلك "مدوّنة السلوك" التي بشّر بها طويلاً، هو المعروف بدفاعه المحموم عن "القِيَم العائلية"، وسعيه إلى تجسيد "المعجزة الأخلاقية للبريطاني النيو ـ فكتوري"، السائر على السبيل الثالث بين اليمين واليسار!

ها هو اليوم يصل، متكئاً على عكاز، إلى نقطة افتضاح علوم "الغرب" عن الشرق"، حيث تعفنت التنميطات الاستشراقية، وصدئت التنظيرات التبسيطية التسطيحية؛ آتياً من ركام ما خلّفه هنتنغتون، حول صراع الأديان وصدام الثقافات؛ ليس دون أن تكون جيوبه محشوّة مثقلة بالملايين، مع ذلك... وبسبب ذلك، أوّلاً!

الاثنين، 20 يناير 2014

اليرموك وعباس: ما أصغر الدولة!

 ذات يوم، غير بعيد، خطب بشار الأسد عن "أشباه الرجال"، في وصف بعض الزعامات العربية (وبينهم ضمناً، وليس تصريحاً بالطبع، ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز، والرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، والرئيس الفلسطيني محمود عباس...)، بسبب موقفهم من "حزب الله" والعدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006. وكان، بالطبع، يفترض أنه يقف في الصنف النقيض: رجل ابن رجل، بدليل أنّ جيوشه زحفت ضدّ إسرائيل في بطاح الجولان المحتلّ، لكي تساند حسن نصر الله عسكرياً، وتكفّ بعض الأذى عن "الشعب اللبناني الشقيق"؛ لولا أنّ الوقائع على الأرض كانت تقول العكس تماماً، وتضع الأسد في مصافّ أدهى، وأدنى، حتى من تلك الشبهة التي ساقها.

بعد أسابيع قليلة كان أحد أولئك "الأشباه"، العاهل السعودي، يُستقبل في دمشق بالطبول والزمور، ويُقلّد وسام أميّة ذا الوشاح الأكبر، أرفع الأوسمة في البلاد؛ وكان أحدهم الآخر، الرئيس الفلسطيني، يلقى معاملة أشبه بالإهانة المعلنة، فتأجلت زيارته الرسمية المقرّرة، بل أُلغيت حتى إشعار آخر مجهول. صحيح أنّ البون كان شاسعاً واسعاً، في حسابات النظام السوري على الأقلّ، بين خادم الحرمين الشريفين، وخادم "خيار السلام"؛ إلا أنّ ما استحقه الأوّل من حفاوة، إنما أجاز ما لحق بالثاني من مهانة. المفارقة، المضحكة ـ المبكية، ظلّت مع ذلك متمثلة في حقيقة أنّ أحد أبرز بنود قمّة الأسد ـ عبد الله كانت إعادة تأهيل عباس لدى أطراف ما يُسمّى "محور الممانعة"، وكذلك إعادة تطبيع النظام السوري مع ما يُسمّى "محور الاعتدال".

استرجاع هذه الواقعة يرتدي صفة الاحتكام إلى واحدة من قواعد العلاقة بين نظام "الحركة التصحيحية"، كما أطلقه الأسد الأب واقتفى دربه الأسد الابن الوريث، أي إهانة الشعب الفلسطيني ما أمكن، عبر إذلال قياداته الرسمية. وأمّا مناسبة العودة إلى مهانة عباس تلك، فهي تصريحاته الأخيرة حول تجويع مخيّم اليرموك الفلسطيني، بعد حصار يتواصل منذ 18 شهراً: لم يكتفِ سيادته بتبرئة النظام السوري من حصار "يرقى إلى جريمة حرب"، حسب نافي بيلاي، رئيسة مفوضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة؛ بل نعت بعض المحاصَرين بـ"الخونة للقضية"، و"الأيدي القذرة المستأجرة"، واكتشف لا فُضّ فوه أنه "إذا أراد الفلسطينيون أن يقاتلوا، معروف أين يقاتلون وليس في اليرموك"، ولهذا: "كنا نتمنى على الجماعات المسلحة أن يبعدوا عن المخيمات لكنّ المبلغ المدفوع لهم أكبر من الخروج من المخيم"!

صورة طبق الأصل، ولكنها "فتحاوية" مصدّق عليها بخاتم سلطة رام الله، عن خطاب "الممانعين" إياهم، ممّن يرفعون العقيرة لهتاف واحد، ركيك بقدر ما يتجاهل حقائق التاريخ والجغرافيا والخرائط المحضة، يدعو إلى عدم إقحام المخيمات الفلسطينية في "المؤامرة الصهيو ـ أمريكية" على سورية. المفارقة أنّ عباس، في العزف على هذا النغم النشاز، لا يلتقي مع خصومه الذين أشبعوه شتماً خلال سنوات طويلة (خاصة بعد فضيحة تأجيل التصويت على تقرير القاضي ريشادر غولدستون، حول جرائم الحرب خلال العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزّة)، فحسب؛ بل يكرر، مثل ببغاء، خطاب النظام السوري حول الفلسطينيين بوصفهم "ضيوفاً في الدول العربية"، ويتوجب على الضيف "أن يحترم أصول الضيافة"!

فماذا إذا انطوت تلك الأصول الضيافية على قصف المخيّم بالبراميل المتفجرة، بحوّامات ليس في وسع عباس الزعم بأنها في أمرة "الأيدي القذرة المستأجرة"؟ وماذا إذا شهدت منظمات إغاثة أممية ودولية، بأنّ النظام، وليس "الخونة للقضية"، هو الذي تعمد ويتعمد عرقلة ايصال الإمدادات الغذائية والطبية إلى المخيّم؟ أم أنّ في وسع عباس الكذب في هذَين أيضاً، وسواهما كثير، ما دام قد أرسل إلى دمشق مفاوضاً باسمه، أحمد مجدلاني، أسخريوطي "جبهة النضال الشعبي"؛ يكذب في شهيقه ويزوّر في زفيره، ويجزم بأنّ "داعش" و"جبهة النصرة" وراء "تشريد نحو 360 ألف لاجىء فلسطيني، من 11 مخيماً، وثلاثة تجمعات للاجئين"، منذ أواخر 2012؟

ولكن... أيّ عجب في أن يلتقي عباس مع "ممانع" دجال، يتعامى عن حقيقة أنّ إسرائيل، على امتداد تواريخها الإجرامية خلال حصارات غزّة ورام الله والمدن الفلسطينية كافة، لم تبلغ ذلك المستوى الوحشي المطلق الذي يدفع الآدمي المحاصَر إلى التماس القوت في نبات الصبّار أو لحم القطط؟ أيّ عجب، وعباس هو عباس... لا راح ولا أتى: ورث الانتفاضة الأولى من الراحل خليل الوزير (أبو جهاد)، فحوّلها من حركة مقاومة إلى جهاز بيروقراطي؛ وخصال "الواقعية" و"الذرائعية" و"الطواعية" أكسبته حظوة خاصة لدى واشنطن وتل أبيب، فصار رئيس الوزراء الذي دخل مع عرفات في معركة مفتوحة شاملة، حول ملفات كثيرة، أبرزها طرائق الانحناء الأفضل؛ ثمّ صار الرئيس الذي من طينة مَنْ يَهُنْ، يسهل الهوان عليه...

ومع ذلك، ورغم أنّ ولايته الدستورية انتهت منذ مطلع 2009، فإنّ عباس هو الرئيس الفلسطيني المنتخَب ديمقراطياً؛ ولهذا فإنّ هوانه، بيده شخصياً، أو بيد عمرو أو زيد، ليس نازلة تخصّه وحده، بل هي إهانة للشعب الفلسطيني، معه وبسببه. وذكر الله بالخير الراحل الكبير محمود درويش: ما أوسع الثورة! ما أضيق الرحلة! ما أكبر الفكرة! ما أصغر الدولة!

الاثنين، 13 يناير 2014

شارون: مَنْ خلّف ما مات!

الأمريكي دانييل فريدمان هو أحد كبار محرّري مجلة "فوربز"، الأثيرة لدى رجال المال والأعمال وسياسات الأمن الاقتصادي والاستثماري للشركات الكونية العملاقة؛ ومؤلف كتاب "الراية السوداء: القصة الداخلية لـ11/9 والحرب على القاعدة"؛ كما أنه أحد أبرز المطالبين بالإبقاء على نظام آل الأسد في سورية، بوصفه "الشيطان الذي نعرفه"، أفضل من أيّ "شيطان قادم" لا نعرفه. وضمير المتكلم بالجمع، هنا، يخصّ أصدقاء إسرائيل في الولايات المتحدة، أوّلاً، ثمّ صانعي القرار وراسمي السياسات في إسرائيل ذاتها بعدئذ. ولهذا فإنّ فريدمان لم يتردد، منذ مطلع العام 2012، في كشف النقاب عن بعض تفاصيل التعاطف الشديد الذي حظي به الأسد الابن من داعم غير منتظَر، في المنطق التقليدي على الأقلّ: أرييل شارون!

لكنّ الحمقى، و"الممانعين" المتحامقين عن سابق عمد، هم الذين يتجاهلون هذه الحقيقة؛ وأنها صارت خياراً حكم تفكير شارون حتى صيف العام 2006، حين أجبرته الغيبوبة على مغادرة الحياة السياسية. ومن موقعه كرئيس وزراء، وزعيم لحزب "كاديما" كذلك، طالب بعدم المضيّ في الضغوط الأمريكية ـ الفرنسية (أيام الرئيسين السابقين، الأمريكي جورج بوش والفرنسي جاك شيراك) إلى مستوى يهدّد بانهيار بنية النظام. ولتذهبْ إلى الجحيم، طبقاً لمنظومة تفكير شارون، تخرّصات القائلين بـ "شرق أوسط جديد" ديمقراطي، يفسح أيّ مجال أمام سقوط النظام، ويقيم سورية جديدة ديمقراطية. فهذه، إذا قامت، فإنها في يقين شارون لن تعيد فتح ملفات الجولان المحتلّ، فحسب؛ بل سوف تعيد تركيب الجبهة السورية، شعباً وجيشاً ودولة ومؤسسات، بما يكفل استيلاد أخطار جدّية غير مسبوقة على أمن إسرائيل.

من الإنصاف المحض، إذاً، أن يكون آل الأسد في عداد متقبّلي التعازي بإعلان رحيل شارون أخيراً، ورسمياً هذه المرّة؛ خاصة وأنّ السياقات الراهنة لإصرار إسرائيل على إطالة عمر النظام السوري، تكاد تتطابق مع سياقات العام 2006، وتعيد إنتاج المسوغات ذاتها التي حثّت شارون على المطالبة بحفظ بقاء وريث حافظ الأسد، السائر على هدي أبيه في إسباغ السكينة والسلام على طول حدود الاحتلال الإسرائيلي للجولان، وإضفاء الأمان والاطمئنان على المستوطنات والمستوطنين هناك. وكان شارون يدرك جيداً، ولم يكن بحاجة إلى استعادة وقائع التاريخ القريب لكي يتأكد، أنّ هذا الوريث لن يذهب البتة أبعد مما فعل أبوه خلال مذابح صبرا وشاتيلا، والغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982، أو حصار المخيمات الفلسطينية وتجويعها... 

صحيح أنّ الدفاع عن هذا النظام، تحديداً، لم يكن يلغي مقولة الأصل، أي حقيقة أنّ سورية الشعب والجيش هي، في العمق الستراتيجي المديد والبعيد، بلد معادٍ في الجوهر، مثله في ذلك مثل الشعب والجيش في مصر والأردن. ولكن من الصحيح، أيضاً، أنّ إسرائيل في ولاية شارون كانت تتمتع، وتستمتع، بمزايا تلك التبدّلات الكبرى التي طرأت على خريطة ما يُسمّى "الأنظمة الراديكالية" في العالم العربي: إخراج العراق من ساحة الصراع، تطويع ليبيا، إحياء المحور السعودي ـ المصري وتمتين وظائفه في الضغط أو التوسّط أو الإنابة الإقليمية على نحو يضمن حسن تنفيذ أغراض السياسة الأمريكية؛ وما إلى هذا وذاك من عناصر مشهد متحوّل قلب معادلات الصراع العربي ـ الإسرائيلي، رأساً على عقب أحياناً.

وليس صعباً على المرء أن يتفهم ـ سواء بمفعول رجعي، أو بمفاعيل الحاضر ـ أسباب شارون في الدفاع عن هذا النظام، خاصة حين برهنت وقائع الانتفاضة السورية، شهراً بعد آخر، أنّ الفرضيات التي اتكأ عليها جنرال صبرا وشاتيلا، إنما تُفرز الحيثيات ذاتها التي انتظرها من جيش النظام: قُصفت القرى والبلدات والمدن السورية المنتفضة، بالأسلحة المدفعية والصاروخية الفتاكة كافة، وبالدبابة مثل المروحية والقاذفة، فضلاً عن صواريخ "سكود" والأسلحة الكيميائية... على مبعدة أمتار من خطوط الاحتلال الإسرائيلي في الجولان. وها أنّ مخيّم اليرموك الفلسطيني، في ظاهر دمشق، يلاقي اليوم على أيدي قوّات النظام السوري أفانين من الوحشية والهمجية والحقد لم تتجاسر عليها إسرائيل، أو وكلاؤها الأوصياء على تنفيذ سياساتها.

ضمن سياقات مماثلة، ومكمّلة، وبعد شهرين فقط على انطلاق الانتفاضة السورية، أعلن رامي مخلوف، صيرفي النظام وتمساح الفساد والنهب الأكبر، أنّ أمن سورية مرتبط بأمن إسرائيل؛ ثمّ نقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، عن مصادر أمريكية، أنّ الأسد أرسل ما يفيد استعداد نظامه لاستئناف المباحثات مع إسرائيل؛ مع تشديد على أنّ ذلك لن يكون ميسّراً إلا إذا... "هدأت الأوضاع الداخلية" في سورية. هو، إذاً، إحياء للعبة العتيقة، إياها: التفاوض مع إسرائيل، ضمن تلويح بتنازلات حاسمة، هو أحد منافذ النجاة كلّما لاح خطر داهم؛ فكيف إذا اتخذ الخطر الراهن هيئة انتفاضة شعبية، تشمل سورية بأسرها؟

وإذْ يربط المرء، اليوم، بين وقائع موت شارون؛ وتصريحات محمود عباس الرثة حول حصار مخيم اليرموك، والحديث عن "الأيدي القذرة المستأجرة" هناك، وإغفال جرائم النظام تماماً؛ وبلوغ الشهداء الفلسطينيين في سورية، خلال الانتفاضة، رقم الـ1740، بينهم 169 طفلاً و174 امرأة؛ ثمّ موت 41 من أبناء المخيّم جوعاً، تحت الحصار... فإنّ من المشروع استعادة التعبير الشائع: مَنْ خلّف، حتى دون صلة بيولوجية، ما مات!

لماذا يطالب صهاينة مخضرمون بدعم "الجبهة الإسلامية" في سورية؟

في نيسان (أبريل)، السنة الماضية، بلغ الخلاصة التالية، الصريحة الواضحة، والتي بدت صادمة حتى لدى متابعيه ومريديه: ادعموا بشار الأسد، ضدّ الثائرين عليه! اليوم، بعد ثمانية أشهر، آن أوان الخلاصة الأخرى، المناقضة المعاكسة، التي لا تقلّ صراحة ووضوحاً، ويتوجب أن تصدم الرهط إياه: ادعموا الثائرين على الأسد، ليس "العلمانيين" أو "الديمقراطيين" أو "الليبراليين" بالضرورة، بل "الجبهة الإسلامية" تحديداً: "يشقّ عليّ هذا، ولكني أصادق على دعم الجبهة الإسلامية. هنا أيضاَ، ليس لكي تفوز، بل لكي تخوض يوماً إضافياً في المعركة ضدّ النظام الأسدي البغيض، ومناصريه الإيرانيين وحزب الله". 

هكذا تكلّم دانييل بايبس، الكاتب الأمريكي ـ اليهودي، كاره العرب، وقبلهم المسلمين، لا كما فعل أو يفعل أيّ قرين له في الكراهية؛ وبمقدار من الاستيهام، الممتزج بالعنصرية، والمغالطات التاريخية، والخفة التحليلية، لا يجاريه فيه أحد، في الولايات المتحدة وإسرائيل معاً، والحقّ يُقال. بايبس، في هذا، أشدّ صهيونية من تيودور هرتزل نفسه ربما، في صفّ الأموات؛ وأكثر إسرائيلية من بنيامين نتنياهو، في عداد الأحياء، الأمر الذي يبرّر القول بأنه آخر الليكوديين على الأرض. ليس أقلّ أهمية، بالطبع، أنه النموذج الإعلامي الأخطر في تمثيل قصة الغرام بين النظام السوري وإسرائيل، من جهة أولى؛ وفي النياية عن رهط من المراقبين الغربيين الذين فضّلوا، ويفضّلون، بقاء الأسد (بوصفه "الشيطان الذي نعرف")، على أيّ بديل آخر، أياً كانت صفاته.

وفي مقالته الجديدة، التي سارت تحت عنوان "نعم، ساندوا الثوار السوريين؟" وحملت التطوّر الأحدث في عقيدته حول الشأن السوري، يبدأ بايبس باعتراف يتوسل النقد الذاتي الخفيف، فيقرّ بأنّ العنوان "ساندوا الأسد"، الذي حملته مقالة نيسان، 2013، كان "غير دقيق بعض الشيء، وتوجّب أن يكون: ساندوا أيّ طرف يخسر في الحرب الأهلية السورية". فهل "الجبهة الإسلامية" تخسر، هذه الأيام، لكي يطالب بايبس بدعمها، استناداً إلى خطّ تفكيره الجديد؟ كلا، أو ليس التدقيق في الأمر مهماً عند بايبس، خاصة وأنه اتخذ الموقف الجديد قبل اندلاع المواجهات العسكرية بين "داعش" والكتائب الإسلامية الأخرى. يهمّه اعتباران، حصريان تقريباً لأنه لا يسوق سواهما: 1) "ليس علينا أن ندعم أيّ طرف على أمل انه سيفوز، بل فقط لكي يمنع الطرف الثاني من الفوز"؛ و2) لأنّ "مساعدة الجهاديين السنّة في سورية ضدّ النظام يخدم التوازن"، في اتفاقية جنيف حول البرنامج النووي الإيراني.

فتشوا عن صيانة مصالح إسرائيل، إذاً، في كلّ جديد، أسوة بكلّ قديم، لدى هذا الصهيوني ـ الليكودي المخضرم؛ ولا عناء، بعدئذ، يحتاج إليه المرء إذْ يقارن بين خلاصة هنا، وأخرى هناك، تساند الأسد تارة، أو تزعم دعم خصومه طوراً. الفحوى الكبرى، في الخلاصات جمعاء، هي التالية: الأسد دكتاتور، لا خلاف؛ يداه مضرّجتان بدماء السوريين، لا ريب؛ وهو، وأفراد عائلته من أبناء عمومة وخؤولة، يحكمون سورية بالحديد والنار، وينهبون خيراتها، بالتأكيد؛ ولا شك، أيضاً، في أنه حليف إيران، وممرّ السلاح إلى "حزب الله"... كلّ هذا صحيح، ولكن تخيّلوا لحظة واحدة أنّ هذا النظام سقط غداً أو بعد غد؟ فكّروا في عواقب الحرب الأهلية، خاصة حين يكون التشدد الإسلامي هو البديل؛ واتركوا هذا النظام على قيد الحياة، فهو الضامن لكم ـ في الغرب عموماً، وفي الشرق أيضاً، ولكن في إسرائيل أوّلاً ـ من شرور انقسام سورية إلى طوائف وشيع ودويلات!

ويحدث، دائماً، أن يتفاخر بايبس بأنه منكبّ على الملف السوري منذ سنة 1985، ضمن قناعة ثابتة بأنّ الانقسام السنّي ـ العلوي هو جوهر السياسة في البلد. وغالباً ما يذكّر بدراسة أولى، عنوانها "إحكام القبضة العلوية على السلطة في سورية"، 1989، أوضح فيها كيف أنّ جماعة صغيرة وضعيفة تاريخياً تمكنت من بلوغ الذروة؛ ودراسة ثانية، عنوانها "سورية بعد الأسد"، 1987، بيّنت أنّ الانقسام الإثني، هذه المرّة، آت إلى سورية لا محالة. بيد أنه لا يقول إنّ ذلك الانقسام لم يقع، حتى الساعة في الواقع، بعد مرور ربع قرن على نبوءاته المشؤومة، من جهة؛ كما يتجاهل أنّ 13 سنة انقضت بعد أن تنبأ برحيل الأسد (استناداً إلى المعلومات عن مرضه، آنذاك)، ظلّ فيها الأخير حياً يرزق، بل نجح في تجاوز عثرة وفاة نجله باسل، المرشّح الأوّل لوراثته، وامتلك الوقت لتوريث نجله الثاني، بشار!

وكان رأي بايبس في الانتفاضة السورية قد بدأ، منذ أواسط 2011، يتقلب بين خلاصة وأخرى، نقيضة أو مطابقة لا فرق؛ ما دامت القاعدة الذهبية العتيقة، والمعلَنة، هي الرهاب من وصول الإسلاميين إلى السلطة؛ والغرض الذهبي العتيق، الخفي، هو مصلحة إسرائيل، والخشية من "قوس سنّي" يتشكل ضدها، من تونس إلى مصر إلى غزّة، وصولاً إلى سورية ما بعد الأسد. لافت، مع ذلك، أنّ إطلالته على "الربيع العربي" كانت متفائلة في البدء، ليس دون تعليق انتفاضات العرب على أكثر من مشجب، يأتي في طليعتها ما يسمّيه "الحرب الباردة الشرق ـ أوسطية" مرّة، أو "الشطرنج الإقليمي" مرّة أخرى؛ ولكنه لا يحيلها، في أيّ مثال أو سياق، إلى إرادة الشعوب، والتعطش إلى الحرّية والكرامة والديمقراطية، إزاء قبائح أنظمة الاستبداد والفساد.

ولديه، في تشخيص عناصر هذه الانتفاضات (التي يحصرها بين "التمرّد" و"العصيان"، وليس الانتفاضة أو الثورة)، ثلاثة مستويات من "التأمل". الأوّل هو أنها ثمرة تصارع فريقَيْ الحرب الباردة الإقليمية: معسكر إيران و"المقاومة"، ويسعى إلى "هزّ أركان النظام القائم، واستبداله بآخر إسلامي أكثر تقوى، وأشدّ عداء للغرب"؛ ومعسكر السعودية، وهو صفّ "الأمر الواقع"، الذي يضمّ معظم ما تبقى من دول المنطقة، بما في ذلك إسرائيل، و"يفضّل الحفاظ على الأمور كما هي، في قليل أو كثير". المعسكر الثاني "يتمتع بخاصية تقديم رؤية"، والمعسكر الأوّل يتميز بـ"القدرة على نشر المدافع، والكثير منها".

المستوى الثاني يذهب إلى أنّ "التطورات" في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين ذات مغزى كبير، ولكن المغزى الأكبر هو في ما ينتظر "العملاقين" قائدَي المعسكرين، إيران والسعودية. صحيح أنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية تمكنت من احتواء الاحتجاجات الشعبية في حزيران (يونيو) 2009، على خلفية الانتخابات الرئاسية؛ إلا أنّ النار ما تزال تحت الرماد، وانهيار "نظام الخميني" ليس بعيد الاحتمال، وعواقب حدث كهذا تشمل أمن إسرائيل، والأمن النووي في المنطقة، ومستقبل العراق، وسوق الطاقة الدولي، و"معسكر المقاومة" ذاته في المقام الأوّل. ورغم أنّ السعودية تتباهي بنظام مستقرّ، تقوم ركائزه على "مزيج فريد من العقيدة الوهابية، والسيطرة على مكة والمدينة، واحتياطي النفط والغاز"، إلا أنّ "الفوارق الجغرافية والإيديولوجية والشخصية بين السعوديين يمكن أن تتسبب في انهيار النظام".

مستوى التأمل الثالث، والأهمّ في نظر بايبس، هو أنّ "حركات التمرّد" العربية الأخيرة بدت "بنّاءة" و"وطنية" و"ذات روح مفتوحة"، فغاب عنها "التشدد السياسي في كلّ أنواعه، اليساري منه أو الإسلامي"، وكذلك غابت الشعارات المناهضة للولايات المتحدة، وبريطانيا، وإسرائيل. فما الذي قرأه في ما زعم من خصائص، يراها جديدة على الشارع العربي؟ أنها، ببساطة، قد انفكت تماماً عن "تشدد القرن الماضي"، كما صنعه رجال من أمثال المفتي أمين الحسيني، جمال عبد الناصر، آية الله الخميني، ياسر عرفات، وصدّام حسين. ولهذا، إذْ يمنحنا هبة الإقرار بأنه كان على الدوام متشائماً حول آفاق الديمقراطية في العالم العربي، والإسلامي عموماً، يتواضع بايبس فيتنازل ويهتف: أنا متفائل!

أهو متفائل، اليوم أيضاً، في ضوء تطورات بلدان "الربيع العربي" عموماً، وسورية خصوصاً؟ في نيسان الماضي، أيضاً، خلال حوار متلفز، برّر بايبس مطالبته بأن يتدخل الغرب عسكرياً لإنقاذ الأسد، على هذا النحو: "موقفي ليس نابعاً من أي تعاطف مع نظام الأسد أو إعجاب به، فهو نظام فظيع جدير بالازدراء. ولكني إذْ أنظر إلى الموقف ككلّ، نظام الأسد البغيض، والمتمردين الذين يزدادون فظاعة، أعتقد أنّ الأفضل لنا هو أن يواصلوا الاقتتال فيما بينهم. لا أريد منتصراً في هذه المعركة يتولى قيادة سورية، ويصبح جاهزاً لقتال جيرانها. ونحن في حال ستراتيجية افضل إذا ركّزوا على بعضهم البعض، وهذه نقطة ستراتيجية وليست إنسانية".

وإذْ يُطرح عليه سؤال إيران، يرتدّ بايبس إلى نقطة التناقض الأصلية في أطروحته، أي تشجيع اقتتال السوريين فيما بينهم، ومساندة الأسد ضدّ المعارضة، في آن معاً؛ فيقول: "في سورية إسلاميون سنّة يقاتلون إسلاميين شيعة. الإسلاميون المدعومون من تركيا، يقاتلون الإسلاميين المدعومين من إيران. حسناً، دعوهم ينخرطون في هذا، ولنساعدهم في مواصلة القتال فيما بينهم"! ولو أنّ بايبس توقف هنا، لما كان في تصريحاته ـ على بشاعتها، وانحطاطها، ودعوتها الصريحة إلى تشجيع الإبادة الجماعية ـ ما يدهش كثيراً؛ باستثناء مقدار النفاق الذي تنطوي عليه، من حيث أنّ وقائع التاريخ القريب والبعيد تبرهن أنّ نظام "الحركة التصحيحية"، الأسد الأب مثل الأسد الابن، لم يشكّل أي تهديد جدّي لإسرائيل.

والأصحّ، بالطبع، أنّ بايبس سعيد بأن تُدمّر سورية حتى لا يبقى فيها حجر على حجر، وأن يستهلك النظام الصواريخ السورية، الـ"سكود" تحديداً، في قصف حلب والرقة، بدل تل أبيب وديمونة؛ وأن تُدمّر ترسانة النظام من الأسلحة الكيميائية في عرض البحر، بدل أن يسقط ما وزنه غرام واحد منها على "أرض إسرائيل". وإذا صحّ أنّ المعادلة العسكرية مختلة، بشدّة، ضدّ المعارضة؛ لصالح نظام يتلقى الدعم، العسكري والمالي والبشري واللوجستي، من إيران وروسيا و"حزب الله" اللبناني، و"حزب الله" العراقي؛ فإنّ ما يصحّ، استطراداً، هو أنّ بايبس ينتهي عملياً إلى هذه الخلاصة: لا تسمحوا بهزيمة الأسد، وانصروه، فهو الأفضل لمصالحنا الستراتيجية.

وإذْ يرى أنّ الثائرين على الأسد ليسوا دعاة إصلاح وطلاّب مستقبل أفضل، بل هم ببساطة ضحايا "هوّة لا تُجسر" بين الطائفتين، السنّة والعلويين؛ وأنّ الشارع السياسي السوري ليس معارضاً، بقدر ما هو حشود منساقة خلف أطراف الاقتتال الطائفي؛ فإنّ حماس بايبس إلى مساندة "الجبهة الإسلامية" ليست أقلّ من دعوة إلى صبّ الزيت على النار، كما يريد لها أن تستعر، لصالح الخلاصة الكبرى: حافظوا على نظام الأسد، ما دام يحفظ أمن إسرائيل!
9/1/2012

الاثنين، 6 يناير 2014

ديودونيه والأسد: معركة واحدة!

 أن يكون امرؤ ما ضحية محاكم التفتيش المعاصرة، في أوروبا هذه الأيام بصفة خاصة، وأن يجري كمّ الأفواه بذرائع واتهامات شتى، تنتهي جميعها إلى محرّم كبير واحد، هو العداء للسامية؛ أمر لا يعني، بالضرورة، أنّ المرء ذاته ليس مصاباً بهذا أو ذاك من أمراض العنصرية أو الانتهازية؛ أو أنّ الضحية ذاتها ليست صديقة جلاد هنا، أو متواطئة مع مستبدّ هناك. خير النماذج، وأحدثها على الأرض الفرنسية مثلاً، الكوميدي ديودونيه مبالا، والذي يُتهم بالعنصرية في الشكل والحيثيات القانونية، وبكراهية اليهود والعداء للسامية، ولدولة إسرائيل في المحتوى والرسالة السياسية.

لكن ديودونيه ليس مجرّد مناصر لنظام بشار الأسد، على طريقة "الممانعين" العرب، أو المرتزقة من أمثال البريطاني جورج غالاوي، أو متقاعدي اليسار الطفولي الأوروبي، فحسب؛ بل هو "منحبكجي" متعصب مهووس، بأسوأ ما تعنيه هذه المفردات من ابتذال وانحطاط: على خشبة المسرح، وليس في الكواليس أو المجالس الخاصة، يهتف بحياة الأسد ويرفع صورته، ويعطي ممثلي النظام فرصة مخاطبة الجمهور، ويصفّق لهم عندما يفدون قائدهم بالروح وبالدم. وحين ينخرط في أية "فذلكة" حول الأسباب التي تدفعه لتأييد النظام، فإنه يسارع إلى امتداح "أجواء الحرّية"، و"احترام الاختلاف"، و"حقّ التعبير عن الرأي"... التي لمسها شخصياً خلال زيارة دمشق في عهد الأسد، والتي يفتقدها في بلده فرنسا! كذلك لا يخفي ديودونيه انحيازه إلى "حزب الله"، لأنه الطرف الذي يقاتل إسرائيل؛ وما دام الحزب  يناصر الأسد، فإنّ الأخير على حقّ، لا ريب!          

 لافت، إلى هذا، أنّ شرائح واسعة من أتباع اليمين الفرنسي المتطرف، الكاره للعرب وللمسلمين وللمهاجرين، المتباكي على طهارة "العرق الأبيض"... لا تكتفي بمناصرة ديودونيه (الكاميروني الأصل، ذي البشرة السوداء!)، بل تعتبر أنّ أفكاره امتداد لخطّ هذا اليمين، في مسائل السياسة والاقتصاد والاجتماع، إذا لم تكن مستمدة أصلاً من برامج اليمين وفلسفته. لافت، بعدئذ، أن يكون ألان سورال، العضو السابق في الحزب الشيوعي الفرنسي، والعضو الحالي في "الجبهة الوطنية"، أبرز أحزاب اليمين الفرنسي المتطرف، ولكن الماركسي (دائماً، كما يقول!)... هو شريك ديودونيه في "الخلطة" إياها، بعد إضافة أفكار غوغائية حول رفض التيارات النسوية المعاصرة، واعتبار الحجاب أداة إغراء شرعية أقوى أثراً من الثياب الداخلية الفاضحة!

وقد يسارع كثيرون، من العرب والمسلمين، ثم جاليات المهاجرين عموماً، إلى إعلاء شأن ديودونيه، والإقبال على عروضه المسرحية، وتقديم التبرّعات المالية لتغطية النفقات الباهظة الناجمة عن مثوله، مراراً وتكراراً، أمام القضاء. لكن الدوافع، في قسطها الأعظم، لا تنبع من تثمين القيمة الفنية لتلك العروض، أو حتى من باب التعاطف مع رأي يتعرّض لاضطهاد النظام السائد، ومجموعات الضغط السياسية والاقتصادية والإعلامية اليهودية بصفة خاصة؛ بل، في المقام الأوّل، لأنّ ديودونيه يوفّر لجمهوره فرصة التنفيس عن رغائب نقد عارمة، ضدّ هيمنة المؤسسة إجمالاً، وضدّ "الانضباط السياسي" في التعبير عن الرأي؛ خاصة وقد صارت القوانين الفرنسية تخلط، في مستويات التجريم، بين رأي يُثار ضدّ سياسات إسرائيل، وبين مخالفة جنائية بتهمة العداء الديني أو العنصري لليهود.

ذلك كلّه لا يعني، في الجانب الآخر من المسألة، أنّ ديودونيه ليس ضحية تنكيل محاكم التفتيش المعاصرة، وأنّ الكثير من القضايا التي تُرفع ضده في المحاكم لا يكون حافزها مناهضة العنصرية، أو حتى الدفاع عن اليهود، بقدر ما تسعى أوّلاً إلى لجم نقّاد إسرائيل، الدولة والسياسات، بذريعة تحصين المجتمع ضدّ نزوعات العداء للسامية. وفي هذا المضمار، وعلى سبيل المقارنة مع نموذج مضاد، للمرء ان يتذكّر الدعوى التي رفعتها، سنة 2008، "رابطة مناهضة العنصرية ومعاداة السامية"، الـ Licra، وهي أبرز مجموعات الضغط اليهودية في فرنسا، ضدّ موريس سينيه Siné، أحد كبار رسّامي الكاريكاتير المخضرمين، بتهمة "التحريض على الكراهية العنصرية". وبعد طرده من وظيفته في أسبوعية "شارلي إيبدو"، المطبوعة ذاتها التي أعادت نشر الرسوم الكاريكاتورية الدانمركية المسيئة لشخص الرسول بذريعة الدفاع عن حرّية التعبير، مثل سينيه أمام محاكم عديدة، حتى تراجعت الرابطة وقررت عدم استئناف القضية.

الأمر لا يقتصر على فرنسا، بالطبع، إذْ أنّ سينيه نفسه كان ضحية واحدة من أبشع وقائع الرقابة في التاريخ الإنساني، أي إعدام الكتاب، عن طريق إحراق كامل النسخ المطبوعة. ففي سنة 1966، أقدمت دار نشر "بنغوين"، بقرار فردي من مؤسسها ألن لين، على إحراق 50 ألف نسخة من كتاب سينيه "مجزرة"، لأنه اعتُبر إهانة لمشاعر المسيحيين، رغم أنّ الكتاب كان ترجمة عن الأصل الفرنسي (يُروى، هنا، أنّ لين ـ الذي سبق له أن دافع بقوّة عن طبع "عشيق الليدي شاترلي"، رواية د. هـ. لورانس ـ ترك إدارة الدار منهمكة في مناقشة ما يتوجّب عمله بصدد كتاب سينيه، وانسلّ مع أحد المستخدمين الموثوقين، وحمّل الطبعة كاملة على ظهر شاحنة صغيرة، ثمّ مضى بها إلى مزرعته الخاصة، فأحرقها هناك!).

قصارى القول هو أنّ ضحية محكمة تفتيش، من طراز ديودونيه؛ يمكن أن يكون شريكاً لمستبدّ، قاتل أطفال، مثل الأسد. أحياناً تكون المعركة واحدة، كما يُقال في فرنسا!

2013 والسياسة الخارجية الأمريكية: ماض لا يحول!

 إذا صحّ أنّ 2013 كانت سنة انحطاط السياسة الخارجية الأمريكية إلى حضيض جديد، أدنى من أيّ قاع بلغته طيلة سنوات ولايتَيْ الرئيس الأمريكي باراك أوباما؛ فإنّ الصحيح الآخر، الموازي، هو أنّ السيرورة هذه اقترنت بافتضاح المزيد من سمة كبرى، تاريخية ومركزية وثابتة، طبعت فلسفة الإدارات جمعاء، تقريباً: أنّ لكلّ نزاع مقدار خاصّ به من النفاق، مقابل السياسة العملية النفعية "الواقعية"، يقتضيه المقام الخاصّ بدوره. وفي الملفّ السوري بصفة عامة، وحكاية "الخطّ الأحمر" الكيميائي خاصة، كُتب الكثير في استجلاء هذا الجانب تحديداً، ربما بسبب المناخات الدراماتيكية التي أشاعها البيت الأبيض حول احتمالات توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري، بعد المجازر الكيميائية في غوطتَي دمشق، الشرقية والغربية.

طريف، مع ذلك، أنّ ما يحدث في كلّ آونة أمريكية مماثلة، تكرر هنا أيضاً؛ فبدا وكأنّ أوباما نسيج وحده في استعادة سمة النفاق الكبرى تلك، وذهب البعض (خاصة في صفوف عشاق السياسة الخارجية الأمريكية، والمؤمنين بأخلاقياتها) إلى أنّ الضعف الذاتي، الذي يتصف به أوباما شخصياً، هو السبب. الوجه الآخر للطرافة مصدره أنّ شاغل البيت الأبيض الحالي ليس البتة استثناء القاعدة، في القوّة والبأس والحزم والبطش، بل هو ابن القاعدة النجيب وأحدث تطبيقاتها؛ والبرهان الأبسط هو أنّ المئات قُتلوا، في الباكستان واليمن والصومال، بأوامر من أوباما، عبر طائرات أمريكية من غير طيار، وأنّ نسبة المدنيين (بافتراض أنّ عناصر "القاعدة" المستهدفين ليسوا ضمن هذا التصنيف) تراوحت بين 22 و58 بالمئة.

مفيد، والحال هذه، أن يذهب المرء إلى ملفّ آخر غير سورية، وذلك "الخطّ الأحمر" الشهير، للوقوف على تجليات السمة الكبرى إياها؛ وربما إلى بلد غير عربي أيضاً، أو غير متأثر بمفاعيل "الربيع العربي" الكثيرة، والمتكاثرة. فلنذهبْ إلى موقفَين للإدارة الأمريكية، إزاء احتلال العراق للكويت، واحتلال إندونيسيا لأراضي تيمور الشرقية سنة 1975: في المثال الأوّل هبّت القوّة الكونية الأعظم للدفاع عن سيادة الكويت، وحشدت الجيوش والحلفاء وأشباه الحلفاء، قبل حشد مجلس الأمن الدولي؛ وفي المثال الثاني (بإشراف من أبرز نطاسيي سياسة أمريكا الخارجية: هنري كيسنجر، دون سواه) أغمضت العين والأذن عن الاحتلال من جهة، كما ألزمت المواطن الأمريكي، دافع الضرائب، بسداد أكلافه من جهة ثانية.

وكان المفكّر الأمريكي الكبير نوام شومسكي قد جعل قضية تيمور الشرقية مثالاً دائماً على السياسة الأمريكية، العتيقة، في اعتماد حلول متباينة للمعضلات المتشابهة المتطابقة؛ كما عدّها نموذجاً على موقف "الحضارة الغربية" من أقدار المستعمرات السابقة، التي مُنحت ذلك النوع العجيب من "استقلال وطني" استبدل هويّة المستعمر، دون أن يبدّل طبيعة الاستعمار. كذلك كانت تيمور الشرقية مثال شومسكي على "لعبة الأمم" المكرورة ذاتها: ثمة أهمية استراتيجية ـ عسكرية واحدة تتمتّع بها هذه الجزيرة الصغيرة (هي أنها ممرّ عميق المياه، يسمح للغواصات النووية بالرسوّ على مسافة قريبة)؛ ولكنها أهمية فائقة بالنسبة إلى بلد مثل أستراليا. وثمة، أيضاً، ذلك "الدلال" الخاص الذي حظي به جنرالات أندونيسيا من جانب الولايات المتحدة والغرب إجمالاً، فلم يقتصر على السكوت عن الاحتلال الإندونيسي لتيمور الشرقية، بل اتخذ صفة الاعتراف الرسمي بإلحاق الجزيرة أيضاً.

غير أنّ نفاق عقود الحرب الباردة تواصل هنا وهناك في العالم، بعد أن وضعت تلك الحرب أوزارها، وكانت تدور على مستوى المخيّلة وحدها في واقع الأمر. وهكذا، بات في وسع المرء أن يتابع النفاق الغربي تجاه ما جرى في تيمور الشرقية، وكأنه لا يتابع أيّ جديد. أو كأنّ الاستفتاء الذي نظمته الأمم المتحدة، وأسفر عن رغبة 87,5 بالمئة من أبناء تيمور الشرقية في الاستقلال عن أندونيسيا، لم يكن أكثر من رياضة عابرة مارستها المنظمة الدولية ذات نهار؛ لكي يحلّ النهار التالي فتحوّلها الميليشيات الإندونيسية، المدعومة من الجيش والأجهزة الأمنية وبيوتات المال والاستثمار، إلى باطل وقبض الريح.

والحال أنّ ماضي تلك السياسة الأمريكية لم ينقطع عن حاضرها الراهن، فتوفّر للإنسانية دليل جديد على أنّ النفاق الأمريكي أزلٌ لا يزول، حين بادرت إدارة أوباما إلى اتخاذ خطوة تجاه عسكر إندونيسيا، كانت مفاجئة صاعقة بقدر ما هي وقحة بغيضة، لم يتجاسر الرئيس السابق جورج بوش الابن على اتخاذها، رغم أنّ لعاب الكثيرين من مستشاريه الصقور والمحافظين الجدد بخاصة، سال شهوة إليها. فقد أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية استئناف تدريب وتسليح "قيادة الوحدات الخاصة"، المعروفة بالاسم الرهيب Kopassus. وذاك قرار كسر حظراً أمريكياً دام 12 سنة، وفُرض استناداً إلى "قانون ليهي"، نسبة إلى عضو الكونغرس باتريك ليهي، الذي يحظر تسليح أو تدريب وحدات عسكرية أجنبية تنتهك حقوق الإنسان (وهو القانون الذي جعل إدارة بوش تتردّد، ثم تمتنع، عن إعادة تدريب الوحدات ذاتها!).

وكانت هذه الوحدات الخاصة قد تأسست سنة 1952 لتكون جيشاً خاصاً داخل الجيش، يتولى مهامّ التدخل المباشر في العمليات العسكرية غير التقليدية، وأعمال قمع العصيان والتظاهر، ومحاربة الإرهاب، وجمع المعلومات الاستخبارية؛ فضلاً عن "المهام المستورة" القذرة، مثل الاعتقال والتحقيق والتعذيب والتصفيات الجسدية. وسجلّ الـ Kopassus ليس حافلاً بانتهاك مختلف تصانيف حقوق الإنسان، فحسب؛ بل لا يكاد أيّ انتهاك شائن للحرّيات والحقوق، على كلّ صعيد يخلو من بصمات تلك الوحدات. هذا فضلاً عن دورها في قمع أعمال التمرّد أواخر الخمسينيات، والحملة العسكرية ضدّ غينيا الجديدة سنة 1960، والمواجهة مع ماليزيا خلال سنوات 1962ـ1966، وتنفيذ مذابح الشيوعيين سنة 1965، وغزو تيمور الشرقية سنة 1975...

وما يضيف بُعداً بالغ الخطورة على خطوة إدارة أوباما، هو حقيقة أنّ استئناف تدريب وحدات الـ Kopassus يشكّل انحيازاً صريحاً إلى صفّ العسكر، على حساب المدنيين والسياسة عموماً، في معركة قديمة متجددة لا تخمد نيرانها حتى تستعر من جديد. وكانت تلك المعركة قد تبلورت، واتخذت وجهة عملية وعملياتية، منذ اصطفاف الرئيس الأسبق يوسف حبيبي مع الجنرال ويرانتو ضدّ غالبية أحزاب المعارضة والمجتمع المدني. ولم يفلح انتخاب الرئيس عبد الرحمن واحد، وعزل ويرانتي نفسه وتقديمه إلى المحاكمة بتهم إساءة استخدام السلطة وانتهاك حقوق الإنسان والفساد، في تقريب الهوّة بين العسكر والمدنيين، فهي في حال متفاقمة تشهد عليها سلسلة المآزق الراهنة التي تشهدها البلاد.

والشقاق بين المدنيين والعسكر يدور حول السياسة والاقتصاد والمجتمع، وحول هوية إندونيسيا بعد الرئيس الأسبق سوهارتو، وكان محض تفصيل طبيعي أن يجد الكثير من تعبيراته في موقف العسكر الرافض لإنهاء نحو ثلاثة عقود من الاحتلال الإندونيسي لتيمور الشرقية. كذلك حرص العسكر على ضرب تيمور الشرقية أمثولة قصوى لكلّ مَن تسوّل له نفسه أمر الخروج عن الاتحاد الإندونيسي المقدّس، إذْ من المعروف أنّ البلاد تتألف من 13 ألف جزيرة، وتقوم بنيتها على فسيفساء معقدة (اجتماعية واقتصادية وإثنية ومذهبية ولسانية) لأكثر من 238 مليون نسمة، كان سوهارتو قد أحسن ضبطها بوسيلة القمع والانضباط العسكري تحديداً. وليس خافياً على أحد أن هذه الأمّة ـ الأرخبيل، كما يحلو لبعض المراقبين الغربيين وصف البلاد، عانت وتعاني من هيمنة الأقلية الجاوية التي ساندها سوهارتو وأدام سلطتها طيلة 32 سنة من الدكتاتورية العسكرية.

الجيش الأندونيسي لم يتوقف عن استنباط تلك الكيمياء القوموية الشوفينية بالذات، والجنرالات هم الذين أشرفوا على تشكيل ميليشيات موالية لإندونيسيا في تيمور الشرقية، لم يكن يُعرف لها أيّ وجود قبل بدء الأمم المتحدة في تنظيم الاستفتاء على الاستقلال. كذلك أشرف الجيش على تسليح تلك الميليشيات، وتدريبها، ونشرها في العاصمة التيمورية ديلي، على نحو لوجستي يسمح بممارسة الضغط المادّي على التيموريين، والضغط الأدبي والإعلامي على المنظمات الدولية وممثّلي وسائل الإعلام العالمية. والأرجح أنّ هدف الجيش من تخطيط كهذا كان، ويظلّ، توجيه رسالة إلى القوميات الأخرى التي انتظرت نتائج استفتاء تيمور الشرقية قبل ابتداء أيّة خطوة ملموسة على طريق المطالبة بحقوق مماثلة.

ولكي لا يبدو أوباما وحيداً، كانت إدارة أمريكية ديمقراطية أخرى، سيّدها الرئيس الأسبق بيل كلنتون، هي التي اختارت الانحياز إلى العسكر في معظم الملفات التي تخصّ ماضي، وحاضر، ومستقبل إندونيسيا؛ فاستمعنا إلى مستشار الأمن القومي آنذاك، ساندي بيرغر، يقول التالي في تمييز إندونيسيا عن سواها: "إنها رابع أكبر دولة في العالم. وهي تمرّ في مرحلة انتقال سياسي واقتصادي هشّ ولكنه هائل الأهمية. والولايات المتحدة تدعم بقوّة ذلك الانتقال. وحلّ هذه الأزمة لا يهمّ تيمور الشرقية وحدها، بل يهمّ إندونيسيا بأسرها". وفي الواقع كان تشخيص بيرغر يستبطن الرسالة التالية: ما يجري في تيمور الشرقية من تنكيل بالتيموريين مسألة تتصل مباشرة بالصراعات السياسية الداخلية في إندونيسيا، قبل أن تكون مسألة ذات صلة بحكاية حقّ التيموريين في تقرير المصير.

هل ثمة مقارنة، وربما سلسلة مقارنات، مع حفظ الفوارق، بين حاضر الموقف الأمريكي من الملفّ السوري، وماضي الموقف الأمريكي (الذي ما يزال حاضراً، عملياً) إزاء تيمور الشرقية؟ إذا عزّت معطيات المقارنة بين البلدين، وتباعدت الفوارق وتنافرت الحقائق، فإنّ حكمة السياسة الخارجية الأمريكية ما تزال على حالها، ثابتة لا تحول. لكلّ نزاع مقدار خاصّ به من النفاق، مقابل السياسة العملية النفعية "الواقعية"، يقتضيه المقام الخاصّ بدوره!
2/1/2014