وعزّ الشرق أوّله دمشق

الأحد، 26 فبراير 2012

بيروت: ساحة حمص.. شاشة نصر الله

قبل أيام أصدر عشرات من الأصدقاء اللبنانيين بيان تضامن مع الانتفاضة السورية، ومع مدينة حمص خصيصاً، شدّدوا في عنوانه على أنهم "من الجنوب اللبناني"، و"من مشارب سياسية وفكرية مختلفة"، عانوا "الاحتلال الإسرائيلي والتهجير والنفي والحروب على مدى عقود"، وكذلك "ظلم الفيتو" الأمريكي لحماية جرائم إسرائيل ضد أبناء الجنوب. لكنهم، اليوم، يؤكدون مجدداً وقوفهم الى جانب الشعب السوري وهو يكمل السنة الأولى من عمر ثورته، ثورة الحرية والكرامة، وثورة إسقاط الاستبداد وطيّ صفحة حكم الإرهاب والقمع".

بعد هذا الموقف، بادر عشرات الكتّاب والمثقفين اللبنانيين إلى الاقتداء بزملاء مصريين وفلسطينيين ومغاربة، في تقديم طلب انتساب جماعي إلى "رابطة الكتاب السوريين"؛ جاء في نصّه التأكيد على "مشاركتنا الإخوة السوريين رفضهم لسلطة القمع والدكتاتورية"، و"تضامننا مع الثورة السورية، ومؤازرتنا لصمود أبنائها ـ في مواجهة الهجمة الدموية التي يشنها النظام ـ بشجاعة قلّ نظيرها، ونشاطرها الطموح نحو إقامة دولة المواطنة، المؤسَسة على مبادىء المساواة والحرية والديموقراطية للشعب السوري بجميع مكوناته وأطيافه".

إلى هذا، ورغمّ أنّ ما في القلوب قد لا يتطابق البتة ـ أو قد لا يتلاءم إلا قليلاً، إذا لم يتناقض ـ مع ما يُقال على الألسن (وأحدث الأمثلة خطاب وزير الخارجية السعودي أمام مؤتمر "أصدقاء سورية"، حيث بدا سعود الفيصل أكثر انتصاراً للانتفاضة من برهان غليون!)؛ ليس من الإنصاف إغفال الإشارة إلى اعتصام وليد جنبلاط وهاني فحص وآخرين، في ساحة سمير قصير، تضامناً مع الشعب السوري. رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي"، أوضح أنه يتحدث "كمجتمع مدني"، و"كمواطن يرى عذابات هذا الشعب الرهيبة لكي يقدّم إليه ما يستطيع"؛ وما استطاعه كان رفع لافتة تقول: "مدينة حمص، تضامناً مع أهلها ضد حملة الإبادة التي تتعرض لها"، فضلاً عن مطالبة بشار الأسد بأن: "إرحل". السيد فحص، من جانبه، ذكّرنا بانتفاضة البحرين، المغدورة المنسية عن سابق قصد؛ وحسناً فعل في نهاية المطاف... أياً كانت البواعث في القلب، هنا أيضاً!

على مبعدة أمتار من هذا الاعتصام، كان "منحبكجية" النظام السوري، من اللبنانيين أيضاً، قد تجمهروا في اعتصام مضادّ، وهتفوا ـ نعم، كما ينبغي لهم أن يفعلوا دائماً ـ بحياة بشار الأسد، ورئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، والأمين العام لـ"حزب الله"ه، وروسيا، والصين، و... الجيش اللبناني! قبلها، كان حسن نصر الله قد أتحف السوريين بأخبار مطمئة، تفيد بأنه لا شيء يقع في حمص؛ وأن "إصلاحات" الأسد لم "يقدم أو يمكن أن يقدم عليها ملك أو أمير أو شيخ أو رئيس في أي نظام عربي حالي"، و" هذا دستور جديد، تفضلوا على الاستفتاء". الشيخ أحمد قبلان، المفتي الجعفري الممتاز في لبنان، نبّه الغافلين إلى أنّ "لبنان يشكل رأس حربة في المنطقة، وقد يتمكن أصحاب المصالح الخارجية من جعله فتيل حرب يشعل في أية لحظة"؛ وأن "ما يُخطط له من مؤامرة ضد سورية هو من أجل قطع ذراع من أذرع المقاومة في المنطقة، والتي تمتد من لبنان، مروراً بالعراق، وصولاً الى طهران"؛ محذراً، في الختام المسك: "سقوط سورية يعني أنّ العدو الإسرائيلي سينتصر".

هي وقائع تأتي من بيروت لكي تتيح لنا أن نجزم، مرّة تلو الأخرى، بيقين أشدّ وثوقاً وتوثيقاً، أنّ بيروت هي بيروت: تروح وتجيء، تغيب وتحضر، تضعف تارة لكي يشتدّ عودها طوراً؛ ولكنها هكذا، غنية، متعددة، واعدة، فسيحة، تليق بتعبير محمود درويش البليغ، في وصف زوال لا يزول. وبيروت ذُبحت مراراً، ثمّ قامت من الذبح مراراً أيضاً، لأنها كانت نسيج وحدها في صناعة هذا التعدد الإنساني والثقافي والسياسي، وفي تثمين قيمته، والاختصام حول حدود ما يتيحه من حرّية، ومدى ما يستثيره من اختلاف. وكان طبيعياً أن تُذبح بيروت بيد جيرانها الأشقاء، قبل أبنائها وقبل الغرباء في الواقع، لأنّ "فيروس" الديمقراطية التي أخذت المدينة السخية تنقله يميناً ويساراً، كان من نوع لا يملك كارهو الحرية علاجه إلا بالذبح.

ولقد مرّت حقبة أكثر التباساً، شهدت شيوع هتافات لبنانية من النوع التالي: "لا لجمهورية الكعك"، و"ما بدنا كعك بلبنان، إلا الكعك اللبناني"، في ذروة هيمنة النظام السوري ليس بواسطة الكعكة السورية، بل بسطوة الدبابة وأجهزة عنجر ودولة غازي كنعان. وعلى نحو ما كان حنين أولئك اللبنانيين إلى كعك لبناني صافٍ، وصمتهم المطبق حيال الجنرال السوري بالمقارنة مع استئسادهم على العامل السوري، أشبه بنوستالجيا مقلوبة ترفض "جمهورية الكعك" السورية من أجل إحياء "جمهورية الموز" اللبنانية! المفارقة أنّ بعض الدونكيشوتيين، محاربي بائع الكعك السوري آنذاك، انقلبوا اليوم إلى حَمَلة مباخر، ونافخي أبواق صدئة، دفاعاً عن النظام السوري!

بيد أنّ بيروت تظلّ "صخرة كأنها وجه بحّار قديم"، كما يقول جوزف حرب في أغنية فيروز الشهيرة، وهي "من روح الشعب خمر"، و"من عرقه خبز وياسمين"؛ ولهذا فإنّ في وسعها أن تكون ساحة التضامن مع حمص الصامدة، وشاشة نصر الله المصفّق لآل الأسد، في آن معاً. أمّا التاريخ فهو الشاهد، والحَكَم!

الجمعة، 24 فبراير 2012

صمت الحملان في الجولان.. وعواء الذئاب في حمص

مرّت، قبل أيام، الذكرى الثلاثون للإضراب الكبير الذي نظمه المواطنون السوريون في بلدات وقرى هضبة الجولان المحتلة، الذي بدأ يوم 14/2/1982 وامتدّ حتى 19/7 ذلك العام، وعُدّ الأطول في تاريخ سورية الحديث. وكان الإضراب بمثابة حركة الاحتجاج الأوسع نطاقاً، والأرقى تنظيماً، والأرفع التزاماً، ضدّ قرار الحكومة الإسرائيلية بتاريخ 14/12/1981، ثمّ الكنيست بعدئذ، وقضى بضمّ الجولان. وثمة عشرات التفاصيل المشرّفة التي اقترنت بتنفيذ ذلك الإضراب، والتي يتناقلها الجولانيون بفخار مشروع، واعتزاز بالغ لا يخلو من غصّة كبرى: موقف التخاذل الذي اتخذه النظام السوري إزاء خطوة ترقى إلى مستوى إعلان الحرب، والتزامه صمت القبور على خطوط الجبهة كافة، لا سيما وأنّ أجهزة النظام الأمنية ومعظم وحداته العسكرية الخاصة الموالية كانت منهمكة بتنفيذ المجازر في الداخل، ضدّ مدن وبلدات وقرى سورية!

وحين بدأ إضراب الجولان المحتل، كانت 12 يوماً قد انقضت على شروع النظام السوري في تنفيذ مجزرة حماة (30 إلى 40 ألف قتيل)؛ وقبل، وبعد، القرار الإسرائيلي بضمّ الجولان كان النظام قد ارتكب مجازر أخرى (جبل الزاوية، 13ـ15/5/1980: 14 ضحية؛ سرمدا، 25/7/1980: 11 ضحية؛ سوق الأحد، حلب، 13/7/1980: 43 ضحية؛ ساحة العباسيين، دمشق، 18/8/1980: 60 ضحية؛ حيّ المشارقة، حلب، 11/8/1980، صبيحة عيد الفطر: 100 ضحية...). وإلى جانب هذه المجازر التي شهدتها التجمعات السكانية المختلفة، كان السجون السورية تشهد تصفيات جماعية مباشرة (مجزرة سجن تدمر، 27/6/1980: 500 ضحية على الأقل)، أو مئات الحالات من الموت جرّاء التعذيب. المفارقة المريرة، في ناظر أهل الجولان وأهل سورية عموماً، كانت مقدار اللاتناسب بين ممارسات سلطات الاحتلال الإسرائيلية الهادفة إلى كسر الإضراب، وسلوك أجهزة النظام السوري في حصار المدن وقصفها وارتكاب الفظائع هنا وهناك.

ولقد توفّر إجماع لدى مراقبي تلك الحقبة، سانده المنطق السليم البسيط، بأنّ مناحيم بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك؛ وأرييل شارون، وزير الدفاع الصقر؛ ويوسف بورغ، وزير الداخلية الممثل للأحزاب الدينية المتشددة؛ وجدوا أنّ الفرصة سانحة لضمّ الهضبة المحتلة، في هذا التوقيت تحديداً. ولم يكن السبب أنهم استغلوا انشغال جيش النظام بمعاركه ضدّ الشعب السوري، إذْ كانت الحكومة الإسرائيلية واثقة تماماً أنّ الأسد الأب لن يحرّك ساكناً في كلّ حال؛ بل لأنّ ضمّ الجولان آنذاك كان سيمرّ دون حرج دبلوماسي دولي، ودون تعاطف مع نظام يذبح مواطنيه في طول سورية وعرضها، وبالتالي فهو غير مكترث بخسران أرض محتلة هو عاجز أصلاً عن تحريرها، لا بالحرب ولا بالسلام.

إنصاف ذاكرة الجولان الوطنية يقتضي الإشارة إلى نضالات الجولانيين قبل الإضراب، وقبل قرار الضمّ، حين أخذت سلطات الاحتلال تعتمد سلسلة إجراءات إدارية تستهدف "تذويب" الهوية الوطنية السورية؛ وهي الذاكرة التي يسردها الصحافي والكاتب الجولاني حسان شمس، في دراسة مفصلة معروفة، وجيدة التوثيق. على سبيل المثال، هنالك وثيقة شهيرة صدرت عن اجتماع حاشد عُقد في مجدل شمس، يوم 52/2/1981، ولكنها صارت عهداً ينتظم أبناء الجولان، من جهة؛ كما يفصل القول في طبيعة علاقتهم بالوطن الأمّ، وبالاحتلال، من جهة ثانية. الوثيقة تقول التالي عن الجنسية العربية السورية: " نعتزّ ونتشرّف بالانتساب إليها، ولا نريد عنها بديلاً، والتي ورثناها عن أجدادنا الكرام، الذين تحدّرنا من أصلابهم، وأخذنا عنهم لغتنا العربية التي نتكلّمها بكل فخر واعتزاز، وليس لنا لغة قومية سواها، وأخذنا عنهم أراضينا الغالية على قلوبنا وورثناها أباً عن جد منذ وجُد الإنسان العربي في هذه البلاد قبل آلاف السنين".

كذلك ترفض الوثيقة "أي قرار تصدره إسرائيل من أجل ضمّنا للكيان الإسرائيلي، ونرفض رفضاً قاطعاً قرارات الحكومة الإسرائيلية الهادفة سلبنا شخصيتنا العربية السورية"؛ ولا تعترف "بشرعية المجالس المحلية والمذهبية، لكونها عُينت من قبل الحاكم العسكري الإسرائيلي وتتلقى تعليماتها منه، ورؤساء وأعضاء هذه المجالس لا يمثلوننا بأي حال من الأحوال"؛ وأنّ "الأشخاص الرافضين للاحتلال من خلال مواقفهم الملموسة، والذين هم من كافة قطاعاتنا الاجتماعية، هم الجديرون والمؤهلون للإفصاح عمّا يختلج في ضمائر ونفوس أبناء مجتمعهم". ولا تتردد الوثيقة في توجيه إنذار صارم إلى مخالفي هذا الإجماع الوطني: "كل شخص من هضبة الجولان السورية المحتلة، تسوّل له نفسه استبدال جنسيته بالجنسية الإسرائيلية، يسيء لكرامتنا العامة، ولشرفنا الوطني، ولانتمائنا القومي، ولديننا وتقاليدنا، ويعتبر خائناً لبلادنا"؛ وأيضاً: "كل من يتجنس بالجنسية الإسرائيلية، أو يخرج عن مضمون هذه الوثيقة، يكون مجحوداً ومطروداً من ديننا ومن ترابطنا الاجتماعي، ويحرّم التعامل معه، أو مشاركته أفراحه وأحزانه أو التزاوج معه، إلى أن يقرَّ بذنبه ويرجع عن خطأه، ويطلب السماح من مجتمعه، ويستعيد اعتباره وجنسيته الحقيقية".

هذه المناخات الوطنية المشرّفة كانت النقيض التامّ، الجليّ والبيّن والصارخ، للسياسات اللاوطنية التي كان النظام السوري ينتهجها، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، فضلاً عن تقاليد الاستبداد والفساد التي أخذت تتوالد وتترسخ منذ فجر "الحركة التصحيحية"، خريف 1970. كان استبعاد السياسة من مفردات الحياة اليومية يترافق مع خنق المعيش اليومي وتحويل المواطن إلى راكض خلف رزقه الشحيح، كفاف يومه أو أقلّ؛ وكانت هذه الحال ركيزة لترويض الاحتجاج وتدبير الولاء في آن معاً، وتكريس أشكال التمييز بين المواطنين، وتحويل أنساق التدجين على أسس طائفية إلى خيار ستراتيجي لبناء جمهور النظام... كل ذلك، والجولان المحتلّ يقاوم، ويرفض الضمّ، ويتشبث بالهوية، ويواصل الإضراب؛ ليس دون خلق الإحساس العارم بالمرارة المزدوجة: عند السوريين، في الداخل، إذْ لا يملكون سوى التضامن مع أشقائهم في الجولان، فضلاً عن المقارنة بين فاشية محلية سورية، وأخرى محتلة إسرائيلية؛ وعند الجولانيين، إذْ يواصلون الانتماء إلى وطن ينزف على يد الطغاة، ولكنه موئل أوّل، ومآل أخير.

هي مصادفة صرفة، بالطبع، أن تترافق الذكرى الثلاثون للإضراب الوطني الكبير في الجولان المحتل، مع القصف الوحشي الذي تتعرّض له أحياء حمص، وأن تُستخدم ضدّ أبنائها أسلحة مدمّرة تحاكي تلك التي استخدمها الإسرائيليون ضدّ رام الله، وغزّة، وقانا، وبيروت... حتى إذا كان بلد المنشأ مختلفاً، بين أمريكا وروسيا. لكنها ليست البتة مصادفة خالية من قرائن المنطق، لأنّ ذلك النظام الذي دكّ مدينة حماة سنة 1982، عام الإضراب الجولاني المجيد، هو ذاته النظام الذي يدكّ حمص اليوم، في الذكرى الثلاثين للإضراب؛ ولعلّه أشدّ همجية أيضاً: بين الأسد الأب، الذي كان يقاتل لاجتثاث مجموعات مسلحة محدودة العدد والعدّة، بغية تأديب المجتمع بأسره؛ والأسد الوريث، الذي يقاتل الغالبية الساحقة من الشعب الأعزل، بما ملك نظامه من آلة بطش أمنية وعسكرية ومالية، وبما يستعين من مقاتلي"الحرس الثوري" الإيراني وميليشيات "حزب الله".

وضمن سياق كهذا يُفهم البيان الذي صدر عن "الحراك الوطني الديمقراطي" في الجولان، بمناسبة الذكرى الثلاثين للإضراب ("انتفاضة شباط"، كما اختاروا تسميتها، بحقّ)، وخاصة هذه الفقرة التي تقول: "اليوم، بعد ثلاثين عاماً، تعيد ثورة الكرامة والحرية التأكيد على وطنيتنا السورية، وتجعلها أوسع أفقاً وأكثر جذرية؛ تعيد وصل ما انقطع، عمداً ومكراً، بين سوريي الجولان وباقي أبناء سورية. هنا يتلاقى، من جديد، جوهر انتفاضة الجولانيين لكرامتهم وحريتهم بروح الثورة السورية ضد امتهان الإنسان وإذلاله، ضد التسلط والفساد، ضد تحويل المواطنين إلى رعايا يمجّدون الحاكم ويسبّحون بعطاياه ومكرماته ويتمرغون عند عتباته؛ ضد تمزيق نسيج المجتمع السوري وتحويل الفسيفساء الجميل لمكوناته إلى شظايا لا تلتحم، ضد اختزال الوطن في شخصية الحاكم الطاغية ووريثه من بعده".

وقبل أشهر قليلة كان الوريث يمتدح  مفهوم "المقاومة"، بوصفه أوسع نطاقاً من مصطلح "الممانعة" مثلاً، فيقول إنّ "جوهر السلام ليس فقط مفاوضات بل هو مقاومة أيضاً، ومن الخطأ أن نعتقد أن السلام يأتي من خلال التفاوض بل يأتي من خلال المقاومة. لذلك يجب علينا دعم المقاومة لأننا بذلك ندعم عملية السلام، فالمقاومة والتفاوض هما محور واحد وكلاهما يهدف لاستعادة الحقوق المشروعة التي لن نتنازل عنها". ولأنه اعتاد على التفلسف، دونما فلسفة فعلية من أي نوع، فقد أكمل الأسد: "إننا بدأنا الآن ببناء شرق أوسط جديد جوهره المقاومة (...) المقاومة بمعناها الثقافي والعسكري وبكل معنى آخر هي جوهر سياساتنا في سورية اليوم وفي الماضي، وستبقى في المستقبل وهي جوهر وجودنا".

كذلك شدّد الأسد على ترابط العلاقة بين السلام والمقاومة، وأعطى الأخيرة بعداً عربياً موسعاً: "مقاومة الاحتلال هي واجب وطني، ودعمها من قبلنا هو واجب أخلاقي وشرعي، ومساندتها شرف نفاخر به. وهذا لا ينفي أبداً رغبتنا الثابتة بتحقيق السلام العادل والشامل على أساس عودة الأراضي المحتلة وفي مقدمتها الجولان السوري المحتل. ولكن فشل المفاوضات في إعادة الحقوق كاملة يعني بشكل آلي حلول المقاومة كحلّ بديل". فأين المقاومة، إذاً؟ مؤجلة، لأنّ "تحرير الجولان بأيدينا وبعزيمتنا. لكنّ هذه العزيمة بالنسبة لنا كدولة تأخذ الاتجاه السياسي وتأخذ الاتجاه العسكري. كما قلت بالعودة لموضوع المقاومة هو قرار شعبي لا تستطيع أن تقول دولة ما: نعم، سنذهب باتجاه المقاومة. هذا كلام غير منطقي. الشعب يتحرك للمقاومة بمعزل عن دولته عندما يقرر هذا الشيء".

وللوهلة الأولى، سوف يظنّ المنصت إلى هذه الأقوال أنّ أراضي الجولان السوري المحتلّ هي حاضنة المقاومة الأولى والأهمّ في هذا الخيار الوجودي المقاوِم، وأنّ عمليات المقاومين في مسعدة وتلّ الفرس والخشنية وكفر نفاخ وتلّ أبو الندى، وغيرها من بطاح الجولان المحتلة، قائمة على قدم وساق، بدعم مباشر وصريح من الجيش السوري. أو: أنّ الشعب السوري عازف عن المقاومة، مستسلم، خامل، كسول، عديم الوطنية! ذاك مُنصت جاهل، بالطبع، أو متجاهل متعام مرتزق بوق... لأنّ جوهر المسألة هي أنّ النظام السوري ـ الأسد الأب والأسد الابن، مثل أنظمة حزب البعث التي سبقته، منذ احتلال الجولان سنة 1967 ـ يطري المقاومة في كلّ مكان، ويرحّب بها على أية أرض، ما خلا الهضبة.

هنا يسود صمت الحملان، وفي حمص وحماة وجبل الزاوية وإدلب والزبداني... يتعالى عواء الذئاب!
    

الأحد، 19 فبراير 2012

تمرْكُس الظواهري وتأسْلُم غيفارا!

سارع البعض إلى أخذ الانتفاضة السورية بجريرة أقوال أيمن الظواهري في التسجيل الأخير، الذي يعدّل مواقف التسجيل السابق (الاكتفاء بالتضامن، اللفظي الصرف، مع السوريين)، ويحثّ "أسود الشام" على المضيّ إلى الأمام، ويتباكى على "سورية الجريحة"، التي "تنزف يوماً بعد يوم، والجزار بن الجزار بشار بن حافظ لا يرتدع". ورغم أنه لم يعلن تطوّع مقاتلي "القاعدة" للقتال إلى جانب السوريين، فإنّ الظواهري حثّ كلّ مسلم في تركيا والعراق والأردن ولبنان أن "يهبّ لنصرة أخوانه في سورية بكلّ ما يملك، بنفسه وماله وقوله ورأيه ومعلوماته".

ورغم أنّ الكثير من وجوه المقارنة نافلة، لأسباب عديدة، فإنّ ثمة قاسماً مشتركاً يجمع الظواهري، في هذه المناشدة، مع الفرنسي برنار ـ هنري ليفي، الذي أعلن تأييده للانتفاضة السورية في أسابيعها الأولى، وحثّ على مساندتها، وكان عرّاباً لمؤتمر صاخب على سبيل تأييدها، عُقد في العاصمة الفرنسية باريس مطلع تموز (يوليو) الماضي. ذلك القاسم هو التالي، ببساطة: تأييد أمثالكم وللانتفاضة هو وبال عليها، وعلى سورية المستقبل التي ينتفض السوريون من أجل إرساء دعائمها؛ وهو يخدم النظام أوّلاً، قبل أن يخدم أغراضكم، ما خفي منها وما تكشف، ولا يقدّم للانتفاضة إلا الأذى والتشويش والسمعة السيئة!

البعض، ممّن تلقف تسجيل الظواهري وكأنه ضبط الانتفاضة بالجرم المشهود، هرول دون إبطاء إلى اعتبار الموقف الجديد بمثابة دليل قاطع على ما هو أبعد بكثير من مجرّد احتمال تسلل "القاعدة" إلى صفوف المتظاهرين، أو مسؤولية عناصرها عن التفجيرات الإرهابية في دمشق وحلب، أو حتى "أقلَمة" الوضع السوري على المستوى "الجهادي" الأوسع نطاقاً. لم يكن هذا كلّه كافياً، إذْ توجّب الاتكاء على شريط الظواهري، بوصفه "خميرة" إعجازية تتيح طبخ كلّ المواصفات الرجيمة التي تُستخدم من اجل التشكيك في الحراك الشعبي العارم، وتفريغه من محتواه الوطني والديمقراطي والتعددي، وتأثيمه مباشرة أو مواربة. وهكذا، وجد هؤلاء ضالتهم في بلاغة الظواهري، المكرورة المستهلَكة الجوفاء، تماماً كما وجدوها قبلئذ في "فرّامة" عدنان العرعور ومقصّه المخصص للألسن، فرفعوا العقيرة بشكوى ـ ليست أقلّ اهتراء وركاكة، في المفردة كما في المعنى ـ من أن الانتفاضة تنزلق نحو العسكرة، والتسلّح، والطائفية، والعنف...

المحزن، إذا جاز انتهاج هذه الحال االشعورية، أنّ الطبخ ذاك لم تشهده مطابخ النظام المختصة، والمطابخ الأخرى التي يتولاها حلفاء النظام في صفوف "ممانعي" العرب والعجم، فحسب؛ بل انتقلت (على طريقة النسخ والقصّ واللصق المجرّد، أحياناً!) إلى صفوف بعض "المعارضين" السوريين، ولا سيما أولئك الذين لم يتحرّروا تماماً من أسئلة التشكيك التي تكاثرت كالفطر في قلوبهم منذ انطلاق الانتفاضة، ولم يعلنوا على الألسنة إلا القليل القليل منها. وتلك لم تكن أسئلة نقدية في أي حال، لأنّ الحراك الشعبي كان ويظلّ بحاجة إلى الكثير منها، بل كانت أقرب إلى مسرد مظانّ كابوسية، حول مخاطر عنف أهلي وطائفي وعسكري، لا سبيل إلى تهدئته إلا... بتهدئة الحراك ذاته، وبالحوار مع النظام، حتى في ظلّ الدبابة وراجمة الصواريخ والمدفعية الثقيلة وتعويم أرقام القتل اليومي.

مدهش، كذلك، أنّ هؤلاء ـ ومعظمهم ينتمون إلى اليسار، وسبق أن اعتُقلوا على ذمّة تنظيمات ماركسية ـ يلتقون، في هذا الربط الميكانيكي بين تسجيل الظواهري والعنف الأهلي، مع خلاصات تصدر عن جهات يندر أن تنتهج أدوات التحليل الماركسية، أو لا يُعرف عنها اعتماد مقاربة رصينة تنظر إلى الظواهر في روابطها الجدلية العميقة، ولا تكتفي بتلقف ظاهر أقوال الظواهري. الأمريكية جيسيكا ستيرن، صاحبة كتاب "إرهاب باسم الله"، والموظفة السابقة في مجلس الأمن القومي الأمريكي (قسم أوكرانيا، بالمناسبة!)، نشرت مقالاً بعنوان "تفسير الإدمان على الجهاد"، تقيم فيه الصلة التالية بين "القاعدة"، والعنف، والمفكر والمناضل المارتينيكي فرانز فانون: "انتبه الظواهري إلى أنّ النظام العالمي الجديد مصدر إذلال للمسلمين. وجادل بأنّ من الخير لشباب الإسلام ان يحملوا السلاح ويدافعوا عن دينهم بفخار وكرامة، من أن يخضعوا للمهانة. العنف، في كلمات أخرى، يردّ الكرامة للشبيبة المهانة. وهذا شبيه بفكرة فرانز فانون عن العنف بوصفه قوّة تطهيرية تحرّر الشباب المقهور من عقدة النقص، واليأس، والعجز عن الفعل".

هذه طبخة هجينة عجيبة، خبيثة عن سابق قصد، تخلط بين تفكير الستينيات (توفي فانون سنة 1961، حيث لم يكن فجر العولمة قد بزغ تماماً بعد)، وتفكير هذه الأيام؛ وبين مفهوم "الجهاد" الراهن، ومفهوم "العنف" الستيني بدوره، والذي كان مصطلحاً سياسياً له مدلول الكفاح المسلح ضدّ الاستعمار والإمبريالية وأنظمة الاستبداد والتبعية، وليس الإرهاب أبداً (وإلا لتوجّب أسْلَمة الثوري الكبير أرنستو تشي غيفارا، وتصنيفه على رأس الجهاديين الإسلاميين!). وإزاء الطبخة هذه، التي يتناوب على تنويع وصفاتها النظام وبعض فصائل "المعارضة"، يظلّ السؤال الأبسط، والأجدى، هو التالي: لماذا تأخر الظواهري أحد عشر شهراً، قبل أن يتحف السوريين بتأييده لانتفاضتهم ضدّ نظام الاستبداد والفساد والحكم العائلي الوراثي  السورية؟

واستطراداً، أيهما أصحّ، يا جهابذة التحليل المادّي ـ التاريخي، القول إنّ الظواهري تطفّل على الانتفاضة، أم أنّ الانتفاضة هي التي التحقت به؟

الخميس، 16 فبراير 2012

أوجلان أسير في تركيا و"شبيحة الكرد" طلقاء في سورية!

أحد أبطال "الريش"، رواية الشاعر والروائي الكردي السوري سليم بركات، يعابث والده بمنطق الكوميديا السوداء، قائلاً: "أهو يدبّر انقلاباً على الحكومات من الأناضول إلى أرمينية ليسترجعني بعد ذلك إلى إمبراطوريته الحرة؟ ألا يعرف أن الحكومات هذه، التي تقاسمت قلبه الكردي ذا المصبات التي تنتهي أنهارها إلى البحر الجنوبي المفضي إلى الخليج وإلى قزوين، لا تقبل تسليم جثث الكرد إلى ذويهم إلاّ بعد دفع نفقات الإعدام"؟ ثم يتابع، ناطقاً بحكمة صائبة: "أمراؤك يا أبي يدخلون الحرب الكبيرة ضد البارثتيين والآشوريين وحتى الباب العالي، كلما ملك أمير مائة محارب. أليس عليهم أن ينتظروا بلوغ جيوشهم مائتي نفر"؟

المرء يستعيد هذا النصّ في مناسبتين: الذكرى الثالثة عشرة لاعتقال عبد الله أوجلان، الزعيم التاريخي لـ"حزب العمال الكردستاني"، الـPKKd  في اختصاراته الشهيرة، والذي اختُطف يوم 15/2/1999 من كينيا، ضمن عملية مشتركة نفّذتها الاستخبارات المركزية الأمريكية والاستخبارات الوطنية التركية، اقتيد بعدها إلى زنزانة في جزيرة إمرالي، في بحر مرمرة، حيث يتواصل اعتقاله منذئذ؛ والمناسبة الثانية هي أعمال العنف التي مارسها "حزب الاتحاد الديمقراطي"، الجناح السوري للـPKK، ضدّ المتظاهرين الكرد في منطقة عفرين، شمال حلب، وكذلك في بعض مناطق محافظة الحسكة، وكوباني، وحيّ ركن الدين في دمشق.

وإلى جانب الصلة التنظيمية والحزبية المباشرة بين المناسبتين، ثمة تلك الصلة الأخرى التي تخصّ علاقة الحزبين بالنظام السوري: الحزب الأمّ، طيلة سنوات حكم حافظ الأسد، وحتى رضوخه للضغوط التركية وطرد أوجلان من سورية والبقاع اللبناني، سنة 1998؛ والحزب الفرع، خلال الأشهر الأخيرة المنصرمة حين تدهورت علاقات بشار الاسد مع الحليف التركي، واختار أن يناور مع أنقرة عن طريق تنشيط "حزب الاتحاد الديمقراطي".

والحقّ أنّ الصور الفوتوغرافية للحاجز "الأمني" الذي أقامه الحزب على مدخل ناحية راجو، منطقة عفرين، مذهلة في ثلاثة جوانب على الأقلّ: أنّ الحاجز بدائي تماماً، ويقطع الطريق بشريط قماشي فقط، ولكنه يمارس التفتيش في وضح النهار، ويوقف العابرين والسيارات المارّة؛ ولكنه، من جانب ثانٍ، يقيم متاريس من أكياس الرمل على التلة المحاذية، وعناصره يرتدون قمصان حمراء خاصة، على مرأى ومسمع من سلطات النظام، كما للمرء أن يفترض؛ والحاجز، ثالثاً، لا يرفع العلم السوري، ولا العلم الكردي ذا الألوان الأربعة، بل يرفع علماً حزبياً ثلاثي الألوان. وهو ذهول يقترن، مباشرة، بواقعة تصدّي عناصر الحزب للمتظاهرين الكرد في عفرين، حيث أفادت مواقع كردية عديدة أنّ مفرّقي التظاهرة كانوا "مسلحين بشتى أنواع الأسلحة البيضاء والعصي الكهربائية وبعض المسدسات"، وأنهم "قاموا بالهجوم على المتظاهرين السلميين بطريقة همجية عنيفة ليمنعوهم من التظاهر"، كما طاردوهم حتى المستشفى الوطني، فحاصروه. قبلها، لم تتردد بعض التنسيقيات الكردية في اتهام "حزب الاتحاد الديمقراطي" باغتيال ثلاثة شبان أكراد من عائلة واحدة، في القامشلي؛ وكذلك اعتقال ابراهيم برو، القيادي في حزب "يكيتي" الكردي، "لتمرير أجندة سياسية" كما عبّر عضو في اللجنة التنفيذية للمجلس الوطني الكردي.

وهذه الحال أفسحت المجال، المنطقي تماماً في الواقع، لاستيلاد المصطلح المحزن: "شبيحة الكرد"، والذي بادر النشطاء الكرد أنفسهم إلى استخدامه قبل سواهم، وسط مناخ من النقد والنقد الذاتي والشفافية، جدير بالإعجاب والتحية، وذلك رغم ما تنطوي عليه الممارسة من مفارقة مؤسفة. فالكرد السوريون، غنيّ عن التذكير، انخرطوا في الانتفاضة منذ أيامها الأولى؛ وكان حضورهم قوياً ومميزاً ودالاً، لا سيما بعد أن سعى النظام إلى تحييدهم عن طريق تقديم "رشوة" بائسة ومفضوحة، هي إعادة الجنسية إلى البعض منهم. وأن تتطوّر الخلافات بين أحزاب الكرد (13 حزباً، في التقدير المتفائل!)، وهي في نهاية المطاف تباينات طفيفة طبيعية ومشروعة وصحية أحياناً، إلى اقتتال داخلي؛ ثمّ التلاقي، على أي نحو وفي أية صيغة، مع مخططات النظام في تفرقة الصفّ الكردي، والصفّ الوطني السوري عموماً، إلى درجة تفريق التظاهرات أو خطف المعارضين الكرد أو إقامة الحواجز... أمر لا يصيب الحركة الكردية بنكسة موجعة فحسب، بل يضرّ بالانتفاضة، ولا يخدم إلا النظام في الحساب الأخير.

وفي مناسبة سابقة، تخصّ ابتداء تنشيط العلاقة بين الـ PKK والنظام السوري في الشهر السابع من عمر الانتفاضة، توقفتُ عند بعض حيثيات التاريخ التي واصلت تأكيد سرديتين متكرّرتين، لم يغب عن عناصرهما طراز من التكامل الجدلي، حتى حين يلوح أنّ التناقض بينهما هو السمة الأعمّ. السردية الأولى تشير إلى أهوال ما لاقاه الكرد من صنوف الاضطهاد، الإثني والسياسي والثقافي، الذي مارسته ضدهم شعوب وقوى وأحلاف، محلية وأقليمية ودولية. السردية الثانية، وهي ليست أقلّ مأساوية، تشير إلى تلك الخيانات المزدوجة: واحدة من أولئك الذين احتسبهم الكرد في عداد الأصدقاء والحلفاء، وأخرى ارتكبتها بعض القيادات السياسية الكردية ذاتها، لأسباب شتى مناطقية أو حزبية. مفيد، هنا، استرجاع خلاصة بسيطة، برهنت وقائع التاريخ على صحتها، وهي أنّ علاقة الـ PKK النظام السوري كانت موشراً معيارياً على علاقة التنظيمات الكردية بالجوار، بالقوى المحلية والإقليمية، وكذلك القوى العظمى.

بدايات العلاقة تعود إلى أيلول (سبتمبر) 1980، حين تضافر عاملان إقليميان على توطيدها: الانقلاب العسكري الذي جاء بالضباط المتشددين إلى الحكم في تركيا، واندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية التي وضعت الشأن العراقي في قلب الملفات الإقليمية. وبصدد الحالتين الطارئتين كان الأسد الأب مهتماً باحتضان أوجلان، ودعمه عسكرياً ولوجستياً ومالياً، الأمر الذي توطد أكثر فأكثر عام 1982 حين انهارت العلاقات السورية ـ العراقية، وحققت إيران بعض الانتصارات العسكرية. وآنذاك، أيضاً، كان الصراع الخفي على أشده بين الفصائل الكردية العراقية ("الحزب الديمقراطي الكردستاني" بزعامة مسعود البارزاني، و"حزب الاتحاد الوطني الكردستاني" بزعامة جلال الطالباني، بالإضافة إلى المجموعات الكردية الأخرى المتواجدة في سورية).

وحين عقد حزب العمال الكردستاني مؤتمره الأول عام 1981، ومؤتمره الثاني بعد عام، في "مكان ما على الحدود السورية اللبنانية" دائماً، كان التواجد على الأرض السورية هوالفارق الوحيد، ولكن البليغ للغاية، عن الاجتماع التأسيسي الذي يعود إلى عام 1974، والذي ضمّ عشرة رجال وامرأة واحدة، وعُقد في إحدى الضواحي الفقيرة، قرب أنقرة. ذاك لقاء دعا إليه عبد الله  أوجلان، الطالب الجامعي الذي هجر كلية العلوم السياسية في جامعة أنقرة، ليتفرغ  للحلم الكردي بدولة مستقلة في تركيا، على طريق تحقيق كردستان الكبرى؛ والذي سوف يتزعم الحركة، ويحمل لقب الـ "آبو"، أو العمّ في اللغة الكردية (ولن يجد الحزب غضاضة في تسمية أنصاره بالـ"آبوجيين").

لقد تميّز حزب أوجلان بأنه الوحيد الذي خرج، بوضوح وصخب وعنف، عن الصيغة السياسية الكردية التقليدية، التي جعلت الأسرة والقبيلة والطريقة الصوفية هي محرّك التنظيم السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي (على سبيل المثال: أسرة البرزنجي والطريقة القادرية، وأسرة البرزاني والطريقة النقشبندية). وكان الحزب الوحيد الذي ينتمي أعضاؤه إلى الفئات الشعبية الفقيرة والمسحوقة، الفلاحية أو شبه الفلاحية، التي ذاقت طعم الاضطهادين الطبقي والقومي، وسعت إلى الممارسة الصائبة، قبل أن تهيمن الجعجعة الإيديولوجية والمحاكم الثورية الدموية. وهذا ما يشخصه، بعمق وإحاطة، الأنثروبولوجي الهولندي مارتن فان برونسين، في كتابه "الآغا والشيخ والدولة: حول التنظيم الاجتماعي والسياسي في كردستان"، 1992، وهو على الأرجح الكتاب الأهم عن الأكراد في أية لغة حتى الساعة.

وفي مطلع السبعينيات كان "العمّ" أوجلان هو صاحب البرنامج السياسي الشهير "درب الثورة الكردية"، والذي تضمن سلسلة مقولات راديكالية بينها واحدة رأت أن كردستان المبعثرة والغائبة هي نتاج سياسات آثمة نفذتها أربع دول (إيران والعراق وتركيا وسورية)، وأن إحياء كردستان يمرّ عبر درب وحيد هو الثورة الكردية الشاملة في هذه الدول، في صيغة تفوح منها رائحة المفهوم التروتسكي عن الثورة المتواصلة. أمّا "العمّ" نفسه، ولكن في مطلع الثمانينيات، فهو القائل بخوض حرب التحرير على ثلاث مراحل: الدفاع الستراتيجي، وتوازن القوى، والهجوم الستراتيجي. وتلك اللعثمة التقنية، في توصيف أغراض كانت أكثر وضوحاً قبل سنوات قليلة، إنما نبعت من حقائق الأرض وحسابات المضيف السوري.

ورغم أن معسكرات الـPKK في مناطق الشمال الشرقي من سورية (مثل الدرباسية وعامودا وجرنكي)، ومنطقة البقاع اللبنانية، بقيت مفتوحة ونشطة، إلا أن النظام السوري وقّع في عام 1986 بروتوكولاً أمنياً مع تركيا يقضي، صراحة هذه المرة، بوضع حد لمعونة فصائل الحزب. كانت هذه هي الخطوة الأولى، ربما، على طريق مرحلة الدفاع الستراتيجي، لأن الحزب أقام أولى قواعده في معسكر لولان الواقع في الزاوية الشمالية الشرقية من تقاطع الحدود الإيرانية ـ التركية، وسبق ذلك بتأسيس فصائل "وحدة الحرية الكردستانية"، أو الذراع العسكري الضارب في الحزب، المكلف بتنفيذ حرب العصابات والتوغل في عمق الأراضي التركية وصولاً إلى ديار بكر. ومسلسل المواجهات اللاحق يبدأ من إغارة طائرات الفانتوم التركية على معسكرات الحزب في كيشان وهيات وهفتانين وهيكاري، بتوقيت مناسب مع التسويات الواسعة التي كانت تجري على قدم وساق في بغداد وأنقرة ودمشق وطهران...

وإذا كانت بعض الإحصائيات تشير إلى أنّ ثلث أعضاء الـPKK هم من الكرد السوريين، المقاتلين في جبال قنديل وكهوف كردستان وغاباتها، فإنّ إحصائيات أخرى تشير إلى أنّ الفرع السوري، "حزب الاتحاد الديمقراطي"، لا يمثّل إلا أقلية ضئيلة داخل الحركة السياسية الكردية السورية. وبالتالي فإنّ احتمال انزلاقه إلى صيغة ارتهان مع النظام، أياً كان محتواها، لن تقتصر عواقبه الوخيمة على جسم الحزب وحده، بل ستُلحق الأذى بالكرد السوريين عموماً، وخاصة في هذه المرحلة الحاسمة من عمر الانتفاضة، وترنّح النظام. وللمرء أن يتفاءل بأنّ تصريحات النأي عن النظام، التي تصدر بين الحين والآخر على لسان صالح مسلم نفسه (زعيم الحزب، والعضو في قيادة "هيئة التنسيق"!) يمكن أن تتحلى بمصداقية الحدّ الأدنى، وتكذّب كابوس "شبيحة الكرد".

لكنّ الصور الفوتوغرافية لحاجز راجو تعيدنا، من جانبها، إلى ما ردّده بطل رواية سليم بركات، عن ميليشيا تأنس في نفسها البأس ولم تبلغ المائتين بعد؛ كما أنها، في المفارقة الموازية، تذكّرنا بأنّ أوجلان حبيس زنزانة في بحر مرمرة، وأنصار فرعه السوري يقطعون الطرقات في عفرين!

الأحد، 12 فبراير 2012

"تان تان" انتفاضات العرب

راجت أكثر من ذي قبل، والأصحّ القول إنها استيقظت بعد سبات، وانتعشت بعد ركود كان أقرب إلى الانقراض ـ ظاهرة عُرفت في التاريخ الاستعماري باسم عجيب الاشتقاق، ملتبس المعنى، طارىء الاختصاص، هو "المستعرب" Arabist. وأمّا سبب انبعاث المستعربين، وعودتهم إلى احتلال الصدارة في أعمدة الرأي وشاشات الفضائيات الغربية، ثمّ العربية استطراداً واستلحاقاً، فهو انتفاضات العرب، من تونس ومصر وليبيا، إلى اليمن والبحرين وسورية. ولا عجب، والحال هذه، أن تسود على نطاق واسع تسمية "الربيع العربي"، وهي ذاتها التي اختاروها بأنفسهم، والتي تنسج على منوال تسميات أخرى سابقة، مستمدة من أوروبا الشرقية بصفة خاصة.

لافتٌ، في المقابل، ومدهش، أن يتلهف بعض العرب إلى احتلال موقع "المستعرب"، ونسخ وظائفه القديمة والوسيطة والحديثة المعاصرة، بل مسخها أحياناً إلى محض إعادة إنتاج كاريكاتورية للكليشيهات الأشهر في تاريخ الاستعراب، وأبرزها بالطبع تلك التي تخصّ الإسلام السياسي، وصراع المذاهب والطوائف والفِرَق، وفتاوى التكفير والتحريم، وما إليها. على سبيل المثال، تحتلّ مواقف ابن تيمية (1263ـ1328) مساحة كبيرة في سجالات مدوّنة إلكترونية تحمل التسمية ذاتها، The Arabist، وكأنّ المذهب السلفي المتشدد هو محرّك الانتفاضات العربية. كما نعثر على سجالات أخرى تجزم بأنّ الانتفاضات ليست ربيعاً، بل سايكس ـ بيكو جديدة (وهذه المقولة الركيكة صارت ديدَن موشور عريض من رافضي الحراك الشعبي العربي، ابتداء من "الممانعين"، مروراً بأبواق أنظمة الاستبداد، وانتهاء بأمثال محمد حسنين هيكل).

ورغم أنّ المدوّنة تركّز على الملفات المصرية، بما لا يُقارَن بسواها في الواقع (إذْ أنّ مصر هي مقرّ التحرير)، إلا أنّ بعض الآراء الأخرى تتناول البلدان العربية التي شهدت انتفاضات شعبية، بروحية تدوين متعاطف تارة، ومحايد طوراً، وإنْ كانت طرائق الاستشراق التقليدية لا تغيب إجمالاً عن التدوينات، أو الروابط التي تحيل إلى موادّ أخرى خارج الموقع. لهذا فإنّ جوشوا لانديس، الأكاديمي الأمريكي وصديق النظام السوري، ضيف شبه دائم على الموقع؛ ومثله تُستضاف موادّ متعاطفة مع النظام، نُشرت في الموقع الذي أطلقه بنفسه: Syria Comment. ومن الطريف، أخيراً، أنّ التعريف بالمدوّنة يقول إنها "موقع إلكتروني عن السياسة والثقافة العربية"؛ إلا أنّ الصورة التي تتصدّر صفحاتها منقولة عن إحدى قصص "تان تان"... التي، إلى جانب عنصريتها، لم يُعرف عنها أي تعاطف مع العرب!     

وبالعودة إلى أصل الظاهرة، كان مستعربو الغرب متعددي المنابع والأهواء والمواهب، فمنهم الأكاديمي أو السفير، ومنهم الأديب أو ضابط الاستخبارات، ومنهم المعلّق السياسي أو عالم الآثار؛ ويكفي، لهذا، أن يسرد المرء لائحة من أسماء كبارهم: ريشارد برتون، الليدي هستر ستانهوب (أو "ملكة البدو" في اللقب الظريف!)، توماس إدوارد لورانس (العرب)، جرترود بيل، هاري (عبد الله) فيلبي، دانييل بليس (مؤسس "الكلية البروتستانتية السورية" التي ستتحوّل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت). ثمّ، في اللائحة المعاصرة، ثمة ريشارد مورفي، هيرمان إيلتس، روبرت بلليترو، دافيد نيوتن (السفير ما قبل الأخير للولايات المتحدة في عراق صدّام حسين)، والسفيرة الشهيرة أبريل غلاسبي، التي أبلغت دكتاتور العراق بأنّ الولايات المتحدة ليس لها رأي في نزاعه الحدودي مع الكويت.

وهؤلاء قوم يختلفون، في التصنيف والتعريف، عن المستشرقين الذين تكفّل الراحل إدوارد سعيد بتفكيك مآربهم ومشاربهم وأجنداتهم، فضلاً عن تبيان فضائل بعضهم، وقبائح معظمهم. أو قلْ، في تسويغ اجتراح توصيف جديد يُفرد لهم خانة منفصلة أو مستقلة، إنهم تلامذة أبناء للمستشرقين الآباء،  يسخّرون طرائق الاستشراق في خدمة الأغراض الجيو ـ سياسية والدبلوماسية والأمنية للقوى العظمى، الغربية غالباً. كذلك يمكن للبعض منهم أن يمتهن، بين حين وآخر، خدمة سلسلة من الأغراض "الثقافية" في الظاهر، تظلّ بريئة حسنة النيّة حتى تسفر عن أهدافها الباطنة، فتكشّر حينئذ عن أنياب جديرة بالضواري وحدها.

وفي هجائهم كان الصحافي الأمريكي روبرت د. كابلان قد أصدر، منذ سنة 1993، كتابه الشهير "المستعربون: رومانس نخبة أمريكية"، بدا بمثابة مسمار جديد يُدقّ في نعش تلك الفئة العجيبة. وكاتب هذه السطور ينضوي في عداد فئة (لعلها ليست أقلية) ترى أنّ ذلك المحاق كان فأل خير، وليس نذير خسران، لأنّ قضايا العرب لم تفقد الكثير من وراء تشييع استعراب ساد حقبة من الزمن، ثمّ باد واندثر، أو انقلب إلى ضدّه تماماً. إلا أنّ مستعرباً غربياً، ولد في لندن أو باريس أو برلين، يندر أن يتجاسر على اختزال سياسة العرب وثقافتهم إلى مشهد من رسومات "تان تان"، يصوّر شارعاً عربياً يختلط فيه المغاربة بالصعايدة، والقبعة الأوروبية بالطاقية الشعبية وغطاء الطوارق، فضلاً عن البناطيل والتنانير والجلاليب. فكيف يستسهل هذا الـ"كيتش" مستعربون عرب ـ لكي لا يضيف المرء: عاربة! ـ ولدوا في الرباط أو في القاهرة، وتتناول تدويناتهم مسائل حساسة، عن الثورة والطغيان، الديمقراطية والاستبداد، الدين والدولة، الإسلام السياسي والعلمانية...؟

أم أنّ إحدى فضائل الانتفاضات العربية أنها، أيضاً، حراك ثقافي عميق يستهدف تفكيك رومانس هذه النُخَب، ذاتها؛ المستعربة من حيث المهنة والزعم، المنتهية إلى خدمة الاستشراق من حيث الفعل والمآل؟

الخميس، 9 فبراير 2012

النظام السوري قيد الاضطرار: أوراق الرمق الأخير

التفصيل الأكثر دموية في الأسبوع الأخير من عمر الانتفاضة السورية، التي دخلت شهرها الحادي عشر، هو إمعان النظام في استخدام آلة العنف، القتل والقصف والتدمير، في حمص ومناطق وادي بردى وجبل الزاوية بصفة خاصة؛ وتنفيذ سلسلة من العمليات القذرة التي تستهدف شحن المشاعر الطائفية، ومحاولة افتعال مواجهات أهلية ـ أهلية. أكثر من 400 شهيد خلال أقلّ من أسبوع، بينهم عدد كبير من الأطفال، ضمن منهجية خبيثة تسعى إلى "تطبيع" أرقام الضحايا، بحيث يصبح مألوفاً، او حتى روتينياً، سقوط مئة ضحية كلّ يوم؛ في ناظر السوريين، بغية كسر الإرادة، وزرع الذعر، واستيلاد اليأس، وفي ناظر العالم خارج سورية أيضاً، لكي يزداد انسداد آفاق ما يُسمّى بـ"الحلول السياسية".

وليس خافياً أنّ استثارة مواجهات أهلية ـ أهلية ذات طابع طائفي، بين السنّة والعلويين خاصة، وفي ساحات ساخنة مثل حمص تحديداً، كانت منذ البدء بنداً مركزياً في "سلّة" إجراءات الحلّ الأمني، لأنها يمكن أن تخدم في تفرقة الصفّ الوطني، وتشتيت جهود الحراك الشعبي، وتصليب التفاف أبناء الطائفة العلوية حول النظام (مقابل تشدّد مواز، منتظَر، في صفوف السنّة؛ وتخوّف، صامت أو معلَن، في صفوف الأقليات الدينية والمذهبية والإثنية). ولقد أُسندت هندسة عمليات الاستثارة تلك إلى مجموعة من الخلايا الخاصة، التي تتبع إدارياً إلى بعض أجهزة النظام الأمنية (مخابرات القوى الجوية، أكثر من سواها)، ولكنها في الواقع لا تأتمر على نحو هرمي داخل الجهاز ذاته، إذْ هي أقرب إلى الخلايا السوداء السرّية، التي ترتبط بخيوط مكتومة مع قيادات أمنية فردية؛ منتقاة على أسس طائفية صرفة، غنيّ عن القول.

في المقابل، ثمة تفصيل طارىء بالغ الدلالة، أمني وعسكري وسيكولوجي أيضاً، يسجّل ارتساماً جديداً أوضح لانسداد الآفاق أمام الحلّ الأمني، الذي لم يتوقف النظام عن اعتماده منذ 15 آذار (مارس) الماضي، ويعلّق عليه الآمال جميعها في منجاة النظام، أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تراث "الحركة التصحيحية"، وما سنّته من تقاليد استبداد ونهب وفساد وحكم عائلي وراثي. هذا التفصيل هو اللجوء، للمرّة الأولى على هذا النطاق، إلى استخدام وحدات الحرس الجمهوري في تنفيذ عمليات عسكرية مباشرة، في الغوطة وريف دمشق المحاذي، وداخل العاصمة ذاتها. وإذا كانت الخطوة منطقية من حيث المبدأ، لجهة الولاء المطلق التي تتصف به تلك الواحدات تجاه حلقة الحكم الأضيق؛ فإنّ نشر الحرس الجمهوري خارج مواقعه التقليدية يعكس ثلاثة صنوف من الاضطرار.

إنه، بادىء ذي بدء، استنفار لاحتياط عسكري ـ أمني أخير، توفّره الدكتاتوريات عادة للمعارك الفاصلة، والختامية، من حول القصور والمتاريس والملاجىء الرئاسية؛ وحرس النظام السوري لا يشذّ عن هذا الدور، خاصة في أعقاب حلّ التشكيلات العسكرية الخاصة التي كانت تتولى وظيفة احتياطي النظام (وحدات "سرايا الدفاع"، أيام رفعت الأسد، في المثال الأبرز). وهو، ثانياً، مؤشر جدّي على أنّ الفرقة الرابعة، التي يقودها ماهر الأسد فعلياً، لم تعد قادرة على أداء مقدار الحدّ الأدنى من المهام التي توكل إليها عادة؛ وذلك رغم أنها تعادل ثلاث فرق في واقع الأمر، وعدّتها لا تتفوّق على جميع فيالق الجيش السوري، من حيث صنوف الأسلحة والاختصاصات القتالية، فحسب؛ بل تخرق أعرافها، في التركيب الطائفي والمناطقي لضباطها وصفّ ضباطها وأفرادها، وفي تسلسلها القيادي، وتدابيرها اللوجستية، كلّ قانون عسكري عرفه التاريخ. وأخيراً، يمكن لنشر الحرس الجمهوري أن يشي بما أخذ يعتمل داخل الفرقة الرابعة ذاتها من مشكلات خطيرة، قد لا تبلغ مستوى الانشقاق في الطور الراهن، ولكنها لم تعد بعيدة عن مستوى التشقق الداخلي.

على الجبهة "السياسية" ـ كما يستطيب البعض القول، وكأنّ السياسة، أو ما يسمّونه "التوسطات السياسية"، ما تزال حيّة تسعى! ـ لم يعد في وسع النظام أن يلعب في مضمار أوسع من ثقب إبرة، فعلياً وليس مجازاً. كان في الماضي يتشدق بالحديث عن "الحوار الوطني"، فوجد أذناً صاغية هنا، وقلباً واجفاً هناك، ولساناً أو قلماً أو صوتاً يلهج بالخشية على سورية من الأخطار الثلاثة الرهيبة: الحرب الأهلية، عسكرة الانتفاضة، والتدخل العسكري الأجنبي. الآن بات النظام هو أوّل مَنْ أخرس هذه الفئات (التي يتسع موشورها لجماعة "هيئة التنسيق"، وخاصة جناحها الخارجي، و"تيار بناء الدولة"، وشتى صنوف الطهوريين من شهود الزور أو مدمني الصمت أو الحالمين بموقع وسيط ثالث بين النار والرماد!)؛ وسدّ عليها دروب الحوار، سواء مع ممثلي النظام أنفسهم (محمد ناصيف، بثينة شعبان، فاروق الشرع...)، أو عبر وسطاء وحلفاء وأصدقاء (من السفارة الروسية في دمشق، إلى محمد حسنين هيكل، مروراً بالأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي).

مدهش، على سبيل المثال، أن تعلن "هيئة التنسيق" أنها ليست ذاهبة إلى موسكو للحوار مع النظام، وأن يعجز السفير الروسي في دمشق، ثمّ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (فما بالكم بالمخضرم يفغيني بريماكوف، نفسه)، عن إقناع أيّ من قياداتها الداخلية بالانخراط في المشروع الروسي (وكأنّ النظام وافق، أصلاً، على محاورة "المعارضة"، في أيّ شبر على البسيطة). وستكون صفعة باردة على خدّ معاوني رئيس الوزراء الروسي، فلاديمير بوتين، إذا انتهت المبادرة الروسية إلى استضافة أمثال قدري جميل وعمار بكداش وصفوان قدسي، بوصفهم فرسان "المعارضة" السورية؛ وأمثال هيثم سطايحي ومنير الحمش وابراهيم دراجي، بوصفهم ممثلي السلطة!

المعلومات، وقراءة ما بين السطور في الصحافة الروسية المستقلة، تشير إلى أنّ الكيل قد طفح بمستشاري الكرملين المعنيين بملفات النظام السوري، خاصة وأنّ أسابيع الانتخابات الرئاسية الروسية تعد بأخطار شتى قد تكون تلك الملفات أحد منابع تغذيتها. ذلك لأنّ استخدام حقّ النقض مرّة ثانية كان أشبه بطلقة نار في القدم، فكيف إذا ارتفعت يد المندوب الروسي في مجلس الأمن، لتعلن الـ"فيتو" الثالث... في أيّ وقت قريب؟ معروف، من جانب آخر، أنّ الحبال التي يسير عليها بوتين، في معالجة الشأن السوري، رفيعة وزلقة ورجراجة: إذا كانت تدنيه، قليلاً، من أصوات القوميين الروس، والأبارتشيك العجائز، الحالمين بالعودة إلى موقع القوّة العظمى ما قبل الـ"بيريسترويكا"؛ فإنّ الحبال ذاتها يمكن أن تسقطه أرضاً في أية لحظة، حيث تنهشه براثن الخصوم من كلّ حدب وصوب.

ليس أقلّ إدهاشاً (رغم أنّ جميع المآلات المنطقية كانت تفضي إليه) خسران النظام لموقف قوى كبرى في مجموعة الدول النامية، مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، سمعت من النظام وعوداً عن وقف العنف والشروع الجدّي في "الإصلاح"، فامتنعت عن التصويت في المرّة الأولى؛ لكنها، هذه المرّة، أبت أن تُلدغ من جحر الوعود ذاتها، فصوّتت لصالح القرار. وكان وزير خارجية النظام، وليد المعلّم، قد هدد بنسيان وجود أوروبا على الخريطة، والتوجه شرقاً إلى شعوب أخرى صديقة، فانتهى به الأمر إلى ثلاث دول حصرياً، أو تكاد: إيران، روسيا، والصين. وإذا جاز أنّ هذا الحصاد الدبلوماسي هزيل أصلاً، لا سيما إذا وضع المرء بعين الاعتبار ما تعانيه إيران ذاتها من ضائقة مع الغرب، فإنّ اعتماد النظام على هذه المؤونة لن يقيم أوده طويلاً، بافتراض أنها تتولى وظيفة كهذه في الأساس.

يُضاف إلى هذا أنّ موقع سورية الجيو ـ سياسي الحساس (الذي يرى فيه رأس النظام نقطة قوّة تكفيه شرّ السقوط)، هو في الآن ذاته وبال عليه إذا تبدى كسلاح ذي حدّين، وهو هكذا فعلياً. ومن هنا أتى تلويح الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بتشكيل مجموعة عمل دولية، هدفها كسر الجمود الذي يصنعه إصرار روسيا والصين على تعطيل قرارات مجلس الأمن الدولي، والتوجه إلى الجمعية العمومية. ومن هنا تأتي المبادرة التركية إلى عقد مؤتمر دولي حول سورية، والتي تستهدف أوّلاً إخراج أنقرة من الثلاجة التي وضع الأتراك أنفسهم فيها بصدد الموقف من النظام (بانتظار أشغال الجامعة العربية، على الأقلّ)؛ وكذلك نفخ الحياة في التأييد العربي الشعبي لسياسة تركيا إزاء قضايا المنطقة عموماً، والقضية الفلسطينية خصوصاً، والتي بدا أنّ أسابيع الصمت التركي الأخيرة أخذت تُلحق به الأذى.

وليس مستبعداً أن تكون المبادرتان، الفرنسية والتركية، بمثابة ملاقاة آسيوية ـ أوروبية (والبعض لن يتردد في القول: شرقية ـ غربية، أو حتى إسلامية ـ مسيحية) للموقف الدراماتيكي المفاجىء الذي اتخذه وزراء مجلس التعاون الخليجي، وقضى بسحب السفراء من دمشق. ذلك لأنّ حريق التصارع على سورية، وما كان الأسد يهدد به العالم قبل أسابيع، انتهى أغلب الظنّ إلى هذه الخلاصة، الأشبه بمعادلة حسابية في الربح والخسارة: كان "استقرار" النظام السوري هو ضمانة تجميد أخطار موقع سورية الجيو ـ سياسي، ومعضلاتها الأخرى، الإثنية والدينية والسياسية؛ ولكنّ التغيير، ورحيل آل الأسد تحديداً، صار اليوم هو الضمانة، لأنّ بقاء النظام بات مصدر النيران، وليس الإطفائي لها.

منطقي، كذلك، أن يُحسم الرأي في طهران لصالح الدفاع عن النظام السوري، بعد أن انقسم الموقف بين مزاج براغماتي يقول بمعالجة الأضرار، والانحناء أمام العاصفة، والهروب إلى أمام، لأنّ النظام ساقط لا محالة؛ ومزاج رافضي، ناري وصراعي ومتشدد، يرى أنّ الدفاع عن الأسد هو دفاع مباشر، وليس بالنيابة، عن القوس التي تطمح طهران إلى استكمال صناعته وشغله، وبخاصة بعد الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق، والذي لا يضمّ العراق وسورية لبنان وفلسطين فحسب، بل يتوجب أن يمرّ أيضاً بالخليج العربي، لينغلق عند مضيق هرمز. وخطبة حسن نصر الله الأخيرة، وإعلانه أن "حزب الله" تلقى ويتلقى كل أشكال الدعم من طهران، ثمّ تأكيده بأنّ لا شيء يحدث في حمص؛ بالإضافة إلى تصريحات الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، حول تحركات عناصر "الحرس الثوري" بين سورية ولبنان... هي مؤشرات على ميل المرشد الأعلى علي خامنئي إلى مساندة الأسد.

حتى انتهاء الرمق الأخير، بالطبع، حيث الأوراق آخذة في احتراق سريع.      


الأحد، 5 فبراير 2012

قباني وزولا وغوته: شبيحة الجعفري!

استنكر الكثيرون لجوء بشار الجعفري، مندوب النظام السوري في الأمم المتحدة، إلى افتتاح كلمته في مجلس الأمن الدولي ببيت من الشاعر السوري الكبير الراحل نزار قباني؛ موحياً، ضمناً، أنّ الشعر هنا ينتصر لدمشق/ السلطة، إزاء غدر العرب والعروبة. وجهة أولى خلف الاستنكار، محقة تماماً، هي أنّ القصيدة التي اقتبس الجعفري بيتاً ختامياً منها، هي في الواقع ضدّ حكم البعث، عموماً؛ والشكوى فيها هي، على النقيض، انتصار لدمشق معاوية، وحلب أبي الطيب المتنبي، وحمص خالد بن الوليد:

يا شام، أين هما عينا معاويةٍ/ وأين من زحموا بالمنكب الشهبا
فلا خيول بني حمدان راقصةٌ/ زهواً، ولا المتنبي مالئٌ حلبا
وقبر خالد في حمصٍ نلامسه/ فيرجف القبر من زواره غضبا

وجهة أخرى تقول إنّ الشاعر، لو كان حيّاً بيننا اليوم، فلا ريب في أنه كان سيقف مع انتفاضة الشعب السوري ضدّ النظام؛ وهو الأمر المرجّح، بالطبع، لولا أنه يظلّ افتراضياً بالضرورة، لا سيما إذا استعرض المرء سلسلة خيانات المثقفين والفنانين السوريين الذين انضووا في صفّ النظام، أو تواطأوا مع جرائمه عن طريق الصمت تارة، أو الغمغمة والتأتأة طوراً. واجب تحكيم التاريخ، فضلاً عن إنصاف الحقيقة، يقتضيان التذكير بأنّ الجعفري لم يكن أوّل اللاهثين خلف قباني بغية تطويعه على نحو يخدم النظام، دون اكتراث بمقدار ما تنطوي عليه الرياضة (المفضوحة، أصلاً) من ديماغوجية فاقعة.

يُذكر، على سبيل المثال الأقرب عهداً، إصرار حنان قصاب حسن، الأمين العام لاحتفالية دمشق عاصمة ثقافية، 2008، على تخصيص سلسلة من الأنشطة التي تفرط في تكريم قباني تحديداً. ورغم أنّ صداقة قصاب حسن مع النظام لا تُقارن بولاء الجعفري له، فإنّ معظم تلك الأنشطة لم تخلُ من مسحة نفاق عالية، تبيّض صفحة النظام أقلّ ممّا تكرّم  قباني أو دمشق (فعالية "حقّ الياسمين"، في حديقة الجاحظ؛ وفعالية "هنا ينام قلبي"، التي أُقيمت في قصر الحمراء، بغرناطة، تحت رعاية أسماء الأسد والملكة صوفيا). وللتذكير، أثار ذلك الإفراط عتباً علنياً من فايزة شاويش، أرملة سعد الله ونوس، المسرحي السوري الكبير الراحل: "فوجئنا جميعاً بأسلوب الاحتفاء بنزار قباني مع احترامي الشديد له، إذ طوال عشرة أيام وصور نزار تملأ الصحف والمجلات واللوحات الطرقية بأحجام مختلفة". وتساءلت: هل قدّم قباني للوطن أكثر مما قدّمه ونوس؟

والحال أنّ الراحلَيْن، في ما يتصل بالنظام، اشتركا في خصيصة واحدة على الأقلّ، هي اهتمام حافظ الأسد الشخصي (أو ادعاء الاهتمام، غنيّ عن القول) بأوضاعهما الصحية: قباني، حين توجب نقله إلى مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت؛ ثمّ ونوس، حين اقتضى علاجه السفر إلى باريس. تلك، بالطبع، مكرمة الوطن السوري لمبدعيه الكبار، وليست منّة من الأسد، الذي لم يسدد من حرّ ماله؛ غير أنّ الكثيرين من أمثال ونوس وقباني لم يحظوا بذلك الاهتمام، لاعتبارات لا تخفى. وكما أنّ ونوس كان معارضاً للنظام على طريقته، التي قد يساجل البعض حولها في كثير أو قليل؛ فإنّ قباني كان صديق معظم الأنظمة العربية، على طريقته أيضاً، القابلة بدورها لسجال مماثل.

معروف، في المقابل، أنّ قباني لم يكن على وفاق بيّن مع نظام البعث الحاكم في سورية منذ 1963، وخاصة بعد استقالته من العمل الدبلوماسي سنة 1966، ومغادرة سورية نهائياً، إلى بيروت ثمّ لندن، قبل أن يعود إلى دمشق في كفن سنة 1998. لكنّ سيرورة مصالحة، إذا جازت تسميتها هكذا، كانت قد بدأت في عهد الأسد الأب، وتضمنت ذلك الظهور الشهير للراحل على مدرج جامعة دمشق، مطلع السبعينيات، ثمّ استقبال الأسد له في مكتبه سنة 1974. ورغم مزالق ما يمكن أن تسفر عنه من احتقان في نفوس المواطنين، سوف يسمح النظام بجنازة حرّة اخترقت شوارع دمشق الحديثة، وصولاً إلى مقبرة "باب الصغير"، حيث سيُدفن قباني. كذلك سوف تتلقى أمانة العاصمة الضوء الأخضر بإطلاق اسم الراحل على أحد شوارع دمشق، في منطقة "ابو رمانة" الفارهة.

صحيح أنّ هذه الملابسات متضاربة متناقضة، ولعلها اتخذت تلك السمة لأسباب منطقية تخصّ شخصية قباني نفسه، عموماً؛ ولكن هل تمنح الجعفري أي ترخيص بنبش شعر الراحل، على نحو تحريفي ديماغوجي يبلغ شأو تحويله إلى شبّيح في خدمة حرب النظام المفتوحة على الشعب السوري؟ من العبث أن يجيب المرء بالنفي، ما دام الجعفري تجاسر أكثر فحشد مع قباني، في صفّ الشبيحة ذاته، أسماء كبيرة مثل الروائي إميل زولا (صاحب وثيقة "إني أتهم" الشهيرة، دفاعاً عن الضابط البريء ألفريد دريفوس)؛ والشاعر والروائي الألماني يوهان فولفغانج غوته (صاحب الملحمة الشعرية "فاوست"، التي تتحدّث عن بيع الروح للشيطان).    

صحيح، كذلك، أنّ حي الخالدية الحمصي، الذي ارتكب فيه النظام المجزرة الأبشع منذ مجزرة حماة 1982، إنما يستمد اسمه من خالد بن الوليد، حيث القبر الذي رآه قباني يرتجف غضباً من زوّاره. ولا عجب أنّ هذه المفارقة غابت عن الجعفري، حين حوّل الشاعر الكبير إلى "منحبكجي" صغير، يهتف ضدّ العرب والعروبة!

الخميس، 2 فبراير 2012

حماة 1982: انقلاب المجزرة على الجزّار

في أواسط شباط (فبراير) 1982، قام ناصر قدور، معاون وزير الخارجية السوري آنذاك، باستدعاء السفير الأمريكي في دمشق، روبرت باغانيللي، وأبلغه احتجاج النظام على تصريح صدر عن وزارة الخارجية الأمريكية، يفيد بأن "السلطات السورية عزلت مدينة حماة عن العالم الخارجي"، بسبب "وقوع اضطرابات خطيرة". جون كيفنر، مراسل صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية الذي نقل هذا الخبر، أضاف تصريحاً لوزير الإعلام السوري أحمد اسكندر أحمد، يفيد بأنّ المدينة تشهد "حملة تفتيش" ينفذها بعثيون وبعض عناصر الأمن "بحثاً عن أسلحة وعصابات إرهابية". وكان باغانيللي قد أدّى واجب الحدّ الأدنى الذي أتاحته سياسة رونالد ريغان، الرئيس الأمريكي يومذاك، في الموقف من أنظمة الاستبداد العربية عموماً، ونظامَيْ حافظ الأسد وحسني مبارك بصفة خاصة. وكذلك فعل مراسل الصحيفة العريقة!

أسبوعية الـ"إيكونوميست" البريطانية، التي لا تقلّ عراقة عن زميلتها اليومية الأمريكية، كتبت (بعد قرابة شهرين على المجزرة، للتدقيق) أنّ "الرواية الحقيقية" لما جرى في مدينة حماة "لم تُعرف بعد، ولعلها لن تُعرف أبداً". وإذْ اعترفت بأنّ المدينة صارت "خرائب" بعد أن قُصفت بالدبابات والمدفعية والطيران طيلة ثلاثة أسابيع، وأنّ "جزءاً كبيراً من المدينة القديمة قد هُدم تماماً، وسُوّي بالجرافات"، فإنّ المجلة لم تتحدث البتة عن مجزرة، وأسهبت في توصيف الصراع على النحو الأكثر غموضاً وركاكة في آن: متمردون، ضدّ قوّات حكومية! ولم تكن الـ"إيكونوميست" أفضل حالاً من موقف الحكومة البريطانية، وتحديداً مارغريت ثاتشر رئيسة الوزراء آنذاك، رغم الجفاء الظاهر الذي كان يهيمن على العلاقات البريطانية ـ السورية في تلك الحقبة.

وحدها صحيفة "ليبيراسيون" الفرنسية شذّت عن القاعدة، بفضيلة الروح الفدائية التي تحلّى بها أحد كبار مراسليها، سورج شالاندون، الذي سيخاطر بحياته ويتسلل إلى حماة تحت اسم مستعار (شارل بوبت)، وصفة كاذبة (باحث في الآثار)، وسينفرد بأنه أوّل صحافي أجنبي يدخل المدينة الشهيدة، ويسجّل بأمّ العين الكثير (وليس، البتة، جميع) ما حاق بأهلها وبعمرانها، القديم قبل الحديث، من قتل وتخريب وتدمير. "الأموات أخذوا يُعدّون بالآلاف أوّلاً، ثمّ بالمئات، ثمّ بالآلاف خلال الساعات الأولى فقط. لقد رافقني أحد وجهاء المدينة، فتنقلنا من بيت إلى بيت، ورأينا العائلات الثكلى، والجثث التي تُجرّ من الأقدام، أو تُحمل على الأكتاف"، كتب شالاندون، متقصداً أن يخنق في داخله روح الروائي، هو المتمرّس في فنّ السرد والحائز على جوائز مرموقة، لكي ينتصر لواجب الإخبار الحقيقي الصرف، الأشدّ تأثيراً من أي مراس في التخييل.

 هذه حقائق، حول موقف الحكومات الغربية والرأي العام الأوروبي من تلك الوقائع الدامية الوحشية، يتوجب استذكارها اليوم تحديداً، في الذكرى الثلاثين لمجزرة حماة، وعلى ضوء ما تشهده سورية من مجازر يومية ليست أقلّ انفكاكاً عن تراث نظام "الحركة التصحيحية"، ومنهجياتها في قهر المجتمع وقمع الاحتجاج الشعبي. صحيح أنّ العالم تغيّر، وصارت وسائل الإعلام أكثر يسراً، في متناول الأيدي، وبمنأى عن المؤسسات العملاقة ذات المعايير التي لا تقوم على الأخلاق بالضرورة، أو لا تُقيم لها وزناً حاسماً؛ إلا أنّ درس حماة 1982 الأبرز في هذا المضمار هو أنّ المواقف الرسمية الغربية يمكن، ويحدث بالفعل، أن تنحني أمام سطوة الصورة وما تخلقه من مضمار أخلاقي عام، ولكنها لا تنحني في نهاية المطاف إلا أمام ميزان الربح والخسارة في احتساب المصالح.

ودرس حماة 1982، في ناظر السوريين على الأقلّ، هو سلسلة المجازر التي ارتكبتها كتائب مختارة من "سرايا الدفاع"، الخاضعة لقيادة العقيد رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد؛ أسوة بكتائب مختارة من "الوحدات الخاصة"، التي كان يقودها اللواء علي حيدر. هذه الألوية، وتضمّ وحدات مدرّعة ومدفعية وقوّات إنزال مظلية، قامت بمحاصرة المدينة طيلة 27 يوماً، وقصفها بالمدفعية الثقيلة والدبابات، قبل اجتياحها واستباحتها، وإيقاع عدد من الضحايا يتراوح بين 30 إلى 40 ألفاً من مواطنيها المدنيين، فضلاً عن 15 ألف مفقود لم يتمّ العثور عليهم حتى اليوم، وتهجير نحو 100 ألف من سكان المدينة، وكانت حينذاك تعدّ قرابة 400 ألف نسمة (هو العدد الذي سيتظاهر ضدّ النظام في ساحة العاصي، أواخر حزيران/ يونيو الماضي، بعد 29 سنة على المجزرة!).

وهذه مجزرة تمّ ارتكابها بالدم البارد، عن سابق تصميم وتصوّر، لكي تبدو من حيث الشكل بمثابة الخطّ الأخير الفاصل في المعركة بين النظام والفصائل الإسلامية المسلحة. ولهذا فقد وافق الأسد الأب على إعطاء القادة العسكريين نوعاً من التفويض المطلق، وترخيصاً صريحاً بأن تُستخدم كلّ الأسلحة، وكلّ طرائق القمع والردع والعقاب، حتى إذا اقتضى الأمر تهديم أحياء بأكملها (مثل البارودي، والكيلاني، والحميدية، والحاضر)؛ أو إلحاق اضرار جسيمة بالمساجد (الشرقي، الشراباتي، الشيخ الكيلاني، الأفندي، الشريعة، السلطان، المدفن، الشيخ داخل، الشيخ زين، الحميدية، بلال بن رباح، الشيخ علوان، عمر بن الخطاب، المناخ، السرجاوي، سعد بن معاذ، الهدى، الجامع الكبير...)، والكنائس(أربع منها قديمة، نُسفت اثنتان، وهُدم جزء من الثالثة، ونُهبت محتويات الرابعة، بما في ذلك كنيسة حديثة ذات طراز معماري بديع نُسفت بالديناميت).

من حيث المحتوى كانت المعركة أعمق، وأوسع نطاقاً. البريطاني باتريك سيل (وهو كاتب سيرة عن حافظ الأسد شديدة التعاطف، وصديق ظلّ مقرّباً من النظام طيلة عقود، وأحد أشدّ المدافعين عن الأسد الابن هذه الأيام)، رأى أنّ اعتبار معركة حماة بمثابة "الفصل الأخير في صراع طويل مفتوح"، يمكن أن "يفيد في تفسير الوحشية الرهيبة للعقاب الذي فُرض على المدينة. فوراء النزاع المباشر كانت تكمن العداءات القديمة متعددة المستويات بين الإسلام والبعث، والسنّة والعلويين، والريف والمدينة". وخلف الحضّ على اعتناق هذا الاعتبار كمنت رغبة سيل في التعمية التامة على طبائع النظام الجوهرية الأهم، وفي رأسها الاستبداد والفساد والتجنيد الطائفي والحكم العائلي التوريثي.

وإذْ لا يتفق المرء مع خلاصات سيل، خصوصاً في اعتباره مجزرة حماة معركة بين سلسلة ثنائيات (البعث والإسلام، السنّة والعلويين، الريف والمدينة)، فإنّ حديثه الصريح عن وحشية العقاب الذي أُنزل بالمدينة يدلّ على الأهمية الحاسمة التي كان النظام قد أولاها لهذه المعركة ـ المجزرة. ما يعفّ سيل عن سرده (تجاهلاً، وليس جهلاً) هو المجازر المنظمة التي شهدتها المدينة دون سبب ظاهر، مثل اندلاع قتال مع المسلحين الإسلاميين مثلاً، سوى إنزال العقاب: مجزرة حي "حماة الجديدة": تجميع الأهالي في الملعب البلدي، ونهب بيوتهم، ثمّ العودة إليهم وقتل قرابة 1500، بنيران الرشاشات؛ مجزرة حي "سوق الشجرة": مقتل 160 مواطناً، رمياً بالرصاص أو دفناً تحت الأنقاض، وحشر 70 آخرين في متجر لبيع الحبوب وإشعال النار فيه؛ مجزرة "حي البياض": قتل 50 من المواطنين، وإلقاء جثثهم في حفرة مخصصة لمخلفات معمل بلاط؛ مجزرة "سوق الطويل": إعدام 30 شاباً على سطح السوق، و35 آخرين حُشروا في متجر للأدوات المنزلية؛ مجزرة "حي الدباغة": حشر 35 مواطناً في منشرة للأخشاب، وإشعال النار فيها؛ مجزرة "حي الباشورة": إعدام عائلات بأكملها، من آل الكيلاني والدباغ والأمين وموسى والقاسية والعظم والصمام وتركماني؛ وهكذا، تتكرّر التفاصيل الرهيبة في مجازر أحياء العصيدة والشرقية والبارودية ومقبرة سريحين والمستشفى الوطني...

مجزرة حماة سبقتها مجازر، وقعت بين مطلع شهر آذار (مارس) وحتى أواخر شهر أيار (مايو) من العام 1980: في جسر الشغور (200 قتيل)؛ وسوق الأحد (42 قتيلاً) وحيّ هنانو (83 قتيلاً) في حلب؛ وفي تدمر (700 قتيل)... وعلى صعيد سياسي، فاشي بالضرورة لأنه صنع التنظير التمهيدي لهذا الخيار، شهد المؤتمر القطري السابع لحزب البعث الحاكم (كانون الأول/ديسمبر 1979) إعلان رفعت الأسد، بوصفه عضو القيادة القطرية، أنّ مَنْ لا يقف مع الثورة يقف في صفوف أعدائها حكماً، ودعا إلى شنّ حملة "تطهير وطني"، وطالب بإرسال المعارضين إلى معسكرات عمل وتثقيف في الصحراء. وكان الأسد الشقيق يستبق حركة الاحتجاج الشعبي التي تبلورت في إطار الأحزاب المعارضة غير المنضوية في جبهة السلطة، وفي النقابات المهنية للأطباء وأطباء الأسنان والمهندسين والصيادلة والمحامين، الذين أعلنوا إضراباً ليوم واحد (31/3/1980)، احتجاجاً على غياب الحريات وشراسة آلة القمع وانتهاك حقوق المواطن. وكان ردّ السلطة الفوري هو حلّ هذه النقابات، واعتقال عدد من أبرز قياداتها؛ وبعد أشهر سوف تشنّ السلطة حملة واسعة ضدّ أحزاب المعارضة.

وبذلك أُريد لمدينة حماة أن تصبح الدرس الأقصى، والأقسى، للشارع السوري بأسره، إسلامياً كان أم علمانياً، على صعيد الشارع العريض والأحزاب المعارضة مثل النقابات والاتحادات المهنية ومجموعات المثقفين. وكانت حماة أمثولة، ودرساً، وقاعدة للتعامل المستقبلي مع أيّ تحرّك معارض، سواء أكان مسلّحاً أم سلمياً. الأكثر مأساوية أنّ أمثال سيل سوف يقولون فيما بعد (ضمناً في الواقع، وليس صراحة!) إنّ معركة حماة حُسمت لصالح الحداثة والأنوار ضدّ الأصولية و"الطهورية". ولسوف يروي أنّ المدينة كانت، في العام 1961، قد طردت باصاً يقلّ طلبة وطالبات من جامعة دمشق توقفوا في المدينة للراحة، وذلك لأنّ بعض الفتيات كنّ يرتدين البناطيل، وسيستخلص ما يلي: "بمعزل عن قتل العديد من الناس، كان دكّ المدينة قد صُمّم بحيث يقصي هذه الطهورية Puritanism مرّة وإلى الأبد. وفي إعادة بناء هذا المجتمع المهدّم بُذل جهد واعٍ لا يقتلع الماضي فحسب، بل يغيّر المواقف أيضاً".

لم يحدث هذا، بالطبع، على نقيض ما سعى إليه النظام وتوهم إنجازه، وخلافاً لما تمناه سيل وأمثاله من "الخبراء" في الشأن السوري: لا المدينة خضع أهلها طيلة 30 سنة أعقبت المجزرة، ولا سورية رُوضت على مقياس "قاعدة حماة"، ولا النظام تعلّم درساً واحداً مفيداً حول عواقب الخيارات الأمنية والعنفية. لقد قدّمت حماة للانتفاضة السورية المظاهرات الأوسع عدداً، والأرقى شعارات، والأعذب غناء؛ وكذلك فعلت سورية، من القامشلي ودير الزور إلى درعا ودمشق، ومن حمص وجبل الزاوية إلى اللاذقية وبانياس؛ ولم يخيّب الأسد الابن ظنّ الكثيرين فيه، فسار على منوال أبيه: عصابات مندسة، مؤامرات خارجية، سياسات أرض محروقة...

أمّا الدرس الأكبر ـ الراهن، الآن إذْ يترنح نظام الاستبداد والفساد ـ فهو أنّ المجزرة يمكن أن تنقلب على الجزّار، أمام سمع الضحية وبصرها؛ وبموجب أحكام للتاريخ لا تخطيء، وإنْ تأخرت، ولا ترحم.