وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 13 يناير 2014

شارون: مَنْ خلّف ما مات!

الأمريكي دانييل فريدمان هو أحد كبار محرّري مجلة "فوربز"، الأثيرة لدى رجال المال والأعمال وسياسات الأمن الاقتصادي والاستثماري للشركات الكونية العملاقة؛ ومؤلف كتاب "الراية السوداء: القصة الداخلية لـ11/9 والحرب على القاعدة"؛ كما أنه أحد أبرز المطالبين بالإبقاء على نظام آل الأسد في سورية، بوصفه "الشيطان الذي نعرفه"، أفضل من أيّ "شيطان قادم" لا نعرفه. وضمير المتكلم بالجمع، هنا، يخصّ أصدقاء إسرائيل في الولايات المتحدة، أوّلاً، ثمّ صانعي القرار وراسمي السياسات في إسرائيل ذاتها بعدئذ. ولهذا فإنّ فريدمان لم يتردد، منذ مطلع العام 2012، في كشف النقاب عن بعض تفاصيل التعاطف الشديد الذي حظي به الأسد الابن من داعم غير منتظَر، في المنطق التقليدي على الأقلّ: أرييل شارون!

لكنّ الحمقى، و"الممانعين" المتحامقين عن سابق عمد، هم الذين يتجاهلون هذه الحقيقة؛ وأنها صارت خياراً حكم تفكير شارون حتى صيف العام 2006، حين أجبرته الغيبوبة على مغادرة الحياة السياسية. ومن موقعه كرئيس وزراء، وزعيم لحزب "كاديما" كذلك، طالب بعدم المضيّ في الضغوط الأمريكية ـ الفرنسية (أيام الرئيسين السابقين، الأمريكي جورج بوش والفرنسي جاك شيراك) إلى مستوى يهدّد بانهيار بنية النظام. ولتذهبْ إلى الجحيم، طبقاً لمنظومة تفكير شارون، تخرّصات القائلين بـ "شرق أوسط جديد" ديمقراطي، يفسح أيّ مجال أمام سقوط النظام، ويقيم سورية جديدة ديمقراطية. فهذه، إذا قامت، فإنها في يقين شارون لن تعيد فتح ملفات الجولان المحتلّ، فحسب؛ بل سوف تعيد تركيب الجبهة السورية، شعباً وجيشاً ودولة ومؤسسات، بما يكفل استيلاد أخطار جدّية غير مسبوقة على أمن إسرائيل.

من الإنصاف المحض، إذاً، أن يكون آل الأسد في عداد متقبّلي التعازي بإعلان رحيل شارون أخيراً، ورسمياً هذه المرّة؛ خاصة وأنّ السياقات الراهنة لإصرار إسرائيل على إطالة عمر النظام السوري، تكاد تتطابق مع سياقات العام 2006، وتعيد إنتاج المسوغات ذاتها التي حثّت شارون على المطالبة بحفظ بقاء وريث حافظ الأسد، السائر على هدي أبيه في إسباغ السكينة والسلام على طول حدود الاحتلال الإسرائيلي للجولان، وإضفاء الأمان والاطمئنان على المستوطنات والمستوطنين هناك. وكان شارون يدرك جيداً، ولم يكن بحاجة إلى استعادة وقائع التاريخ القريب لكي يتأكد، أنّ هذا الوريث لن يذهب البتة أبعد مما فعل أبوه خلال مذابح صبرا وشاتيلا، والغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982، أو حصار المخيمات الفلسطينية وتجويعها... 

صحيح أنّ الدفاع عن هذا النظام، تحديداً، لم يكن يلغي مقولة الأصل، أي حقيقة أنّ سورية الشعب والجيش هي، في العمق الستراتيجي المديد والبعيد، بلد معادٍ في الجوهر، مثله في ذلك مثل الشعب والجيش في مصر والأردن. ولكن من الصحيح، أيضاً، أنّ إسرائيل في ولاية شارون كانت تتمتع، وتستمتع، بمزايا تلك التبدّلات الكبرى التي طرأت على خريطة ما يُسمّى "الأنظمة الراديكالية" في العالم العربي: إخراج العراق من ساحة الصراع، تطويع ليبيا، إحياء المحور السعودي ـ المصري وتمتين وظائفه في الضغط أو التوسّط أو الإنابة الإقليمية على نحو يضمن حسن تنفيذ أغراض السياسة الأمريكية؛ وما إلى هذا وذاك من عناصر مشهد متحوّل قلب معادلات الصراع العربي ـ الإسرائيلي، رأساً على عقب أحياناً.

وليس صعباً على المرء أن يتفهم ـ سواء بمفعول رجعي، أو بمفاعيل الحاضر ـ أسباب شارون في الدفاع عن هذا النظام، خاصة حين برهنت وقائع الانتفاضة السورية، شهراً بعد آخر، أنّ الفرضيات التي اتكأ عليها جنرال صبرا وشاتيلا، إنما تُفرز الحيثيات ذاتها التي انتظرها من جيش النظام: قُصفت القرى والبلدات والمدن السورية المنتفضة، بالأسلحة المدفعية والصاروخية الفتاكة كافة، وبالدبابة مثل المروحية والقاذفة، فضلاً عن صواريخ "سكود" والأسلحة الكيميائية... على مبعدة أمتار من خطوط الاحتلال الإسرائيلي في الجولان. وها أنّ مخيّم اليرموك الفلسطيني، في ظاهر دمشق، يلاقي اليوم على أيدي قوّات النظام السوري أفانين من الوحشية والهمجية والحقد لم تتجاسر عليها إسرائيل، أو وكلاؤها الأوصياء على تنفيذ سياساتها.

ضمن سياقات مماثلة، ومكمّلة، وبعد شهرين فقط على انطلاق الانتفاضة السورية، أعلن رامي مخلوف، صيرفي النظام وتمساح الفساد والنهب الأكبر، أنّ أمن سورية مرتبط بأمن إسرائيل؛ ثمّ نقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، عن مصادر أمريكية، أنّ الأسد أرسل ما يفيد استعداد نظامه لاستئناف المباحثات مع إسرائيل؛ مع تشديد على أنّ ذلك لن يكون ميسّراً إلا إذا... "هدأت الأوضاع الداخلية" في سورية. هو، إذاً، إحياء للعبة العتيقة، إياها: التفاوض مع إسرائيل، ضمن تلويح بتنازلات حاسمة، هو أحد منافذ النجاة كلّما لاح خطر داهم؛ فكيف إذا اتخذ الخطر الراهن هيئة انتفاضة شعبية، تشمل سورية بأسرها؟

وإذْ يربط المرء، اليوم، بين وقائع موت شارون؛ وتصريحات محمود عباس الرثة حول حصار مخيم اليرموك، والحديث عن "الأيدي القذرة المستأجرة" هناك، وإغفال جرائم النظام تماماً؛ وبلوغ الشهداء الفلسطينيين في سورية، خلال الانتفاضة، رقم الـ1740، بينهم 169 طفلاً و174 امرأة؛ ثمّ موت 41 من أبناء المخيّم جوعاً، تحت الحصار... فإنّ من المشروع استعادة التعبير الشائع: مَنْ خلّف، حتى دون صلة بيولوجية، ما مات!