وعزّ الشرق أوّله دمشق

الخميس، 29 ديسمبر 2011

إدوارد سعيد في عام ثورات العرب: غائب حاضر بقوّة!


كان من غير المنطقي أن ينتهي العام 2011، سنة الثورات العربية بامتياز، دون خاتمة غربية استشراقية بامتياز، أيضاً، تُذكّر بأنّ نقد الراحل الكبير إدوارد سعيد لهذه المؤسسة المكينة لم يكن مرحلياً في الزمن السياسي (الذي يخصّ المشروع الاستعماري البريطاني ـ الفرنسي وحده)، أو محدوداً في النطاق المعرفي (الأدب والفلسفة والاجتماع والثقافة إجمالاً). كان، كذلك، يُنذر بما سيحمله المستقبل من استشراق، خاصة حين يحتدم التماسّ بين المفاهيم المسماة "كونية"، من الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى العلمانية والدين والدولة والمواطنة، وتلك المفاهيم الأخرى التي شاء الاستشراق ابتداعها بغرض ترقيتها إلى مصافّ التنميطات القارّة الثابتة، التي تصف ذلك "الشرق" المتخيَّل... الأبدي، الرتيب، الساكن، السرمدي.

والخاتمة الاستشراقية التي تشير إليها الفقرة السابقة تمثلت في حلقة خاصة ـ بُثّت منتصف هذا الشهر، وكانت مشهودة والحقّ يُقال ـ من البرنامج الإخباري الشهير NewsNight، الذي تبثه تلفزة الـBBC البريطانية، ويُعرف بعمق تناوله للقضايا السياسية الراهنة، وعلوّ كعب غالبية ضيوفه، وجسارة مذيعيه (جيريمي باكسمان، غافين إيسلر، إميلي مايتليس، وكيرستي وارك). الحلقة سعت إلى مناقشة سنة كاملة من هذا "الربيع العربي"، وضمّت وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، والمؤرخ المعروف سيمون شاما، والمندوب الأسبق لبريطانيا في مجلس الأمن الدولي السير جيريمي غرينستوك. فيما بعد، سوف تنضمّ إلى الحلقة (وعلى غير ما كان قد أُعلن، مسبقاً، في موقع البرنامج على الإنترنت) اليمنية توكل كرمان، الحائزة على جائزة نوبل للسلام؛ والمصرية جيجي إبراهيم، المدوّنة التي ظهرت على البرنامج مراراً في تغطيات عديدة سابقة.

وجود المرأة العربية (وليس أي رجل عربي!) سوف يلاحظه المشاهد دون عناء، حين سيتحدّث شاما عن أحد أهمّ منجزات "الربيع العربي"، أي "تحرير" المرأة العربية، ومنحها الصوت المستقلّ، بل والقيادة أيضاً؛ الأمر الذي لن يفوت كيسنجر التلميح إليه بدوره، كما ستُعنى به وارك نفسها، مقدّمة هذه الحلقة، حين ستستهلّ الحوار بسؤال إلى المدوّنة المصرية. لكنه سوف يكون السؤال شبه الوحيد، عملياً، إذْ سرعان ما يتناوب على الحوار رجال الغرب أنفسهم، وستتمحور نقاشاتهم حول تلك الثنائيات العريقة التي كشفت أستارها فصول "الاستشراق"، إسهام سعيد الأبرز في تفضيح المؤسسة وزيف معارفها ومناهجها وتطبيقاتها: "نحن" الغرب، و"هم" الشرق؛ "الديمقراطية" عندنا، و"الإصلاحات" عندهم؛ "الدولة المدنية" عندنا، و"الشريعة" عندهم... (جيجي إبراهيم سوف تذهب أبعد، إذْ سوف تتحدّث في مدوّنتها عن برنامج "عنصري" و"تمييزي" و"متمركز على الذات الغربية").

وإلى جانب إلحاح الرجال الأنغلو ـ أمريكيين على مسائل مثل "استلهام الديمقراطية الغربية" و"خطر الإسلام" الذي قد تجلبه هذه الثورات، ودور "التكنولوجيا الغربية" في تحريض الشوارع العربية وخاصة قطاع الشباب، والإصرار على تسمية جامعة مانعة هي "العالم المسلم" بدل الحديث عن تونس أو مصر أو ليبيا أو اليمن أو البحرين أو سورية... إلى جانب كلّ هذا، كانت دعوة ضيوف من أمثال كيسنجر وغرينستوك فضيحة في حدّ ذاتها، بسبب ما انطوى عليه سجلّهما الوظيفي من امتهان لحقوق الإنسان العربي، وتواطؤ مع الأنظمة ذاتها التي ثارت عليها الشعوب العربية، واعتناق لفلسفة "استقرار" الأنظمة بوصفه مبرر السكوت عن استبداها وفسادها. كان مريعاً، فضلاً عن كونه إهانة وطنية للمصريين والسوريين بصفة خاصة، أن يُدعى رجل مثل كيسنجر لكي يشهد على "الربيع العربي"، أو لكي يتشدّق مجدداً بنظريته في "الذرائعية المثالية" التي تحتاج إليها الإدارة الأمريكية اليوم في تعاملها مع الثورات العربية.

بيد أنّ سعيد، وفصول "الاستشراق" كافة، ظلّت حاضرة بقوّة في خلفيات غالبية ساحقة من المقالات والتحليلات الغربية التي نظّرت للثورات العربية على نحو يعيد إنتاج تلك المقولة المرذولة التي أسقطها التاريخ في المهد: صدام الحضارات، بوصفه خلاصة طبيعية للتناقض الموروث بين الإسلام (وبالتالي: مجتمعات "العالم المسلم" قاطبة)، والديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان (وبالتالي: الغرب، الأنوار الغربية، وكينونة الغرب الكونية). نقرأ تعليقات على الثورات العربية تصدر عن رجل مثل برنارد لويس، "بطريرك الاستشراق" كما يطيب لنا أن نسمّيه دون كلل أو ملل، فنعثر على ذلك الصدام المتهالك المتآكل ذاته وقد لبس لبوساً جديداً، ليس سوى تلك الأردية العتيقة ذاتها وقد صارت بالية خلقة مهلهلة.

وهكذا، لا يدهشنا عنده ـ وهو، للإنصاف، أعمق بكثير من المتسلقين، محترفي سلق آرائه وخلاصاته ـ هذا التمييز الجديد (كما يلوح، للوهلة الأولى) بين ديمقراطية "الغرب" وشورى "الشرق"، وكيف ينتهي التمييز إلى تناقض، ثمّ إلى تناحر وصدام وتصارع، بين الـ"نحن" والـ"هم"، وصولاً إلى "الإرث اليهودي ـ المسيحي الغربي" و"الإرث الإسلامي الشرقي"! وفي حوار مسهب مع باري فايس، نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، يتوصل لويس إلى النتائج التالية، التي تتفاوت نبرتها بين النصح والوعيد، وبين الاستبشار والإنذار:

ـ "أتردد في استخدام مفرد الديمقراطية، وأرى أنه لدينا فرصة أفضل بكثير لإقامة نوع من مجتمع مفتوح متسامح، إذا تمّ بما يتلاءم مع أنظمتهم، ويتطابق مع تراثاتهم (...) الانتخابات ينبغي أن تكون تتويجاً، وليس بداية، لسيرورة سياسية متدرجة. وإنّ التشديد كلّ الوقت على الانتخابات، وخاصة البرلمانية على الطراز الغربي، هو استيهام خطير". والحال أنّ لويس لم يتردّد، البتة، في امتداح التجربة التركية بوصفها الأنصع والأنجح على نطاق المجتمعات المسلمة، فلم يعتبر الانتخابات استيهاماً، ولا اعترض على الكمالية لأنّ افكار مصطفى كمال اتاتورك لا تتلاءم مع تراث الإسلام. كذلك فإنّ التلميح إلى إمكانية تأسيس أنظمة عربية تحقق العدل الاجتماعي والمساوة السياسية والمواطنة المدنية وفصل الدين عن الدولة، وسواها من ركائز حكم عصري سليم، دون اللجوء إلى الانتخابات، أمر مستغرب تماماً من مؤرّخ غربي تمتّع، طيلة ثمانية عقود من عمره، بفضائل الديمقراطية البريطانية ثمّ الأمريكية. وكيف لأي تمثيل صادق وفعلي أن يتحقق دون انتخابات، في بدء السيرورة كما في مختلف مراحلها؟

ـ "صحيح أنّ التراث الإسلامي بأسره يناهض الأوتوقراطية والحكم اللامسؤول، ولكن هنالك تراث قوي تماماً، تاريخي وقانوني في آن معاً، عملي ونظري أيضاً، يرسّخ الحكم المحدود الخاضع للرقابة (...) ولكي يستخلصوا كيفية بناء مجتمعات أفضل وأكثر حرّية، على المسلمين أن لا يتطلعوا إلى ما وراء المحيط. عليهم أن يعودوا إلى تاريخهم الخاصّ". كلام حقّ يُراد به الباطل، بالطبع، لأنّ القِيَم الكونية التي تخصّ الحريات والمواطنة وحقوق الإنسان ليست نتاج ثقافة بعينها، حصرياً؛ وليست مقتصرة على ماضي هذا الشعب أو ذاك، دون حاضره المنتمي إلى العصر والأوان من جهة، ودون التفاعل الإيجابي المتبادل مع شعوب وثقافات أخرى، من جهة ثانية. أمّا الحديث عن تراث قوي لصالح " الحكم المحدود الخاضع للرقابة" فهو افتئات خبيث يُلقى جزافاً لقارىء غربي لا يملك تمحيص ما يقرأ، إذا افترض المرء أنّ القارىء ذاته يملك استيعاب المفهوم ذاته أساساً!

ـ "مفردة Freedom، الحرّية، اكتسبت في الغرب معنى قانونياً واجتماعياً في الغرب، يدور حول الانعتاق من النظام العبودي، ولم يكن لها مدلول سياسي، ولهذا فإنه ليس لها مرادف في اللغة العربية يفيد المدلول ذاته، والعدل بالمعنى الغربي هو المعادل الأقرب إلى معنى الحرية في اللغات الغربية". لكنّ العدل  adlفي التراث العربي هو معادل "الحكم العادل"، وبالتالي فإنّ المطالبة بالحرّية ليست سياسية تماماً، بل هي اجتماعية أوّلاً، ترتدّ مباشرة على مفهوم الشورى الإسلامي، وليس إلى مفهوم الديمقراطية الغربي! ذلك الطراز من السفسطة ليس جديداً على لويس، بالطبع، ولكنه يبدو فاضحاً حقاً حين يسحب صاحبنا هذه المفاهيم على أنظمة حكم زين العابدين بن علي، وحسني مبارك، ومعمّر القذافي، وعلي عبد الله صالح، وحافظ الأسد ووريثه بشار؛ إذْ ها هنا تتضح مفارقة المستشرق الذي لا يخون المبادىء الأبسط في المعنى والدلالة فحسب، بل يخون الركائز الأبسط في تبيّن الحقّ وتبيان الحقيقة.

وفي الأصل كان هذا العام الاستشراقي قد افتُتح بمقالة لامعة كتبها المؤرّخ والباحث الفرنسي البارز أوليفييه روا، تنتهي ـ في مخاطبة أبناء الغرب، قبل سواهم ـ إلى هذه الخلاصة الصاعقة: "كلّ ما ظننتَ أنك تعرفه عن الشرق الأوسط، مغلوط"، وفق العنوان الذي اختاره تحرير مجلة "نيو ستيتسمان" البريطانية عندما نشر الترجمة الإنكليزية للمقالة. عنوانها الفرنسي الأصلي أقلّ خدشاً للحياء المعرفي الغربي، إذْ يقول روا ببساطة: هذه "ليست ثورة إسلامية"، وأمّا الخاتمة فتسير هكذا: "سيرورة التغيير سوف تكون طويلة تكتنفها الفوضى، لا ريب، ولكن ثمة أمر مؤكد: لقد انطوى عصر الاستثنائية العربية ـ المسلمة. الأحداث الراهنة تشير إلى تحوّلات عميقة تشهدها المجتمعات العربية، وكانت تعتمل منذ بعض الوقت، ولكنها طُمست حتى الآن بفعل العدسة المزيِّفة للمواقف الغربية تجاه الشرق الأوسط. لم ينتهِ أمرنا مع الإسلام ، بعد، وهذا أمر مؤكد، كما أنّ الديمقراطية الليبرالية ليست نهاية التاريخ، ولكن علينا في الأقلّ أن نتعلّم التفكير بخصوص الإسلام ضمن علاقته بثقافة عربية ـ مسلمة ليست اليوم منغلقة على نفسها أكثر ممّا كانت عليه في الماضي".

دروس "هذا العالم العربي الجديد"، وفق التعبير الذي صار المرء يقع عليه هنا وهناك، هزّت أركان المعارف السوسيو ـ سياسية الغربية، الراسخة رسوخ الجبال في العقول والضمائر، قبل استقرارها مثل صخور جلمود جاثمة في باطن الأدبيات والدراسات والكليشيهات والتنميطات، حول "العقل العربي" و"السيكولوجية العربية" و"الشارع العربي" و"النظام العربي"، وكلّ ما يقترن بهذه من صفات الركود والجمود واللاتاريخ والسرمدية ومقاومة التغيير ورفض الديمقراطية، فضلاً عن الكابوس الأكبر المسلَّم به قطعاً: أنّ الإسلام السياسي هو البديل، الأوحد الوحيد! أمّا السجالات حول الاستبداد العربي، والتواطؤ الغربي معه، وإدامة ركائز ملكه، لخدمة مصالح الغرب وإسرائيل في المقام الأوّل، فقد كان السجال حوله غائماً في أفضل النماذج، ومضللاً عن سابق قصد في أعمّ الامثلة. 

وهكذا، كان إدوارد سعيد غائباً في الجسد عن عام الثورات العربية، ولكن مؤسسة الاستشراق التي انتقدها لم تكن حاضرة بقوّة في تفكير غالبية الآراء والتحليلات الغربية فحسب، بل لعلّها قبعت وراء صياغة معظم السياسات الغربية الرسمية. تغيّر العربي الجديد كثيراً، في نهاية المطاف، ولم يتغيّر المستشرق العتيق إلا قليلاً!

الخميس، 22 ديسمبر 2011

سورية 2011: عام العجائب وخاتم الأحزان


يوم 5 شباط (فبراير) الماضي، كان السينمائي السوري الكبير عمر أميرالاي (1944 ـ 2011) قد أغمض عينيه، للمرّة الأخيرة، دون أن تكتحلا بالمشاهد الأولى لانتفاضة الشعب السوري: اعتصامات الشموع الصامتة أمام سفارات تونس ومصر وليبيا، واعتصام ذوي المعتقلين السياسيين في ساحة المرجة، أمام وزارة الداخلية، والتظاهرة الأولى الصاعقة في سوق الحريقة، حين تعالى شعار "الشعب السوري ما بينذلّ". بيد أنّ رحيل أميرالاي، على نحو مفاجىء باغت الحياة الثقافية السورية والعربية والعالمية، كان في جانب آخر يسجّل واقعة أولى فارقة في مستهلّ عام فارق، لن يطول الوقت حتى يتضح أنه عام الفوارق جمعاء، بل عام العجائب والمعجزات Annus Mirabilis بالمعنى التامّ الذي يتعارف عليه المصطلح اللاتيني العتيق.

من جانبه كان نظام "الحركة التصحيحية"، الذي دشّنه حافظ الأسد في انقلاب 1970، ثمّ ورّثه إلى نجله بشار بعد وفاته سنة 2000، يعيش العام ذاته بمنطق ظلّ على الدوام سمة لصيقة بالنظام طيلة 41 سنة: أنّ سورية مزرعة توريث ونهب وسلب وفساد وإفساد، كما أنها مملكة صمت وخوف وارتهان واستسلام، وقمع بناتها وأبنائها ليس ممارسة دكتاتورية استبدادية فحسب، بل هو خيار وجودي وركيزة بنيوية. رأس النظام كان على ثقة مطلقة، أو تكاد، بأنّ أكذوبة "الممانعة"، إسوة بتحالفاته الوطيدة مع رهط "الممانعين"، دولاً ومنظمات وأفراداً، كفيلة بأن تبعد عن نظامه "ميكروبات" الحراك الشعبي في تونس أو مصر أو البحرين أو اليمن أو ليبيا، فأعلن هذه "الثقة" على الملأ، بل تفاخر بها في حوار شهير مع صحيفة "وول ستريت جورنال". كانت مطالع 2011 حبلى بكلّ ما يوحي بأنّ العام سوف يُنزِل بالنظام الكوارث والنوائب والأهوال، على غرار الـ Annus Horibilis حسب تسمية لاتينية أخرى معاكسة؛ فاستقبله الأسد بمزيج من التهكم والغطرسة والاستعلاء، فضلاً عن نوبات القهقة المعتادة، بالطبع، والجرعات ذاتها من "الثقة" بأنّ نظامه ليس شبيهاً بأي بلد عربي شهد، أو سيشهد، انتفاضة شعبية.

في دخيلة نفسه كان الأسد يدرك، ما يدركه السواد الأعظم من بنات وأبناء سورية في الواقع، أنّ أي إصلاح حقيقي وذي معنى ملموس سوف يلحق الضرر الشديد بذلك المنطق اللصيق الذي حكم سلوك النظام طيلة أربعة عقود ونيف؛ وأنّ ذلك الضرر لن يقتصر على ركن دون آخر من أركان "الحركة التصحيحية"، إذْ لن يكون أقلّ من صدع بنيوي، يتضافر مع شقوق وكسور بنيوية أخرة كفيلة بتقويض المنظومة بأكملها. ولهذا لم يكن مستغرباً أنّ أقصى ما فعله الأسد، إزاء تعاظم المدّ الشعبي الديمقراطي في عدد من البلدان العربية، وبروز مظاهر أولى خجولة لانتقال تأثيراته على الداخل السوري، كان مواصلة الزعم بأنّ نظامه محصّن لأنه "ممانع"؛ ثمّ تشديد الخناق، أكثر فأكثر، على أيّ مظهر احتجاج أو تظاهر أو حتى تضامن مع الأشقاء. كذلك اختار الأسد تنفيذ مسرحية هنا (كما في مشهد "السباحة في بحر من الجماهير"، بعد صلاة عيد المولد النبوي)، أو "مكرمة" هناك (كما في إصدر عفو عن جرائم وجنح شتى، لكنها لا تشمل معتقلي الرأي... إلا إذا كانوا قد تجاوزوا سنّ السبعين!).

في جانب عسكري صرف، كان الأسد يدرك أنّ نموذج الجنرال رشيد عمار، رئيس هيئة أركان الجيوش في تونس، الذي تردد أنه رفض بالفعل تنفيذ تعليمات زين العابدين بن علي بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، ليس متوفراً في الجيش السوري؛ وعلى الأقلّ، ليس في تلك "الجيوش" الخاصة، الصغيرة أو الكبيرة، التي أنشأتها "الحركة التصحيحية" لحماية النظام أوّلاً، ثمّ السهر على تأمين مصالح المركب الأمني ـ العسكري ـ المالي الذي يستبدّ بسورية وينهب خيراتها ويدمّر اجتماعها الوطني والسياسي، ثانياً. كان يسيراً على الأسد أن يتذكّر ذلك النفر من كبار ضباط النظام الذين قادوا تنفيذ العديد من المجازر الجماعية، ضدّ أطفال ونساء وشيوخ عزّل أبرياء، في عشرات المدن والبلدات والقرى السورية (رفعت الأسد، قائد "سرايا الدفاع"؛ علي حيدر، قائد "الوحدات الخاصة، وهاشم معلا أحد كبار معاونيه؛ شفيق فياض، قائد الفرقة الثالثة؛ إبراهيم صافي، قائد الفرقة الأولى؛ بدر حسن، قائد الفرقة التاسعة؛ والصفوة العليا من ضبّاط أجهزة الإستخبارات المختلفة...). وكان أمراً بالغ الإغواء للأسد أنّ التاريخ لم يسجّل واقعة واحدة عن ضابط كبير من أهل النظام تلقى أوامر باستخدام الأسلحة، الخفيف منها والثقيل، فتردد في التنفيذ، أو توانى، أو نفّذ وهو غير سعيد بالذبح، غير شغوف بسفك الدماء!

كبير ضباطه، شقيقه ماهر الأسد، باشر "ستراتيجية" كسر الانتفاضة من أبجدية متناهية في البساطة، تناسب ملكاته العسكرية، ولكنها في المقابل تتماشى مع مزاجه الدموي العنيف (الذي قاده، ذات يوم، إلى إطلاق النار على صهره آصف شوكت): لا يفلّ الانتفاضة إلا الحديد والنار والعنف الأقصى، واستخدام صنوف الأسلحة كافة، من راجمة الصواريخ والمدفعية الثقيلة والدبابة، إلى الحوامة والقاذفة والزوارق الحربية؛ ولا ينفّذ مهمات كهذه إلا الفرقة الرابعة، النخبوية تماماً في تسليحها وامتيازات ضباطها، التي تعادل أكثر من ثلاث فرق في العديد والعدّة، وريثة "جيوش" سالفة خدمت "الحركة التصحيحية" مراراً ("سرايا الدفاع" و"الوحدات الخاصة" و"سرايا الصراع" و"الحرس الجمهوري"...)؛ وليس لهذا الجيش المدجج أن يتحلى بالولاء الأعمى للنظام إلا إذا تمّت غربلته وتنقيته وتطهيره، فرداً فرداً وضابطاً ضابطاً، ليس على أساس طائفي محض، ومناطقي ضيّق في حالات استثنائية، فحسب، بل على أسس عشائرية صرفة تستهدف استقطاب عشيرة الضابط وقريته ومحيطها، قبل أن تُعنى بمزايا الضابط نفسه!   

في مستوى آخر، أمني ـ عسكري، لم يتردد أمثال العميد عاطف نجيب (ابن خالة الأسد، مسؤول الأمن السياسي في محافظة درعا)؛ والعميد ذو الهمة شاليش (ابن عمّة الأسد، ورئيس حرسه الشخصي، والمشرف الفعلي على جهاز أمن الرئاسة)؛ والعميد حافظ مخلوف (ابن خالة الأسد، والضابط الأبرز في الفرع 251 والأقوى نفوذاً في جهاز المخابرات العامة بأسره)؛ واللواء علي مملوك (المدير الرسمي للجهاز ذاته)؛ في ترجمة "الثقة"، التي يزعم الأسد أنها سند نظامه "الممانع"، إلى رصاص حيّ وإراقة دماء. كان هذا خيار العميد نجيب في درعا، حين منح نفسه الحقّ في إطلاق النار دون إبطاء، منذ التظاهرة النوعية الأولى، ودون استشارة رؤسائه المباشرين، وذلك بعد أن أمر بقلع أظافر الأطفال، وأهان وجهاء المدينة في عرضهم. وكان نجيب مجرّد نموذج مطابق لعشرات من زملائه ضباط الأمن، ممّن سوف يسهرون على تعذيب المتظاهرين حتى الموت، والتفاخر بأنّ هذا الشهيد أو ذاك لفظ أنفسه الأخيرة عند أحذية جنرالات مثل جميل حسن،  جمعة الأحمد، فهد جاسم الفريج، غسان بلال، أوس أصلان، محمد ديب زيتون، عبد الفتاح قدسية، علي يونس، ثائر العمر، جامع جامع، محمد خلوف، أو زهير حمد...

في المستوى العقائدي أوكل النظام إلى قيادة حزب البعث أمر استكمال الخديعة بالوسيلة المثلى التي أتقنها الرفاق البعثيون أبد الدهر: الجعجعة بلا طحن! وهكذا، حين كان الرصاص يحصد المتظاهرين المسالمين العزّل، والدبابات تزحف على درعا، وعناصر الأمن في بانياس تطأ رؤوس المواطنين بالأحذية... كانت قيادة الحزب تصدر بيانات حماسية مؤيدة للتحركات الديمقراطية في الشوارع العربية، حتى يكاد المرء يخال انه يقرأ بياناً صادراً عن القوى الثورية في تونس أو مصر أو اليمن! كذلك ارتدّ الخطاب إلى "السنوات الذهبية" للحزب، حين كانت بياناته ترطن بشعارات الوحدة والحرية والإشتراكية، والأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة: "ما يشهده الشارع العربي اليوم غير محصور بعجز النظام الرسمي عن تحسين الأوضاع المعيشية فقط داخل الدولة الوطنية، أو بتعثر تجربة الإصلاح والديمقراطية، بل هو مرتبط بالأذى النفسي الذي يشعر أجيال اليوم بضرورة تحقيق الذات الوطنية وإسهامها في التحرر الداخلي والخارجي مع استمرار الاحتلال وتحديات الهوية والإنتماء"... نعم، صدّقوا أنّ الكلام صادر عن حزب البعث السوري!

في الجانب الآخر، "السياسي" بدوره كما يفترض أهل النظام، ولكن المكمّل لخيارات قمع الإنتفاضة بالمدفع والدبابة والرصاص الحيّ وإطلاق قطعان القنّاصة والشبّيحة واعتقال المتظاهرين بالآلاف وليس بالمئات، أصدر الأسد قراراً جمهورياً بتشكيل "هيئة الحوار الوطني"، التي "تكون مهمتها وضع الأسس لحوار وطني وتحديد آلية عمله وبرنامجه الزمني". ماتت المبادرة في المهد، بالطبع، أو تحوّلت إلى جثة هامدة شاهدة على "الإصلاح" الأقصى الذي يمكن للنظام أن يقترحه؛ إلى جانب أنّ بعض المرضيّ عنهم من قيادة الهيئة (حنين نمر، الأمين العام للحزب الشيوعي السوري ـ جناح يوسف فيصل، على سبيل المثال)، صاروا اليوم من المغضوب عليهم!

ويبقى أنّ رامي مخلوف، ابن خال الأسد وصيرفي النظام الأول، غازل إسرائيل في حوار مشهود مع صحيفة "نيويورك تايمز"، ثمّ خلط الغزل بالعتبى وبعض الوعيد حين ذكّر بأنّ أمن النظام من أمن إسرائيل، فأحرج صفّ "الممانعة" في أربع رياح الأرض، وتلعثم الرفاق والأخوة "الممانعون" وهم يبحثون للصيرفي عن عذر وذريعة. في المنحى ذاته كان ابن خالته، الأسد نفسه، قد قارب الغزل ذاته بطريقة مختلفة، حين أبلغ وفداً من الكونغرس الأمريكي، يترأسه السناتور الديمقراطي جون كيري، استعداده للاستجابة لأية خطة تعيد إحياء أقنية التفاوض مع إسرائيل. آنذاك ذكّرت صحيفة "هآرتز" الإسرائيلية بأنّ العلاقات بين كيري والأسد طيبة للغاية، وأنهما التقيا خمس مرّات خلال سنتين، في دمشق، ومن المرجّح أنّ السناتور الأمريكي لمس، هذه المرّة، رغبة أكبر لدى الأسد في تحريك المفاوضات مجدداً.

وقائع عام العجائب هذا عديدة متنوعة، بيد أنّ الشعب السوري الثائر هو عجيبتها الأهمّ: استهلّ العام من مجازر حوران، وتوسطه من مجازر حماة ودير الزور وحمص، ويختتمه من مجازر جبل الزاوية؛ أكثر إعجازاً، أرقى أداءً، أعظم مقاومة، وأعلى قدرة على توحيد الصفّ الوطني ودحر دسائس النظام على اختلاف أغراضها الخبيثة. المرء يستعيد ذكرى أميرالاي، الذي لم يبصر الانتفاضة؛ وإبراهيم القاشوش، الشهيد المغنّي الذي كانت حنجرته قد أصابت النظام بمسّ من جنون؛ مثلما يستذكر غياث غياث مطر، الرضيع الذي حمل اسم أبيه الشهيد الجميل؛ وعامر مطر، السجين الرقّاوي الرقيق؛ وأكثر من 7000 شهيد، و70 ألف أسير، و30 ألف مفقود مغيّب، وعشرات الآلاف من الجرحى... هو عام خواتم الأحزان السورية، مع ذلك، لأنه موعد تشييع نظام الاستبداد والفساد إلى ساعة الحساب، أمام الشعب، ثمّ إلى سلّة مهملات التاريخ.

الأحد، 18 ديسمبر 2011

أردنّ الانتفاضة السورية

زائر عمّان، وسائر الأراضي الأردنية أغلب الظنّ، يلحظ دون عناء مقدار حضور الانتفاضة السورية في أذهان، كما في وجدان، وعلى لسان، مواطنين تختلف أعمارهم وانتماءاتهم الطبقية أو المهنية أو العقائدية. ومنذ إجراءات المطار، حيث تُطرح على السوري أسئلة "روتينية" ـ كما يصفها السائل، تأدباً بالطبع! ـ لم تكن الإجابات عليها مطلوبة، أو حتى ذات معنى، قبل الانتفاضة؛ وصولاً إلى سائق التاكسي، أو موظف الاستقبال في الفندق، أو النادل في مقهى؛ ثمة تعاطف عارم مع الشعب السوري، وإدانة قصوى للنظام، فضلاً عن هذا المقدار أو ذاك من القلق على سورية المستقبل.

تصحب أصدقاء إلى "مطعم هاشم" الأشهر، في وسط البلد، تكريماً لذلك الطقس العمّاني البديع: تناول الفول والحمّص والفلافل، في ساعة متأخرة من الليل، بل أوّل الفجر كما يتوجب القول. على طاولة مجاورة يتحلّق ثمانية من الشبّان، فلا تملك إلا الإصغاء إلى سجالاتهم الساخنة حول الشأن السوري؛ ليس بين مؤيد للانتفاضة ومعارض لها، والحقّ يُقال، بل بين جازم بأنّ النظام سقط لتوّه، وآخر يرى أنه ما يزال يقاوم بشراسة وإنْ كان يوشك على السقوط؛ وبين ساخط يعترض على أخطاء "المجلس الوطني السوري" وتصريحات برهان غليون إلى صحيفة "وول ستريت جورنال"، (لا سيما العاثرة منها بصفة خاصة، حول مستقبل العلاقات السورية مع "حزب الله" وإيران)، وراضٍ متسامح يتفهم أداء المعارضة السورية ويطالب بمنحها الصبر والفرصة.

في مناسبة أخرى تصغي إلى صديق عربي مؤمن بالانتصار الحتمي للانتفاضة، ولكنه يريد حقن دماء السوريين دون إبطاء، فيساجلك حول ضرورة التدخل العسكري الخارجي، ويروي كيف أنّ وحشية معمّر القذافي أجبرته ـ هو المناهض للحلف الأطلسي، العارف بمطامع القوى الغربية، المتأكد من رائحة النفط خلف مزاعم حماية المدنيين ـ على الترحيب بالتدخّل الأطلسي في ليبيا. وحين تناشده أن يثق، أكثر وأعمق، بسلمية الانتفاضة، وأنّ يتبصّر في أخطار عسكرتها أو تسليحها أو ركونها إلى أجندات سياسية ـ عسكرية خارجية؛ يطلق الصديق الطيب زفرة أسى، ويقول: يا أخي أنت تحلل عقلانياً، وأنا أفكّر عاطفياً!

مناسبة ثالثة تتيح لك الإصغاء، على مبعدة نصف متر، إلى مثقف أردني "ممانع" يسرف في امتداح الحياة الثقافية السورية كما صنعها حزب البعث، وخاصة في جوانبها "الديمقراطية" و"العلمانية" و"التعددية"، فلا تكاد تصدّق أذنيك! ثم يشدّك الفضول أكثر، حين ينتقل صاحبنا إلى تعداد "التحسينات" العمرانية والسياحية التي أدخلها النظام على أحياء دمشق القديمة، فيراودك إحساس بأنه لم يزر العاصمة منذ عقود، ولم يسمع بما اقترفه رامي مخلوف وشركاه من جرائم بحقّ الشام الأموية والأيوبية والفاطمية. وحين يبلغ الجهبذ مرحلة التنظير للانتفاضة، لا تملك سوى الإشفاق عليه إذْ يتوقّع أن يزحف المثقفون العرب، زرافات ووحداناً، إلى دمشق قريباً، للاعتذار من... النظام السوري!

ويردّك مؤتمر صحفي، في مناسبة إطلاق "الهيئة العربية لنصرة الشعب السوري"، إلى مزيج من الامتنان لأصالة الأشقاء في الهيئة الأردنية الأمّ، صحبة أشقاء قدموا من الكويت وليبيا؛ والحزن العميق على مكابدات النازحين السوريين، رغم سخاء أهلهم في أرجاء الأردن كافة؛ والحقد العارم على نظام همجي يقصف ويقتل ويعتقل ويغيّب ويعذّب ويمثّل بالشهداء، كما يشرّدهم في أربع رياح الأرض. تغالبك دمعة، لم تغلبك منذ زمن طويل، حين تصغي إلى شهادة مؤثرة عن نازحين سوريين اضطروا إلى النوم على أرصفة عمّان، فتستذكر ـ بعد أن تحبس الدمعة، وتتماسك ما استطعت إلى هذا سبيلاً ـ تلك الأيقونة المبكّرة: الشعب السوري ما بينذلّ!

وفي الرمثا، حين تزور ما صار يُعرف باسم "مخيّم النازحين السوريين"، على أطراف المدينة وغير بعيد عن الحدود السورية، يصلك التعاطف صريحاً صارخاً من أستاذ في الأنثروبولوجيا، وشيخ عابر طريق يرتدي الزيّ البدوي، ومتبرّع قدّم السكن لعائلة سورية؛ كما تقرأ التعاطف، صامتاً مكتوماً لاعتبارات رسمية، لدى عنصر الأمن الذي يرافق خطواتك، وضابط الجيش المكلّف بحراسة المخيّم. تسمع سيناريوهات شتى عن طرائق نشطاء سوريين (بينهم أصدقاء لك، وصديقات) في عبور الساتر الترابي، ولكن القاسم المشترك الواحد هو أنّ وابل الرصاص من الجهة السورية كان دائماً قرين الزحف في الليل البهيم.

وإذْ تحرص على عدم ذكر الأسماء هنا، تفادياً لأيّ حرج محتمل، رغم ما يلحق من إجحاف بخيّرين كثر يستحقون الامتنان الإسمي، فإنك عاجز تماماً عن إغفال اسم واحد محدد: الطفلة الحورانية سبأ، ابنة السنوات الثلاث، التي التقيت بها في مخيّم الرمثا، وأمدّتك بجمهرة أسباب إضافية للإيمان بأنّ هذا النظام الشقي سقط منذ شهر الانتفاضة الأوّل، في درعا على الأقلّ. كانت سبأ تلتصق بحضن أبيها، ولكنها ـ خلافاً لعشرات الأطفال الذين يلقّنهم أهلهم هتافات الحراك الشعبي المألوفة ـ كانت ترتجل بيسر وطلاقة، وتستبق أباها في سرد وقائع التنكيل بالناس، فتروي عن اقتحام الدبابات، وتردّد مقطعاً من أهزوجة، ولا تتعثر في تعداد أسماء الشهداء!

وها أنك، إزاء أردنّ كهذا، لا تتحرّج البتة في اختيار عنوان العمود؛ فللانتفاضة أردنّها الشعبي الأصيل، وللنظام زبانيته العابرون... في نفاق عابر!  

الأحد، 11 ديسمبر 2011

ربيع "الربع الخالي"


 في عدد حديث من جريدة "الأسبوع الأدبي"، التي تصدر من دمشق وتنطق باسم اتحاد كتّاب النظام السوري، يقرأ المرء افتتاحية بتوقيع محمد إبراهيم حمدان، تقارن بين "الربيع العربي" و"الربع الخالي"، وتخلص إلى التالي: "ومن هنا، ومن خلال النتائج على أرض الواقع، يتبين لنا أن الربيع العربي مسمى أجوف، يهدف إلى وطن أجوف في كل قطر عربي وصولاً إلى قتل العروبة بالأعراب وضرب الإسلام بالمسلمين، لتخلو الساحات من إراداتها المقاومة، تتحول إلى ما يشبه "الربع الخالي" من جميع مقومات الحياة المادية والمعنوية، وهذا هو الهدف الحقيقي للصهيونية العالمية وأدواتها من مستعربين وأعراب ليسوا قطعاً من أولي الألباب"!

وقد يخال المرء أنّ صاحبنا معترض على التسمية، إذْ ثمة بعض الوجاهة في مناقشة النطاق الدلالي للمصطلح، لا سيما ما يتردد في محتواه من أصداء استشراقية أو استعارة آلية من فصول ربيع أوروبية؛ أو أنه، في احتمال آخر، عازف عن استخدام المصطلح لأنه أصلاً يذكّر بربيع دمشق، مطلع الألفية، وحراك المجتمع المدني السوري في أعقاب توريث بشار الأسد. إلا أنّ صاحبنا لا يترك هامشاً للارتياب في أنه ليس ضدّ المصطلح، بل ضدّ الانتفاضات والثورات العربية ذاتها، وفي ذاتها، بالمعنى المطلق، وبصرف النظر عن هذه التسمية أو أية تسمية أخرى، سواء أكانت جوفاء كما يقول، أو حبلى بمعانٍ شتى.

ذلك لأنّ المنخرطين في هذا "الربيع العربي" هم، حسب اكتشاف صاحبنا، "أدوات تجمدت عقولها وإراداتها حول الكراسي وصناعة المآسي لهذه الأمة المنكوبة بأضاليل التاريخ وزيف الشعارات وسوء الممارسات"، يحرّكها "الغرب المتصهين وأتباعه من أعراب الأزلام والأنصاب"؛ ممّن بحثوا عن " مسمى بديل وآلية أخرى للإيقاع بالمنطقة العربية"، بعد "اصطدامهم بجدار الرفض العربي المقاوم"! دليله على هذا أنّ شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" هو خير مثال على "مدلولات ملغومة يضيع الكثيرون في متاهاتها"، هدفها الإيحاء بأنّ "الشعب يرفض النظام والتنظيم فلم يبق أمام الناس سوى الفوضى التي تقود إلى الانهيار والدمار". أيضاً، يتابع الجهبذ، في هذا دليل قاطع على تقاطع جميع الشعارات مهما اختلفت عباراتها وصياغاتها على هدف واحد، هو مصلحة إسرائيل والصهيونية على حساب العرب"!

والحال أنّ هذا الخطاب لم يكن سيدهش إلا السذّج لو أنه أبى ضمّ الانتفاضة السورية إلى "الربيع العربي" الذي طلعت أزاهيره في أكثر من أرض عربية (غير بعيد عن "الربع الخالي" إياه، للمفارقة!)، فاعتبر أنها محض مؤامرة خارجية صهيونية، أمريكية، غربية، عربية، إقليمية... ضدّ نظام "الممانعة" و"المقاومة" في سورية. لكنه وضع الجميع، من تونس إلى مصر وليبيا واليمن والبحرين والسعودية، في "شراك الأحابيل الشيطانية، التي يرسمها الغرب المتصهين لكل موقع وموقف ريادي رافض لإرادات الغرب ومؤامراته الأزلية الأبدية ضد الشرق، من الرومان إلى حروب الفرنجة والاستعمار امتداداً إلى صراع الحضارات ونهاية التاريخ"!

وأن يصدر هذا الخطاب في مجلة ناطقة باسم منظمة تابعة لأجهزة النظام الأمنية أمر لا يُدهش إلا السذّج كذلك، ولكنه لا يحول دون انبثاق دهشة جانبية إذا جاز التعبير، على غرار مبدأ الضرر المجاور ربما: كيف ينجح هذا الخطاب الرثّ في اجتذاب عدد من "المثقفين" العرب المنضوين في اتحادات وروابط تتمتّع ـ على نقيض اتحاد كتّاب سورية ـ بهامش من الحرّيات النقابية، في التنظيم والانتخاب، فضلاً عن حرّيات التعبير في الصحافة الرسمية أو شبه الرسمية أو الخاصة أو الحزبية؟ وكان الأمر سيهون، هنا أيضاً، لو أنّ هؤلاء المنجذبين اكتفوا بالتعبير عن رأي مخالف، فهذا حقّ مطلق لا يجوز انتهاكه البتة؛ لولا أنهم يسارعون، هرولة وليس خبباً في الواقع، إلى النتيجة ذاتها التي يقفز إليها صاحبنا كاتب الإفتتاحية: مؤامرة خارجية! سايكس ـ بيكو جديدة! استهداف المقاومة! كسر الممانعة! تقسيم الأمّة! تدمير العروبة!

المصيبة أنّ قيادات هذه الاتحادات والروابط هي التي ترفع العقيرة في الترويج لكلّ ما اندرج تحت علامات التعجب السابقة، وسواها كثير لا عدّ له ولا حصر، وذلك دون استفتاء القاعدة العريضة لمنتسبي هذه المنظمات، بعد تجيير حقها في إبداء الرأي لصالح تفويض "الرئيس" لنفسه في تمثيلها أينما حلّ وارتحل. وإذْ أفكّر، أوّلاً، في الحال المحزنة التي تعيشها رابطة كتّاب الأردن، المثال الأبرز كما أعتقد؛ فإنّ الإنصاف، فضلاً عن واجب الإشادة بالموقف الشريف والاخلاقي، يقتضيان التذكير بما فعله، قبل أشهر، الصديق الناقد المصري الدكتور مجدي يوسف: لقد تصدّى لرئيس اتحاد كتّاب النظام السوري، حسين جمعة، وأجبره على الانسحاب من ندوة لاتحاد الكتّاب العرب في القاهرة، لأنه لا يمثّل الأدب السوري بقدر ما يترأس جوقة الساكتين على "جريمة ضد الإنسانية تُرتكب بحقّ الشعب السوري".

وذات يوم تهكم بشار الأسد على تعبير "ربيع دمشق"، وفضّل امتداح فصول الخريف والشتاء والصيف. أغلب الظنّ أنه، بدوره، بعد عقد من الزمن، رأى آذار الشام ودرعا وحمص وبانياس وحماة ودير الزور والقامشلي... مجرّد ربوع خالية لن يُزهر فيها الورد الجوري، مهما تعاقبت عليها فصول الربيع. يا له من طبيب عيون!

الجمعة، 9 ديسمبر 2011

النظام السوري والإعلام اليهودي: قصة غرام لدود!


قبل أسابيع قليلة استقرّ بشار الأسد على أندرو غليغان، الصحافي البريطاني المعروف بانحيازه المطلق لإسرائيل، ليكون أوّل صحافي غربي يجري معه حواراً مباشراً منذ انطلاقة الانتفاضة السورية، أواسط أذار (مارس الماضي)؛ كما اختار، بالتالي، صحيفة هي الـ'صنداي تلغراف' التي تُعدّ، إسوة بقرينتها الأمّ، الـ'دايلي تلغراف'، منبراً مكرّساً للدفاع الأعمى عن إسرائيل والصهيونية العالمية واليمين المحافظ. وبالأمس، شاء الأسد أن تكون برباره والترز، الإعلامية الأمريكية اليهودية، صاحبة الحظّ السعيد في إجراء مقابلة متلفزة هي الأولى من نوعها مع قناة رئيسية غربية، الـ ABC، منذ تسعة أشهر. وكلا المقابلتين اكتسبت خصوصيتها، وانتشارها الواسع، من تضافر عاملين: أنّ الجهة التي أجرتها كانت نافذة إعلامياً وسياسياً، وأنّ الأسد زوّد محاوره ومحاورته بمادّة دراماتيكية شدّت الانتباه (الحديث، مع غليغان، عن إحراق المنطقة إذا تعرّض نظامه لأذى؛ ونفي مسؤولية الأسد الشخصية عن أعمال القتل التي ترتكبها أجهزة النظام، في الحوار مع والترز).

ولهذا لا يُثار الارتياب في اختيار والترز وغليغان، تحديداً، إلا لأنّ حصيلة المقابلتين كانت واحدة تقريباً، أي تبييض صفحة النظام والترويج لروايته عن 'العصابات المسلحة' و'المندسين'، فضلاً عن تلميع شخص الأسد وإعادة إنتاجه كسياسي شرق ـ أوسطي 'عصري'، 'منفتح'، 'درس في الغرب'، و'يتقن اللغة الإنكليزية' و'متزوج من سيدة تربّت في الغرب'؛ وأنّ العاصمة السورية 'آمنة' و'مسالمة' و'خالية من التظاهرات'، حتى أنّ والترز صرّحت بأنها تجوّلت في دمشق دون حارس شخصي، وأنها 'لم تشعر في حياتها بالأمان كما شعرت به وهي تتسكع لوحدها في طرقات دمشق! وتلك حصيلة في وسع المرء أن يتفهمها من إعلام إيراني أو صيني أو روسي، ولكن أن تأتي من إعلاميين يهود أو أصدقاء خلّص لإسرائيل، أمر يدعو إلى ترجيح دوافع أخرى أبعد غرضاً من مجرّد تحقيق السبق المهني.

وكما في كلّ مرّة تشهد مساندة إسرائيلية للنظام السوري، والأمثلة هنا كثيرة وجلية ولا تقبل التشكيك، تقفز إلى الذهن عوامل عديدة تديم قصة الغرام العجيبة تلك، بين بلدين يُفترض أنهما في حالة حرب رسمية ومعلنة، حتى إذا كانت لا تُخاض إلا في مستوى الألفاظ. بين أولى العوامل أنّ إسرائيل ما تزال ترى في النظام السوري صيغة مثلى للحفاظ على حال اللاحرب التي تسود في هضبة الجولان المحتلة منذ 1973، وهذا التفضيل لا يشمل الاعتبارات العسكرية وحدها، بل تلك السياسية والاقتصادية أيضاً. ومن المنطقي أن يكون نقيض النظام، أي دولة الحقّ والقانون والديمقراطية والمنعة الوطنية، وكلّ ما تنطوي عليه أهداف الانتفاضة الشعبية، بمثابة انتكاسة قصوى للصيغة المثلى، وتقويض لمبدأ التعايش الهادىء والسلام الفعلي على الأرض. 

كذلك لا تنسى إسرائيل لائحة الأدوار التي لعبها النظام السوري على مدى 41 سنة من حكم آل الأسد، واستهدفت صالح النظام ومنجاته في المقام الأول بالطبع؛ ولكنها، في المقام الثاني، كانت تسدي خدمات كبرى لمصالح إسرائيل، جلّها ارتدى صفة ستراتيجية بعيدة الأثر، وليست تكتيكية عابرة فحسب. تلك الأدوار شهدتها الساحة اللبنانية، واللبنانية ـ الفلسطينية، والفلسطينية ـ الفلسطينية، فلم تسفر عن تسديد ضربات موجعة لأعداء إسرائيل في صفوف الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، فحسب؛ بل ساعدت كذلك في ترقية نموذج 'حزب الله' إلى مستوى الفزّاعة الرهيبة التي تستوجب على الولايات المتحدة، ثمّ الحلف الأطلسي، تزويد إسرائيل بأحدث الأسلحة (الرادعة، ولكن الهجومية أيضاً، بالطبع)، والسخاء أكثر فأكثر في تقديم المساعدات المالية وتوفير الرعاية الاقتصادية.

غير أنّ النموذج الإعلامي الأخطر في تمثيل قصة الغرام بين النظام السوري وإسرائيل، ليس ذاك الذي تقترحه والترز، وقبلها غليغان، وآخرون سواهما، بل ما اقترحه ويواصل اقتراحه الكاتب الأمريكي ـ اليهودي الشهير دانييل بايبس. هذا، للتذكير، رجل كاره للعرب، وقبلهم المسلمين، بامتياز فريد يُحسب له وحده حقاً، ليس لأنه رافع شعارات استيهامية أو عنصرية، سياسية وفكرية وتاريخية فقط؛ بل كذلك، وجوهرياً، لأنّ بايبس أشدّ صهيونية من تيودور هرتزل نفسه ربما، وأكثر إسرائيلية من بنيامين نتنياهو، حتى قيل إنه آخر الليكوديين على الأرض. ذكاء الرجل، وخطورة مقاربته، فضلاً عن خبثها الدفين بالطبع، أنه لا يقع في السخف الذي يكرره أمثال والترز وغليغان (في امتداح صفات الأسد 'العصرية'، خصوصاً)، بل يذهب مباشرة إلى ما هو أبعد أثراً وأذى: أنّ وجود النظام ضمانة لعدم انجراف سورية إلى الحرب الأهلية، وإلى 'الصرع السنّي ـ العلوي' حسب توصيفه. 

ونصيب الانتفاضة السورية من تحليلاته هو ذات النصيب الذي يمحضه لانتفاضات تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، إذْ ينتهي إلى ربط مصائر الشعوب المنتفضة بمعادلات جيو ـ سياسية إقليمية أو دولية، مثل 'الحرب الباردة الشرق ـ أوسطية'، أو 'الشطرنج الإقليمي'، أو التنافس الفارسي (الإيراني) ـ العثماني (التركي)...ولكنه لا يرى، مرّة واحدة، أنّ إرادة الشعوب، وتطلعها إلى الحرّية والكرامة والديمقراطية، وثورتها على أنظمة مستبدة فاسدة وراثية وعائلية، يمكن أن تكون عوامل تحريك أولى، بل الأكبر، في انطلاق تلك الانتفاضات (التي يحصرها، في كلّ حال، بين 'التمرّد' و'العصيان'، وليس الإنتفاضة أو الثورة). خصوصيتنا، نحن السوريين، أننا في نظره لسنا دعاة إصلاح وطلاّب مستقبل أفضل، بل ضحايا 'هوّة لا تُجسر' بين الطائفتين، السنّة والعلويين؛ وشارعنا السياسي ليس معارضاً، بل هو ضحية الاقتتال الطائفي!

هذه أذكى بكثير، وأشدّ خبثاً مرّة أخرى، من تلك الحماقات التي تسردها والترز، التي أسعدها ذلك 'الغداء الطويل' مع الأسد وقرينته؛ أو تلك التي يحكيها غليغان، المندهش من أنّ مقرّ إقامة الاسد لا يحرسه إلا 'عسكري إنكشاري' واحد! ذلك لأنّ ما يقوله بايبس هو التالي، في خلاصة الرسالة المبطنة: هذا دكتاتور، بالفعل؛ يداه مضرّجتان بدماء السوريين، لا ريب؛ وهو، وأفراد عائلته من أبناء عمومة وخؤولة، يحكمون سورية بالحديد والنار، وينهبون خيراتها، لا خلاف على هذا؛ ولا شك، أيضاً، في أنه حليف لإيران، وهو ممرّ السلاح إلى 'حزب الله'... كلّ هذا صحيح، ولكن تخيّلوا لحظة واحدة أنّ هذا النظام سقط غداً أو بعد غد؟ فكّروا في عواقب الحرب الأهلية (وبايبس، هنا، لا يفكّر في السوريين بقدر اهتمامه بنصيب إسرائيل من العواقب)، خاصة حين يكون التشدد الإسلامي هو البديل. ألا ترون نتائج الانتخابات في تونس ومصر، ثمّ المغرب، وقريباً ليبيا، واليمن؟

وفي أحدث تعليقاته على الانتفاضة السورية (وما أكثرها، في موقعه الشخصي) يكتب بايبس أنه يعمل على الملف السوري منذ سنة 1985، وظلّ على الدوام مقتنعاً بأنّ الانقسام السنّي ـ العلوي هو جوهر السياسة في البلد. وفي دراسته 'إحكام القبضة العلوية على السلطة في سورية'، 1989، أوضح كيف تمكنت جماعة صغيرة وضعيفة تاريخياً من بلوغ الذروة؛ كما بيّن في دراسة ثانية، عنوانها 'سورية بعد الأسد'، 1987، أنّ الانقسام الإثني، هذه المرّة، آت إلى سورية لا محالة. بيد أنه لا يقول إنّ ذلك الانقسام لم يقع، حتى الساعة في الواقع، بعد مرور 24 سنة على نبوءاته المشؤومة، من جهة؛ كما يتجاهل أنّ 13 سنة انقضت بعد أن تنبأ برحيل الأسد (استناداً إلى المعلومات عن مرضه، آنذاك)، ظلّ فيها الأخير حياً يرزق، بل نجح في تجاوز عثرة وفاة نجله باسل، وريثه الأوّل، وامتلك الوقت لتوريث نجله الثاني، بشار!

وفي أواخر تموز (يوليو) الماضي، حين اكتُشفت في مدينة حمص جثث ثلاثة مواطنين من أبناء الطائفة العلوية، كتب بايبس تعليقاً على الحادثة، يكاد يصرخ: ألم أقل لكم؟ ها هي الشرارة التي ستشعل الحرب الأهلية! وحين لم تستعر أي نار، وانطفأت الشرارة على الفور، أخلد بايبس إلى الصمت مجدداً، قبل أن يكسره مع إعلان تشكيل 'الجيش السوري الحرّ'، فكتب يقول ما معناه: أليس هذا العقيد، رياض الأسعد، هو قائد الحرب الأهلية؟ ولأنّ الأسعد لم يكتسب هذه الصفة حتى الساعة، فقد عاد بايبس إلى إلى حمص مجدداً، متكئاً هذه المرّة على تقرير صحافي نشرته 'نيويورك تايمز'، مطلع تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، يسير عنوانه على ما يشتهي صاحبنا تماماً: 'مدينة كبرى في سورية تتعالى فيها نبرة الحرب الأهلية'. آخر اكتشافاته في هذا المضمار كان تحليله لتصريح للعقيد الأسعد، يقرّ فيه بأنّ الغالبية الساحقة من أفراد 'الجيش السوري الحرّ' هم من... السنةّ!

ولا يخفى أنّ تحليلات مثل هذه تستخدم معلومة صحيحة، لكنها تتكىء على دلالات ليست كامنة فيها بالضرورة لكي تقفز إلى نتائج خاطئة، أو مطلقة، بينها دنوّ الحرب الأهلية مثلاً. صحيح أنّ الكثير من المعلومات يمكن أن يفضي إلى هذا المستوى أو ذاك من تلمّس أخطار مواجهات ذات طابع طائفي، إلا أنّ تلك المواجهات تظلّ فردية محدودة النطاق، يرتكبها أفراد في سياقات احتقان محددة، ولا تنخرط فيها طوائف، أو حتى شرائح متجانسة سياسياً واجتماعياً، من طائفة أو أخرى. وعلى سبيل المثال النقيض، إذا كانت الغالبية الساحقة من منتسبي الفرقة الرابعة، ضباطاً وأفراداً، هم من أبناء الطائفة العلوية؛ فهل يعني هذا أنّ الفرقة تخوض حروبها ضدّ المدن والبلدات والقرى السورية دفاعاً عن الطائفة العلوية؟ كلا، بالطبع، لأنها إنما تدافع عن بقاء النظام ذاته، وهو متعدد الطوائف بالضرورة، عند مصالحه العليا تتكامل وتلتقي مصالح أطرافه جمعاء.

ولا يخفى، كذلك، أنّ بايبس ليس الوحيد الذي يهجس باحتمالات الحرب الأهلية، إذْ أنّ مناقشة الأمر على نحو رصين وموضوعي ليست أمراً محرّماً، ولعلّها صارت أكثر ضرورة من ذي قبل، مع اشتداد انكباب النظام على منهجة الأعمال الكفيلة بتسعير الاحتقانات الطائفية. بيد أنّ بايبس لا يلهج بهذا السيناريو منذ ربع قرن ونيف، ولا يواصل التنبؤ بوقوعه حتماً، بين ليلة وضحاها، وليس بين شهر وآخر، فحسب؛ بل هو أخبث مَنْ يطرح الكابوس الكارثي في صيغة تطهيرية وتحذيرية في آن، معادلتها بسيطة بقدر قباحتها: دعوا هذا النظام على قيد الحياة، فهو الضامن لكم ـ في الغرب عموماً، وفي الشرق أيضاً، ولكن في إسرائيل أوّلاً ـ من شرور انقسام سورية إلى طوائف وشيع ودويلات!

وإذا جاز أنّ النظام السوري يعيش قصة غرام عجيبة مع بعض الإعلاميين اليهود، وبالذات في هذه الأيام حين صارت نهايته على مرمى البصر، فإنّ دانييل بايبس يختلف عن برباره والترز وأندرو غليغان في أنّ غرامه ليس الأعجب فقط، بل هو اللدود الألدّ أيضاً!

الأحد، 4 ديسمبر 2011

اين المفرّ؟

 
يوم أمس نشرت أسبوعية الـ"أوبزرفر" البريطانية تقريراً من طراز خاصّ ونادر في الصحافة اليومية، عنوانه "وجهاً لوجه مع رادوفان كراجيتش"، وقّعه الصحافي البريطاني اللامع إد فليامي، ويروي وقائع لقائَين مع الزعيم الصربي السابق ومجرم الحرب المتورّط مباشرة في هندسة وتنفيذ مجازر عديدة، أشهرها تلك التي وقعت في سريبرنيتشا. اللقاء الأوّل جرى داخل زنزانة كراجيتش، والثاني خلال إحدى الجلسات أمام المحكمة الخاصة بجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة. الطريف، هنا، أنّ كراجيتش هو الذي استدعى فليامي بصفة شاهد، إذْ ينتظر أن تكون الشهادة لصالحه في نهاية المطاف، وستساعد على تبرئته!

تلك حال سوريالية، كما يصفها فليامي نفسه، محقاً بالطبع، لأنّ هذا الصحافي الشجاع كان أبرز، وبين أوائل، الذين سلّطوا الأضواء على معسكر أومارسكا من داخله، وذلك في تقرير شهير نشرته الـ "غارديان" االبريطانية بتاريخ 7/8/1992، بعنوان "عار معسكر أومارسكا". آنذاك كتب فليامي أنّ هذا المكان (الذي لا يبعد إلا قليلاً عن مرابع فينيسا الإيطالية!) "واحد من أكثر معسكرات الاعتقال جهنمية في زماننا. إنه المكان الذي يصبح فيه القتل والقسوة وشعائر الإذلال شكلاً من أشكال التسلية الشائهة. الحرّاس سكارى أغلب الأوقات، يغنّون وهم يعذّبون. يضربون الأسرى ويشوّهونهم ويذبحونهم".

ويتابع فليامي: "ثمة تلك الشهوة العارمة لإجبار السجينات على ممارسة الجنس عن طريق الفم، وإجبار السجناء على مضاجعة الحيوانات، وتشويه الأعضاء الجنسية. أحد السجناء أُجبر على عضّ خصيتَيْ سجين آخر، كان قد مات عندما حُشرت حمامة في فمه لكتم صرخاته. وفي نهاية حفلات العنف الجماعية هذه ـ والتي كانت تجري في ساحة ضيّقة أو في مبنيَين ملحقَين بالمعسكر، يُدعى الأوّل البيت الأبيض والثاني البيت الأحمر ـ يُجبر أصدقاء الموتى على تحميل جثث أصدقائهم، التي انقلبت إلى جِيَف في الواقع، في شاحنات أو تكديسهم باستخدام البلدوزر"....

في ما بعد، سوف تتكشف فظائع أخرى، وستستمع محكمة لاهاي إلى شهادات من النوع التالي: يقترب جندي صربي من امرأة مسلمة ويسألها لماذا يبكي طفلها؟ وتردّ المرأة: إنه جائع يا سيدي. وبضربة واحدة بارعة من حربته الحادّة يذبح الصربي الطفل ويقول: انتهت المشكلة. إنه الآن غير جائع. جندي آخر يستشيط غيظاً لأنّ الأمّ تعرّضت لإغماء فوري وتهاوت أرضاً، فيهدد بإجبارها على أكل أمعاء الطفل إذا لم تنهض واقفة خلال دقيقة واحدة. بعد قليل يصل الجنرال راتكو ملاديش إلى مدينة سريبرنيتشا "المحررة" لتوّها من أيدي المسلمين، ويلقي خطاباً في جنوده وفي آلاف المسلمين الذين سيُقادون إلى المذبحة الجماعية أو التهجير القسري. يستعيد ذكرى عصيان صربي ضدّ الأتراك العثمانيين وقع قبل قرن كامل، ويقول: "هاقد عادت سريبرنيتشا صربية، واليوم اكتمل ثأرنا ضدّ الله Allah".

وفي صيف 2008 عاد فليامي بالذاكرة إلى المواطن البوسني المسلم فكرت عليتش، الذي تصدّر صورة شهيرة نشرتها وكالة رويترز سنة 1992، سرعان ما شاعت في أربع رياح الأرض، وصار صاحبها شهيراً بين ليلة وضحاها، لأنه انقلب إلى تجسيد بليغ، ولكنه رهيب تماماً، للفظائع والمجازر وجرائم الحرب التي تعرّض لها أهل البوسنة على يد الصرب. كان فكرت يقف خلف الأسلاك الشائكة، في معسكر اعتقال ترنوبولي، عاري الصدر، وأضلاعه النافرة تكاد تشقّ ما تبقى من جلد على عظام جسده الهزيل، الأقرب إلى هيكل عظمي شاخص. بعد 16 سنة بدا عليتش وقد استردّ بعض مظاهر إنسانيته، ولكنه ما يزال ينتظر مَن يقول له: إغفرْ لنا! صحيح أنّ كرادجيتش، صاحب الأمر بتنفيذ غالبية الأهوال ضدّ مسلمي البوسنة، صار اليوم خلف القضبان؛ ولكن أيّ عزاء لضحية مثل عليتش إذا كان مصير 3205 من مواطني البوسنة ما يزال قيد المجهول حتى اليوم، في مدافن جماعية مجهولة على الأرجح، وذلك رغم كلّ ما نُبش منها حتى الآن؟

وفي لاهاي، أثناء جلسة المحاكمة، لم يتردد كراجيتش في "إحراج" فليامي حين سأله: هل تعتقد أنك كنت موضوعياً في مهنتك الصحفية؟ فلم يتردد الصحافي، بدوره، حين ميّز بين الموضوعية والحياد، وأجاب: محال عليّ أن أكون محايداً بين القاتل والقتيل، بين المغتصِب والمغتصَبة، وبين حرّاس المعسكر وسجنائه! ورغم جوانبها السوريالية، التي كان أحدثها استدعاء فليامي لكي يشهد لصالح لجلاد ضدّ الضحية، فإنّ محاكمة كراجيتش تذكّر بأنّ جرائم حرب مماثلة ما تزال تُرتكب هنا وهناك في العالم المعاصر، لعلّ أبشعها اليوم ما تقترفه أجهزة النظام السوري من فظائع، فردية أو جماعية، فيها الاعتقال التعسفي والخطف والتعذيب والاغتصاب والتصفية الجسدية والتمثيل بالجثث، وفيها ألوان جديدة من التنكيل هي الأبشع على امتداد تاريخ الإنسانية. كذلك فإنّ شهود الزور عليها كثر، عراة من كلّ ضمير، نبّاحون خلف الذئاب، كذبة ومنافقون ومتواطئون وشركاء، يدّعون التباكي على سورية فلا تختلط دوعهم الزائفة إلا بدماء السوريين، يزعمون "الموضوعية" و"الوطنية" و"الممانعة" فيستبقون النظام ذاته في ما لا يتجاسر على إعلانه: نعي الانتفاضة.   

ويبقى، بالطبع، ذلك الدرس العتيق العريق الذي حفظه التاريخ للطغاة ومجرمي الحرب: أين المفرّ؟ وهل من منجاة، طال الزمان أم قصر؟

الخميس، 1 ديسمبر 2011

المثقف السوري والانتفاضة: خمسة أنماط من خيانة الرسالة

صاروا أكثر من طابور ـ أوّل أو خامس، إذْ لم تعد ثمة فروقات تميّز ـ أولئك الذين يتباكون على مستقبل سورية، وتنهمر دموعهم مدرارة لأنّ البلد عرضة لمخاطر خطوب وحروب شتى، من كلّ الضروب: الأهلية، والطائفية، والإثنية، والمناطقية؛ بين المدينة والريف، أو بين الشباب والشيوخ، أو بين جيش نظامي كلاسيكي وجيش فئوي موالٍ، أو بين طبقات فقيرة محدودة الدخل وأخرى متوسطة أو متبرجزة، أو بين دعاة التدخل الخارجي ورافضيه، وصفّ "العسكرة" مقابل صفّ "السلمية؛ وكذلك، طبعاً، بين "الإسلاميين" و"العلمانيين"، و... "المحافظين" ضدّ الحداثيين"!

طبائع البكاء تتفاوت، إلى هذا، فنعثر أوّلاً على مثقف سكت دهر الانتفاضة كلّه، وليس بعضه أو قليله؛ ثمّ ارتأى أن يكسر قرابة تسعة أشهر من الصمت، لكي يهتف من سويداء قلبه: أواه يا سورية، يا بلدي الحبيب، إلى أين يسير بك أبناؤك الجهلة السفهاء المغامرون! صاحب هذا الخطاب يلوذ بالميلودراما، دون أن يقرّ بأنها هكذا بالطبع، مع حرص شديد (لكنه مفضوح تماماً) على عدم الإيحاء بنبرة عاطفية فاقعة، او أخرى شعبوية رخيصة. شعاره هو إنقاذ سورية من مصير أسود ينتظرها، عواقبه وخيمة لا عدّ لها ولا حصر؛ وقراءته تقول إنّ ما يشهده البلد ليس انتفاضة من أجل الديمقراطية والحرية، بل هو سلسلة مؤامرات خارجية، تقودها قوى غربية وأطلسية وعثمانية وعربية، وتهدف إلى تقسيم البلد وإعادة إنتاج سايكس ـ بيكو، على نحو أسوأ وأدهى.

في صياغة أخرى، يقول هذا المثقف إنّ الانتفاضة هي مصدر الخطر، واستمرارها هو الذي يغري القوى الكبرى بزيادة المؤامرات، وبالتالي يستدرج التدخل الخارجي، ويعرّض سورية إلى ما تعرّضت له بلدان مثل ليبيا والعراق وأفغانستان. وإذا كان لا يتجاسر على القول بأنّ الانتفاضة لم تكن ضرورية أصلاً، لكي يتجاسر استطراداً على المطالبة بوقفها فوراً؛ فإنّ المثقف من هذا النمط لا ينتهي عملياً إلا إلى هذا الطلب، خاصة حين يتكشف برنامجه البسيط للغاية: دحر المؤامرات عن طريق تكاتف الشعب مع السلطة، والنزوع إلى العقل وليس الجهل، ونبذ الفرقة بين مكونات المجتمع؛ و، أخيراً... قيام الحاكم ببعض الإصلاحات السياسية والإدارية التي يطالب بها المحكوم، فلا خلاف على هذا التفصيل! 

 نعثر، كذلك، على مَنْ عدّ ذاته في صفّ الانتفاضة، فكتب عنها، ونظّر لها، وسمّى نفسه ناطقاً باسمها، فوضع الكرة في ملعب النظام وحده، وعلى عاتق السلطة ألقى مسؤولية المسير بسورية إلى برّ الأمان، أو دفعها إلى هاوية المجهول. وحين يتسامح قليلاً مع السلطة، فإنّ ذلك المثقف يشرط التسامح بسؤال قاطع: هل "النخب الحاكمة والمالكة" قادرة على اجتياز الاختبار الذي يطرحه عليها الحراك الشعبي؟ هل ستتعاون مع الشعب، وخاصة شبابه، فتصلح ما أفسدته ممارساتها الأمنية خلال عقود طويلة؟ وهو، كذلك، اعتاد الكتابة عن الإصلاح بوصفه ردماً للهوة بين الواقع والفكر، أي بين "واقع البؤس" الذي تمثله الأنظمة القائمة، وفكر المستقبل الذي تطمح إليه الاجيال الشابة وتسعى إلى خلقه.

لم نقرأ له فزعاً من هؤلاء الشباب، أو قدحاً بقدراتهم على ممارسة السياسة كـ"فنّ"، أو إعراضاً عن شعارات يرفعونها دون أن يدركوا محتواها (مثل "الشعب يريد إسقاط النظام"، مثلاً)، أو سخرية من انجرارهم إلى برامج غير قابلة للتطبيق، أو تخوّفاً من انزلاقهم إلى العسكرة والعنف المضادّ والنزوعات الطائفية. وما دام قد فعل لاحقاً، وليس سابقاً، فإنّ من المنطقي محاسبته ـ بوصفه المثقف الطليعي الرائد والرائي ـ على أنه لم يبصر في الوقت المناسب، ولم يتبصّر فينذر ويحذّر؛ وهو، استطراداً، مسؤول بدوره عن قسط من "الأمراض" التي يشخصها اليوم، في غمرة ضجيج وعجيج، وكان قبلئذ عاجزاً عن إدراكها والتوعية إزاء مخاطرها، أو ساكتاً عنها لغاية في نفسه. لقد بلغ اليوم مرحلة انهيار مقادير كبيرة من التطابق بين ما كتب ونظّر ونطق، وبين ما قاله ويقوله الشارع الشعبي، وما فعله ويفعله، قبلئذ وبعدئذ؛ فكان طبيعياً أن تنهار تعاقداته القديمة، فينضوي في صفّ العويل والرثاء والوقوف على أطلال، أو تكاد، هي في نظره كلّ ما تبقى من الانتفاضة!

نمط ثالث ما يزال مؤمناً بأنّ نصر الشعب قادم لا محالة، لأنّ الميزان بين الأمل والقنوط لم يختلّ عنده تماماً لصالح الشعور الأخير، ولأنّ ما يركن إليه من عتاد فكري وعدّة تحليلة وانحيازات أخلاقية تقوده، متضافرة متكاملة، إلى المآل الوحيد المنظور منطقياً: سقوط النظام. إنه ليس في قلب الحراك الشعبي تماماً، ولكنه ليس على هوامشه أيضاً؛ ونجده تارة يدافع عن طروحات "المجلس الوطني السوري"، فيرى أنها تمثّل أفكاره مثلما تمثّل قطاعات واسعة من المعارضة وأبناء الشعب، دون أن نفتقده تماماً في ملتقيات "هيئة التنسيق" أو مجموعات المعارضة الأخرى التي تنادي بأفكار مرحلية أو ستراتيجية تجعلها على مبعدة من المجلس. خطابه عن السلطة ليس قاطعاً، بمعنى الإعراب عن معارضة جذرية لا تترك هامشاً ملموساً لتأويلها على غير وجهتها؛ لكنه، من جانب آخر، ليس البتة محابياً للنظام، على الأقلّ في مستوى ما توفّره القرائن من حصيلة عن مواقفه.  

تلك خصال لا تعيبه، غنيّ عن القول، بل تبدو أقرب إلى ترسيخ التكامل منها إلى إثارة التناقض؛ إلا... إذا صار صاحبنا هذا أسير الفزع من "كوابيس" شتى، هي تنويعات أخرى على ضروب الخطوب والحروب، فانقلبت الخصال ذاتها عليه، بعد أن كانت له! الخطر، هنا، أنّ ديناميات ارتباطه بالمعارضة، وصورته في ناظر الحراك الشعبي، خاصة لدى أولئك الذين يتماهون مباشرة مع شخصيته الفكرية والسياسية أو حتى الإنسانية، سوف تصاب بالعطالة، لكي لا يخشى المرء من تحوّلها إلى عبء وعالة (كما يحدث في المشاهد المحزنة، حين ترفع بعض التظاهرات لافتات ضدّ شخصيات معارضة، بالاسم). وليس الأمر أنّ الصمت ستار حاجب، وهو بالفعل قد يكون هكذا، بل في أنه قد يفضي إلى سوء فهم، وإلى إساءة تفسير أيضاً. 

النمط الرابع يعتلي برج عاج، على غرار مشهد خيانة المثقف الأكثر رسوخاً في التاريخ والتعريفات الكلاسيكية، فيضع النظام والمعارضة على قدم المساواة في الزلل، ويخضعها لسيرورات تخطئةٍ تكاد تنهض على ركائز متشابهة لا تفرّق بين شبيح ومتظاهر، وبين قاتل وقتيل. فإذا كبّر بعض الناس، في هذا الحيّ الشعبي المحافظ أو ذاك، عندما ينتهي عدنان العرعور من أحاديثه الليلية النارية، أو إذا هتف المتظاهرون بأنه لا معين لهم إلا الله، فاستجاروا بالذات الإلهية وحدها؛ فإنّ الذنب مشترَك بالمناصفة، تقريباً، بين نظام يحابي أمثال الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، ومعارضة تحابي أمثال محمد رياض الشقفة! أمّا إذا أعلن المرء إدانته المطلقة لـ "ديمقراطية قصّ الألسن" كما ينادي بها العرعور، فإنّ هذا السلوك لا يكفي، والمرء مطالَب بعدها باستكمال شهادة حسن السلوك، وتأثيم كلّ وأيّ متظاهر يكبّر عند سماع العرعور!

ولا يستكمل هذا النمط إلا نموذج خامس لمثقف يُلصق تهمة خيانة سورية (وبعضهم لا يتورع عن الذهاب أبعد، فيتحدّث عن "خيانة الأمة"!) بكلّ مَنْ لا يدين ما صار يُعرف باسم "عسكرة الانتفاضة"، إدانة جازمة قاطعة حاسمة، لا هامش فيها للأخذ أو الردّ أو الجدل أو تقليب الرأي. العسكرة هي نهاية الانتفاضة، والانتفاضة هي اللاعسكرة بالضرورة، وهذا حكم باتّ لا استئناف فيه هنا أيضاً، حتى إذا كانت غالبية المرابطين في هذا الصفّ توافق على إقرار مزدوج، ثمّ تعمد بعد الموافقة إلى وأده في المهد: انّ عنف النظام المتزايد، المستشرس أكثر والمتغوّل أشدّ، هو الذي يدفع المتظاهرين إلى التسلّح، دفاعاً عن النفس والعرض والرزق، غالباً؛ وأنّ هذا الحقّ مشروع، وتعترف به شرائع الكون منذ بدء الخليقة. الجانب الأخطر في هذا النموذج هو ذلك الافتراض الضمني الذي يقول إنّ الشعب، وليس النظام، هو المتهَم بالعسكرة، وبالتالي فإنّ لجوء بعض المواطنين إلى حمل السلاح ليس نتيجة للسياسات الأمنية والعسكرية الهمجية التي ينتهجها النظام لكسر الانتفاضة، بل هو ردّ فعل غير صحي، وغير ثوري، وغير سلمي.

والحال أنّ التسلّح، مثل العسكرة والتخندقات الدينية والطائفية والإثنية، تطورات كفيلة بإلحاق الأذى الشديد بثقافة الاحتجاج والمقاومة السلمية والتعبئة الجماهيرية وروح الاجتماع الشعبي، وسواها كثير من الخصال العبقرية التي اجترحتها الانتفاضة السورية طيلة الأشهر الثمانية الماضية. لكنّ النقاش فيها ليس أحادياً سكونياً، أو مانوياً جامداً لا مساحة فيه إلا لـ"نعم" أو "لا"، أسود أو أبيض، سلمية مطلقة أو عسكرة لا تقلّ إطلاقاً، واقعية "فنّ" السياسة أو ميتافيزيقا "فنّ" التخوين. صحيح، بالفعل، أنّ على الانتفاضة أن لا تسقط في أحابيل العسكرة، ولا فخاخ التسليح والتسلّح أياً كانت مصادرها؛ ولكن هل يمكن حمل مسطرة قياس لا يأتيها الباطل أبداً، تُرفع مثل سيف بتار في وجه كلّ من حمل السلاح، دون تمحيص في الأسباب التي دفعته إلى هذا، كيف، متى، وأين...؟

ولو كان ممثّلو هذه الأنماط الخمسة من أهل النظام وأنصاره، على أي نحو، لهان الأمر واتضحت الدوافع الخافية دون كبير عناء، إذْ لن تكون مواقفهم أكثر من زخرف متكلف يميّزهم عن تلك الدفاعات التي يلهج بها الموالون عادة، مراراً وتكراراً، حتى صارت أشبه بعلامة فارقة، ديماغوجية ودعاوية صرفة. لكنّ المتباكين أولئك يتوزعون على فئات متباينة، سياسياً واجتماعياً وفكرياً وثقافياً، احتُسبت على الدوام في رصيد "المعارضة"، بالمعنى الواسع الفضفاض للمصطلح؛ والغالبية بينهم تعرّضوا لأفانين قمع النظام، بين ملاحقة واعتقال وأحكام قضائية تعسفية واضطهاد مدني، فضلاً عن طراز خاصّ من التنكيل تعرّضوا له على يد محيط اجتماعي أو طائفي موالٍ للنظام، اعتبرهم مارقين على الجماعة، منشقّين عن الإجماع الأهلي.

هي، بذلك، تنويعات سورية على خيانة عتيقة أدمن المثقف ارتكابها على مدار التاريخ، في كلّ المجتمعات، خاصة خلال أطوار التأزم والثورة، حين تتطب الحياة موقفاً بالغ الوضوح من حيث الانحياز إلى صفّ الحرّية، أو الالتحاق بالطغيان. الموقف الثالث، حتى حين يسمّونه "توسطات" من باب التجميل، هو في نهاية المطاف انضواء ضدّ الحقّ، مقنّع كثيراً أو قليلاً، لكنه يخون رسالة المثقف. يخونها كثيرااً هذه المرّة، وليس قليلاً!