وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 18 فبراير 2013

مظاهرة الحريقة: تلك الشرارة..

 مرّت يوم أمس الذكرى الثانية لـ"مظاهرة الحريقة"، ذلك الحدث النوعي الفارق الذي شهدته دمشق، في قلب مناطقها التاريخية التجارية، يوم 17 شباط (فبراير) 2011، وارتفع فيه هتاف ـ نوعي بدوره، وفارق أيضاً ـ كان أقرب إلى نذير بدنوّ الصحوة الشعبية العارمة. ولم يكن شعار "الشعب السوري ما بينذلّ" تذكرة لنظام الاستبداد والفساد، بأنّ هذا شعب كرامة وعزّة ومقاومة، فحسب؛ بل كان نذيراً صاعقاً بأنّ دولة الباطل ساعة، وتلك الشرارة، التي منها سوف يندلع اللهيب، آتية لا ريب فيها. ولعلّ التفصيل المميز الثاني، الذي طبع تلك المظاهرة، كان احتشاد قرابة ألف مواطن سوري، على نحو عفوي، وخلال ربع ساعة أعقبت الاعتداء على المواطن عماد نسب، بعد احتجاجه على شرطي سير كان قد وصفه بـ"الحمار".

كان جلياً أنّ سخط المتظاهرين يذهب أبعد، بكثير في الواقع، من مجرّد إهانة لفظية ظلّ المواطن السوري يتعرّض إلى ما هو أقبح منها، وأشدّ مضاضة وقسوة، طيلة اربعة عقود من حكم آل الأسد، ونظام "الحركة التصحيحية". كان الشارع الشعبي السوري يرقب عن كثب، ويتبصّر ويتأمل، ما جرى ويجري في تونس ومصر وليبيا واليمن؛ وكان، في القرارة الأعمق مثل السطوح الأولى لمستويات الشعور الجَمْعي، يدرك أنّ سورية ليست أقلّ استحقاقاً للكرامة، وللتحرّر من ربقة الطغيان، وبناء مستقبل أفضل، من أشقائها العرب الذين انعتقوا. وكانت عربة خضار التونسي محمد البوعزيزي ماثلة، أغلب الظنّ، في الأذهان والأبصار، في ما يخصّ رفض الذلّ والإذلال أوّلاً، والتطلع إلى العيش الكريم، حتى قبل أن يتعالى الشعار الأيقوني: "الشعب يريد إسقاط النظام".

ولم يكن غريباً، في اقتفاء التفصيل المميز الثالث، أن تتكشف بعض أسوأ مظاهر الاستبداد، وأقبحها، في مسارعة وزير وزير داخلية النظام آنذاك، اللواء سعيد سمور، إلى محاولة تنفيس الغضب الشعبي العارم، عن طريق اصطحاب المواطن المعتدى عليه، في سيارة الوزير المصفحة ذاتها، وإطلاق سراحه أمام المتظاهرين، والوعد بمعاقبة المعتدين عليه من عناصر الشرطة. إلا أنّ مسرحية الوزير ما كان لها أن تكتمل لولا ما أعلنه، وهو يطلّ برأسه ونصف جسمه من السيارة: "عيب يا شباب! هذه اسمها مظاهرة"! بالطبع، ولعلها أكثر من عيب في تراث النظام، وهذا ما التقطه علي فرزات في رسم كاريكاتوري ذكي، يُظهر الوزير وهو يقول: "عيب.. هي مظاهرة! وكلّ مظاهرة بدعة.. وكل بدعة ضلالة.. وكل ضلالة في الناااااار!".

وضمن هذا التفصيل ذاته، كان واجباً أن يدخل "الشبيحة" إلى المشهد، لأوّل مرّة في مدوّنة الانتفاضة السورية، عن طريق أداء تلك المهمة العليا في سلّم الشعائر الديماغوجية، الغوغائية، و"التشبيحية" باختصار شديد: ترديد الهتاف الخالد "بالروح! بالدمّ! نفديك يا بشار!"؛ لكي يطغى على هتاف "الشعب السوري ما بينذلّ"، وأيضاً لكي يوحي بأنّ في الحريقة مظاهرة أخرى موازية، وموالية. لافت، إلى هذا، أنّ خليطاً من الارتباك والعجب والاستشراس والذعر والحيرة كانت تتبدى، في آن معاً، على لغة الجسد كما افتُضحت رموزها في وقفة وزير داخلية النظام، وكذلك في سلوك قطعان الشبيحة أنفسهم. ذلك لأنّ الجهاز الأمني لم يكن معتاداً، البتة، على مفهوم "المظاهرة"، فكيف بقرابة ألف حنجرة تهتف، في رابعة النهار، وفي قلب دمشق، بأنّ الشعب السوري لا يُذلّ؟

بشار الأسد كان، من جانبه، يجترّ ما قاله في حوار مع صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، قبل أسبوعين فقط من مظاهرة الحريقة، حين أدلى بدلوه في التعليق على الحراك الشعبي في الجزائر واليمن والأردن، وعلى انتفاضتَيْ تونس ومصر (لم تكن انتفاضة "دوّار اللؤلؤ" في البحرين قد اندلعت بعد). وإلى جانب أنّ سورية ليست تونس أو مصر، وأنّ نظامه محصّن ضدّ "الميكروبات" بسبب سياسته الخارجية، "الممانِعة" و"المقاومة"؛ شدّد الأسد على أنّ مشكلة الحاكم العربي تبدأ من انعدام الشفافية: "لدينا في سورية مبدأ مهمّ أتبناه شخصياً: إذا اردتَ أن تكون شفافاً مع شعبك، لا تلجأ إلى أيّ إجراء تجميلي، سواء من أجل خداع شعبك أو لتحظى ببعض التصفيق من الغرب".

والحال أنّ أولى ردود فعل الأسد على مخاوف انتقال العدوى إلى سورية كانت إصدار سلسلة مراسيم اقتصادية ومعاشية، بينها إحداث "الصندوق الوطني للمعونة الاجتماعية"؛ وزيادة دعم التدفئة بنسبة 72 في المئة، دفعة واحدة؛ والتلويح بزيادة الرواتب بمعدّل 17 في المئة... ولم تكن هذه إجراءات تجميلية فحسب، بل كانت متأخرة، وأقرب إلى الرشوة؛ لأنّ المنطق البسيط كان يفرض أسئلة بسيطة تقلب المعادلة الفعلية وراء هذه الإجراءات: ألم يكن المواطن بحاجة إلى صندوق المعونة الاجتماعية طيلة عقد ونيف من سلطة الأسد الابن؟ وكيف كانت حال المواطن، إذاً، حين كان دعم التدفئة أقلّ بنسبة 72 في المئة؟ وأين تبخرت الوعود بأنّ زيادة الرواتب سوف تبلغ 100 في المئة، خلال الخطة الخمسية العاشرة التي انتهت سنة 2010؟

ولسوف يدرك الأسد، سريعاً، أنّ شرارة واحدة تكفي لإشعال اللهيب الشعبي ضدّ نظامه؛ ولن يتأخر في استبدال ابتسامة الحمل الوديع، بتكشيرة الذئب الكاسر؛ مرّة وإلى الأبد، حتى ساعة الحساب الأخيرة أمام الشعب.

الجمعة، 15 فبراير 2013

الشيشان "وجبهة النصرة": ترحيل موسكو وتضليل طهران

 لا تكاد تخمد برهة خاطفة، إلا لتعود فتلتهب مجدداً، تلك التقارير التي تدبجها وكالات الأنباء الروسية والإيرانية، الرسمية أو شبه الرسمية، حول "الجهاديين" الشيشان الذين توافدوا إلى سورية للقتال ضدّ نظام بشار الأسد. وقارىء تلك التغطيات ـ خاصة إذا كان محدود الإلمام بالوضع السوري، أو مصاباً أصلاً بـ"رهاب الإسلام"، أو متحفزاً تلقائياً لتصديق كلّ ما يُقال ويُنشر في ملفات مثل هذه ـ سوف يخال أنّ الأرض السورية أخذت تعجّ بهؤلاء الشيشان؛ وأنّ كتائبهم صارت تتفوق، في العدد والعدّة، وكذلك في "العمليات النوعية"، على جميع قوى المعارضة السورية المسلحة، بما في ذلك "جبهة النصرة" ذاتها، بوصفها الوحيدة التي انفردت بـ"شرف" الانضمام إلى اللائحة الأمريكية الرسمية للمنظمات الإرهابية الكونية.

على سبيل المثال، يقرأ المرء تقريراً لوكالة نوفوستي الروسية، حول مقال رستم غلاييف (24 سنة)، ابن الزعيم الشيشاني الشهير رسلان غلاييف، خلال إحدى المعارك ضدّ قوّات النظام السوري؛ فيخال المرء أنّ حرب الشيشان (التي قُتل فيها الأب نفسه، سنة 2004) قد انتقلت إلى حلب وحمص ودير الزور وإدلب! والتقرير يقتبس ألكسي ملاشينكو، من معهد كارنيجي موسكو، وهو يحذّر من أنّ المقاتلين الشيشان في سورية لن يُلحقوا الأذى بنظام الأسد وحده، بل بكامل "الشتات الروسي" في الشرق الأوسط! ولا بأس من تذكير القارىء الروسي، ثمّ العالمي أيضاً في النصّ الإنكليزي للتقرير، أنّ "الصقر الأسود"، وهو لقب الأب، قد درّب نجله على الكثير من "فنون القتال الرامبوية"؛ نسبة إلى رامبو، أيقونة الـ CIA والرمز الأعلى للتفوّق العسكري الفردي الأمريكي.

أمّا وكالة أبناء فارس، الإيرانية، فإنها تنشر تقريراً يبدأ هكذا: "غادرت لندن، عبر مطار هيثرو، متوجهة إلى إسطنبول، مجموعة تتألف من 39 إرهابياً شيشانياً، للتسلل إلى سورية عبر الحدود التركية، والالتحاق بمجموعات إرهابية ومتمردة أخرى تشارك في الحرب على دمشق". وفي البدء، يتساءل المرء عن كيفية معرفة كاتب التقرير بأنّ هذه المجموعة "إرهابية" على أيّ نحو" وما مصدر المعلومة التي غابت عن السلطات الأمنية البريطانية (إلا إذا كانت، هذه الأخيرة، متورطة أصلاً في تنظيم الرحلة)؟ وهل كانت صفة "إرهابي" قد دُوّنت على جوازات السفر التي حملوها، أمام خانة المهنة مثلاً، وأُتيح لكاتب التقرير أن يتفحصها بأمّ عينيه؟ وكيف سمح لنفسه باستغفال قرائه، ضمن فقرة لاحقة من التقرير، تجزم بأنّ: "منظمة القاعدة الإرهابية مدعومة من تركيا والولايات المتحدة وحلفائها الأقليميين العرب"؟

وإذا غادر المرء وسائل الإعلام هذه، في روسيا وإيران، وانتقل إلى الباكستان مثلاً، ولكن إلى موقع مسيحي متعصب؛ فسيجد تقارير لا تقلّ غباء، وخبثاً بالطبع، تظهر فيها "جبهة النصرة" أقرب إلى فرع تابع للجهاديين الشيشان، وليس العكس مثلاً، وأنّ الجميع "إسلاميون سنّة"... بالجملة! يقول أحد تقارير موقع Pakistan Christian Post: "نفّذ الإسلاميون الشيشان و'جبهة النصرة' عملية انتحارية استهدفت القوات المسلحة السورية، التي كانت تلتجيء في مشفى بمدينة حلب. وبالطبع، بالنسبة إلى الإسلاميين السنّة، من الواضح أنّ قتل الصحافيين، والأقليات، والسيارات المفخخة، وكلّ مَن له صلة بالحكومة السورية والذبح اليومي، هو 'لعبة عادلة' في نظر هؤلاء الإرهابيين الوحوش". وكاتب التقرير هذا، الجاهل والطائفي المعلَن والغبيّ في آن، يمضي خطوة أبعد في العبقرية، حين يؤكد أنّ المقاتلين الشيشان، مثل مقاتلي "جبهة النصرة"، و"الجيش السوري الحرّ" بأسره، هم محض "غطاءات" للمقاتلين الفعليين، حَمَلة الجنسيات التركية والأمريكية والبريطانية والفرنسية والقطرية والسعودية...

فإذا ذهب المرء إلى المقاتلين الشيشان أنفسهم، وتابع أحد أوضح شرائط الفيديو التي تعبّر عنهم، وتنقل صورة أمينة ـ لأنهم صنعوها بأنفسهم، في نهاية المطاف ـ عن أنشطتهم؛ فسيجد حفنة رجال يقلّ عددهم عن الـ 20، معظمهم ملثمون، يرفعون راية الخلافة السوداء، وزعيمهم يتحدّث باللغة الروسية، ترافقه ترجمة فورية ركيكة. هذه هي "سرية كتائب المهاجرين" الشيشانية، التي تقضّ مضجع موسكو وطهران؛ وهذا عتادها ـ كما يظهر في الشريط، ويتفاخر به مقاتلو السرية ـ الذي لا يتجاوز بضع رشاشات خفيفة، من طراز "كلاشنيكوف"؛ وخطاب أميرها، أبو عمر الشيشاني، لا يتجاوز المفردات التقليدية، حول رفع الظلم عن أهل الشام، وإقامة "شرع الله في هذه البلاد"، بل يبدو أقلّ تعصباً من "بيان حلب" الشهير، السوري بنسبة مئة في المئة!

المنطق السياسي والتاريخي، ولكن الاخلاقي أيضاً، يقتضي الذهاب أبعد من هذا الذرّ للرماد في العيون، ويتبصّر في خلفيات هذه المخاتلة الخبيثة حول الوجود الشيشاني ضمن صفوف المعارضة السورية. يتوجب فتح ملفّ المسألة الشيشانية ذاتها، في قلب بلاد الشيشان، وفي عمق المواقف الإقليمية منها، وحيث لا يستهدف الترحيل والتضليل إلا إلى إغماض الأعين عن مأساة الشعب الشيشاني ذاته. هنا، أيضاً، لا تنام القضية الشيشانية بضعة أشهر، إلا لكي تستيقظ بغتة، أو بالأحرى يستيقظ العالم عليها بعد طول سبات، وكأنّ هذه البلاد موجودة في مجرّة أخرى منسية. وليس عجيباً، في ضوء ما تقدّم، أن يكون "الإرهاب" أيضاً هو آخر المناسبات البارزة التي  شهدت صحوة العالم، و"الحرّ" منه بصفة خاصة، على الملفّ الشيشاني.

ففي سنة 2002، وبعد أشهر طويلة من التعتيم المقصود، عادت القضية الشيشانية إلى دائرة الضوء من خلال العمل الإرهابي، الحدث الوحيد الذي يُحْسن إيقاظ الوعي الغربي من سباته العميق، بل ويحسن هَزّه بقوّة وعلى مبدأ الصدمة. وفي البُعد الدولي لم يكن مسرح موسكو، الذي شهد احتجاز مئات الرهائن الأجانب والروس، ومصرع العشرات منهم على يد قوّات التدخّل الروسية، سوى الحلقة التالية التي تكمل ما بدأ في أندونيسيا والفيليبين قبل أيّام معدودات. كانت طبول الحرب ضدّ العراق تُقرع في واشنطن، وسوء الفهم الأمريكي الذي أعقب هزّات 11/9 يتفاقم أكثر فأكثر، وتمتدّ نطاقاته إلى جغرافيات وأصقاع لم تكن تخطر على بال عتاة خبراء الأمن في الولايات المتحدة والغرب عموماً.

آنذاك كانت موسكو تتلفع بورقة توت، صرنا نفتقدها اليوم بالطبع، هي المفاوضات بين المقاتلين الشيشان والسلطات الروسية. وفي موازاة المبدأ التفاوضي الشهير الذي يراوح بين العصا والجزرة قبيل إجبار الطرف الأضعف على المساومة، والتنازل، وقبول الصفقة؛ كان التراث الروسي يلوّح بمبدأ المراوحة بين السوط و"كعكة الزنجبيل"، ذلك النوع الرخيص من الحلوى المبتذلة التي تُطرح أمام الفقير الروسي (فلاّح الـ "موجيك" دون سواه) بقصد إسالة لعابه، أكثر من ملء معدته الخاوية. والسلطات الروسية كانت، وما تزال، تعتمد هذا المبدأ بالذات في إدارتها للحرب ضدّ المتمردين الإسلاميين في بلاد الشيشان، من حيث المظهر؛ ولكن ضدّ النزوعات الإستقلالية في بلاد القوقاز بأسرها، من حيث المحتوى الحقيقي. وكان المحلّل الروسي يوري كورغونيوك لا يجد غضاضة في القول بأنّ الجميع في موسكو متفقون حول طبيعة وحدود ووظائف السوط، ولكنّ أحداً لا يعرف على وجه الدقة حجم وطعم ووظائف كعكة الزنجبيل. "ننخرط في المعركة، وبعدها نفكّر"، كما كان نابليون بونابرت يقول. نحتلّ بلاد الشيشان بالسوط أوّلاً، ثم نفكّر بعدها في الكعكة، كانت القيادة الروسية تقول.

والمواطن الشيشاني كان يثير حيرة السوسيولوجيين الشيوعيين (أيام الاتحاد السوفييتي) لأنه كان يجيب على سؤال "هل أنت مسلم؟"، بالقول: "طبعاً، لأنني شيشاني". والأمر هنا لا يدور حول الجمع بين ما لا يُجمع، أي أن يكون الانتماء إلى إثنية شيشانية هو انتماء إلى الإسلام من باب تحصيل الحاصل؛ بل هو بالأحرى مثال على حالة فريدة في التباين بقصد التكامل، أو التكامل حين يكون التباين ممنوعاً ومنكَراً. وكان في وسع معلّق أمريكي ظريف أن يمزح قائلاً: لقد اقشعرّ بدني حين عرفت أن عبارة "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" منقوشة على قبعة سلمان رادوييف (أحد أبرز قادة كوماندو الشيشان، في حرب 1994 ضدّ الجيش الروسي)، ثم أصابتني الحيرة لأن اسمه الأول هو سلمان... مثل سلمان رشدي!

تلك الحالة الفريدة من التباين والتكامل، وتناقضهما أو تصالحهما، كانت هي التي أنبتت شجرة عائلة الزعامة الشيشانية، وقادت إلى شقّ عصا الطاعة على موسكو، بعد أن ذاقت مرارة النفي على يد ستالين في مطلع الأربعينيات، ولم تعرف شيئاً من نعمة العودة إلى الوطن على يد خروتشوف في أواخر السبعينيات. بين أفرادها كان جوكار دوداييف، الذي خدم في سلاح الجو السوفييتي في أفغانستان، وكان قائد سرب طائرات مجهزة بأسلحة نووية. وحين زحف الجيش الأحمر لتأديب دول البلطيق أيام غورباتشيف، رفض دوداييف منح هذه القوات حقّ الهبوط في المطار الذي يقوده، الأمر الذي حال دون وصول الجيش الأحمر إلى إستونيا. وأما الفصول اللاحقة من حياة دوداييف، وبلاد الشيشان من ورائه، فهي خليط متواصل من العصيان وحرب العصابات والانشقاقات الداخلية و... المافيا أيضاً.

فرد آخر من أفراد العائلة الشيشانية كان شميل باساييف، المقاتل الوديع الذي انقلب إلى صقر قوقازي أعمى حين شهد بأمّ عينيه قيام قوات وزارة الداخلية الروسية باغتصاب دزينة من بنات عمّه العذراوات، قبل قتلهنّ والتمثيل بأجسادهنّ. وكان محتوماً على باساييف أن يلجأ إلى تقليد شيشاني عتيق يمزج الحداد والحزن بالخروج المشروع عن الحياة الاجتماعية ومحظوراتها وأخلاقياتها، وتشكيل فريق من "الخوارج" "وقطاع الطرق الشرفاء"، والسير على دروب الانتقام الطويلة. ومن مفارقات الأقدار أنّ الغرب كان آنذاك يحاول إطفاء حرائق سراييفو، وكان في الآن ذاته يصمّ الآذان عن الأفغان الجُدد الذين انبثقوا من بين ظهراني أهل البيت، وتكاثروا على رائحة الدماء والجثث والخراب. المفارقات ذاتها اقتضت أن يراقب الغرب انطفاء حرائق كوسوفو، واشتعال حرائق تيمور الشرقية؛ وانطفاء هذه الأخيرة، ثم اشتعال داغستان؛ واشتعال غروزني، وبرجَي مركز التجارة في قلب نيويورك، وأفغانستان، وأندونيسيا، والفيليبين، وفلسطين، والعراق... وصولاً إلى سورية، هذه الأيام.

وإذا جاز لنا، نحن السوريين ـ أو أولئك، بينهم، ممّن يتفقون مع وجهة نظري على الأقلّ ـ أن نكره لجوء الآخرين إلى تصفية حساباتهم على أرضنا، أو إجبارنا على اعتناق هذه "الشرعة" أو تلك "الخلافة"؛ وأن نبذل كلّ ما في وسعنا لكي لا ينقلب ذلك اللجوء إلى "احتلال"، أكثر منه "هجرة إلى الله" و"جهاد في سبيل الله"؛ فإنّ البديل ليس، البتة، انتهاج سلوك النعامة، ودفن الرأس في الرمال، والتعامي عن علم اجتماع صعود، أو انحطاط، المجموعات "الجهادية" كافة؛ وليس الخلط الغوغائي بين حرب إسقاط النظام وأيّ، أو كلّ، معركة أخرى قد تعيق الانتصار في الحرب، أو تؤخّره.

وذاك بديل لا ينخدع طواعية بترحيل موسكو وتضليل طهران حول المسألة  الشيشانية، في بلاد الشيشان ذاتها، فحسب؛ بل ينقل المياه الآسنة إلى طواحين النظام، هنا في سورية، أيضاً وقبلئذ.

الاثنين، 11 فبراير 2013

بهجت سليمان: أيوب الكربلائي!

 قبل أيام نشر المحامي الأردني محمد الشوملي شريط فيديو، على موقع "يوتيوب"، يصوّر قيام وفد من زملائه المحامين بزيارة بهجت سليمان، سفير النظام السوري في عمّان. اللقطات تُظهر المحامي سميح خريس يهدي سليمان عباءة عربية، ويخاطبه: "صمودك هذا، يعني حقيقة، الجبال تعدل صمودك، وصبرك، صبر أيوب دون صبر أبو المجد"، في إشارة إلى ابنه مجد سليمان، أحد ضباع النهب والفساد في سورية. اللقطات اللاحقة تنقلب إلى كوميديا، حين يتسلم سليمان العباءة ويحاول ارتداءها من فتحتَيْ الكمّين، فيفشل طبعاً، وينبهه الحاضرون إلى أنها تُلقى على الكتفين فقط!

وإذْ يصعب على المرء إدراك ذلك "الصبر"، الذي دفع خريس إلى مقارنة مع النبي أيوب؛ فإنّ إهداء هذه العباءة تحديداً يضيف بُعداً مشيخياً، وبالتالي مأساوياً، على المشهد الهزلي. وشيخ القومية العربية هذا، كما أوحت زيارة المحامين "القوميين" ـ وهي صفتهم الشائعة في الأردن، لأسباب تتوسل التهكم أكثر من الإطراء ـ كان، قبل أيام قليلة فقط، قد أدلى بتصريح مذهبي بغيض، إلى جانب ركاكته اللفظية والتاريخية، يحضّ على شقاق الأمّة بدل اتحادها. لقد شبّه معركة بشار الأسد، ضدّ الشعب السوري، بـ"كربلاء العصر"، وأضاف في تصريح رسمي: "إما أن نهزم المؤامرة الصهيو ـ أطلسية ـ العثمانية ـ الوهابية، ونسحق جميع أدواتها، مهما كان الثمن. أو أنّ كربلاء العصر سوف تتكرر ثانية، لنكون شهداء، دفاعاً عن أرض بلاد الشام الطاهرة، ولينتصر الدم على السيف، مرّة أخرى"!

من جانبي أشهد أنّ البرهة "الألمعية" القصوى في تاريخ سليمان جرت في شهر كانون الثاني (يناير) 1997، حين نشر مقالة بدت مفاجئة، ولكنها عند العارفين بأطوار النظام الحاكم كانت بمثابة كاشف بليغ حول أعراف، وأخلاقيات وخيارات، الآتي من أيام سورية. في المقابل، كان من حقّ القارىء البريء لتلك المقالة أن يهتف، ولا حرج عليه: هل يعيش "الدكتور" على كوكب آخر غير هذه الأرض المضطرمة العاصفة؟ ألا يدرك ما يدور من حوله هنا وهناك في العالم، ليس في أوروبا الشرقية وأفريقيا وأمريكا اللاتينية  فحسب، بل على مبعدة كيلومترات معدودة من دمشق؟ وكيف كان لامرىء بريء أن يخرج بانطباع أقلّ دراماتيكية، إذا كانت مقالة الدكتور تبشّر السوريين بأن بشار، نجل حافظ الأسد، ليس خير خلف لخير سلف فقط؛ بل هو الخلف الوحيد، الأوحد، الجدير بوراثة قصر قاسيون ورئاسة الجمهورية. نظام جمهوري ـ وراثي هنا، تحديداً: في سورية "قلب العروبة النابض"، و"قلعة الصمود أمام مخططات الاستسلام"، و"الخندق الأخير في جبهة السلام العادل الشامل"، حسب تعبيرات سليمان نفسه؟

هذه، إذاً، واقعة جديدة للتذكير بأنّ "الدكتور"، لمن لا يعرفه بعدُ، ضابط محترف متقاعد، صعد نجمه أوائل الثمانينيات أثناء خدمته في قوّات "سرايا الدفاع"، حيث حظي برعاية خاصة من قائدها آنذاك رفعت الأسد ("الدكتور" في الفلسفة، بدوره!)، وكُلّف بمجلة "الفرسان" الناطقة باسم السرايا. قبل ذلك المقال بسنوات قليلة، كان الرجل أوّل من تحدث بصراحة عن سجايا باسل الأسد في حمل رسالة أبيه، وألقى بهذا الصدد عشرات المحاضرات في سورية ولبنان. وحين توفي باسل في حادث سيارة مطلع عام 1994، وقبل أن يوارى الثرى، كتب سليمان مبشراً بأن بشار الأسد هو خير من يحمل السارية من أخيه.

وهكذا، بعدئذ، وكلما مرّت ذكرى وفاة باسل، تنطح "الدكتور" لتذكير السوريين بالسبب "العميق" الذي جعله يرى كلّ ذلك الوضوح المطلق، والبديهي، في مسألة وراثة الحكم: بشار الأسد هو المستجيب "لنداءات بني وطنه التي طالبته بحمل رسالة الباسل، وصون تراث القائد الكبير، والسير معه وبه صوب الألف الثالثة للميلاد، والدفاع عنه واستكمال مساره والتطور معه بما يتوافق مع روح العصر ومع إرهاصات المستقبل ومع تحديات القرن المقبل". أسباب أخرى؟ هنا ثلاثة إضافية: "لأنه نجل حافظ الأسد أولاً، ولأنه شقيق باسل الأسد ثانياً، ولأنها [أي الجماهير] ترى فيه ضمانة ورمزاً منشودين لاستمرار واستقرار نهج حافظ الأسد ثالثاً". ولم ينسَ "الدكتور" اقتباس وراثة راجيف غاندي لأمّه أنديرا غاندي، مثالاً على سياق مماثل في رأيه!

طريف، إلى هذا ـ وهو أيضاً سلوك ثابت في علاقة "الحركة التصحيحية" برجالاتها، خلال عهد الأسد الأب مثل الأسد الابن ـ أنّ سفارة سليمان في عمّان كانت بمثابة خاتمة متدنية لعزيز قوم ذلّ؛ بالنظر إلى أنّ "الدكتور"، قبل السفارة، كان يحتلّ موقع الرجل الأقوى في جهاز أمن الدولة، وكان ضمن ستة يشغلون ذروة هرم السلطة (الأسد نفسه، شقيقه ماهر، آصف شوكت، علي كنعان، سليمان، وعبد الحليم خدام). طريف، أيضاً، أنه حرص على الإيحاء بشخصية رجل الأمن "المثقف"، والمحبوب من كتّاب سورية وفنانيها؛ وكان، بالفعل، يقرّب إليه مجموعة منهم، انتهازية منافقة بالضرورة.

مضى ذلك الزمن، إذاً، وانقضى؛ فخُسف مقام اللواء سليمان إلى محض سفير، تحت العادة، طاشت ذاكرته بعيداً عن مفردات الخطاب البعثي القوموي والثوروي، فصار يستعين بلغة عاشورائية وكربلائية تتقرى "انتصار الدم على السيف"؛ ولم يتبقّ له، أغلب الظنّ، إلا أمثال سميح خريس، والعباءة المقصبة!

الاثنين، 4 فبراير 2013

دائرة الطباشير السورية

 المرء يتفهم الحساسية الأمريكية تجاه صعود "جبهة النصرة" في مشهد الانتفاضة السورية؛ وهي، في المناسبة، قد تكون حساسية أقلّ بكثير، في الكمّ والنوع، من مستوى حساسية القطاعات الشعبية الأعرض في المجتمع السوري ذاته. وقد يُدهش مراقب أمريكي (يزعم، مع ذلك، الإحاطة التامة بشؤون وشجون البلد) أنّ السوريين ضاقوا ذرعاً، في الماضي كما في الحاضر، بالتنظيمات الأصولية والمتشددة والسلفية والتكفيرية؛ كما أنهم يرفضون، في غالبية ساحقة، أفكار وممارسات الشرائح "الجهادية" منها تحديداً. وهذا أمر يختلف، في العمق وفي الجوهر، عن ظواهر أخرى ذات صلة بالإسلام، مثل صعود الإسلام السياسي، أو تسييس الإسلام الشعبي، أو هيمنة القاموس الإسلامي على نماذج واسعة من خطابات الانتفاضة السياسية أو العسكرية، أو غَلَبة المرجعيات التاريخية الإسلامية على أسماء كتائب "الجيش السوري الحرّ"...

في المقابل، لعلّ المرء بحاجة إلى دائرة طباشير قوقازية، من النوع الذي ألهم المسرحي الألماني الكبير برتولت بريخت فكتب عمله الشهير الذي حمل العنوان ذاته، توضع فيها علاقة السياسة بالدين في المجتمع الأمريكي، لنتبصّر أيهما الأمّ العقائدية الشرعية لهذه الأمّة الأمريكية. وقد تسفر سيرورة الشدّ والجذب عن إجابات شافية على حزمة أسئلة تبدأ من التالي، مثلاً: كيف يمكن لهذه الأمّة، أو لغالبية كبيرة من أبنائها، أن تكون قوّة كونية عظمى أولى، ديمقراطية عصرية مصنّعة متقدّمة علمانية (بمعنى فصل الدين عن الدولة، في أقلّ تقدير)؛ وتبقى، في الآن ذاته محافظة متديّنة قَدَرية، بل سلفية أيضاً؟

ولأنني توقفت، شخصياً، عن اليقين بأنّ العودة إلى علوم النفس أو الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد أو التاريخ... تكفي للوقوف على أسباب هذا الانشطار بين أقصيَي الحداثة والسلفية؛ فقد ذهبت إلى ميدان الأنثروبولوجيا، وإلى أمريكي بارز وبارع وغير تقليدي، هو فنسنت كرابانزانو. ومقام الرجل الرفيع في ميدان الدراسات الأنثروبولوجية يجعل المرء يقرأ بثقة راسخة خلاصاته عن طرائق، وكذلك مؤسسات وعواقب، التأويل الديني لموادّ الدستور الأمريكي. وهذه هي موضوعات كتابه الممتاز "خدمة الكلمة: النزعة الحَرْفية في أمريكا، من منبر الوعظ إلى منصّة القضاء"، الذي كان قد صدر سنة 2011، واستُقبل بعواصف متلاطمة صاخبة، غاضبة أو راضية أو مندهشة!

إلى هذا، كان كرابانزانو قد أثار ضجّة في صفّ الأنثروبولوجيا البنيوية حين أصدر "الحمادشة: دراسة في طبّ النفس الإثني في المغرب"، 1973؛ و"تهامي: صورة مغربيّ"، 1980. كما أثار ضجّة أخرى في مناهج التحليل الأنثروبولوجي لنظام الفصل العنصري، الأبارتيد؛ في كتابه "انتظار: البيض في جنوب أفريقيا"، 1985. وضجّة ثالثة في صفّ الأنثروبولوجيا الثقافية؛ حين صدر كتابه الطليعي "معضلة هرميس ورغبة هاملت: حول إبستمولوجيا التأويل"، 1993. واليوم، بعد صدور عمله الأخير "الحركيون: الجرح الذي لا يندمل"، 2011، يُنتظر أن تتواصل الضجة حول الركائز الأنثروبولوجية للمواطنين الجزائريين الذين اختاروا الوقوف إلى جانب الاستعمار الفرنسي، ضدّ استقلال الجزائر.

المقولة الأساسية في "خدمة الكلمة" تسير هكذا: هذه الأمّة تحمل التوراة بيد، والدستور بيد أخرى؛ وحين تطبّق حرفياً موادّ القانون الذي وضعه البشر (الدستور)، فإنها إنما تفعل ذلك ضمن حال من الخضوع المذهل للنصّ الذي وضعه الربّ (التوراة)، من جهة أولى؛ وللتأويل الميتافيزيقي لمعظم الظواهر الدنيوية، من جهة ثانية. وهكذا فإنّ منبر الوعظ يمكن أن يغادر الكنيسة لكي يستقرّ على منصّة القاضي في المحكمة، وليس غريباً أن يقول أحد قضاة المحكمة العليا (أي تلك التي لا يعلو على رأيها رأي قانوني أو تشريعي) إنّ موادّ الدستور الأمريكي هي "إلهام من الربّ"!

لكنّ الأنثروبولوجيا الميدانية ليست وحدها محطّ اهتمام كرابانزانو في تنقيبه عن الجذور الدينية الأصولية لظواهر ومظاهر نزعة التأويل الحرفي، لأنه أيضاً يلجأ إلى التحليل اللغوي والنصّي الثاقب لعدد من الأعمال التي تفسّر الدنيا بالدين، وتحيل موادّ الدستور الأمريكي إلى إصحاحات وأعداد خارجة مباشرة من أسفار الكتاب المقدّس. ولهذا فإن هتك أستار تلك الميول الكامنة يتجاوز النشاط الأنثربولوجي أو العلمي المحض، ليصبح استكشافات ثقافية وأخلاقية وسياسية بالغة الحساسية.

وفي الأمثولة القوقازية، لكي نعود إلى مسرحية بريخت، يقرر القاضي الأريب وضع الطفل المتنازَع عليه في منتصف دائرة، وأنه سيأمر بحضانته للأمّ التي تشدّه من الثانية خارج الدائرة، لكنّ الأمّ المربية تشفق على الطفل فلا تشدّه، عكس ما تفعل الأمّ الوالدة، فيقرّر القاضي أنّ الأولى هي الأحقّ بالأمومة. وفي دائرة طباشير سورية، قد تزعم "جبهة النصرة" الحقّ في حضانة هذا الطفل، أسوة بزاعمين آخرين سواها، في الصفوف الإسلامية أو العلمانية؛ وقد يفعل هذا مناصر للنظام، أو طائفي أو شبيح أو فاسد؛ وقد تقع أكثر من أمّ واحدة في حيرة من أمرها: هل تؤلم الطفل لتكسبه، أم ترأف به فتخسره؟

الثابت أنّ سلسلة من التجارب السورية في الحياة السياسية والحزبية والبرلمانية، سابقة لحكم البعث وقوانين الطوارىء و"الحركة التصحيحية" و"الأب القائد"؛ سوف تكفل للطفل السوري حضانة مدنية ديمقراطية علمانية تعددية، رغم كلّ جولات الشدّ والجذب المنتظَرة، المؤلمة والشاقة والمعقدة، داخل الدائرة وخارجها. "هنا ينفض الوهم أشباحه"، كما يقول عمر أبو ريشة!

الجمعة، 1 فبراير 2013

الغارة الإسرائيلية: انقلاب الخط الأحمر إلى ضوء أخضر!

 ما دام إعلام النظام السوري لا يكذب فقط، بصدد إغارة سلاح الطيران الإسرائيلي على مواقع عسكرية داخل سورية، بل يستغفل عقول البشر على النحو الأشدّ ابتذالاً؛ فإنّ من الطبيعي لأي صاحب عقل، أو أي آدمي غير مغفل ببساطة، أن يلجأ إلى المنطق البسيط، وبعض المعلومات الشحيحة، ليقلّب الرأي في أمر هذه الغارة. المفارقة الدائمة، في ملابسات كهذه تحديداً، أنّ المرء ـ والمواطن السوري، بصفة خاصة ـ يجد نفسه مضطراً لاستقبال سيل من التفاصيل الملموسة، تأتي من مصادر الإعلام الإسرائيلي، ثمّ العالمي؛ تنبع جاذبيتها الأولى من أنها تتسم بدرجات من الترجيح المنطقي غير ضئيلة، خاصة إذا ما وُضعت على محك المقارنة مع وقائع أخرى ذات سياقات مماثلة. 

وهكذا، نقلت وكالة أنباء النظام (سانا)، عن بيان لقيادة الجيش، التالي: "اخترقت طائرات حربية إسرائيلية مجالنا الجوي (...) وقصفت بشكل مباشر أحد مراكز البحث العلمي المسؤولة عن رفع مستوى المقاومة والدفاع عن النفس الواقع في منطقة جمرايا بريف دمشق، وذلك بعد أن قامت المجموعات الإرهابية بمحاولات عديدة فاشلة وعلى مدى أشهر للدخول والاستيلاء على الموقع المذكور". في عبارة أخرى، ما فشلت فيه "المجموعات الإرهابية"، وهي التسمية التي يطلقها النظام على كتائب "الجيش الحرّ"، نجح في تنفيذه  سلاح الجو الإسرائيلي؛ الأمر الذي يعني أنّ التنسيق بين العدو الصهيوني والمعارضة السورية ليس على قدم وساق فحسب، بل هو يرقى إلى مصافّ تنفيذ المهام العسكرية المباشرة، وخاصة ضدّ المواقع التي ترفع "مستوى المقاومة" داخل صفّ النظام!

فهل يُلام المرء إذا ضرب كفاً بكفّ إزاء هذا الاستغفال الفاضح، بقدر ما هو مفضوح، ومضى يلتمس تأويلاً أكثر عقلانية، في هذه الرواية الأخرى: أنّ الغارة استهدفت قافلة عسكرية كانت تنقل شحنات من صواريخ SA-17 روسية الصنع، في طريقها إلى مخازن "حزب الله"، في لبنان؟ ألا يجوز للمرء ذاته أن يتذكّر "المحرّمات" التي فرضتها إسرائيل على النظام، في الشطر التسليحي من علاقاته مع "حزب الله"، وعلى رأسها عدم السماح بمرور أسلحة صاروخية (مضادة للطائرات، مضادة للزوارق الحربية، أو أرض/أرض بعيدة المدى وعالية الدقة، إيرانية أو روسية الصنع)؛ يمكن أن تغيّر "قواعد اللعبة"، حسب تعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت؟

وإذا جاز ذهاب المرء خطوة أخرى، كلاسيكية بقدر ما هي مأساوية، فإنّ السؤال التالي يصبح تحصيل حاصل، واجباً في الواقع: ما قول النظام "الممانع"، في طائراته الحربية التي تقصف السوريين في قرى وبلدات ريف دمشق، ثمّ تولّي الأدبار في وجه طيران العدو الإسرائيلي، الذي يعربد على مبعدة كيلومترات قليلة؟ وما قول قيادة "حزب الله" في هذا "الانتهاك"، لكي لا ترد إلى البال مفردة "عدوان"، على "سورية حافظ وبشار الأسد"، حسب التوصيفات الأثيرة التي تجري على لسان حسن نصر الله، الأمين العام للحزب؟ وأخيراً، ما قول علي أكبر ولايتي، "المساعد الرفيع للمرشد الأعلى للثورة الإيرانية"، في أنّ "بشار الأسد خطّ أحمر": هل يصبح الأحمر أي لون آخر، أخضر مثلاً، إذا اختطته إسرائيل؟

والحال أنّ سوابق النظام في التشاطر، وكذلك سوابق حلفائه في انتهاج التواطؤ الصامت، ليست قليلة أو عابرة، في الكمّ كما في النوع، وخاصة خلال عامَيْ 2007 ـ 2008. وكيف لا تُستعاد تلك الغارة الصاعقة، خريف 2007، حين قامت قاذفات إسرائيلية باختراق حرمة الأجواء السورية من جهة الساحل السوري، بعد اختراق جدار الصوت على هواها، لتبلغ أهدافاً حيوية في العمق السوري (مساحات واسعة في المنطقة الشرقية ـ الشمالية، من بادية دير الزور إلى تخوم المثلث السوري ـ العراقي ـ التركي، مروراً بمطارَين عسكريين في الأقلّ)، وعادت أدراجها سالمة مطمئنة؟ وكيف لا يُستعاد، أيضاً، اغتيال العميد محمد سليمان، والإنزال الأمريكي داخل العمق السوري في منطقة البوكمال، وتحليق القاذفات الإسرائيلية فوق الاستراحة الرئاسية في اللاذقية، وقصف معسكر "عين الصاحب" غرب دمشق، لكي لا نعود بالذاكرة إلى اجتياح بيروت سنة 1982؟

بيد أنّ الواقعة التي لا غنى عنها هنا، لأنها تشمل النظام و"حزب الله" وإيران وخرافة "الممانعة" في آن معاً، هي اغتيال عماد مغنية؛ المقاوِم اللبناني الإسلامي الأشهر ربما، والقيادي العسكري الأبرز في "حزب الله"، والذي قد يكون احتلّ ـ قبيل أسابيع قليلة من اغتياله في دمشق بتاريخ 12 شباط (فبراير) 2008 ـ موقع الشخصية الثانية في الحزب بعد نصر الله. ولا غنى، بادىء ذي بدء، عن استذكار التصريح الشهير الذي أطلقه وليد المعلم، وزير خارجية النظام، بعد ساعات أعقبت اغتيال مغنية، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي: "سنثبت بالدليل القاطع الجهة التي تورطت بالجريمة، ومن يقف خلفها!

وللمرء أن يضرب صفحاً عن التقارير المتضاربة التي تناولت واقعة الاغتيال، سواء تلك التي نُسبت إلى أرملة مغنية، من اتهام صريح لأجهزة الأمن السورية بالتورّط في العملية (قولها، إذا صحّ أنها القائلة: "لقد سهّل السوريون قتل زوجي"، و"رفض سورية مشاركة محققين إيرانيين هو الدليل الدامغ على تورط نظام دمشق في قتل عماد"، فضلاً عن تلميحها إلى "الخيانة" و"الغدر")؛ أو تلك التي صدرت عن وكالة أنباء "فارس" الإيرانية، ثمّ صحيفة "كيهان"، حول دور سعودي في تنفيذ عملية الاغتيال، بتورّط مباشر من رئيس مجلس الأمن القومي السعودي أنذاك، بندر بن سلطان، نفسه؛ أو، أخيراً، ما أشيع عن إرجاء السلطات السورية إعلان نتائج التحقيقات إلى ما بعد مؤتمر القمّة العربية، في نيسان (إبريل) تلك السنة، وما تلاه من نفي سوري رسمي لهذه التقارير...

وأن يضرب المرء صفحاً عن هذه المعطيات أمر لا يعني البتة تجريدها من كلّ صحّة أو مصداقية أو قيمة، إنْ لم يكن بسبب معيار الاختبار القديم الذي يقول إنّ الدخان لا يتصاعد من غير نار؛ فعلى أقلّ تقدير لأنّ جهات ملموسة، رسمية أو شبه رسمية، ذات عناوين بيّنة وصلات وثيقة، كانت هي ـ وليس أيّ تكهن، أو تلفيق، أو ضرب بالرمل ـ مصادر تلك الأخبار. غير أنّ التشديد اليوم على صمت السلطات السورية إزاء جريمة الاغتيال، واستمرار السكوت طويلاً حتى دون تبيان سيناريو العملية؛ ارتدى أهمية خاصة في اعتبارَين أساسيين، بين اعتبارات أخرى قد تكون أقلّ مغزى.

الأوّل هو أنّ اقتفاء الخيط المفضي إلى جهة التنفيذ المرجحة أكثر من سواها (الاستخبارات الإسرائيلية) لم يكن يحتاج إلى عبقرية استثنائية من جانب سلطات تحقيق النظام السوري، خصوصاً وأنّ الأمين العام لـ "حزب الله"، لم يترك لبساً حول تلك الجهة، وسمّاها بالاسم الصريح. من جانبه، ورغم تفاديه الإشارة بوضوح إلى الخيط الإسرائيلي، قال وزير خارجية النظام السوري إنّ اغتيال مغنية هو "اغتيال أي جهد للسلام"، بما يوحي ـ وإنْ على نحو سوريالي، من طراز فريد! ـ إلى وجود جهة أخرى تسعى إلى نسف السلام بين إسرائيل والنظام السوري، وأنّ هذه ليست سوى... إسرائيل ذاتها، التي اغتالت مغنية!

الاعتبار الثاني هو أنّ استمرار صمت السلطات السورية كان يشير، ضمن المنطق الاستقرائي البسيط، إلى حرج كبير حتى في اتهام أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية؛ لأسباب لا تخصّ الحياء من دولة إسرائيل بالطبع، بل تتفادى تبيان هوية كبش الفداء المحلي الذي لا مناص من تقديمه للرأي العام، السوري والعربي والعالمي، إذا شاء نظام الأسد أن يزعم أيّ حدّ أدنى من السيطرة الأمنية على مقدّرات البلاد (إذ لم يكن يكفي، بالطبع، أن تكون الأجهزة شاطرة تماماً في اعتقال نشطاء المعارضة السورية!). والحال أنّ المعضلة لم تنحصر في تدبّر كبش فداء كيفما اتفق، إذْ كان هذا الخيار مقدوراً عليه، وليست مَسْرَحته بالإجراء الصعب أو غير المسبوق؛ بل المعضلة في أنّ أيّ كبش فداء لا يمكن له إلا أن يدلّ على اختراق (إسرائيلي، بالضرورة) بالغ الخطورة، من جهة؛ وأنّ أيّ كبش من هذا الطراز لا بدّ أن ينضوي مسبقاً في قطيع أعرض، يقوده واحد من الرؤوس الكبيرة، وهنا الطامة: ليس الإجهاز على أحد أكباش ذلك الرأس، إلا إطاحة بالرأس نفسه في نهاية المطاف!

هنا، كذلك، ينقلب "الخطّ الأحمر" إلى ما يشبه الضوء الأخضر؛ في أنّ توجيه إصبع الاتهام إلى الاستخبارات الإسرائيلية، مدعومة ربما بعون لوجستي من أجهزة أخرى أمريكية أو غربية صديقة للدولة العبرية، أو حتى عربية يبهجها اغتيال مغنية؛ لا يلغي نهائياً احتمال تورّط جهة، أو جيب أمني خفيّ بارع التمويه، داخل الأجهزة السورية ذاتها. وقبيل اغتياله بأسابيع معدودة، تردّد أنّ مغنية ذهب بعيداً في ممارسة مهامّه الجديدة بصدد التنسيق بين "الحرس الثوري" الإيراني وكلّ من "حزب الله" والحركات الجهادية الفلسطينية. ولعلّه ذهب أبعد ممّا هو مسموح به، وتحديداً في خرق "اتفاق الشرف" المبرم مع السلطات السورية، والذي تضمّن إطلاع جهاز الاستخبارات العسكرية السورية، ورئيسه آنذاك اللواء آصف شوكت شخصياً، على كلّ صغيرة وكبيرة في ذلك التنسيق.

وإذا صحّت التقديرات التي اشارت إلى أنّ أمن مغنية الشخصي كان ثلاثي الحلقات، تشرف عليه حمايات تابعة لإيران مباشرة، ثمّ "حزب الله"، والجهاز السوري أخيراً؛ فإنّ احتمال تصفيته على يد جهاز إيراني أفلح في اختراق الأجهزة السورية، أمر غير مستبعد، حتى إذا بدا ضئيلاً. إنّ انحياز "الحرس الثوري" إلى صفّ الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، وهو تطوّر تجلّى حينذاك على نحو دراماتيكي غير مألوف في تراث الثورة الإسلامية الإيرانية، أسفر موضوعياً عن خلط جذري للأوراق وموازين القوى في الهرم الأعلى من السلطة الإيرانية. وغنيّ عن القول إنه أفضى إلى إعادة ترتيب البيت الأمني أوّلاً، وإلى إدخال تبديلات هنا وتعديلات هناك، بوسائل متعددة ليست كلّها سلمية، لا يمكن أن يغيب عن بعضها خيار التصفية الجسدية.

وفي العودة إلى الغارة الأخيرة، يقرّ الخبراء العسكريون بأنّ التخطيط لقصف قافلة تحمل أسلحة صاروخية حساسة، ليس البتة بالأمر الذي تكفيه مهارات طياري القاذفات؛ ولا مناص من الحصول على، وحسن توظيف، معلومات استخباراتية دقيقة للغاية؛ الأمر الذي يلوح أنّ إسرائيل نجحت في تأمينه، وعلى نحو بالغ السهولة أيضاً! تماماً على غرار السهولة التي اكتنفت سوابق كثيرة، غامت فيها غالبية الألوان، ما خلا... اللون الأخضر!