وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 11 أغسطس 2014

عرسال: هل هي تنويع جديد لمحاصصات فاسدة؟

 إذا كانت "داعش" قد قدّمت للنظام السوري هدايا كثيرة، منذ صعودها كتنظيم عسكري مواظب على ارتكاب الجرائم الفظائع والقبائح التي توفّر نظائر مطابقة لما ترتكبه وحدات بشار الأسد العسكرية، وأجهزته، وميليشياته الطائفية منها بصفة خاصة؛ أفليس طبيعياً، والحال هذه، أن تقدّم "داعش" هدايا مماثلة لحلفاء النظام، في لبنان والعراق تحديداً؟ أليس ما جرى في عرسال، مراراً قبلئذ، في المواجهات مع "حزب الله"، وما يجري منذ أيام في مواجهات جديدة مع الجيش اللبناني، مدعوماً من "حزب الله" و"أمل" وفصائل أخرى حليفة للنظام السوري؛ بمثابة "ستراتيجية مخرج"، حتى إذا كانت ركيكة ومفضوحة ومكشوفة، يعتمدها حلفاء الأسد اللبنانيون لتبرير قتالهم إلى جانب نظامه، داخل سورية؟

خلاصة قد تبدو بديهية، في نهاية المطاف، او حتى بسيطة وتبسيطية؛ الأمر الذي لا يلغي أهميتها في التحريض الميداني ضدّ النزوح السوري في لبنان، بادىء ذي بدء، وفي الخلفية البعيدة (كما تُقرأ ردود الفعل الغاضبة في اللبوة، وقطع الطريق على قافلة المساعدات الإنسانية إلى النازحين السوريين المحاصرين في عرسال)؛ وكذلك، استطراداً، وفي الخلفية السياسية الأقرب، ضدّ قوى الانتفاضة السورية، التي تعاني من "داعش" أكثر بكثير ممّا عانت عرسال. كذلك لا ينبغي لخلاصة كهذه أن تطمس حقيقة أخرى جوهرية، موازية بقدر ما هي وازنة، في المعادلة ذاتها: أنّ جماهير عرسال، في سوادهم الأعظم، كانوا على الدوام متعاطفين مع الانتفاضة، وقدّموا ما استطاعوا لإغاثة السوريين، حتى حين كانت طائرات الأسد تقصف بيوتهم، على مرأى ومسمع من وحدات الجيش اللبناني.

خلاصة أخرى، بديهية بدورها، وإنْ كانت أكثر احتفاءً بالتهويل الدرامي؛ هي أنّ مناخات "الالتفاف الوطني" الحارّ حول الجيش اللبناني، واتفاق جميع القوى والساسة والفئات على اجترار العبارة المكرورة التي تقول إنّ هذا الجيش "خطّ أحمر"... كانت، في الواقع، تعيد عزف أسطوانات مشروخة، كاذبة تماماً، ومنافقة مرائية، تفيد العكس... تماماً، أو تكاد: أنّ هذا الجيش منتهَك الكرامة، عسكرياً ومعنوياً، على يد مسلّحي "حزب الله" أوّلاً، والميليشيات كافة ثانياً؛ وأنّ الجوهر الأقصى لوظائفه بات منحصراً في... ترقية قائد الجيش إلى رتبة رئيس الجمهورية، حيث يسود الوئام الوطني ساعة، وتهيمن الانشطارات الطائفية والمذهبية والطبقية كلّ ساعة.

وللوهلة الأولى، قد يبدو مدهشاً أنّ هذه الخلاصة تعيد ترجيع أصداء ترددت عشية الانتخابات النيابية، صيف 2009، حين أكّدت النتائج مآلَيْن، منتظَرَيْن تماماً في الواقع: انتخاب نبيه برّي، لولاية خامسة، في رئاسة المجلس النيابي، أي المؤسسة ذاتها التي عطّلها عن سابق قصد وانحياز سياسي، وحوّلها إلى أضحوكة، طيلة أشهر؛ وتكريس سلطة المال السياسي الحريري في سدّة رئاسة الوزارة، استمراراً للنهج الذي دشّنه رفيق الحريري سنة 1992، في وزارته الأولى، وتوجّب أن يتابعه وريثه السياسي سعد الحريري. آنذاك، كما اليوم، بدت "الوحدة الوطنية" مختزَلة في هذا الوئام القديم/ الجديد حول مؤسسة الجيش، ثمّ بعدئذ في شخص الرئيس (العسكري) العتيد.

في عرسال، اليوم، تتكاتف آلة عسكرية متنافرة، وليست البتة تعددية "تحت سقف الوطن اللبناني"، إذا جازت الاستعارة من خطاب إعلام النظام السوري؛ لم يسبق لها ان تكاتفت على هذا النحو، العسكري أو التعبوي، في أية واقعة وطنية سابقة، وربما على امتداد تاريخ لبنان. في باطن هذا السياق، بدا "حزب الله" وكأنه عاد خطوة إلى الوراء ـ واحدة فقط، أغلب الظنّ! ـ عن التبشير الأحدث الذي طلع به حسن نصر الله قبل أشهر، في خطاب حماسي عاطفي مشبوب: "نحن شيعة علي بن أبي طالب في العالم"؛ "ونحن الحزب الإسلامي الشيعي الإمامي الإثنا عشري". كان ذاك هو الإعلان الأكثر وضوحاً عن هوية مذهبية للحزب، شيعية، لكنها تشدّد أيضاً على الركنَيْن، "الإماميّ" و"الإثنا عشري"، تحديداً. في عرسال الراهنة، يلوح أنّ الحزب عاد، وإنْ بمعدّل خطوة واحدة يتيمة، إلى خطاب سابق، حُرق واستُهلك واستُنفد، يشدد على الانتماء إلى الاجتماع السياسي اللبناني، "الوطني" هذه المرّة، وليس "الإماميّ" و"الإثنا عشري".

يُراد لنا، إذاً، أن نكون في منأى عن ـ وعلى مبعدة بعيدة... بعيدة من ـ "غزوة بيروت" في أيار (مايو) 2008 (ساعة اتضح أنّ "حزب التحرير" استدار ببندقيته، على عكس ما أقسم قادته مراراً، نحو خصم محلّي، ونحو المجتمع اللبناني في المحصلة)؛ والعجز عن الثأر لمقتل عماد مغنية، في سياق ما أسماه نصر الله "الحرب المفتوحة" على إسرائيل؛ وعدم ترجمة مبادىء الميثاق الجديد، حتى تلك الفضفاضة في مصطلحاتها "الوطنية"، إلى تطبيقات سياسية واجتماعية على الأرض... كلّ هذه كانت عوامل تعيد "حزب الله" إلى صياغات تأسيسه الأولى، وتضعه في قلب ارتباطات أحلاف الخارج، هذه التي لم يسبق له أن انفكّ عنها تماماً في الواقع.
في تلك الحقبة، تحديداً، ويا لمحاسن الصدف التي ليست مصادفات عشوائية أبداً، أجرى وزير خارجية النظام السوري، وليد المعلّم، حواراً مع غابرييلا رفكند، من صحيفة الـ"غارديان" البريطانية، قال فيه: "يمكن للانسحاب من الجولان أن يتمّ على مراحل، تنطوي توقيتاتها على شكل من التطبيع. نصف الجولان يمكن أن يفضي إلى إنهاء العداء. ثلاثة أرباع الجولان، تفتح ممثلية لرعاية المصالح الإسرائيلية في السفارة الأمريكية. الانسحاب الكامل سوف يسمح بسفارة سورية في إسرائيل". وحين سألته رفكند عن العلاقات مع إيران و"حزب الله"، لم يقل المعلّم إنها "خطّ أحمر"، جرياً على الموضة الشائعة، بل أجاب ببساطة: نتولى أمرها بعد الانسحاب!

فإذا صحّ، في العودة إلى استهلال هذه السطور، أنّ "داعش" قدّمت في عرسال هدايا ثمينة إلى "حزب الله"، وخاصة لجهة اعتصار تسويغات جديدة لقتال الحزب إلى جانب الأسد في سورية؛ فهل يصحّ أن تكون عرسال الراهنة واقعة منقطعة عن سياقاتها اللبنانية ـ اللبنانية، وخاصة تلك المتصلة بمعادلات سلاح "حزب الله"؟ أم أنّ عرسال الراهنة، ضمن استطرادات منطقية بسيطة وتبسيطية، ليست أقلّ من تنويع جديد لتلك المحاصصات الفاسدة، السياسية والطائفية والمالية، التي عاثت فساداً بحياة لبنان واللبنانيين، طيلة عقود، وشارك في صناعتها جميع الساسة والأحزب والقوى والفئات؛ بلا استثناء تقريباً، وفي الطليعة "حزب الله"، الشيعي، والإمامي، والإثنا عشري... من غير أهلّة اقتباس هذه المرّة؟

في صياغة أخرى، حين تفشل قوى 14 آذار، أو ما تبقى من ركام تكوينها السياسي، في التمييز بين ثلاثة مستويات للنقاش حول عرسال (حقّ أهل عرسال في طرد "داعش" من البلدة، ثمّ واجب الحكومة اللبنانية في الإبقاء على سلاح واحد شرعي في البلدة، هو سلاح الجيش؛ وأخيراً، ردّ واقعة حضور "داعش" في عرسال إلى جذورها، أي تدخّل "حزب الله" عسكرياً في سورية لصالح نظام الأسد)؛ فإنّ مآلات هذا الفشل سوف تنتهي إلى اختزال عرسال لا كما يعلن الجيش اللبناني، أو يتشدّق الساسة الحريصون على قدسية "الخطّ الأحمر"؛ بل على النحو الذي يشتهيه "حزب الله" وحلفاؤه (لبنان إثنا عشري أمس، وطني اليوم، وغداً... لكلّ حادث حديث)، وبالتالي تسفر عن، وتفسح المجال كلّه أمام، تعبيرات عنصرية ومشاعر كراهية وحقد ضدّ السوريين.

أسئلة متروكة لإجابات اللبنانيين، ليس على مبدأ أنهم أدرى بشعابهم، فحسب؛ بل، كذلك، لأنّ الليالي من الزمان حبالى... مثقلات يلدن كلّ عجيب!
7/8/2014

الخميس، 7 أغسطس 2014

في ذكرى علي الجندي

 انقضت خمس سنوات على رحيل الشاعر السوري علي الجندي (1928 ـ 2009)، وتوجّب اليوم أن أستعيد، مجدداً، ذكرى مواطن استجمع، في نصف قرن من عقود عمره، قسطاً وافراً من العناصر السياسية والثقافية والنفسية والإبداعية التي ميّزت شخصية سورية محددة ومعيارية: المثقف، البرجوازي الصغير، حامل مصائر، ثمّ جراحات وانكسارات وهزائم، طبقة توهمّت أنّ عقيدتها (التي بدأت كمزيج قومي ـ ميتافيزيقي، يستلهم المثالي الفيختوي والسوبرمان النيتشوي، ليُسقط على العربي صفة "سيّد القدر")؛ جديرة باحتكار تمثيل الوجدان السوري، والنيابة عن الاجتماع الوطني بأسره، وليس الطبقة وحدها.

والجندي كان شاعراً رائداً، بحقّ، رغم انتمائه ـ من حيث النشر والحضور الثقافي، وصدور مجموعته الأولى "الراية المنكسة" سنة 1962، بعد سنوات أعقبت نشر قصائده في دوريات أدبية سورية ولبنانية ـ إلى مجموعة شعراء الستينيات (علي كنعان، ممدوح عدوان، محمد عمران، فايز خضور، محمود السيد، أحمد سليمان الأحمد، خالد محي الدين البرادعي، وسواهم). وفي ظنّي أن مكمن ريادته يبدأ، أوّلاً، من حقيقة إقامة الصلة الحداثية، والتجديد المعمّق في الشكل مثل الموضوعات، بين حلقة عبد الباسط الصوفي وسليمان العيسى وشوقي بغدادي، حيث هيمن شكل "الشعر الحرّ" أو التفعيلي، وإنْ اختلفت الأساليب وتباعدت التجارب؛ وحلقة الثلاثي علي الناصر وأورخان ميسر وخير الدين الأسدي، حيث النماذج الأبكر من قصيدة النثر السورية، ذات الميول السوريالية؛ والحلقات المنفردة الكبرى كما مثّلتها تجارب نزار قباني ومحمد الماغوط، إضافة إلى أدونيس حين نحتسبه على مشهد الشعر السوري، وليس اللبناني.

جانب آخر هامّ، في تشخيص هذه الريادة الحداثية، كانت قد جسّدته مبادرة الجندي إلى إقامة تلك الصلات، وبالتالي نشر قصائده الحداثية الأولى، وهو على وعي تامّ بمقدار الضغوطات التي كانت القصيدة العمودية السورية تمارسها على الذائقة العامة؛ سواء على يد مجايلين، أمثال وصفي القرنفلي وحامد حسن وسعيد قندقجي وعبد الرحيم الحصني؛ أو تأثيرات السطوة الكلاسيكية المتجذرة لقصيدة عمر أبو ريشة وبدوي الجبل ونديم محمد وعبد المعين الملوحي، من جيل الكبار السابق. وهكذا، فإنّ مكمن ريادته، في المقام الثاني، كان اختراق تلك الغابة المتشابكة من الأشكال والأساليب والموضوعات واللغات والتجارب، والاستئناس الحيوي بمنجز الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب (وكانا على صلة صداقة)، في ما يخصّ سيولة التفاعيل ومعالجات موضوعة الموت؛ والنجاح في النأي بذاته عن موجة الشعر التموزي، موضة العصر الحداثية آنذاك؛ والإفلات، التامّ والمدهش في الواقع، من طوق أدب الالتزام، في صياغاته القومية والبعثية تحديداً، رغم أنّ الجندي كان قريباً من سلطة البعث حتى أواسط السبعينيات.

وكانت مجموعته/ قصيدته الطويلة "طرفة في مدار السرطان"، 1975، بمثابة كشف حساب مفصّل، جارح وحادّ وتراجيدي، عن حال انكسار الشاعر الرائي، والشاعر العرّاف، والشاعر البطل، والشاعر المثخن بالجراح النرجسية، والشاعر الرجيم... خلاصة صفات الممثّل الحقّ للخريطة الشعورية التي رسمت تضاريس البرجوازية الصغير السورية في تلك الأحقاب. الأرجح أنّ هذه العناصر، متشابكة متلاطمة في عباب عقيدة وجودية، فضلاً عن طراز حياة صاخبة وأبيقورية... جعلت الجندي قليل الاكتراث بتطوير قصيدته وترقية أدواته، فظلّ أسير نبرة واحدة، ولغة مقتصدة، وإيقاعات متماثلة، مع استثناءات محدودة في الواقع، كانت على الدوام تؤكد شاعريته الدافقة ومراسه العالي.

لكنّ هذا المزيج، المصطخب المتصارع، لم يمنع الجندي من التوقيع على "بيان الـ99"، الذي أصدرته نخبة من المثقفين السوريين، ونُشر في أواخر أيلول (سبتمبر) 2000، وتضمّن المطالبة بإلغاء الأحكام العرفية، وإصدار عفو عام، وإرساء دولة القانون وإطلاق الحريات العامة والمدنية. ولقد قاطع الجندي المهرجانات الثقافية في السلمية (بلدته التي سبق لها أن تابعته ينخرط في بكاء مرير وهو يلقي قصيدته "السيول تجتاح سلمية"، حتى صعد ممدوح عدوان إلى المنبر، وأتمّ القصيدة بالنيابة عنه)؛ احتجاجاً على اعتقال صديقه عبد الكريم الضحاك، مدير المركز الثقافي الأسبق، وعضو مجلس أمانة "إعلان دمشق".

ذلك لأنّ الأنموذج الأوّل في تكوين شخصية الجندي كان الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد ("أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة/ وما تَنقُصِ الأيامُ والدهرُ يَنفدِ")؛ وأمّا أنموذجه الثاني فقد كان الشاعر الأموي قطري بن الفجاءة، فارس الأزارقة الذي قال لنفسه وقد طارت شعاعاً: "وما للمرء خير في حياة/ إذا ما عُدّ من سقط المتاع".

الأحد، 3 أغسطس 2014

"عيدية" أحمد معاذ الخطيب: لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً!

 في ختام مبادرة حوار جديدة، شاء هذه المرّة أن يطلق عليها صفة "عيدية" إلى الشعب السوري، بمناسبة الفطر وانقضاء شهر رمضان؛ توجه أحمد معاذ الخطيب الحسني، الرئيس الأسبق لـ"الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية"، بمناشدة إلى النظام السوري كي "يرسل أحد ذو صلاحية"، والخطأ اللغوي من الشيخ، الذي كان يتحدّث بمزيج من الفصحى والعامية. وهذا الـ"أحد"، إذا جاء، فسيلاقي "مجموعة من خيرة القيادات السورية، مستعدة أن تتفاوض مع النظام من أجل وطن حر وكريم"؛ وهي "لا تبحث عن منصب ولا موقع"، وغايتها "أن نتناقش في هذا الموضوع، قبل أن تقتلنا المشاريع الإقليمية والدولية"...

قبل هذه الخاتمة، كان نصّ "العيدية" قد اتخذ صفة المبادرة بالفعل، حتى إذا عفّ الشيخ عن تسميتها هكذا؛ قائمة على خمسة مطالب، تحمل نبرة المناشدة العاطفية، يتساوى النظام مع الشعب السوري (بعد أن اخرج الخطيب "المعارضة المرتهنة" من المعادلة) في تحمّل مسؤولية الاضطلاع بها: 1) الحيلولة دون تقسيم سوريا؛ 2) استقلال القرار السياسي السوري (إزاء ثلاثة مشاريع هدّامة: إيران، وبعض دول الخليج، و"القاعدة")؛ 3) تنحّي النظام والمعارضة (لصالح "كثيرين من أبناء البلد يمكن أن يحملوها)؛ 4) وقف القتل والدماء والخراب؛ 5) حلّ سياسي تفاوضي يُلزم النظام والمعارضة، ويتضمن العدالة الانتقالية.

لافت، بادىء ذي بدء، أنّ تشخيص الخطيب لـ"معارضة مرتهنة" ليس صائباً وسليماً وصادقاً، فحسب؛ بل هو هو متأخر كثيراً، أيضاً، بالنسبة إلى رجل كان على رأس ذلك الارتهان قبل أشهر معدودات فقط، وتلمّسه وعايشه وعاينه، ساعة بساعة، ومؤتمراً بعد آخر، وعاصمة أثر أخرى... لكنه لم يشر إليه على النحو النقدي الصريح الذي ينتهجه اليوم، بل لعله غاص فيه حتى أخمص القدمين، وارتهن له ومعه، وتستر عليه أيضاً. هذا تفصيل أخلاقي، وسلوكي، يجرّد نقد الخطيب الراهن من حدود دنيا في المصداقية، تسري أوّلاً على زاعم مدوّنة وطنية وتصالحية، طوباوية وفروسية، لكنها في الآن ذاته ترتكز على مرجعية دينية تنهى عن الغشّ والخداع والتقلّب، وتفرض على الرائد ألاّ يكذب أهله.

مدهش، ثانياً، أن يكون الخطيب، خلال رئاسته للائتلاف، قد صال وجال وأقام في غالبية العواصم الخليجية التي يصنّفها اليوم (دون أن يسمّي، كعادته أبداً!) ضمن المشروع الإقليمي التخريبي الثاني؛ ولا يكتفي الآن بالغمز من أجنداتها في سوريا (وهذه كلمة حقّ، بالطبع، حتى إذا أُريد منها الباطل)، بل يساويها بالمشروع الإيراني، القائم على "أحلام إمبراطورية"، لا نفهم من الشيخ طبيعتها: فارسية، أم شيعية، أم أيّ مزيج منهما ينتهي إلى التوسع الإقليمي والسيطرة على شعوب المنطقة. هنا، أيضاً، يبدو الخطيب وكأنه ليس ذاك المعارض الهمام الذي منحته تلك العواصم الخليجية (راغباً سعيداً، وليس كارهاً متمنعاً) مقام الصدارة في القمم والمؤتمرات والاجتماعات، كي تدجّنه صحبة رفاقه ورفيقاته في "القيادة"؛ أو كأنه طمس ذلك الماضي من ذاكرته الشخصية، ظاناً أنّ المنصتين إلى "العيدية" قد اقتفوا أثره في الطمس وتفريغ الذاكرة!

مثير للشفقة، ثالثاً، أن يواصل الشيخ إنتاج، وإعادة إنتاج، وطرح مبادرات لا تبلغ أسماع أيّ "ذي صلاحية" في نظام بشار الأسد، ولا حتى في صفوف "المعارضة المرتهنة"؛ حتى كأنّ الخطيب استهوى الوقوف على أطلال حوارات وهمية واستيهامية، وامتهن إطلاق الصرخات التي لم تعد قادرة حتى على ترجيع الصدى. ففي 23 أيار (مايو) 2013 طرح الشيخ مبادرة (لم تكن، البتة، "عيدية"!)، شعارها الآية القرآنية: "ومَنْ أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً"؛ بدأت، بدورها، من نبرة بكائية رثائية تقول: "منعاً لاضمحلال سورية شعباً وأرضاً واقتصاداً وتفكيكِها إنسانياً واجتماعياً نتقدم بهذه المبادرة حقاً لبلدنا وأهلنا علينا، واستجابةً عمليةً لحلّ سياسي يضمن انتقالاً سلمياً للسلطة". أحلام تلك الساعة ذهبت بالمبادِر إلى درجة إعطاء "رئيس الجمهورية الحالي" مهلة لا تتجاوز 20 يوماً، كي يعلن "قبوله لانتقال سلمي للسلطة، وتسليم صلاحياته كاملة إلى نائبه السيد فاروق الشرع أو رئيس الوزراء الحالي السيد وائل الحلقي". البنود الأخرى تضمنت حلّ مجلس الشعب، وتسليم "رئيس الجمهورية" كامل صلاحياته خلال شهر بعد قبول الانتقال السلمي، وتكليف الحكومة (بصفتها المؤقتة وخلال 100 يوم) بإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية، إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، ومغادرة "الرئيس الحالي" البلاد ومعه 500 ممّن يختارهم مع عائلاتهم وأطفالهم، دون تقديم ضمانات قانونية للمغادرين، والتزام جميع الاطراف بوقف استخدام الأسلحة الثقيلة...

لقد أسمع الشيخ لو نادى حيّاً، لأنّ لائحة ردود الأسد على تلك المبادرة تنوّعت، ميدانياً، بين قصف الغوطة بالأسلحة الكيماوية، ومسرحية مؤتمر جنيف، ومهزلة الانتخابات الرئاسية، وإلقاء فاروق الشرع إلى سلّة المهملات؛ وفي غضون ذلك، وسواه: سفك دماء الآلاف من السوريين، وإلقاء مئات بعد مئات من براميل الموت، والإيغال أكثر فأكثر في الشحن الطائفي... في المقابل، لا أحد من أهل النظام، حتى إذا كان مستوى مسؤوليته لا يتجاوز الدرجة العاشرة، اكترث بالتعليق على مبادرة الخطيب، أو السخرية منها والتهكم عليها في الأقلّ.

فاجع، رابعاً، أن يجهل الشيخ طبائع النظام بعد كلّ ما جرى ويجري، وهرمية الحلقة الأعلى، الأضيق، في معمار السلطة؛ حيث يتربع الأسد نفسه (في شخصيته الأمنية والعنفية الأقصى اعتمالاً، واكتمالاً، منذ توريثه صيف 2000). مَن هو الشخص "ذو الصلاحية"، الذي سيبادر إلى ملاقاة "عيدية" الخطيب؟ العميد ماهر الأسد (الشقيق، والقائد الفعلي للفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، والمنفِّذ الثاني للحلّ الأمني، بعد شقيقه الكبير)؟ أم يفكّر الشيخ الخطيب في أمثال العميد ذو الهمة شاليش (ابن عمّة الأسد، ورئيس حرسه الشخصي، والمشرف الفعلي على جهاز أمن الرئاسة، وصاحب الصلاحيات الأمنية والعسكرية والمالية الواسعة التي تتجاوز بكثير رتبته العسكرية أو موقعه الوظيفي)؟ أو اللواء علي مملوك، أحد كبار مهندسي الفاشية القصوى في البلد؟ أو اللواء جميل حسن، مدير إدارة المخابرات الجوية، صاحب المزاج الدموي الشهير؟

هل يعقل أنه يقصد الدكتورة نجاح العطار، نائبة الأسد؟ أو أيّ من الإمعات، أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث؟ أم هو رامي مخلوف، صيرفي النظام وتمساح الفساد؟ أم الفئة العليا من التجار ورجال الأعمال، شركاء وخدم النظام، أمثال الأخرس والغريواتي والشهابي وحمشو...؟ ومن جانب آخر، مَنْ هي تلك الـ"مجموعة من خيرة القيادات السورية" التي ستجلس على الطرف المقابل من طاولة الحوار مع النظام؟ أهم بشر لهم وجوه وأسماء، أم أشباح هائمون في السديم؟ 

مهين، خامساً، وفي خلاصة القول، أن يتوجه الخطيب إلى الأسد ـ قاتل الأطفال، وفق تصنيفات جنائية وقانوية دولية، ورأس نظام لم يتوقف عن ارتكاب جرائم الحرب والجرائم بحقّ الإنسانية منذ آذار/ مارس 2011 ـ بهذه النبرة الاستعطافية؛ المضحكة من باب المرارة، قبل أن تكون مبكية من باب المأساة. أهذا، الأسد، هو الذي يُسأل: "هل ترى الأطفال الصغار تتقطع أيديهم وأرجلهم؟"؛ أو: "لماذا التضييق على الناس؟"؛ أو: "لماذا الحصار؟"؛ أو: "لماذا تقصف المدنيين بالليل والنهار؟"؛ أو: "لماذا تمنع الناس من جوازات السفر؟"...


أين يعيش الشيخ، في نهاية المطاف: على هذه البسيطة، التي لم يشهد تاريخها، بأسره، همجية تعادل ما يرتكبه الأسد وبهائمه؛ أم هو منزوٍ في كوكب استيهاماته، يجترّ المبادرات الخرساء، ويطلق الصرخات البكماء؟

الثلاثاء، 27 مايو 2014

إدوارد سعيد الأول

 في مثل هذه الأيام، أواخر أيار (مايو)، ولكن قبل 48 سنة، كان إدوارد سعيد (1935ـ2003) قد نشر أولى مراجعاته النقدية، في مجلة Nation التي ستشهد تعاوناً وثيقاً ومديداً معه؛ سوف يمتدّ حتى الأشهر القليلة التي سبقت وفاته، وسيشمل الكتابة في موضوعات نظرية الأدب والنقد الثقافي والموسيقى والسجالات الفكرية، إلى جانب المقالات السياسية والقضية الفلسطينية بصفة خاصة. كانت تلك المراجعة الأولى بعنوان "تجسيد الموضوعات"، وتناولت كتاب ج. هيليس ميللر "شعراء الواقع: ستة كتّاب من القرن العشرين"، حيث عاد سعيد مجدداً إلى جوزيف كونراد (بعد أطروحة دكتوراه، في هارفارد، سنة 1964). المراجعة شدّدت على وصول التراث الرومانتيكي للقرن التاسع عشر إلى طريق مسدود، مثّلته على نحو أفضل حال تضخّم الأنا العزلاء في عالم ينحلّ ويندثر؛ كما تناولت فضل كونراد: "الذي يصوّر عبثيات الخُلُق الرومانتيكي، متخذاً بذلك هيئة عدميّ يبيّن تعثّر الثنائية الرومانتيكية، بسبب أنّ الإله الذي كان يغذيها لم يختفِ فحسب، لكنه مات على جميع الأصعدة العملية".

السنة ذاتها، 1966، سوف تشهد طباعة أطروحة الدكتوراه، تحت عنوان جديد هو "جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية"، وفيه اعتمد سعيد على منجزات "مدرسة جنيف" في النقد الفينومينولوجي (ولكنه، ليس ضمن انجذاب إلى الفلسفة الوجودية، توقف عند إسهامات جان ـ بول سارتر أكثر من إبستمولوجيا إدموند هسرل أو مارتن هايدغر أو رومان إنغاردن)؛ وطوّع ثنائية شوبنهاور حول عالم مغترب أونطولوجياً عن الوكالة الإنسانية من جهة، و"الفكرة" الزائفة المخلوقة عن العالم إياه في الذهن الإنساني من جهة ثانية؛ واستخدم بعض خلاصات وليام جيمس وسيغموند فرويد وكارل يونغ (حول عبارة "أوالية الوجود بأكملها" التي ظلّت تسكن تفكير كونراد)؛ وسخّر تطبيقات جورج لوكاش ولوسيان غولدمان، (حول ديناميات الوعي الطبقي).

وفي الآن ذاته، وسط هذه المنهجية المتراكبة، لم يغفل سعيد تطويع مناهج هارفارد وتقاليدها الأكاديمية العريقة، ما وسعته الحيلة بالطبع! ومن خلال التدقيق المعمّق في رسائل كونراد، رسم سعيد الخطوط الكبرى لمزاج الروائي البولندي الأصل، لكي يكشف كيفية توليدها للأطر الرئيسية في رواياته؛ ولكي يبرهن على نحو مدهش أن كونراد انشغل دائماً بالتوتّر بين وعيه لنفسه، من جهة أولى؛ وإحساسه بالشروط المتصارعة التي تكيّف وجوده كـ "آخر" فردي ولغوي في التراث المكتوب بالإنكليزية، من جهة ثانية.

والكتاب ينقسم إلى جزئين، يتناول الأوّل رسائل كونراد، والثاني يرصد توازيات رواياته القصيرة مع الديناميات الداخلية التي تجلّت في رسائله؛ وعلى امتداد أحد عشر فصلاً (و219 صفحة، في طبعة الكتاب الأولى)، ساجل سعيد بأنّ كونراد مال إلى الروايات القصيرة أكثر من تلك الطويلة، وأنه رأى حياته الشخصية أقرب إلى سلسلة وقائع قصيرة، لأنه "هو نفسه كان أكثر من شخص واحد، وكلّ واحد من الشخوص يعيش حياة غير مرتبطة بالآخر: كان بولندياً وإنكليزياً، بحاراً وكاتباً". وبمعزل عن الإغواء الشخصي الذي انطوى عليه هذا التفصيل في حياة كونراد، بالنسبة إلى سعيد ذي الشخوص المتعددة بدوره؛ كان ثمة ذلك التحدّي الآخر الذي أغوى الناقد والأكاديمي الشابّ: أن ينشقّ عن المألوف والعرف السائد، فلا يغرق في دراسة روايات كونراد الطويلة، بل أن يتوجه إلى تلك القصيرة تحديداً، في إجراء أوّل؛ وأن يتفحصها من زوايا السيرة الذاتية، ومعطيات الرسائل والحوادث الشخصية، في إجراء ثانٍ.

جدير بالذكر، في ختام هذه الوقفة عند سعيد الأوّل والشابّ (وهو موضوع أعود إليه بتفصيل أوسع، في دراسة تنشرها فصلية "بدايات")، أنّ مفهوم الإمبريالية سوف يدخل مبكراً إلى عدّة سعيد النقدية، ليس بصدد شخصية مارلو في "قلب الظلام"، ومبدأ القوّة والأنانية والتمايز الفرداني كما تُلتمس عند كونراد في أصولها الشوبنهاورية، فحسب؛ بل كذلك في توسيع للمفهوم، سياسي وثقافي، سوف يرافق سعيد على الدوام: "مشكلة الأنانية غير المنضبطة والكفاحية كما فهمها كونراد، كانت تكمن في أنها تصبح إمبريالية أفكار يسهل أن تحوّل ذاتها إلى إمبريالية الأمم (...) وبذلك فإنه يتوجب على الكاتب ذي الفردانية القوية أن يفتش داخل نفسه عن صورة ملائمة وصحيحة تعبّر أفضل تعبير عن فكرة الحقيقة كما يراها: ذلك لأنه، رغم مخاطر الإمبريالية، كانت السيرورة ضرورية للتلاؤم مع الظلمة الداخلية والعالم الخارجي".

وبالطبع، لم يكن مألوفاً، في أوساط النقد الكونرادي، أن يتجاسر ناقد وأكاديمي شابّ فيتكيء على شوبنهاور، لكي يساجل بأنّ كونراد أدرك الركائز الأخلاقية، ثمّ الإبستمولوجية، التي تجعل احتكار الإمبريالية الأوروبية للحقيقة أمراً يصعب الدفاع عنه. منذ 48 سنة، كما في أيامنا هذه! 

الاثنين، 19 مايو 2014

عبادة "البسطار"

 بعد ثلاث سنوات أعقبت وفاة أبيه حافظ الأسد، وتوريثه مقاليد سلطة "الحركة التصحيحية"، خلال وصلة مبتذلة شهدها مسرح الدمى الباصمة، (أو "مجلس الشعب" في تسمية النظام)، اقتضت تعديل موادّ الدستور، الاستبدادي أصلاً، بما يتناسب مع عمر الوريث؛ وضمن استيهاماته الجارفة حول ضرورة تمييز شخصيته، "الشابة" و"العصرية" و"الإصلاحية"، وقتل الأب السياسي والسيكولوجي ما أمكن؛ بلغ بشار الأسد الخلاصة التالية: عسكرة المجتمع على الطراز الكوري الشمالي (نموذج كيم إيل سونغ تحديداً، الذي كان الأسد الأب مولعاً بأفكاره ونظامه وطرائق إدارته للمجتمع والدولة والحزب في آن)، لم تعد لائقة. فضلاً عن أنها أسفرت عن النقيض أحياناً، كما في نجاح جماعة الإخوان المسلمين في اختراق منظمات شبيبة والطلبة التابعة لحزب البعث، "قائد الدولة والمجتمع".

وهكذا، خلع فتيان سورية ثياب "التربية العسكرية"، أو "الفتوّة" في التعبير الأكثر شيوعاً، وعادوا إلى ارتداء أزياء مدرسية موحّدة ذات ألوان أخرى غير الخاكي العسكري التاريخي؛ بل لقد تعمّد خبثاء النظام اختيار ألوان أكثر إنسانية وبساطة وجمالاً، زهرية وسماوية ورمادية، تنزع عن الطلاب والتلاميذ (من حيث المظهر الخارجي، في أقلّ تقدير) صفات "جنود" و"شبيبة" و"أشبال" الأسد. كذلك توجّب تخفيف عمليات العسكرة المباشرة، على طراز مطلع الثمانينيات، حين تولّى رفعت الأسد ومفارز "سرايا الدفاع" تدريب الشبيبة (والشابات، بصفة خاصة) على القفز المظلي مقابل إعفائهم من معدّل الدرجات المطلوب للانتساب إلى كليات الطبّ والهندسة. وعُدّلت، أيضاً، أنظمة عسكرة اتحاد الطلبة عن طريق إلزام الطلاب الجامعيين بأداء تدريب عسكري مستمر، والخضوع لمعسكرات صيفية.

كذلك، وبالتوازي مع هذه "المقاربة" الجديدة، كان مهدي دخل الله (رئيس تحرير صحيفة "البعث"، الناطقة باسم الحزب الحاكم، قبل أن يتولى وزارة الإعلام، في خريف 2004)، قد فاجأ رفاقه البعثيين بهجوم كاسح ضدّ "المنطلقات النظرية" للمؤتمر القومي السادس للحزب (وهذه، لمَنْ لا يعرف، "درّة" و"مفخرة" التيار اليساري في حزب البعث بجناحَيْه، حيث يتردد على نطاق واسع أنّ المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ شارك في كتابتها)؛ وذلك بحجة أنّ "الدهر أكل عليها وشرب"، وآن أوان وضعها على الرفّ! كذلك بدا دخل الله حريصاً على التمييز بين "بعث سورية" و"بعث العراق"، فليس كلّ بعث بعثاً أيها السادة في واشنطن، لندن (وإياهم كان يعني الرجل، ويخاطب)؛ وإلا، فماذا نقول ـ حسب محاججة دخل الله العبقرية! ـ في... "حزب البعث الروسي"!

هذان التطوران، في المستوى التربوي ـ العسكري، والمستوى الحزبي ـ العقائدي، ارتديا أهمية خاصة إضافية، بالنظر إلى ما أخذ النظام يشهده من تفاعلات داخلية وخارجية، نتيجة الاحتلال الأمريكي للعراق؛ وما أسفر عنه المشهد الإقليمي من ضغوط مباشرة على خيارات الأسد، في العلاقة مع الولايات المتحدة تحديداً. انحناء، كان أحياناً أقرب إلى ركوع، أمام العواصف، من جانب أوّل؛ ويقين، من جانب آخر، أنّ الحفاظ على تراث "الحركة التصحيحة" في ملفات بنيوية كبرى (مثل فتح شبكات الولاء على مصراعيها، مقابل تضييق هرمية السلطة بحيث تبقى حكراً على الحلقات الأصغر والصلاحيات الأوسع والامتيازات الأقصى، وقتل أيّ وكلّ حراك سياسي أو مدني يمكن أن يتيح انعتاق الاجتماع السوري من ربقة الاستبداد، وإغراق السوريين في خواف مستديم من سرديات كارثية تُقعد لبنان والعراق...)، يظلّ أهمّ وأبقى.

ليس مدهشاً، إذاً، أن يرتدّ الوريث اليوم إلى فلسفة العسكرة ذاتها التي اعتمدها أبوه طيلة 30 سنة، فلا تنتشر مظاهر عبادة "البسطار" العسكري في المدن والبلدات والقرى الموالية تحديداً، فحسب؛ بل تتعاظم أيضاً أنماط عسكرة الماضي، فلا تقتصر على "التربية العسكرية" وحدها، وإنما تحوّل ما يسمّيه النظام "قوات الدفاع الوطني" إلى قطعات (بل قطعان!) موازية للقوّات النظامية الموالية، وإلى ميليشيات هوجاء عمياء، تؤجج المشاعر الطائفية، مثلما تشتري وتبيع أمن المواطن البسيط، وتتاجر بالسلاح والذخيرة. وعلى مدخل مدينة اللاذقية، مثلاً، حيث أوكار أفواج الشبيحة الأشدّ فاشية وتغوّلاً، احتفل رجال النظام بتدشين "نصب" تذكاري لا سابق له، في التاريخ المتمدن، من حيث ابتذال المعنى وانحطاط الدلالة: حذاء عسكري ضخم، يجاور مجسّماً لطلقة رصاصة!

وبهذا المعنى فإنّ اللون الخاكي يبدو أقلّ مهانة للبشر، أياً كانت انحيازاتهم، من "بسطار" يُرفع على الرأس في مسيرات التأييد، أو تحضنه صبية "منحبكجية" وتُشبعه لثماً وتقبيلاً. كأنها تقول، في تنويع يخطر على البال: "بشار! عسكر! بسطار وبسّ!"...

الجمعة، 16 مايو 2014

"بوكو حرام" بين نيجيريا وأمريكا: انتظار العبرة

 تقول الأنثروبولوجيا الشعبية إنّ نيجيريا هي الموقع الذي تعلّم فيه الإنسان الوقوف على قدميه، للمرّة الأولى في تاريخ التطوّر الحيوي للبشرية. وهذا البلد العريق بالفعل ـ الآهل بنحو 170 مليون نسمة، و36 ولاية؛ المتعدد الأعراق والثقافات واللغات: 500 مجموعة إثنية، وديانات وثنية لا عدّ لها ولا حصر، فضلاً عن الانقسام التقليدي بين مسيحيي الوسط والجنوب، ومسلمي الشمال والغرب؛ المختزن لثروات طبيعية وافرة، والذي يستحق تماماً صفة "عملاق أفريقيا" ـ هذا البلد فشل مراراً في تعليم جنرالاته الوقوف على الأرض في الثكنات، بدل الدوس على رؤوس العباد في قصور الرئاسة المدنية.

كذلك فشل، استطراداً، في تعليم العسكر مبدأ ملازمة الثكنات ذاتها، فدفع مراراً الأثمان الباهظة جرّاء خروجهم منها، وإصرارهم على عدم التفريق بين الثروة الوطنية التي تخصّ البلاد، و"المشاع" الذي يتعجّل الجنرال نهبه قبل أن يتقاعد أو يرحل أو يُقتل. وكأنّ انقلابات العسكر المتعاقبة لم تكن قد جلبت ويلات كافية على نيجيريا، فاندلعت حرب أهلية طاحنة، في أيار (مايو) 1967، بين مناطق البلاد الغربية الشمالية، وأقسامها الجنوبية الشرقية (التي عُرفت باسم بيافرا)؛ دامت 30 شهراً، وقتلت مليون نيجيري على الأقلّ، والبعض يرتفع بالرقم إلى ثلاثة ملايين.
ومنذ أن قرر التاج البريطاني تشكيل نيجيريا الحالية عن طريق تلصيق هذه الرقاع الجغرافية والإثنية والمذهبية والقبائلية كيفما اتفق، والبلاد لا تودّع انقلاباً عسكرياً إلا لتستقبل سواه؛ ولا تستمع إلى جنرال يعد بالحكم المدني، إلا لكي تنتظر خطوته الدكتاتورية التالية. ستة انقلابات ذهب واحدها بهذا الجنرال، ليأتي ثانيها بزميل له في السلاح، وفي شهوة السلطة والاستبداد الفساد. وتوفّر دائماً وعد بمرحلة انتقالية إلى الحكم المدني، يسبقه حلّ الأحزاب السياسية القائمة، وتشكيل لجنة عليا تشرف على تنظيم الانتخابات البرلمانية والرئاسية. الحصيلة الرهيبة أنّ العملاق تضوّر جوعاً رغم زاده الوفير، فتقزّم وهزل وتقطّعت أوصاله في إسار الدكتاتورية والفساد والفوضى والتخلّف.

آخر الجنرالات الانقلابيين كان عبد السلام أبو بكر، الذي بدأ عهده بحلّ الأحزاب السياسية، وكذلك اللجنة الانتخابية العليا التي كان أحدثها سلفه الجنرال الانقلابي ساني أباشا (كبير جنرالات الفساد، إذْ كدّس ثروة شخصية تقدّر بنحو عشرة مليارات دولار أمريكي، ولم يرحل حتى أخذته يد القدر، أو أودت به حبّة الـ"فياغرا" كما أشارت بعض التقارير). أبو بكر قطع خطوات إضافية مختلفة، ميّزته عن سواه، فأطلق سراح السجناء السياسيين، وأسقط عنهم التهم المفبركة أصلاً، وسنّ دستوراً يتيح انتخابات تشريعية متعددة الأحزاب، ثم سلّم سلطة الرئاسة إلى الجنرال المتقاعد أولوسيغن أوباسانجو، الذي انتُخب مجدداً سنة 2003 وسط تزوير واسع لصناديق الاقتراع، ثمّ خسر أمام عمرو يارأدوا، سنة 2007.

توجّب، هنا، أن يأخذ المرء في الحسبان جملة عوامل طرأت على القارّة السوداء، ووجدت طريقها إلى نيجيريا بالتالي، وكانت وراء هذه التطورات ذات الصفة السياسية الإصلاحية. فالقارّة، حينذاك، تخلّصت من نظام الأبارثيد ومحاصصات الحرب الباردة وما كان يقترن بها وبسببها من تفاعلات جيو ـ سياسية دولية وإقليمية؛ فبات فيها رجل مثل نلسون مانديلا، وفي الآن ذاته رحل عنها رجل مثل موبوتو سيسي سيكو. المدّ الديمقراطي كان كبيراً، إذاً، ولعله كان جارفاً في أماكن اخرى من القارّة. وأمّا خارجها، فإنّ العالم أخذ يكتشف إمكانية تشييع الأصنام القديمة (من شاوشيسكو الروماني، إلى سوهارتو الأندونيسي)، دونما مخاض مضادّ عسير، وعلى نحو سلس سلمي غالباً.

وهكذا وقعت "المعجزة"، أخيراً، وتمكنت نيجيريا من إنجاز انتخابات رئاسية، في نيسان (أبريل) 2011، أسفرت عن فوز غودلاك جوناثان، عن "حزب الشعب الديمقراطي"، وأجمع غالبية المراقبين على أنها ـ هذه المرّة، وبعد لأي! ـ الانتخابات الأكثر نزاهة وحرّية منذ 51 سنة أعقبت استقلال البلد عن الانتداب الاستعماري البريطاني. هذا الرئيس، الشرعي والمنتخب ديمقراطياً، هو الذي يرفض اليوم شروط المنظمة الإرهابية "بوكو حرام"، في مبادلة 200 من الطالبات النيجيريات المخطتفات؛ وهو "المدعو فلان" الذي يريد السناتور الأمريكي جون ماكين وضعه على الرفّ تماماً، وعدم استشارته أو التنسيق معه، عند إرسال قوّات أمريكية تتولى إنقاذ الرهائن.

وبمعزل عن التغنّي الزائف بمفاهيم السيادة الوطنية، مدهش أن يستخفّ هذا السناتور المخضرم، المرشّح مرّتين لرئاسة الولايات المتحدة، بأبسط مبادىء القانون الدولي، والشرعية الديمقراطية، فيمتطي الموجة الشعبوية الداخلية والعالمية العارمة، ويسارع إلى منافسة السيدة الأولى ميشيل أوباما (صاحبة الحملة الشهيرة: "أعيدوا بناتنا")، عن طريق البوّابة الأسوأ والأردأ: إضافة الإهانة، على جرح الشعب النيجيري. مدهش، اكثر، أنّ الإدارة الأمريكية (التي سارعت إلى تصنيف "جبهة النصرة" السورية في خانة المنظمات الإرهابية بعد أشهر قليلة أعقبت تأسيسها)، لم تتنبه إلى أخطار "بوكو حرام"، وإلى شخصيتها الإرهابية، إلا بعد 11 سنة على انطلاقها!  

وسبحان محاسن الصدف، إذْ صدر قبل أيام (وتصادف مع وقوع عملية الاختطاف الإرهابية!)، نشر التقرير السنوي الذي يعدّه "مكتب مكافحة الإرهاب"، في وزارة الخارجية الأمريكية، والذي يصف حال الإرهاب والمنظمات الإرهابية خلال العام المنصرم، 2013. هنا تقع "معجزة" أخرى، أمريكية هذه المرّة، فتظهر "بوكو حرام" في اللائحة، ويُشار إلى انها أُضيفت بتاريخ 14/11/2013... فقط! ليس مدهشاً، ثالثاً وفي المقابل، أنّ الحكمة الكبرى التي تهدي تقرير هذا العام هي الأمر التنفيذي رقم 13224، الذي أصدره الرئيس السابق جورج بوش الابن في خريف 2001؛ وكذلك إطاره العريض كما اختزله الأخير: "الحرب على الإرهاب نوع مختلف من الحروب، تُشنّ اعتقالاً إثر اعتقال، وخليّةً إثر خلية، ونصراً إثر نصر. إنّ ما يضمن أمننا هو عزيمتنا وإيماننا الواثق بنجاح الحرية. والولايات المتحدة لن تستكين حتى تربح هذه الحرب".

وأمّا جوهر "الفلسفة" وراء هذه الحملة الأمريكية المستدامة فإنه مستوحى، هنا أيضاً، من أقوال بوش الابن، وتحديداً عبارته الشهيرة التي أطلقها في أعقاب 11/9: "على كلّ أمّة في كلّ منطقة أن تتخذ قرارها الآن. إمّا أنكم معنا، أو أنكم مع الإرهابيين". الرؤية المانوية ذاتها إذاً، حيث العالم خيّر أو شرير، مناهض للإرهاب أو مساند له، منضوٍ في حملة الولايات المتحدة أم محسوب ضدّها بالضرورة، في معمعة القتال ضدّ الشرّ أو القتال ضدّ الخير. ذلك لأنّ الحدود باتت مرسومة مسبقاً، شاء المرء أم أبى في واقع الأمر: "ما من أمّة تملك رفاه البقاء على الخطوط الجانبية، إذْ لا خطوط جانبية بعد الآن"، كما عبّر، ذات يوم، وزير الخارجية الأسبق كولن باول.

وإذا كانت "بوكو حرام" هي إحدى المنظمات الأشدّ انحطاطاً وابتذالاً في زعم الانتماء إلى الإسلام، والأكثر إيغالاً في أساليب الإرهاب والإجرام والترهيب؛ فإنّ حلول التدخل العسكري والعربدة ضدّ حكومات منتخبة ديمقراطياً، على منوال ما يقترح ماكين وأمثاله من رعاة بقر القرن الحادي والعشرين؛ هي القوت السياسي الذي تتغذى عليه "بوكو حرام" وأضرابها من منظمات الإرهاب، أياً كانت مرجعياتها العقائدية. ليس دون تذكرة، ختامية، بإرهاب الدولة الذي مارسته الولايات المتحدة طيلة عقود، وتمارسه هذه الإدارة أيضاً، بأنساقه كافة: من غوانتانامو، والسجون بالإنابة في بلدان أخرى، إلى عمليات الاغتيال بطائرات من غير طيار.

وحتى تنجلي حروب أمريكا عن أيّ "نصر"، من الطراز الذي حلم به بوش، يظلّ المثل الشعبي النيجيري سيّد اللعبة: العبرة ليست في شكل الفطيرة، بل في مذاقها بعد الأكل!     

الخميس، 8 مايو 2014

الجربا في واشنطن: الفراغ أوسع والهوّة أعمق

على ذمة الـ"واشنطن بوست"، التي تنقل، بدورها، على ذمّة سفير "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية" لدى أمريكا، نجيب الغضبان (أو "الغضبيان"، كما أسمته الصحيفة!)؛ قد يقوم الرئيس الأمريكي باراك أوباما بـ"التعريج" على اجتماع سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي في البيت الأبيض، مع وفد الائتلاف، برئاسة أحمد الجربا، وعضوية الغضبان، واللواء عبد الإله البشير، ومايكل كيلو (حسب التسمية التي اختارها له "معهد الولايات المتحدة للسلام"). في عبارة أخرى، وحتى يثبت العكس، ليس ثمة برمجة لأيّ لقاء رسمي يجمع أوباما وأقطاب الائتلاف هؤلاء؛ وقد يُكتفى من "الغزوة"، بأسرها، بلقاء آخر مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، والله يحبّ المحسنين...

أمّا ذروة الغنائم، فهي منح الائتلاف صفة "البعثة الأجنبية"، وهذا تطوّر شكلي محض (على نقيض ما تظنّ، وتصرّح، صديقتنا ريم العلاف، التي تشغل الآن موقع "مستشارة" الجربا)، يتفق فيه جميع خبراء التمثيل الدبلوماسي. الرابح الأكبر من الخطوة قد يكون الغضبان نفسه، الذي سيتمتع بحراسة أمنية أفضل (من طراز سبقه إلى التمتع به أمثال برهان غليون وبسمة قضماني، في باريس)؛ وتسهيلات مصرفية، تخصّ التحويلات المالية إلى الولايات المتحدة ومنها؛ وتحسينات لوجستية على مقرّ الائتلاف في واشنطن ـ جادة بنسلفينيا، وافتتاح مكتب في نيويورك. وأمّا على صعيد الأموال، فإنّ الخارجية الأمريكية تكرّمت ولوّحت بمبلغ مقداره 27 مليون دولار، ما تزال تأخذ شكل "المساعدات غير الفتاكة"، دون سواها.

وفي مقابل كشف النقاب عن اقتراب موعد تنفيذ القسط الأوّل من صفقة سلاح بين روسيا ونظام بشار الأسد (تسع مقاتلات Yak-130، من أصل 36 طائرة، سدّد النظام قيمتها بمبلغ 100 مليون دولار، كجزء من قيمة العقد الإجمالية التي تبلغ 550 مليون دولار)؛ ما يزال البيت الأبيض على تحفظه في توريد أية اسلحة متطورة للجيش السوري الحرّ، وليس مضادات الطيران وحدها، بل مضادات الدروع، أو أيّ وكلّ طراز آخر من الأسلحة يمكن أن تعترض إسرائيل على إدخاله إلى سورية. وفي المقابل، كذلك، وصل الجربا إلى واشنطن بعد دخول قوّات النظام السوري إلى حمص القديمة، وبعد صولات للنظام سقط خلالها مئات الشهداء، ودُمّرت مئات المساكن وعشرات الأحياء، واستُخدمت فيها الأسلحة كافة: من قصف القاذفات الثقيل، إلى البراميل، فالأسلحة الكيماوية.

مفيد، في مناسبة وصول الجربا إلى واشنطن، وتباشير هذه الحصيلة الفقيرة، والمنطقية المنتظَرة، في آن؛ استذكار تلك الحقيقة التي تقول إنّ الجربا صعد إلى رئاسة الائتلاف ليس بسبب أيّ توازنات أو تطوّرات أو معادلات (سلبية كانت أم إيجابية، وتافهة عابرة أم ذات قيمة وديمومة) ذات صلة بمشهد المعارضة السورية الرسمية. لقد تمّ ترئيس الجربا كجزء من "تأثيث" بيت هذه المعارضة بعد أن تمّ تلزيمه إلى المملكة العربية السعودية، في عهدة الأمير بندر بن سلطان؛ وكان الرجل تكملة، على غرار ذرّ الرماد في العيون، لمعارك الضجيج والعجيج (من غير طحن، بالطبع) التي خاضها أمثال ميشيل كيلو، من أجل تعزيز وجود السعودية عبر أكذوبة توسيع الائتلاف.

ولعلّ أكبر إنجاز حققه الجربا، وتلك كانت برهة وحيدة، واحدة ومنفردة، كان الخطاب الذي ألقاه في افتتاح مؤتمر جنيف ـ 2 (وأقصد، هنا، نصّ الخطاب ومنطوقه العامّ؛ وليس الإلقاء، الذي كان كارثياً كالعادة). أمّا "المآثر"، فللمرء أن يحدّث دون حرج: من صفع الآخرين، وتلقّي الصفعات منهم؛ إلى التمديد، الذاتي، للفترة الرئاسية؛ ليس دون نسيان مسارح التصويت الانتقائي على هذا الإجراء أو ذاك، وترقية تلك الكتلة هنا، مقابل خسف تلك الكتلة هناك. وليس أدلّ على ألعاب الكراسي الموسيقية هذه، من سلسلة المناورات والمناورات المضادة التي بدأت بمجيء الجربا في عداد "الكتلة الديمقراطية"، وانتهت بخروجه منها، وعليها؛ وكذلك خروج الكتلة منه، وعليه!

والأرجح أنّ الجربا يقفز، اليوم، في فراغ أوسع هوّة من ذاك الذي كان أمامه، حين ارتقى سدّة رئاسة الائتلاف؛ وذلك بعد سحب الملفّ السوري من يد الأمير بندر، وتلزيمه إلى جهاز أمني ـ بيروقراطي سعودي، أكثر طواعية للتخطيط الأمريكي، وأكثر استعداداً للتنفيذ الحرفي، وأقلّ نزوعاً نحو استعراض القوّة (كما في مثال ذهاب الأمير إلى روسيا، والايحاء بالضغط على واشنطن من باب اجتذاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين). وهو فراغ لا يقتصر على مقدّرات المحيط الإقليمي الذي تتشابك فيه خيوط الانتفاضة السورية ومصير نظام الأسد وحلفائه، فحسب؛ بل صارت تدخل عليه، عمقياً، معادلات السخط الشعبي الواسعة، داخل سورية، ضدّ بؤس أداء الائتلاف، على مستوى الإغاثة وخدمات الحدّ الأدنى في المناطق المنكوبة، من جهة أولى؛ ثمّ متغيرات الأرض العسكرية الأخيرة، في القلمون وحمص وبعض ريف دمشق، التي افتُضحت خلالها أركان الائتلاف العسكرية، من جهة ثانية.

ولهذا فإنّ حال الجربا، اليوم، هي من حال سادته وداعميه، في أوّل المطاف ونهايته؛ ما دامت سياسة أوباما، تجاه الملفّ السوري، باقية على حالها، في المدى المنظور على الأقلّ. وتلك، للتذكير المفيد ربما، سياسة نهضت على تأجيل أيّ جهد أمريكي يساعد على إسقاط النظام، أو إبطاء الحسم فيه ما أمكن: ريثما تتضح الصورة أكثر (خلال الأشهر الأولى لانطلاقة الانتفاضة)، وتنجلي موازين القوى بين النظام والشعب؛ وتفعل عوامل تفكك النظام فعلها تلقائياً، حسب مبدأ "الهبوط السلس" (الذي اعتمدته الإدارة خلال الأشهر الوسيطة)؛ مما يتكفل بتسعير ثلاث حروب استنزاف، متزامنة ومترابطة، على الأرض السورية أو تحت مفاعيل الملفّ السوري (خلال الأشهر الأخيرة، وحتى الساعة، أو إلى المدى الذي يصبح فيه اللعب بالنار أشدّ قابلية للارتداد على اللاعب).

حرب استنزاف أولى ضدّ إيران، إذْ لم يعد خافياً أنّ تورّط إيران في الشأن السوري لا يضعفها عسكرياً واقتصادياً فقط، بل يرهقها سياسياً على مستويات إقليمية أيضاً، ويربك استقرارها تنموياً، ويعرقل برامجها التسليحية ولا سيما النووي منها، وبالتالي يضعفها أكثر ممّا تفعل العقوبات الاقتصادية الراهنة. وما تخسره إيران على الأرض السورية، تكسبه أمريكا في الحساب البسيط، دون عناء يُذكر. وحرب استنزاف ثانية، على الأرض السورية دائماً، ضدّ "حزب الله" اللبناني، الذي تراكمت خسائره الفادحة، البشرية والسياسية والمعنوية، منذ أن أُجبر على القتال مع النظام، فصار مرغماً على الانخراط في استقطابات إقليمية ومذهبية أبعد خطراً وعاقبة. وحرب استنزاف ثالثة ضدّ روسيا، في لعبة شطرنج خبيثة يبدو الظفر فيها منعقداً للروس؛ للوهلة الأولى فقط، في الواقع، لأنّ تورّط موسكو يضرّ بالكثير من مصالحها، الاقتصادية والجيو ـ سياسية، على الأمدية البعيدة.

فإذا أضاف المرء ما يتوجب إضافته، دون إبطاء، أي المصلحة الإسرائيلية المباشرة في استمرار حروب الاستنزاف الثلاثة هذه؛ فإنّ ثبات إدارة أوباما على خياراتها الراهنة بصدد الملفّ السوري، يظلّ مرتهناً باضطرارها، ومعها حليفتها إسرائيل، إلى اتخاذ نهج آخر. وتلك نقلة لن تكون، إذا اقتضتها مراحل الصراع الآتية، إلا استجابة لأسباب تنبثق من واقع الأرض، في داخل سورية، بموجب اعتبارات صارت للأسف عسكرية محضة في المقام الأوّل، ثمّ سياسية واجتماعية، وربما مجتمعية صرفة أيضاً؛ وليس بتأثير أية زيارات مسرحية جوفاء، أو حروب طواحين تُخاض في اسطنبول، أو من... واشنطن ـ جادّة بنسلفينيا!

الأحد، 16 مارس 2014

هذي دير الزور.. وحبّها ذبّاح!

 على أعتاب السنة الثالثة للانتفاضة الشعبية السورية (التي تحلّ يوم 18 آذار/مارس، في يقيني، إنصافاً لبشائر حوران الأسخى، وليس إجحافاً بحقّ الشرارات الثورية التي سبقت، يوم 15 آذار تحديداً)؛ أجدني أذهب إلى مدينة سورية فراتية، حيّة وحيوية بقدر ما هي شهيدة، وأصيلة مجيدة، تكبر على جراحاتها اليومية، وتشمخ كلما تعدّدت عذاباتها وتضاعفت. إنها دير الزور، مدينة "دوّار المدلجي"، تلك الساحة التي صارت امتداداً رمزياً، انبثق أيضاً عن اتصال جغرافي طبيعي، لساحة العاصي في مدينة حماة؛ فولدت هذه التوأمة التلقائية بين مدينتين تشاركتا في بلوغ ذلك الرقم الذهبي الذي انتظرته سورية منذ انطلاقة الانتفاضة، وارتعدت له فرائص أجهزة النظام: قرابة مليون متظاهر، في نهار واحد. 

دير الزور، كذلك، أدخلت طرازاً من "الامتياز" في تنويع أنساق التظاهر، كان جديداً وطريفاً؛ وأسهم في تطوير مهارات الالتفاف على أساليب العنف الوحشية التي تعتمدها أجهزة النظام الأمنية لقهر الإنتفاضة السورية، من جهة أولى؛ كما نفع في اجتذاب المزيد من شرائح المواطنين الذين استنكفوا عن المشاركة، لأسباب شتى، من جهة ثانية. ذلك الجديد كان تنظيم تظاهرة مائية على صفحة نهر الفرات، سباحة أو بقوارب صغيرة، تردّد الهتافات ذاتها تقريباً؛ كما ترفع لافتات مماثلة لتلك التي ترفعها التظاهرات على اليابسة، إذا جاز القول، مع تنويعات طريفة ومؤثّرة، تتحدث عن مصبّ للفرات في... نهر العاصي"!

مبتدعو هذا الجديد كانوا فتية محافظة دير الزور، في المدينة ذاتها، وفي بلدات المياذين والبوكمال والعشارة والبصيرة، وفي قرى نهرية عديدة؛ وكأنّ خروجهم إلى الشوارع الرئيسية والساحات العامة، بأعداد تجاوزت 250 ألف متظاهر في "جمعة أسرى الحرّية"، لم يشفِ غليلهم إلى إسماع صوت الاحتجاج العميق، فطافوا فوق مياه الفرات، وطوّفوا على صفحته الرايات. وكيف لم تراودهم الرغبة في التماس عبقرية هذا النهر العظيم الخالد، في تلك البرهة الفريدة من تاريخ المدينة والوطن، وهم حَمَلة اللقب الشهير "أُخُوةْ بطّة"، نسبة إلى براعة في السباحة يتلقونها منذ نعومة اظفارهم، تماماً كما تفعل أفراخ البطّ!

يومذاك، قبل ثلاثين شهراً ونيف، في سياق تجديد افتتاني القديم بتلك المحافظة الكريمة؛ لم أكن أملّ من مشاهدة اعتصام ليلي حاشد في الساحة إياها، تسيّدته طفلة لا تتجاوز العاشرة كما أرجّح، كانت تهتف ـ بمزيج فريد من العذوبة والشجن والصلابة ـ ويردّد الكبار بعدها: "مجروح يا يمّة/ مجروح يا يابا/ ودّوا لحماة من الدير/ موّال عتابا". مشهد قريب، معاصر هذه المرّة، صنعته هديل، الطفلة التي شاركت قبل أيام في فعالية مسرحية شهدتها المدينة. هديل قرأت قصيدة كتبها الشاعر عمر ياسمينة، تحاور نزار قباني في "القصيدة الدمشقية" الشهيرة (التي يبدأ مطلعها هكذا: "هذي دمشق وهذي الكأس والراح/ إني أحبّ وبعض الحبّ ذبّاح/ أنا الدمشقي لو شرّحتمُ جسدي/ لسال منه عناقيدٌ وتفاح")؛ تقول: "هذي دمشقُ فأين الكأس والراحُ/ شامي تموتُ وبال العرب مرتاحُ/ يا ياسمين الشام عذراً فلتسامحني/ فليس في الدار بعد اليوم أفراحُ".

وكانت هديل تستكمل فقرات مسرحية بعنوان "تسليط الأضواء"، قدّمتها فرقة "بهجة" اعتماداً على تلامذة مدارس درّبهم مسرحيون وكتّاب هواة؛ تناولت موضوعات جسورة مثل الخلافات بين الثوار، وقوّة حضور المال السياسي، ودور المثقف، والتفرقة، والاستغلال، والظلم، وجميع أشكال الاستبداد. أمّا صاحبة المبادرة فهي "حياة"، المنظمة المعنية بشؤون المرأة والطفل، والتي اختارت أن يكون توقيتها في اليوم العالمي للمرأة؛ احتفاءً بالدور المشرّف الذي لعبته الأمّ الديرية طوال أشهر الانتفاضة، وكذلك لإقامة رباط وعي، وتوعية متبادلة، بين مختلف الشرائح الاجتماعية في المدينة، وخاصة تلامذة المدارس الابتدائية، في المناطق المحرّرة تحديداً. وبذلك فإنّ النشاط مظهر واحد من مظاهر مقاومة شعبية عديدة ومتنوعة، يمارسها المجتمع المدني الديري؛ ضدّ قوّات الاحتلال الأسدية، في المقام الأوّل؛ ثمّ في مواجهة القوى الظلامية والمتشددة داخل صفوف المعارضة، ثانياً.  

وليس أمراً عابراً أن تواظب هذه المدينة بالذات، على هذه الصيغة المحددة من المقاومة المدنية، الثقافية والتربوية والأخلاقية؛ إذا استذكر المرء أنّ المدينة ذاقت من أفانين وحشية النظام، وبهيمية أشدّ ضباطه حقداً وهمجية وطائفية، مقداراً هائلاً واستثنائياً، ردّاً على استبسال أبنائها في تكريم محافظة كانت إحدى أبرز بؤر المعارضة لنظام "الحركة التصحيحية". الشهداء يتساقطون يومياً؛ والمدن والبلدات والقرى تُعاقَب جماعياً، فتُحرم من الكهرباء والماء والهاتف والإنترنت والأدوية ولقاحات الأطفال؛ وتُغلق المدارس والكليات الجامعية، وتُعطّل الامتحانات؛ ويُمنع المواطنون من عبور الجسور، وما أكثرها على الفرات، لإعاقة التحاقهم بالتظاهرات؛ وتُحرق السجلات في دوائر الأحوال المدنية، للإيحاء بأنّ وجود المواطن ذاته يمكن أن يُطمس نهائياً؛ ويُقصف جسر المدينة المعلّق، ورمزها البصري والأيقوني الجميل؛ أسوة بأسواقها الشعبية العتيقة، التي تعبق بروائح التواريخ...

ورغم أنني "جزراوي" بالولادة، لأنّ القامشلي مسقط رأسي؛ فإنني ديري الأب والأمّ والأصول العائلية، وللمدينة في ذمّتي الوجدانية حفنة سنوات حافلة، خصبة ومعطاءة وغنية، لا تُنسى. شهادتي في دير الزور ليست، مع ذلك، مجروحة تماماً؛ فهذه مدينة، على غرار الشام ربما: حبّها ذبّاح!

الأحد، 9 مارس 2014

قورش (بشار) الأسد!

 لا حدود للابتذال العقلي، ومثله الانحطاط في تحريف الحقائق، حينما يتنطّح مسيحيّ غربي مغالٍ للدفاع عن النظام السوري، بذريعة أنّ بشار الأسد هو حامي الأقليات في سورية، وضامن أمن الطوائف المسيحية بصفة خاصة. الوقائع تُقلب، رأساً على عقب، على أيّ نحو، وبأية مفردات، وكيفما سارت نبرة التهويل الدراماتي؛ ما دامت تخدم تسويق تلك السردية، أو بالأحرى تنفع في تبسيطها (انحطاطاً وابتذالاً، دائماً) لكي تنطلي على المسيحيّ الغربيّ العاديّ، البسيط في إيمانه الروحي، المتواضع في معلوماته عن سورية ذاتها، وربما الشرق الأوسط بأسره.

لعلّ من الخير، والجدوى، البدء بهذا النموذج الصارخ: مقال بعنوان "الأسد: نموذج حديث من قورش الأكبر بالنسبة إلى المسيحيين"، كتبه يان ستادلر، ونشره موقع Faith & Heritage (الإيمان والإرث)، والذي يختصر رسالته هكذا، في شعار يتصدّر الموقع: "مسيحية غربية من أجل الحفاظ على ثقافة الغرب وأهله". ويكفي مثال واحد على تدنّي سوية المقارنة التي يعقدها ستادلر: "الله استخدم الملك قورش الأكبر لحماية اليهود المضطهَدين، والسماح لهم بالعودة إلى الأراضي المقدسة وإعادة بناء الهيكل. والأسد تصرّف بطريقة مماثلة، فأتاح للمسيحيين أن يكونوا آمنين مطمئنين في بلد يهيمن عليه الإسلام"!

عبث، بالطبع، أن يُسأل هذا العبقري عن العلاقة بين اليهود والمسيحيين هنا، أو عن "الأراضي المقدسة" التي تكفّل قورش (بشار) الأسد بإعادة المسيحيين إليها، أو عن "الهيكل" المسيحي الذي أعادوا بناءه؛ وعبث، قبلئذ وأساساً، أن تُطلب من ستادلر معلومة واحدة دقيقة حول تاريخ المسيحية في سورية، أو عن بولس الطرسوسي وطريق دمشق المستقيم. طريف، في المقابل، تذكير هذا المنافح عن الأقليات المسيحية أنّ "الحرس الثوري" الإيراني ومقاتلي "حزب الله" هم ورثة قورش الأكبر، وليس الأسد أو ضباطه أو ميليشياته الطائفية أو شبيحته؛ أو تذكيره بأنّ الإمبراطورية الأخمينية، التي ينتمي إليها بطله الفارسي محرّر اليهود، قامت أساساً على أنقاض ثقافات وشعوب وأمم كثيرة، في سورية وبلاد الرافدين والأناضول وفلسطين ومصر وليبيا وتخوم الهند ومقدونيا...

ومع ذلك فإنّ لمقارنة ستادلر صفة واحدة وجيهة، في نهاية المطاف، هي أنّ هذا القورش الحديث، الأسد، يؤدّي بالفعل دور حامي عبرانيي عصرنا، مواطني دولة إسرائيل اليهود؛ سواء على امتداد خطوط التماس في أراضي الجولان المحتلة، أم في الجنوب اللبناني حيث ينشغل "حزب الله" بطراز آخر من "المقاومة" في القصير ويبرود وحرستا... وبهذا المعنى، فإنّ اتفاق إيران وإسرائيل على مساندة النظام السوري وإطالة آجال بقائه ما أمكن الأمر، لا يعيد استكمال مهامّ قورش الأكبر القديمة، فحسب؛ بل يعيد أيضاً إحياء التفاهيم الفارسي ـ اليهودي، ويفسّر حماس صهاينة غربيين (ألكسندر آدلر، على سبيل المثال) لنظرية الإخاء الإيراني ـ الإسرائيلي في وجه "مخاطر الربيع العربي".

وقبل أربع سنوات عرض المتحف الوطني الإيراني، بإعارة من المتحف البريطاني، قطعة أثرية ثمينة هي أسطوانة قورش الاكبر الشهيرة، التي تعود إلى القرن السادس قبل المسيح (وكان ذاك هو العرض الثاني في الواقع، لأنّ الأسطوانة زارت إيران سنة 1971، خلال احتفالات الشاه محمد رضا بهلوي بالذكرى الـ2500 لقيام النظام الشاهنشاهي). وكان مفاجئاً أنّ صحيفة "كيهان" المتشددة طالبت بعدم ردّ الأسطوانة، لأنها "ملكية إيرانية"؛ متناسية أنّ القطعة، رغم صلتها بملك فارسي، لم تُكتشف في بلاد فارس، بل في بابل العراق، سنة 1879، وهي بالتالي ملكية عراقية بالمعاني التاريخية والأركيولوجية والحقوقية. كانت لافتة، كذلك، تلك اللغة الفارسية حقاً، المفعمة بالفخار القومي والاعتداد بأمجاد الماضي السحيق، التي صدرت عن كبار المسؤولين الإيرانيين، بصدد الأسطوانة.

فالرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد، لم يتردّد في وصف قورش بـ"ملك العالم"، الأمر الذي بدا مستغرباً من رأس نظام حرص على تخفيض نبرة التغنّي بماضي الفرس قبل الإسلام، وذلك على نقيض ـ مقصود، ومنهجي، ومدروس ـ ممّا كان يفعل الشاه. لا أحد، سوى السذّج، غاب عنه المغزى السياسي ـ أو الشعبوي، في جانب آخر هامّ ـ خلف حرص نجاد على زيارة أسطوانة قورش، وإسباغ أوصاف تفخيمية على ملك وثني في نهاية المطاف، كما يقول المنطق البسيط (وكما شدّد، حينئذ، آية لله صادق خلخالي، الذي أضاف أنّ قورش كان "مثلياً" و"عابداً للنار"). كذلك لم تغب عن الرئيس الإيراني السابق ضرورة "الموازنة"، التي لا تقلّ شعبوية بالطبع، بين الاحتفاء بملك فارسي حرّر اليهود من أسرهم البابلي، وبين موقف إيران الراهنة من دولة إسرائيل؛ فكان أن وصل إلى المعرض وقد أرخى على كتفيه... كوفية فلسطينية!

عودة، أخيراً، في اقتباس ثانٍ، إلى صاحبنا عبقريّ المقارنة القورشية: "إنّ المعركة التي يخوضها المسيحيون في الغرب هي المعركة ذاتها التي يخوضها المسيحيون في دمشق، وغروزني، وأجزاء أخرى من العالم الإسلامي. الأسد حليفنا، أحببنا هذا أم كرهناه، وعلى المسيحيين أن يبتهجوا إزاء التحالف مع رجل مستعدّ للغرق بسفينته بدل بيع المسيحيين"! وفي ضوء خلاصات كهذه، خاصة غرق السفينة، ألا يحقّ لأنصار النظام، من أبناء الطائفة العلوية تحديداً، أن يشككوا في هوية الأسد الطائفية، وأن يقترن الشكّ عندهم بمشاعر الحسد والغيرة من... مسيحيي قورش العصر؟  

الجمعة، 7 مارس 2014

بوتفليقة والأسد: خرافة الرئاسات إلى الأبد

 الواقعة تعود إلى يوم 21 آب (أغسطس)، سنة 2005، حين كان الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة مجتمعاً، في الجزائر العاصمة، مع ريشارد لوغار، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي. تناول بوتفليقة شؤون المنطقة، من العراق ما بعد صدّام حسين، إلى ليبيا، مروراً بمصر والسعودية؛ لكنّ اهتمامه الأكبر (على ما نقلت برقيات "ويكيليكس"، بعدئذ) انصبّ على إقناع لوغار بجدوى الانفتاح مجدداً على نظام بشار الأسد، خدمة لمصالح أمريكا في المقام الأوّل، وكذلك للحدّ من نفوذ إيران في المنطقة، وتحويل "حزب الله" من مجموعة عسكرية إلى حزب سياسي ممثّل في مجلس النوّاب اللبناني.

برهة أخرى، في تأكيد هذه العلاقة الخاصّة بين نظامَيْ العسكر في الجزائر وسورية، لأنها في الواقع سيرورة مركّبة تتجاوز العرى الشخصية الوثقى بين بوتفليقة وكلّ من الأسد الأب والأسد الابن؛ كانت سلسلة المواقف التي اتخذتها الدبلوماسية الجزائرية بعد انطلاق الانتفاضة الشعبية السورية، خلال اجتماعات الجامعة العربية، وخاصة التحفّظ على الفقرة الثالثة من قرار الجامعة، لشهر تموز (يوليو) 2012، والتي طالبت الأسد بالتنحي عن السلطة. التكملة المنطقية لهذه البرهة كانت هتاف المتظاهرين في سورية: "خاين خاين خاين! بوتفليقة خاين!"؛ وقيام بعض المتظاهرين الجزائريين، في الجزائر، باستعارة واحدة من لافتات بلدة كفرنبل الشهيرة، تقول: "إلى النظام الجزائري: سيل الربيع العربي قادم... فأين المفرّ؟".

العسكر، والأجهزة الأمنية، والتركيبة العائلية في إدارة الاقتصاد والكثير من مراكز القرار في هرم السلطة، فضلاً عن النزوعات العقائدية "البعثية" داخل حزب "جبهة التحرير الوطني"، وقهر المجتمع والسياسة بذريعة "الحملة على الإرهاب"، ثمّ الخشية من انتقال رياح "الربيع العربي" لتعصف بأركان النظامين، والسلطات الواسعة التي يمنحها "الدستور" في البلدين لمنصب الرئاسة، بين عناصر أخرى مشتركة... كل هذه أتاحت ذلك المستوى المتقدّم من التضامن، التبادلي، بين بوتفليقة وعسكر الجزائر عموماً؛ ونظام "الحركة التصحيحية" في سورية، كما ورثه الأسد الابن من أبيه، وتابع نهجه وأعرافه. يكتب الصحافي الجزائري كامل داود: "إذا تعرّضتم لي، فسينهار الشرق الأوسط وينزلق إلى الفوضى، يقول السوري بشار الأسد. إذا تعرّضتم لي، فإنّ 'القاعدة' سوف تُلحق الخراب بالمنطقة، يقول الجزائري بوتفليقة. أنا ضامن أمن التزويد بالطاقة، يضيف الجزائري. أنا ضامن أمن إسرائيل، على النقيض من المظاهر، يجيب السوري"!

لم يكن ينقص، إذاً، إلا إعلان بوتفليقة (76 سنة)، ولكن بلسان رئيس وزرائه عبد المالك سلال، العزم على الترشيح لولاية رابعة، اعتماداً على التعديل الدستوري الشهير، لسنة 2008، الذي ألغى تقييد شغل المنصب بولايتين، فجعله مدى الحياة، ما دام الشعب راضياً سعيداً! ولولا ما يتردد، همساً بالطبع، عن ضيق صدر الجنرال محمد مدين، رئيس الاستخبارات المعروف باسم "توفيق"، بهذا الترشيح؛ لأقرّ المرء بأنّ مجمّع النظام الحاكم منخرط، كالبنيان المرصوص، خلف بوتفليقة. لقد بدأت المؤشرات الأولى عندما شنّ عمار سعداني، الأمين العام لـ"جبهة التحرير"، هجوماً غير مسبوق على مدين، فاتهمه بتنظيم "حملة فضائح وأكاذيب" ضدّ أعوان بوتفليقة؛ ثمّ استُكملت المؤشرات حين صوّت الحزب على ترشيح "المجاهد عبد العزيز بوتفليقة" لخمس سنوات رابعة...

وكما أنّ انتخابات 2004 و2009 جلبت لبوتفليقة نسبة 85 و90 في المئة، على التوالي؛ فإنّ نسبة 97 بالمئة كانت نصيب الاستفتاء على مشروع "الميثاق من أجل السلم والمصالحة الوطنية"؛ الذي اقترحه الرئيس الجزائري لطيّ العقد الدامي الذي عاشته الجزائر بين 1992 و2003، وأسفر عن أكثر من 150 ألف قتيل وآلاف المفقودين؛ ثمّ أصبح الميثاق، في 28 شباط (فبراير) 2006، قانوناً رسمياً، موازياً لأحكام "الدستور"، وركيزة ثانية في سلطة بوتفليقة. غير أنّ الإشكالية الأولى في ذلك الميثاق/القانون تمثلت في نقص فادح بصدد ملفّين حاسمين وأساسيين: المفقودين (إذْ لا ينصّ الميثاق على أية أوالية ملموسة تضمن الكشف عن مصائرهم)؛ وملفّ محاسبة الجنرالات، والمافيات الأمنية، أو أية جهات حكومية سلطوية ارتكبت أعمال الخطف والاعتقال التعسفي والتنكيل بالمواطنين، فضلاً عن ممارسة الفساد ونهب البلاد (العكس هو الصحيح، لأنّ الميثاق يقول لهم، عملياً: عفا الله عمّا مضى!).

في جانب آخر، وفي استحقاق لا يقلّ أهمية عن العفو والتسامح والمصالحة، ينطوي الميثاق على ما يشبه الشرعنة التامة لرواية وحيدة عن ذلك العقد الجزائري الدامي؛ هي سردية السلطة كما سردتها قبل التصويت على الميثاق، إذْ لن تكون بعده أية رواية أخرى... تحت طائلة القانون! والأمر ينقلب إلى ما يشبه التحريم التامّ في المسألة الأكثر حساسية ومأساوية، أي ملفّ المفقودين، كما في النصّ العجيب الذي يمهّد للبند 4: "إنّ الشعب الجزائري صاحب السيادة يرفض كلّ زعم يقصد به رمي الدولة بالمسؤولية عن التسبب في ظاهرة الافتقاد. وهو يعتبر أن الأفعال الجديرة بالعقاب، المقترفة من قبل أعوان الدولة الذين تمت معاقبتهم من قبل العدالة كلما ثبتت تلك الأفعال، لا يمكن أن تكون مدعاة لإلقاء الشبهة على سائر قوّات النظام العامّ التي اضطلعت بواجبها بمؤازرة من المواطنين وخدمة الوطن".

وللمرء أن يراهن أنّ تسعة أعشار ضباط الأسد، في صفوف أجهزته الأمنية وقوّاته الموالية وفصائل الشبيحة ومفارز الميليشيات الطائفية، سوف يراودهم الحلم باعتماد فقرو مماثلة، وبالحرف، في سورية. فإلى جانب الطابع الديماغوجي الذي يكتنف صياغة النصّ، فإنّ منطوقه كان كافياً لتبرئة ذمّة القتلة بذريعة السيادة الوطنية؛ والحفاظ على حصانة الدولة بأسرها، وسمعتها، وشرفها، كاملة تامة، منيعة معفاة من كلّ وازرة! غير أنّ ما حدث في الجزائر، يوم 11 كانون الثاني (يناير) 1992، كان انقلاباً عسكرياً صريحاً نفّذه جنرالات الجيش ومؤسسات الحكم المدنية المتحالفة مع مختلف أجهزة السلطة. وباسم الدولة وحفاظاً عليها، بذرائع صيانة السلم الأهلي ودرء الأخطار المحدقة بالوطن، انقضّ الجيش على المؤسسات بدءاً من رئيس الجمهورية آنذاك الشاذلي بن جديد، وانتهاء بأصغر مجلس بلدي. كما فُرض قانون الطوارىء، وألغى نتائج الانتخابات التي حققت فيها "جبهة الإنقاذ" انتصاراً صريحاً؛ فانفتح الباب عريضاً على السيرورة (الطبيعية والمنطقية) للتحوّلات الكبرى في الحياة السياسية عموماً، وتصاعدت خيارات العنف ضمن تيارات الإسلاميين وأجهزة السلطة العسكرية والأمنية على حدّ سواء.

ويخطيء مَنْ ينسى أنّ عمليات الإرهاب في الجزائر كانت خير ساتر للسلطة في تمرير المشاقّ الاجتماعية الناجمة عن الشروط التي فرضها "صندوق النقد الدولي" على البلد، بحيث بات الجزائري العادي رهينة هاجس البقاء على قيد الحياة، قبل هاجس الإلتفات إلى شجون وشؤون المعاش اليومية. ذلك، بمعنى آخر، كان شكلاً معقداً و"غير مرئي" من أشكال دعم برامج السلطة الحاكمة، بما في ذلك التواطؤ الصامت مع أساليبها القمعية التي لم يكن لها أي نصيب ملموس من النجاح في الحدّ من استفحال العنف الدامي. ولعلّ العكس هو الذي صار صحيحاً فيما بعد، حين أخذ الإرهابيون يعملون في وضح النهار وبسهولة أكثر، وتبدلت نوعية الضحية: من رموز السلطة السياسية والأمنية والعسكرية، إلى الجزائري العادي، الشيخ والطفل والمرأة.

كذلك يخطيء مَنْ ينسى أنّ حمامات الدم المفتوحة تلك، ودورة العنف الإرهابي الأهلي الأبشع في التاريخ الجزائري الحديث بأسره، كانت أو تظلّ مسألة جزائرية داخلية تبرّر القول: وماذا في وسع العالم أن يفعل حين يقتل الجزائري شقيقه الجزائري، في حرب أهلية طاحنة تدور رحاها منذ عقد ونيف؟ فليس بجديد القول إن فرنسا غارقة حتى أذنيها في المعضلة الجزائرية، لأسباب تاريخية كولونيالية معروفة، ولكن أيضاً بسبب التراث الأحدث لمجموعة المواقف الفرنسية بعد انقلاب 1992. والفرنسيون يسددون اليوم ديون الأمس القريب، خصوصاً حين أدركوا أنّ ضغط تلك الديون أخذ يترجم عواقبه في عمليات تصدير العنف إلى داخل أنفاق المترو في قلب باريس، حيث يودي الإرهاب بأرواح فرنسية بريئة، تماماً كما أودى ويودي بأرواح جزائرية بريئة.

من جانبها، وفي الموقف من الإسلام السياسي كما في الموقف من أية قضية أخرى شرق أوسطية، ظلت واشنطن على عهدها في خدمة المصالح القومية الأمريكية، فضلاً عن ضمان أمن إسرائيل العسكري والسياسي والاقتصادي، وتوسيع دائرة المغانم الستراتيجية الناجمة عن احتلال العراق. وهكذا، كان في وسع البيت الأبيض غضّ النظر عن حمامات الدم وتلال الجثث الأهلية في الجزائر، بل و"التطنيش" التامّ المذهل عن حقيقة أنّ الجزائر كانت تشهد إرهاباً من نوع أعمى، أشدّ قسوة وبربرية من أيّ إرهاب تزعم الولايات المتحدة أنها تخوض حرباً شاملة لاستئصاله. وتناسى أشخاص مثل ريشارد بيرل، وبول ولفوفيتز ودونالد رمسفيلد وكوندوليزا رايس، أنّ شعار الجماعات الإسلامية المسلحة في الجزائر كان يسير هكذا: "لا حياد في الحرب، وباستثناء الذين معنا فإن الآخرين كافرون". ولكن كيف كان لهؤلاء أن يتذكروا مثل هذا الشعار، إذا كانوا هم أنفسهم قد صاغوا، وأطلقوا على لسان رئيسهم، الشعار المانوي الشهير: مَن ليس معنا فهو ضدّنا؟

وبهذا المعنى كان يُفهم إصرار رجل مثل حسين آيت أحمد على الربط بين مشروع بوتفليقة في المصالحة الوطنية (حيث أنّ أهداف المشروع الكبرى كانت، في يقينه، تهدف إلى تبييض الجنرالات بما يتيح استمرار تحالفهم مع بوتفليقة، تمهيداً لتعديل الدستور ومنح الرئيس الحالي عدداً لانهائياً من الولايات الرئاسية، أسوة بأشقائه الرؤساء العرب... وهذا ما جرى بعدئذ، بالفعل!)؛ وبين ما تحظى به سلطة بوتفليقة من تأييد فرنسي وأمريكي صريح، لعلّه بدا فاضحاً أحياناً. وإذا كان آيت أحمد قد بالغ، في كثير أو قليل، حول طبيعة هذا الدعم؛ فإنّ الثابت، مع ذلك، أنّ الديمقراطيات الغربية تنفست الصعداء بعد انقلاب 1992، حين صادر الجيش الجزائري صندوق الاقتراع (طوطم الديمقراطية الغربية!)، ودفع الجزائر إلى بركة الدم. وحدث، استطراداً ومراراً، أنّ الديمقراطيات إياها انتقلت سريعاً إلى ما هو أدهى  من تنفّس الصعداء: إلى مدّ المافيا العسكرية بأسباب البقاء اللازمة، لا لشيء إلا لكي تسيل أنهار جديدة من دماء الجزائريات والجزائريين!

المقارنات بين الجزائر وسورية، ثمّ بين بوتفليقة والأسد استطراداً، وافرة متزايدة ضاربة الأطناب؛ وليتها اقتصرت على محض نزوع استبدادي إلى إعادة إنتاج خرافة رئاسات مديدة لانهائية، مفتوحة إلى أبد الأبد.

الأحد، 2 مارس 2014

من بيت جالا إلى حلب: القدامة السورية

 ضمن أنشطة الربيع الثقافي الفلسطيني، الذي احتضنته فرنسا سنة 1997 وكان نقلة نوعية وغير مسبوقة على الصعيد الأوروبي، سواء من حيث طبيعة الأنشطة، أم الأسماء المشاركة (فدوى طوقان، محمود درويش، عز الدين المناصرة، أحمد دحبور، سحر خليفة، أنطون شماس، ليانا بدر، غريب عسقلاني، زكي العيلة، رياض بيدس...)؛ تشرّفت بالمشاركة في تأليف كتاب جماعي، مع إلياس صنبر وجان ـ كلود بونسيه، نُشر بالفرنسية، حول التحدّيات الثقافية التي تواجهها فلسطين، راهناً وفي المستقبل. وقد تناولتُ عشر شخصيات فلسطينية، تبدأ من روحي الخالدي وتنتهي عند إدوارد سعيد؛ وكان في عدادهم (بالطبع، إذْ كيف أمكن أن يغيب!) الطبيب والأديب والباحث والمؤرّخ والأنثروبولوجي توفيق بشارة كنعان (1882 ـ 1964).

وإذْ أعود إليه اليوم، فلأنّ هذه السنة تدشّن الذكرى الخمسين لرحيله، وإلقاء تحية إجلال على ذكراه هي واجب الحدّ الأدنى؛ وكذلك لأنّ حياة هذا العلاّمة، وبعض أعماله، كانت لها صلات سورية وثيقة، الآن إذْ يطالب البعض بفكّ الارتباط بين فلسطينيي سورية والسوريين؛ وكأنّ مخيّمات اليرموك في دمشق، والرمل الجنوبي في اللاذقية، والنيرب في حلب، والعائدين، في حمص... يمكن أن تبقى جزراً آمنة رغيدة، ناجية من وحشية النظام السوري.

وهذا رجل كان مسيحياً أرثوذكسياً، لبناني الأصول، لكنه ساجل بأنّ الفلسطيني ينتمي بقوّة إلى عمقه العربي والإسلامي، حتى حين يفاخر بنتاج جماع مركّب، لثقافات بابلية وعمورية وآرامية وكنعانية وفينيقية وفرعونية وعبرانية وهيللينية. وفي كتابه الهام "قضية عرب فلسطين"، الذي صدر أوّلاً بالإنكليزية وترجمه إلى العربية النهضوي العلماني المعروف سلامة موسى سنة 1936، وصف كنعان أهمية الفتح العربي الإسلامي لفلسطين في القرن السابع، وكيفّ تعرّب الفلسطينيون سريعاً، فولدت هويتهم وترسخت أكثر فأكثر مع الغزوات الخارجية اللاحقة (الصليبية والعثمانية والغربية)، دون أن تخسر عناصرها التكوينية الأولى.

ولد كنعان في بيت جالا، البلدة الفلسطينية التي تتّسم بتعددية مسيحية ـ إسلامية مميّزة، ودرس في دار المعلمين بالقدس، ثم التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت، وتخرج منها طبيباً عام 1905. هذا الطور الأول، في مراقبة المحيط الفلسطيني والعربي المجاور، أعقبه طور العمل الطبي الميداني الواسع، حتى عام 1947؛ حين عمل في مستشفيات فلسطين، وترأس دائرة الملاريا التابعة لمكتب الصحة العام، كما ترأس دائرة المختبرات الطبية العثمانية، التي يمتدّ نشاطها من بئر السبع في فلسطين إلى مدينة حلب شمال سورية. وتابع أثناء ذلك تعميق معرفته الطبية، فدرس علم الجراثيم والأمراض الاستوائية وأمراض الدرن على يد أطباء ألمان، وكان اتقانه لستّ لغات قد أتاح له توسيع معارفه النظرية، وكتابة المقالات في صحف بريطانية وألمانية وفرنسية.

ولسوف تتكامل ملامح كنعان الأنثروبولوجي، بالمعنى الدقيق لفروع علم لم يكن قد دخل إلى العالم العربي بعد، لأسباب تاريخية وثقافية (ذات صلة بالقراءة الدينية لأصل الإنسان والتكوين)، واجتماعية (على رأسها أنّ العلم بدا عنصرياً وغربي التمركز في حديثه عن الأقوام البدائية وشعوب آسيا وأفريقيا). ففي فرع الأنثروبولوجيا الجسمية الفيزيقية، وضع كنعان كتباً في الطبّ المحض (مثل "حبّة حلب"، و"التهاب السحايا الدماغية والشوكية في القدس"، و"عدوى الجذام")؛ وفي علم اجتماع الطبّ أيضاً (كتابه المدهش "الطبّ الشعبي في أرض الكتاب المقدس"، و"علم النبات في الخرافات الفلسطينية"، و"طاسات الرعبة العربية")؛ وهي مؤلفات تدرس تاريخ العلاقة الوثيقة بين العلاج المادي عن طريق التداوي بالأعشاب، والعلاج النفسي عن طريق توظيف رموز الخرافة الشعبية وأساطيرها.

وفي فرع الأنثروبولوجيا الثقافية كتب كنعان عشرات المقالات التي تناقش ظواهر أنثروبولوجية ثقافية مباشرة: النور والظلام، اللعنة، الطفل، ماء الحياة، رموز الطلاسم العربية، الينابيع المسكونة، الشياطين المائية... كذلك امتدت نشاطاته البحثية لتشمل الدراسات الجغرافية والأركيولوجية والمعمارية، فتناول طرق القوافل العربية الفلسطينية، وطبوغرافية منطقة البتراء، وعمارة البيت الفلسطيني التقليدي، والأنساق المعمارية للمزارات الإسلامية ودلالاتها الروحية.

ثمة، غنيّ عن القول، ذلك الجانب النضالي في شخصية كنعان: أنه اعتبر "الإمبريالية البريطانية" شريكة مع "الصهيونية العالمية" في الاستيلاء على فلسطين، فعمدت سلطات الإنتداب البريطانية، سنة 1939، إلى اعتقاله، مع زوجته وشقيقته، بالتهمة الكاذبة الرائجة آنذاك (الدعاية لألمانيا الهتلرية)، وزُجّ به في سجن عكا. ولم تكن مفارقة كبيرة أن يقتسم الطبيب والأنثروبولوجي والمؤرّخ المسيحي، التهمة ذاتها مع الحاج أمين الحسيني، المسلم والشيخ ومفتي القدس. وفي جانب آخر، يشير سليم تماري، أستاذ علم الاجتماع في جامعة بير زيت، إلى أنّ أنشطة كنعان الإثنوغرافية تبلورت ضمن سياقات فكرية ارتبطت بصعود النزعة القومية الفلسطينية، نتيجة تطوّرَين: هزيمة اللامركزية العثمانية، وتكوّن الهوية السورية العظمى.

وبعد ثلاثة عقود أعقبت ترحال كنعان في المحيط السوري، سوف يولد فلسطيني آخر اسمه محمود درويش؛ وسيكتب هكذا: "أنا ابن الساحل السوري/ أسكنه رحيلاً أو مقاما / بين أهل البحر/ لكنّ السراب يشدّني شرقاً/ إلى البدو القدامى"؛ أو يكتب هكذا: "وزنزانتي اتسعت شارعاً، شارعين. وهذا الصدى/ صدى، بارحاً سانحاً. سوف أخرج من حائطي/ كما يخرج الشبح الحرّ من نفسه سيّدا/ وأمشي إلى حلبٍ. يا حمامة طيري/ بروميّتي، واحملي لابن عمي/ سلام الندى"...

الجمعة، 14 فبراير 2014

فاروق الشرع: بدأ بيدقاً ممنوعاً من الارتقاء.. وهكذا ينتهي

 المكان: جنيف، إياها التي على كلّ شفة ولسان اليوم، بصدد الشأن السوري؛ لكنّ الزمان مختلف، يرتدّ 14 سنة إلى الوراء، يوم 26 آذار (مارس) سنة 2000؛ والسياق هو القمة الثنائية بين الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلنتون، وحافظ الأسد، للبحث في اتفاقية سلام بين النظام السوري وإسرائيل. حضور الاجتماع، إلى جانب كلنتون والأسد، هم فاروق الشرع وزير خارجية النظام، وبثينة شعبان (بوصفها مترجمة الأسد الشخصية)؛ ومن الجانب الأمريكي، وزيرة الخارجية مادلين ألبرايت، ومساعدها لشؤون الشرق الأوسط دنيس روس، وجمال هلال (مترجم كلنتون). هنا واقعة، نقلها الصحافي الفرنسي المخضرم شارل أندرلان، في كتابه "الأحلام المحطمة: فشل عملية السلام في الشرق الأوسط، 1995 ـ 2002"؛ ذات صلة بموضوع هذه المقالة:

يبدأ كلنتون في تلاوة الرسالة التي وصلته من إيهود باراك، رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، وعندما يذكر عبارة "الحدود المتفق عليها"، يقفز الأسد على قدميه ويسأل: "أي حدود متفق عليها؟ هل هذا خطّ 4 حزيران/يونيو 1967؟" فيردّ كلنتون: "دعني أكمل... سوف تحتفظ إسرائيل بالسيادة على بحيرة طبريا وشريط من الاراضي..."؛ وهنا يقاطعه الأسد: "الإسرائليون لا يريدون السلام! لا جدوى من الاستمرار". يتوقف كلنتون عن تلاوة الرسالة، ليقول: "فاروق الشرع شرح لنا في شبردزتاون أنه، ما دام خطّ حدود 1923 وخطّ 1967 ليسا مختلفين على هذا الجزء من البحيرة، فالأمر يتعلق بالمساحة إذاً، وليس بالمبدأ. هنالك فارق عشرة أمتار". هنا يلتفت الأسد إلى الشرع، ويسأله: "هل قلتَ هذا؟"، فيجيب الأخير: "ما قلته هو أنه حتى حدود 1923 غير مقبولة بالنسبة إلينا".

مناسبة استعادة هذه الواقعة هي التقارير التي راجت مؤخراً، وهي في الواقع تعيد إنتاج تقارير مماثلة شاعت الصيف الماضي، حول وضع فاروق الشرع، نائب بشار الأسد، رسمياً على الأقلّ، تحت الإقامة الجبرية؛ مع تنويع جديد، مثير: أنّ أفراد الحرس المكلّفين بهذه المهمة ليسوا سوريين، بل هم عناصر "الحرس الثوري" الإيراني. الثابت مع ذلك، بصرف النظر عن مقدار الصحة في هذه التقارير، أنّ الشرع غائب، أو مغيّب، عن واجهة الدولة كما تعكسها أجهزة النظام الإعلامية في التغطيات اليومية؛ وأنه، استطراداً، فقد حتى تلك الصفة الاستشارية، الرمزية غالباً، التي منحها له الأسد خلال الأشهر الأولى التي أعقبت انطلاق الانتفاضة الشعبية السورية، في آذار 2011. وهذا مآل منطقي، غنيّ عن القول، لأنه يتسق تماماً مع مسارات الشرع في معمار "الحركة التصحيحية"، منذ سفارة النظام في إيطاليا، سنة 1976، وحتى نيابة الأسد الابن سنة 2006؛ مروراً، بالطبع، بوزارة خارجية النظام، وقبلها الشؤون الخارجية، طيلة 26 سنة!

هي، في عبارة أخرى، مآلات خادم النظام الطيّع المنفّذ، والموظف المدني الذي تتسع صلاحياته أو تضيق طبقاً للحاجة إليه، والبيدق الممنوع من الارتقاء إلى سلطة فعلية أو فاعلة في الهرم الأعلى، والذي يُستغنى عنه عند الحاجة، أو يُضحى به دون أدنى أسف... تلك حال نماذج مرّت في هذا أو ذاك من أطوار "الحركة التصحيحية"، فسادت (في موقع البيدق دائماً)، ثمّ بادت، فلم تخلّف أثراً بعد عين؛ على شاكلة أحمد الخطيب ("رئيس الجمهورية"، حين كان الأسد الأب رئيس وزراء!)، أو عبد الرؤوف الكسم (أشهر "التكنوقراط" في وزارات الأسد، والذي لم يمتلك سلطة لجم خليل بهلول، رئيس مؤسسة الإسكان العسكرية، والضابط برتبة مقدّم!)، وصولاً إلى محمود الزعبي (مواطن الشرع، الذي تولى رئاسة الوزارة 13 سنة متتالية، حتى انتحر أو انتُحر!)...  

وهكذا، في العودة إلى الشرع، مَنْ يتذكّر اليوم "هيئة الحوار الوطني"، التي شكّلها الأسد في حزيران (يونيو) من ذلك العام، وعهد برئاستها إلى الشرع، وضمّت أبناء النظام (الأخير نفسه، بالإضافة إلى هيثم سطايحي عضو القيادة القطرية لحزب البعث، و ياسر حورية زميله في القيادة)؛ أو المتحالفين معه في ما يُسمّى "الجبهة الوطنية التقدّمية" (صفوان قدسي الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي، وحنين نمر الأمين العام للحزب الشيوعي السوري ـ جناح يوسف فيصل)؛ أو المسبّحين بحمد النظام (عبد الله الخاني، وليد إخلاصي)؛ أو العاملين في مؤسساته (منير الحمش، إبراهيم دراجي)؟ وماذا نُفّذ، أو تبقى، من المهامّ التي أوكلها الأسد إلى هؤلاء: "صياغة الأسس العامة للحوار المزمع البدء به بما يحقق توفير مناخ ملائم لكل الاتجاهات الوطنية للتعبير عن أفكارها وتقديم آرائها ومقترحاتها بشأن مستقبل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سورية، لتحقيق تحولات واسعة تسهم في توسيع المشاركة وخاصة فيما يتعلق بقانونَيْ الأحزاب والانتخابات وقانون الإعلام، والمساهمة في وضع حد لواقع التهميش الاجتماعي والاقتصادي الذي تعاني منه بعض الشرائح الاجتماعية"...؟

وحين وبّخ الأسد وزير خارجيته، الشرع، في اجتماع جنيف سابق الذكر، كان يدرك جيداً أنّ الأخير لا يسمح لجفنه أن يرفّ دون موافقة سيده، وأنّ ما قاله عن حدود 1923 و1967 كان مستوحىً من التوجيهات الحرفية التي حملها معه من دمشق إلى شبردزتاون. ولكنّ الأسد مارس، في المقابل، ما يتوجب على دكتاتور مثله أن يمارسه إزاء أداة تخدم عنده، فكذّب الشرع، لكي يحرّكه كقطعة بيدق في شطرنج المناورة مع كلنتون. ذلك لأنّ جدول أعمال مفاوضات شبردزتاون، وكما تكشف لاحقاً، كان يسير وفق الأولويات الإسرائيلية، لا تلك التي يريدها النظام: العلاقات السلمية الطبيعية (التطبيعية، في العبارة الأوضح)؛ الترتيبات الأمنية (ما ستحصل عليه إسرائيل من الولايات المتحدة، مساعدات مالية واسلحة، لقاء الانسحاب من، أو في، أراضي الجولان)؛ المياه (تحكّم الإسرائيليين المطلق، أو الشراكة التي لا تمسّ التحكّم المطلق، في منابع بانياس والضفة الشرقية من نهر الأردن والضفة الشمالية ـ الشرقية من بحيرة طبريا والضفة الشمالية من نهر اليرموك)؛ والحدود الدولية (في إطار الفارق بين حدود الانتداب التي رُسمت العام 1923 وحدود 1967 كما رسمتها الحرب). 

وفي أواخر العام 1999، لاح أنّ أكثر من نار هادئة تُطبخ في واشنطن ودمشق والقدس المحتلة، هدفها "ترطيب" الأجواء أو "تطبيع" النقائض، أمام معوقات الحوار بين إسرائيل والنظام السوري. صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أماطت اللثام عن ترتيبات لعقد "قمّة روحية" فريدة في دمشق، يحضرها مفتي النظام آنذاك، الشيخ أحمد كفتارو، ويسرائيل لاو كبير حاخامات إسرائيل، والحاخامات إلياهو بكشي، وعوفاديا يوسف (الزعيم التاريخي لحركة "شاس") ويوسف جيجاتي (حاخام اليهود السوريين). ثمّ توالت أخبار اللقاء المشهود ـ و"التاريخي" حسب توصيف الصحافة الإسرائيلية ـ بين مفتي النظام الحالي، الشيخ أحمد بدر الدين حسون والحاخام الأكبر للجالية اليهودية في النرويج يوئاف ملكيئور؛ ذلك اللقاء الذي لم يكن روحياً فحسب، كما حرص المفتي على التأكيد، بل تضمّن طلب الحاخام من حسون أن يبذل مساعيه الحميدة من أجل نقل رفاة الجاسوس الإسرائيلي الشهير ايلي كوهين إلى إسرائيل.

ثالثاً، في جانب غير روحيّ البتة، على الجبهة الدبلوماسية ـ السياسية، كان سفير النظام في لندن، سامي الخيمي، قد صرّح بالتالي: "تعيش في سورية أقليات كثيرة، من مسيحيين وأرمن وأكراد. ولا توجد أي مشكلة في أن يعيش إسرائيليون أيضاً". تصريحات السفير وردت خلال ندوة نظمها "المركز الإعلامي السوري" في لندن، تحت عنوان "هضبة الجولان: ننهي الاحتلال، وننشيء سلاماً"، في مناسبة الذكرى الأربعين لاحتلال الجولان، وجاءت ردّاً على سؤال مباشر حول مصير مستوطني الهضبة في حال انسحاب الدولة العبرية منها. ولقد سارع الخيمي إلى تصحيح أقواله تلك، وأنّ جوابه كان أنّ المستوطنين "قد يفضّلون البقاء تحت السيادة السورية، كون سورية بلد مسالم بالنسبة لكلّ جيرانها، بلد علماني يحترم كل الأديان ويتمتع فيه كافة المواطنين بحقوق متساوية"، كما جاء في صحيفة "السفير" اللبنانية.

أخيراً، لن تتكامل جهود المفتي وجهود السفير إلا إذا صبّت المياه في طاحونة التلميح والتصريح التي يشغّلها وزير الخارجية، وليد المعلّم. ولقد جاء في الأخبار أنّ مايكل وليامز، المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في الشرق الأوسط، نقل إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت استعداد دمشق للعودة فوراً إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل، دون شروط مسبقة. وسلّم وليامز الرسالة إلى أولمرت بحضور الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، أثناء مأدبة عشاء أقامها داني غليرمان، المندوب الإسرائيلي. وأمّا الطرف المرسِل فقد كان وليد المعلّم، مفوّضاً من سيّده الأسد، الذي ينتظر الوسيط الأممي نفسه، وما يمكن أن يكون ردّ أولمرت على عروض دمشق.

مَن الذي سيختاره الأسد لإدارة هذه "الأضرار"، الروحية والدبلوماسية؟ ليس وليد المعلّم، ولا السفير الخيمي، ولا المفتي حسون؛ بل... الشرع، دون سواه. وهكذا خرج على العالم بتصريحات تقول إنّ "إسرائيل والولايات المتحدة لا تريدان السلام مع الفلسطينيين، ولا مع سورية"؛ التي "تأخذ كلّ الاحتمالات على محمل الجدّ، وتعطي الأولوية للسلام". ومع ذلك فإنّ النظام لم يعقد مفاوضات سرّية مع إسرائيل، لأنّ "الاتصالات السرية هدفها فقط التنازل، وسورية غير مستعدة للتنازل". ولكي يذهب أبعد، في جانب تسديد بعض النيران على البيت الأبيض تحديداً، قال الشرع إنّ اتفاقاً بين النظام وإسرائيل "سوف ينقصه الدعم الأمريكي اللازم، "لأنّ "الرئيس الأمريكي جورج بوش قال بصريح العبارة أخيراً: أنا لا أريد السلام مع سورية".

فهل كانت علنية، أم سرّية، تلك "المشاورات التي أجراها الشرع، خلال ثمانية اجتماعات مطوّلة مع السوري ـ الأمريكي إبراهيم سليمان، الذي كان قد اجتمع مع مسؤولين إسرائيليين، وضمّت لقاءاته بهم مسؤولاً بارزاً في قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية السويسرية (نيكولاس لانغ)؛ والأمريكي اليهودي جيفري أرونسون، مدير الأبحاث والمطبوعات في "مؤسسة سلام الشرق الأوسط" في واشنطن؟ وكيف يصف الشرع اجتماعاته مع هذا "المواطن السوري"، بعد أن زار الأخير إسرائيل، وألقى كلمة أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، رمى خلالها القفاز: "أتحدى الحكومة الإسرائيلية أن تردّ على نداء السلام الذي أطلقه الأسد، وأن تجلس إلى طاولة المفاوضات مع السوريين"؟

وبيدق كهذا، قصارى القول، كيف له أن يرتقي أعلى من السقف الذي منحه له النظام؛ سواء حجر عليه "الحرس الثوري" الإيراني، في قلب دمشق، أم طالب به أحمد الجربا بديلاً لوليد المعلّم، في جنيف؟