وعزّ الشرق أوّله دمشق

الأحد، 16 مارس 2014

هذي دير الزور.. وحبّها ذبّاح!

 على أعتاب السنة الثالثة للانتفاضة الشعبية السورية (التي تحلّ يوم 18 آذار/مارس، في يقيني، إنصافاً لبشائر حوران الأسخى، وليس إجحافاً بحقّ الشرارات الثورية التي سبقت، يوم 15 آذار تحديداً)؛ أجدني أذهب إلى مدينة سورية فراتية، حيّة وحيوية بقدر ما هي شهيدة، وأصيلة مجيدة، تكبر على جراحاتها اليومية، وتشمخ كلما تعدّدت عذاباتها وتضاعفت. إنها دير الزور، مدينة "دوّار المدلجي"، تلك الساحة التي صارت امتداداً رمزياً، انبثق أيضاً عن اتصال جغرافي طبيعي، لساحة العاصي في مدينة حماة؛ فولدت هذه التوأمة التلقائية بين مدينتين تشاركتا في بلوغ ذلك الرقم الذهبي الذي انتظرته سورية منذ انطلاقة الانتفاضة، وارتعدت له فرائص أجهزة النظام: قرابة مليون متظاهر، في نهار واحد. 

دير الزور، كذلك، أدخلت طرازاً من "الامتياز" في تنويع أنساق التظاهر، كان جديداً وطريفاً؛ وأسهم في تطوير مهارات الالتفاف على أساليب العنف الوحشية التي تعتمدها أجهزة النظام الأمنية لقهر الإنتفاضة السورية، من جهة أولى؛ كما نفع في اجتذاب المزيد من شرائح المواطنين الذين استنكفوا عن المشاركة، لأسباب شتى، من جهة ثانية. ذلك الجديد كان تنظيم تظاهرة مائية على صفحة نهر الفرات، سباحة أو بقوارب صغيرة، تردّد الهتافات ذاتها تقريباً؛ كما ترفع لافتات مماثلة لتلك التي ترفعها التظاهرات على اليابسة، إذا جاز القول، مع تنويعات طريفة ومؤثّرة، تتحدث عن مصبّ للفرات في... نهر العاصي"!

مبتدعو هذا الجديد كانوا فتية محافظة دير الزور، في المدينة ذاتها، وفي بلدات المياذين والبوكمال والعشارة والبصيرة، وفي قرى نهرية عديدة؛ وكأنّ خروجهم إلى الشوارع الرئيسية والساحات العامة، بأعداد تجاوزت 250 ألف متظاهر في "جمعة أسرى الحرّية"، لم يشفِ غليلهم إلى إسماع صوت الاحتجاج العميق، فطافوا فوق مياه الفرات، وطوّفوا على صفحته الرايات. وكيف لم تراودهم الرغبة في التماس عبقرية هذا النهر العظيم الخالد، في تلك البرهة الفريدة من تاريخ المدينة والوطن، وهم حَمَلة اللقب الشهير "أُخُوةْ بطّة"، نسبة إلى براعة في السباحة يتلقونها منذ نعومة اظفارهم، تماماً كما تفعل أفراخ البطّ!

يومذاك، قبل ثلاثين شهراً ونيف، في سياق تجديد افتتاني القديم بتلك المحافظة الكريمة؛ لم أكن أملّ من مشاهدة اعتصام ليلي حاشد في الساحة إياها، تسيّدته طفلة لا تتجاوز العاشرة كما أرجّح، كانت تهتف ـ بمزيج فريد من العذوبة والشجن والصلابة ـ ويردّد الكبار بعدها: "مجروح يا يمّة/ مجروح يا يابا/ ودّوا لحماة من الدير/ موّال عتابا". مشهد قريب، معاصر هذه المرّة، صنعته هديل، الطفلة التي شاركت قبل أيام في فعالية مسرحية شهدتها المدينة. هديل قرأت قصيدة كتبها الشاعر عمر ياسمينة، تحاور نزار قباني في "القصيدة الدمشقية" الشهيرة (التي يبدأ مطلعها هكذا: "هذي دمشق وهذي الكأس والراح/ إني أحبّ وبعض الحبّ ذبّاح/ أنا الدمشقي لو شرّحتمُ جسدي/ لسال منه عناقيدٌ وتفاح")؛ تقول: "هذي دمشقُ فأين الكأس والراحُ/ شامي تموتُ وبال العرب مرتاحُ/ يا ياسمين الشام عذراً فلتسامحني/ فليس في الدار بعد اليوم أفراحُ".

وكانت هديل تستكمل فقرات مسرحية بعنوان "تسليط الأضواء"، قدّمتها فرقة "بهجة" اعتماداً على تلامذة مدارس درّبهم مسرحيون وكتّاب هواة؛ تناولت موضوعات جسورة مثل الخلافات بين الثوار، وقوّة حضور المال السياسي، ودور المثقف، والتفرقة، والاستغلال، والظلم، وجميع أشكال الاستبداد. أمّا صاحبة المبادرة فهي "حياة"، المنظمة المعنية بشؤون المرأة والطفل، والتي اختارت أن يكون توقيتها في اليوم العالمي للمرأة؛ احتفاءً بالدور المشرّف الذي لعبته الأمّ الديرية طوال أشهر الانتفاضة، وكذلك لإقامة رباط وعي، وتوعية متبادلة، بين مختلف الشرائح الاجتماعية في المدينة، وخاصة تلامذة المدارس الابتدائية، في المناطق المحرّرة تحديداً. وبذلك فإنّ النشاط مظهر واحد من مظاهر مقاومة شعبية عديدة ومتنوعة، يمارسها المجتمع المدني الديري؛ ضدّ قوّات الاحتلال الأسدية، في المقام الأوّل؛ ثمّ في مواجهة القوى الظلامية والمتشددة داخل صفوف المعارضة، ثانياً.  

وليس أمراً عابراً أن تواظب هذه المدينة بالذات، على هذه الصيغة المحددة من المقاومة المدنية، الثقافية والتربوية والأخلاقية؛ إذا استذكر المرء أنّ المدينة ذاقت من أفانين وحشية النظام، وبهيمية أشدّ ضباطه حقداً وهمجية وطائفية، مقداراً هائلاً واستثنائياً، ردّاً على استبسال أبنائها في تكريم محافظة كانت إحدى أبرز بؤر المعارضة لنظام "الحركة التصحيحية". الشهداء يتساقطون يومياً؛ والمدن والبلدات والقرى تُعاقَب جماعياً، فتُحرم من الكهرباء والماء والهاتف والإنترنت والأدوية ولقاحات الأطفال؛ وتُغلق المدارس والكليات الجامعية، وتُعطّل الامتحانات؛ ويُمنع المواطنون من عبور الجسور، وما أكثرها على الفرات، لإعاقة التحاقهم بالتظاهرات؛ وتُحرق السجلات في دوائر الأحوال المدنية، للإيحاء بأنّ وجود المواطن ذاته يمكن أن يُطمس نهائياً؛ ويُقصف جسر المدينة المعلّق، ورمزها البصري والأيقوني الجميل؛ أسوة بأسواقها الشعبية العتيقة، التي تعبق بروائح التواريخ...

ورغم أنني "جزراوي" بالولادة، لأنّ القامشلي مسقط رأسي؛ فإنني ديري الأب والأمّ والأصول العائلية، وللمدينة في ذمّتي الوجدانية حفنة سنوات حافلة، خصبة ومعطاءة وغنية، لا تُنسى. شهادتي في دير الزور ليست، مع ذلك، مجروحة تماماً؛ فهذه مدينة، على غرار الشام ربما: حبّها ذبّاح!

الأحد، 9 مارس 2014

قورش (بشار) الأسد!

 لا حدود للابتذال العقلي، ومثله الانحطاط في تحريف الحقائق، حينما يتنطّح مسيحيّ غربي مغالٍ للدفاع عن النظام السوري، بذريعة أنّ بشار الأسد هو حامي الأقليات في سورية، وضامن أمن الطوائف المسيحية بصفة خاصة. الوقائع تُقلب، رأساً على عقب، على أيّ نحو، وبأية مفردات، وكيفما سارت نبرة التهويل الدراماتي؛ ما دامت تخدم تسويق تلك السردية، أو بالأحرى تنفع في تبسيطها (انحطاطاً وابتذالاً، دائماً) لكي تنطلي على المسيحيّ الغربيّ العاديّ، البسيط في إيمانه الروحي، المتواضع في معلوماته عن سورية ذاتها، وربما الشرق الأوسط بأسره.

لعلّ من الخير، والجدوى، البدء بهذا النموذج الصارخ: مقال بعنوان "الأسد: نموذج حديث من قورش الأكبر بالنسبة إلى المسيحيين"، كتبه يان ستادلر، ونشره موقع Faith & Heritage (الإيمان والإرث)، والذي يختصر رسالته هكذا، في شعار يتصدّر الموقع: "مسيحية غربية من أجل الحفاظ على ثقافة الغرب وأهله". ويكفي مثال واحد على تدنّي سوية المقارنة التي يعقدها ستادلر: "الله استخدم الملك قورش الأكبر لحماية اليهود المضطهَدين، والسماح لهم بالعودة إلى الأراضي المقدسة وإعادة بناء الهيكل. والأسد تصرّف بطريقة مماثلة، فأتاح للمسيحيين أن يكونوا آمنين مطمئنين في بلد يهيمن عليه الإسلام"!

عبث، بالطبع، أن يُسأل هذا العبقري عن العلاقة بين اليهود والمسيحيين هنا، أو عن "الأراضي المقدسة" التي تكفّل قورش (بشار) الأسد بإعادة المسيحيين إليها، أو عن "الهيكل" المسيحي الذي أعادوا بناءه؛ وعبث، قبلئذ وأساساً، أن تُطلب من ستادلر معلومة واحدة دقيقة حول تاريخ المسيحية في سورية، أو عن بولس الطرسوسي وطريق دمشق المستقيم. طريف، في المقابل، تذكير هذا المنافح عن الأقليات المسيحية أنّ "الحرس الثوري" الإيراني ومقاتلي "حزب الله" هم ورثة قورش الأكبر، وليس الأسد أو ضباطه أو ميليشياته الطائفية أو شبيحته؛ أو تذكيره بأنّ الإمبراطورية الأخمينية، التي ينتمي إليها بطله الفارسي محرّر اليهود، قامت أساساً على أنقاض ثقافات وشعوب وأمم كثيرة، في سورية وبلاد الرافدين والأناضول وفلسطين ومصر وليبيا وتخوم الهند ومقدونيا...

ومع ذلك فإنّ لمقارنة ستادلر صفة واحدة وجيهة، في نهاية المطاف، هي أنّ هذا القورش الحديث، الأسد، يؤدّي بالفعل دور حامي عبرانيي عصرنا، مواطني دولة إسرائيل اليهود؛ سواء على امتداد خطوط التماس في أراضي الجولان المحتلة، أم في الجنوب اللبناني حيث ينشغل "حزب الله" بطراز آخر من "المقاومة" في القصير ويبرود وحرستا... وبهذا المعنى، فإنّ اتفاق إيران وإسرائيل على مساندة النظام السوري وإطالة آجال بقائه ما أمكن الأمر، لا يعيد استكمال مهامّ قورش الأكبر القديمة، فحسب؛ بل يعيد أيضاً إحياء التفاهيم الفارسي ـ اليهودي، ويفسّر حماس صهاينة غربيين (ألكسندر آدلر، على سبيل المثال) لنظرية الإخاء الإيراني ـ الإسرائيلي في وجه "مخاطر الربيع العربي".

وقبل أربع سنوات عرض المتحف الوطني الإيراني، بإعارة من المتحف البريطاني، قطعة أثرية ثمينة هي أسطوانة قورش الاكبر الشهيرة، التي تعود إلى القرن السادس قبل المسيح (وكان ذاك هو العرض الثاني في الواقع، لأنّ الأسطوانة زارت إيران سنة 1971، خلال احتفالات الشاه محمد رضا بهلوي بالذكرى الـ2500 لقيام النظام الشاهنشاهي). وكان مفاجئاً أنّ صحيفة "كيهان" المتشددة طالبت بعدم ردّ الأسطوانة، لأنها "ملكية إيرانية"؛ متناسية أنّ القطعة، رغم صلتها بملك فارسي، لم تُكتشف في بلاد فارس، بل في بابل العراق، سنة 1879، وهي بالتالي ملكية عراقية بالمعاني التاريخية والأركيولوجية والحقوقية. كانت لافتة، كذلك، تلك اللغة الفارسية حقاً، المفعمة بالفخار القومي والاعتداد بأمجاد الماضي السحيق، التي صدرت عن كبار المسؤولين الإيرانيين، بصدد الأسطوانة.

فالرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد، لم يتردّد في وصف قورش بـ"ملك العالم"، الأمر الذي بدا مستغرباً من رأس نظام حرص على تخفيض نبرة التغنّي بماضي الفرس قبل الإسلام، وذلك على نقيض ـ مقصود، ومنهجي، ومدروس ـ ممّا كان يفعل الشاه. لا أحد، سوى السذّج، غاب عنه المغزى السياسي ـ أو الشعبوي، في جانب آخر هامّ ـ خلف حرص نجاد على زيارة أسطوانة قورش، وإسباغ أوصاف تفخيمية على ملك وثني في نهاية المطاف، كما يقول المنطق البسيط (وكما شدّد، حينئذ، آية لله صادق خلخالي، الذي أضاف أنّ قورش كان "مثلياً" و"عابداً للنار"). كذلك لم تغب عن الرئيس الإيراني السابق ضرورة "الموازنة"، التي لا تقلّ شعبوية بالطبع، بين الاحتفاء بملك فارسي حرّر اليهود من أسرهم البابلي، وبين موقف إيران الراهنة من دولة إسرائيل؛ فكان أن وصل إلى المعرض وقد أرخى على كتفيه... كوفية فلسطينية!

عودة، أخيراً، في اقتباس ثانٍ، إلى صاحبنا عبقريّ المقارنة القورشية: "إنّ المعركة التي يخوضها المسيحيون في الغرب هي المعركة ذاتها التي يخوضها المسيحيون في دمشق، وغروزني، وأجزاء أخرى من العالم الإسلامي. الأسد حليفنا، أحببنا هذا أم كرهناه، وعلى المسيحيين أن يبتهجوا إزاء التحالف مع رجل مستعدّ للغرق بسفينته بدل بيع المسيحيين"! وفي ضوء خلاصات كهذه، خاصة غرق السفينة، ألا يحقّ لأنصار النظام، من أبناء الطائفة العلوية تحديداً، أن يشككوا في هوية الأسد الطائفية، وأن يقترن الشكّ عندهم بمشاعر الحسد والغيرة من... مسيحيي قورش العصر؟  

الجمعة، 7 مارس 2014

بوتفليقة والأسد: خرافة الرئاسات إلى الأبد

 الواقعة تعود إلى يوم 21 آب (أغسطس)، سنة 2005، حين كان الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة مجتمعاً، في الجزائر العاصمة، مع ريشارد لوغار، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي. تناول بوتفليقة شؤون المنطقة، من العراق ما بعد صدّام حسين، إلى ليبيا، مروراً بمصر والسعودية؛ لكنّ اهتمامه الأكبر (على ما نقلت برقيات "ويكيليكس"، بعدئذ) انصبّ على إقناع لوغار بجدوى الانفتاح مجدداً على نظام بشار الأسد، خدمة لمصالح أمريكا في المقام الأوّل، وكذلك للحدّ من نفوذ إيران في المنطقة، وتحويل "حزب الله" من مجموعة عسكرية إلى حزب سياسي ممثّل في مجلس النوّاب اللبناني.

برهة أخرى، في تأكيد هذه العلاقة الخاصّة بين نظامَيْ العسكر في الجزائر وسورية، لأنها في الواقع سيرورة مركّبة تتجاوز العرى الشخصية الوثقى بين بوتفليقة وكلّ من الأسد الأب والأسد الابن؛ كانت سلسلة المواقف التي اتخذتها الدبلوماسية الجزائرية بعد انطلاق الانتفاضة الشعبية السورية، خلال اجتماعات الجامعة العربية، وخاصة التحفّظ على الفقرة الثالثة من قرار الجامعة، لشهر تموز (يوليو) 2012، والتي طالبت الأسد بالتنحي عن السلطة. التكملة المنطقية لهذه البرهة كانت هتاف المتظاهرين في سورية: "خاين خاين خاين! بوتفليقة خاين!"؛ وقيام بعض المتظاهرين الجزائريين، في الجزائر، باستعارة واحدة من لافتات بلدة كفرنبل الشهيرة، تقول: "إلى النظام الجزائري: سيل الربيع العربي قادم... فأين المفرّ؟".

العسكر، والأجهزة الأمنية، والتركيبة العائلية في إدارة الاقتصاد والكثير من مراكز القرار في هرم السلطة، فضلاً عن النزوعات العقائدية "البعثية" داخل حزب "جبهة التحرير الوطني"، وقهر المجتمع والسياسة بذريعة "الحملة على الإرهاب"، ثمّ الخشية من انتقال رياح "الربيع العربي" لتعصف بأركان النظامين، والسلطات الواسعة التي يمنحها "الدستور" في البلدين لمنصب الرئاسة، بين عناصر أخرى مشتركة... كل هذه أتاحت ذلك المستوى المتقدّم من التضامن، التبادلي، بين بوتفليقة وعسكر الجزائر عموماً؛ ونظام "الحركة التصحيحية" في سورية، كما ورثه الأسد الابن من أبيه، وتابع نهجه وأعرافه. يكتب الصحافي الجزائري كامل داود: "إذا تعرّضتم لي، فسينهار الشرق الأوسط وينزلق إلى الفوضى، يقول السوري بشار الأسد. إذا تعرّضتم لي، فإنّ 'القاعدة' سوف تُلحق الخراب بالمنطقة، يقول الجزائري بوتفليقة. أنا ضامن أمن التزويد بالطاقة، يضيف الجزائري. أنا ضامن أمن إسرائيل، على النقيض من المظاهر، يجيب السوري"!

لم يكن ينقص، إذاً، إلا إعلان بوتفليقة (76 سنة)، ولكن بلسان رئيس وزرائه عبد المالك سلال، العزم على الترشيح لولاية رابعة، اعتماداً على التعديل الدستوري الشهير، لسنة 2008، الذي ألغى تقييد شغل المنصب بولايتين، فجعله مدى الحياة، ما دام الشعب راضياً سعيداً! ولولا ما يتردد، همساً بالطبع، عن ضيق صدر الجنرال محمد مدين، رئيس الاستخبارات المعروف باسم "توفيق"، بهذا الترشيح؛ لأقرّ المرء بأنّ مجمّع النظام الحاكم منخرط، كالبنيان المرصوص، خلف بوتفليقة. لقد بدأت المؤشرات الأولى عندما شنّ عمار سعداني، الأمين العام لـ"جبهة التحرير"، هجوماً غير مسبوق على مدين، فاتهمه بتنظيم "حملة فضائح وأكاذيب" ضدّ أعوان بوتفليقة؛ ثمّ استُكملت المؤشرات حين صوّت الحزب على ترشيح "المجاهد عبد العزيز بوتفليقة" لخمس سنوات رابعة...

وكما أنّ انتخابات 2004 و2009 جلبت لبوتفليقة نسبة 85 و90 في المئة، على التوالي؛ فإنّ نسبة 97 بالمئة كانت نصيب الاستفتاء على مشروع "الميثاق من أجل السلم والمصالحة الوطنية"؛ الذي اقترحه الرئيس الجزائري لطيّ العقد الدامي الذي عاشته الجزائر بين 1992 و2003، وأسفر عن أكثر من 150 ألف قتيل وآلاف المفقودين؛ ثمّ أصبح الميثاق، في 28 شباط (فبراير) 2006، قانوناً رسمياً، موازياً لأحكام "الدستور"، وركيزة ثانية في سلطة بوتفليقة. غير أنّ الإشكالية الأولى في ذلك الميثاق/القانون تمثلت في نقص فادح بصدد ملفّين حاسمين وأساسيين: المفقودين (إذْ لا ينصّ الميثاق على أية أوالية ملموسة تضمن الكشف عن مصائرهم)؛ وملفّ محاسبة الجنرالات، والمافيات الأمنية، أو أية جهات حكومية سلطوية ارتكبت أعمال الخطف والاعتقال التعسفي والتنكيل بالمواطنين، فضلاً عن ممارسة الفساد ونهب البلاد (العكس هو الصحيح، لأنّ الميثاق يقول لهم، عملياً: عفا الله عمّا مضى!).

في جانب آخر، وفي استحقاق لا يقلّ أهمية عن العفو والتسامح والمصالحة، ينطوي الميثاق على ما يشبه الشرعنة التامة لرواية وحيدة عن ذلك العقد الجزائري الدامي؛ هي سردية السلطة كما سردتها قبل التصويت على الميثاق، إذْ لن تكون بعده أية رواية أخرى... تحت طائلة القانون! والأمر ينقلب إلى ما يشبه التحريم التامّ في المسألة الأكثر حساسية ومأساوية، أي ملفّ المفقودين، كما في النصّ العجيب الذي يمهّد للبند 4: "إنّ الشعب الجزائري صاحب السيادة يرفض كلّ زعم يقصد به رمي الدولة بالمسؤولية عن التسبب في ظاهرة الافتقاد. وهو يعتبر أن الأفعال الجديرة بالعقاب، المقترفة من قبل أعوان الدولة الذين تمت معاقبتهم من قبل العدالة كلما ثبتت تلك الأفعال، لا يمكن أن تكون مدعاة لإلقاء الشبهة على سائر قوّات النظام العامّ التي اضطلعت بواجبها بمؤازرة من المواطنين وخدمة الوطن".

وللمرء أن يراهن أنّ تسعة أعشار ضباط الأسد، في صفوف أجهزته الأمنية وقوّاته الموالية وفصائل الشبيحة ومفارز الميليشيات الطائفية، سوف يراودهم الحلم باعتماد فقرو مماثلة، وبالحرف، في سورية. فإلى جانب الطابع الديماغوجي الذي يكتنف صياغة النصّ، فإنّ منطوقه كان كافياً لتبرئة ذمّة القتلة بذريعة السيادة الوطنية؛ والحفاظ على حصانة الدولة بأسرها، وسمعتها، وشرفها، كاملة تامة، منيعة معفاة من كلّ وازرة! غير أنّ ما حدث في الجزائر، يوم 11 كانون الثاني (يناير) 1992، كان انقلاباً عسكرياً صريحاً نفّذه جنرالات الجيش ومؤسسات الحكم المدنية المتحالفة مع مختلف أجهزة السلطة. وباسم الدولة وحفاظاً عليها، بذرائع صيانة السلم الأهلي ودرء الأخطار المحدقة بالوطن، انقضّ الجيش على المؤسسات بدءاً من رئيس الجمهورية آنذاك الشاذلي بن جديد، وانتهاء بأصغر مجلس بلدي. كما فُرض قانون الطوارىء، وألغى نتائج الانتخابات التي حققت فيها "جبهة الإنقاذ" انتصاراً صريحاً؛ فانفتح الباب عريضاً على السيرورة (الطبيعية والمنطقية) للتحوّلات الكبرى في الحياة السياسية عموماً، وتصاعدت خيارات العنف ضمن تيارات الإسلاميين وأجهزة السلطة العسكرية والأمنية على حدّ سواء.

ويخطيء مَنْ ينسى أنّ عمليات الإرهاب في الجزائر كانت خير ساتر للسلطة في تمرير المشاقّ الاجتماعية الناجمة عن الشروط التي فرضها "صندوق النقد الدولي" على البلد، بحيث بات الجزائري العادي رهينة هاجس البقاء على قيد الحياة، قبل هاجس الإلتفات إلى شجون وشؤون المعاش اليومية. ذلك، بمعنى آخر، كان شكلاً معقداً و"غير مرئي" من أشكال دعم برامج السلطة الحاكمة، بما في ذلك التواطؤ الصامت مع أساليبها القمعية التي لم يكن لها أي نصيب ملموس من النجاح في الحدّ من استفحال العنف الدامي. ولعلّ العكس هو الذي صار صحيحاً فيما بعد، حين أخذ الإرهابيون يعملون في وضح النهار وبسهولة أكثر، وتبدلت نوعية الضحية: من رموز السلطة السياسية والأمنية والعسكرية، إلى الجزائري العادي، الشيخ والطفل والمرأة.

كذلك يخطيء مَنْ ينسى أنّ حمامات الدم المفتوحة تلك، ودورة العنف الإرهابي الأهلي الأبشع في التاريخ الجزائري الحديث بأسره، كانت أو تظلّ مسألة جزائرية داخلية تبرّر القول: وماذا في وسع العالم أن يفعل حين يقتل الجزائري شقيقه الجزائري، في حرب أهلية طاحنة تدور رحاها منذ عقد ونيف؟ فليس بجديد القول إن فرنسا غارقة حتى أذنيها في المعضلة الجزائرية، لأسباب تاريخية كولونيالية معروفة، ولكن أيضاً بسبب التراث الأحدث لمجموعة المواقف الفرنسية بعد انقلاب 1992. والفرنسيون يسددون اليوم ديون الأمس القريب، خصوصاً حين أدركوا أنّ ضغط تلك الديون أخذ يترجم عواقبه في عمليات تصدير العنف إلى داخل أنفاق المترو في قلب باريس، حيث يودي الإرهاب بأرواح فرنسية بريئة، تماماً كما أودى ويودي بأرواح جزائرية بريئة.

من جانبها، وفي الموقف من الإسلام السياسي كما في الموقف من أية قضية أخرى شرق أوسطية، ظلت واشنطن على عهدها في خدمة المصالح القومية الأمريكية، فضلاً عن ضمان أمن إسرائيل العسكري والسياسي والاقتصادي، وتوسيع دائرة المغانم الستراتيجية الناجمة عن احتلال العراق. وهكذا، كان في وسع البيت الأبيض غضّ النظر عن حمامات الدم وتلال الجثث الأهلية في الجزائر، بل و"التطنيش" التامّ المذهل عن حقيقة أنّ الجزائر كانت تشهد إرهاباً من نوع أعمى، أشدّ قسوة وبربرية من أيّ إرهاب تزعم الولايات المتحدة أنها تخوض حرباً شاملة لاستئصاله. وتناسى أشخاص مثل ريشارد بيرل، وبول ولفوفيتز ودونالد رمسفيلد وكوندوليزا رايس، أنّ شعار الجماعات الإسلامية المسلحة في الجزائر كان يسير هكذا: "لا حياد في الحرب، وباستثناء الذين معنا فإن الآخرين كافرون". ولكن كيف كان لهؤلاء أن يتذكروا مثل هذا الشعار، إذا كانوا هم أنفسهم قد صاغوا، وأطلقوا على لسان رئيسهم، الشعار المانوي الشهير: مَن ليس معنا فهو ضدّنا؟

وبهذا المعنى كان يُفهم إصرار رجل مثل حسين آيت أحمد على الربط بين مشروع بوتفليقة في المصالحة الوطنية (حيث أنّ أهداف المشروع الكبرى كانت، في يقينه، تهدف إلى تبييض الجنرالات بما يتيح استمرار تحالفهم مع بوتفليقة، تمهيداً لتعديل الدستور ومنح الرئيس الحالي عدداً لانهائياً من الولايات الرئاسية، أسوة بأشقائه الرؤساء العرب... وهذا ما جرى بعدئذ، بالفعل!)؛ وبين ما تحظى به سلطة بوتفليقة من تأييد فرنسي وأمريكي صريح، لعلّه بدا فاضحاً أحياناً. وإذا كان آيت أحمد قد بالغ، في كثير أو قليل، حول طبيعة هذا الدعم؛ فإنّ الثابت، مع ذلك، أنّ الديمقراطيات الغربية تنفست الصعداء بعد انقلاب 1992، حين صادر الجيش الجزائري صندوق الاقتراع (طوطم الديمقراطية الغربية!)، ودفع الجزائر إلى بركة الدم. وحدث، استطراداً ومراراً، أنّ الديمقراطيات إياها انتقلت سريعاً إلى ما هو أدهى  من تنفّس الصعداء: إلى مدّ المافيا العسكرية بأسباب البقاء اللازمة، لا لشيء إلا لكي تسيل أنهار جديدة من دماء الجزائريات والجزائريين!

المقارنات بين الجزائر وسورية، ثمّ بين بوتفليقة والأسد استطراداً، وافرة متزايدة ضاربة الأطناب؛ وليتها اقتصرت على محض نزوع استبدادي إلى إعادة إنتاج خرافة رئاسات مديدة لانهائية، مفتوحة إلى أبد الأبد.

الأحد، 2 مارس 2014

من بيت جالا إلى حلب: القدامة السورية

 ضمن أنشطة الربيع الثقافي الفلسطيني، الذي احتضنته فرنسا سنة 1997 وكان نقلة نوعية وغير مسبوقة على الصعيد الأوروبي، سواء من حيث طبيعة الأنشطة، أم الأسماء المشاركة (فدوى طوقان، محمود درويش، عز الدين المناصرة، أحمد دحبور، سحر خليفة، أنطون شماس، ليانا بدر، غريب عسقلاني، زكي العيلة، رياض بيدس...)؛ تشرّفت بالمشاركة في تأليف كتاب جماعي، مع إلياس صنبر وجان ـ كلود بونسيه، نُشر بالفرنسية، حول التحدّيات الثقافية التي تواجهها فلسطين، راهناً وفي المستقبل. وقد تناولتُ عشر شخصيات فلسطينية، تبدأ من روحي الخالدي وتنتهي عند إدوارد سعيد؛ وكان في عدادهم (بالطبع، إذْ كيف أمكن أن يغيب!) الطبيب والأديب والباحث والمؤرّخ والأنثروبولوجي توفيق بشارة كنعان (1882 ـ 1964).

وإذْ أعود إليه اليوم، فلأنّ هذه السنة تدشّن الذكرى الخمسين لرحيله، وإلقاء تحية إجلال على ذكراه هي واجب الحدّ الأدنى؛ وكذلك لأنّ حياة هذا العلاّمة، وبعض أعماله، كانت لها صلات سورية وثيقة، الآن إذْ يطالب البعض بفكّ الارتباط بين فلسطينيي سورية والسوريين؛ وكأنّ مخيّمات اليرموك في دمشق، والرمل الجنوبي في اللاذقية، والنيرب في حلب، والعائدين، في حمص... يمكن أن تبقى جزراً آمنة رغيدة، ناجية من وحشية النظام السوري.

وهذا رجل كان مسيحياً أرثوذكسياً، لبناني الأصول، لكنه ساجل بأنّ الفلسطيني ينتمي بقوّة إلى عمقه العربي والإسلامي، حتى حين يفاخر بنتاج جماع مركّب، لثقافات بابلية وعمورية وآرامية وكنعانية وفينيقية وفرعونية وعبرانية وهيللينية. وفي كتابه الهام "قضية عرب فلسطين"، الذي صدر أوّلاً بالإنكليزية وترجمه إلى العربية النهضوي العلماني المعروف سلامة موسى سنة 1936، وصف كنعان أهمية الفتح العربي الإسلامي لفلسطين في القرن السابع، وكيفّ تعرّب الفلسطينيون سريعاً، فولدت هويتهم وترسخت أكثر فأكثر مع الغزوات الخارجية اللاحقة (الصليبية والعثمانية والغربية)، دون أن تخسر عناصرها التكوينية الأولى.

ولد كنعان في بيت جالا، البلدة الفلسطينية التي تتّسم بتعددية مسيحية ـ إسلامية مميّزة، ودرس في دار المعلمين بالقدس، ثم التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت، وتخرج منها طبيباً عام 1905. هذا الطور الأول، في مراقبة المحيط الفلسطيني والعربي المجاور، أعقبه طور العمل الطبي الميداني الواسع، حتى عام 1947؛ حين عمل في مستشفيات فلسطين، وترأس دائرة الملاريا التابعة لمكتب الصحة العام، كما ترأس دائرة المختبرات الطبية العثمانية، التي يمتدّ نشاطها من بئر السبع في فلسطين إلى مدينة حلب شمال سورية. وتابع أثناء ذلك تعميق معرفته الطبية، فدرس علم الجراثيم والأمراض الاستوائية وأمراض الدرن على يد أطباء ألمان، وكان اتقانه لستّ لغات قد أتاح له توسيع معارفه النظرية، وكتابة المقالات في صحف بريطانية وألمانية وفرنسية.

ولسوف تتكامل ملامح كنعان الأنثروبولوجي، بالمعنى الدقيق لفروع علم لم يكن قد دخل إلى العالم العربي بعد، لأسباب تاريخية وثقافية (ذات صلة بالقراءة الدينية لأصل الإنسان والتكوين)، واجتماعية (على رأسها أنّ العلم بدا عنصرياً وغربي التمركز في حديثه عن الأقوام البدائية وشعوب آسيا وأفريقيا). ففي فرع الأنثروبولوجيا الجسمية الفيزيقية، وضع كنعان كتباً في الطبّ المحض (مثل "حبّة حلب"، و"التهاب السحايا الدماغية والشوكية في القدس"، و"عدوى الجذام")؛ وفي علم اجتماع الطبّ أيضاً (كتابه المدهش "الطبّ الشعبي في أرض الكتاب المقدس"، و"علم النبات في الخرافات الفلسطينية"، و"طاسات الرعبة العربية")؛ وهي مؤلفات تدرس تاريخ العلاقة الوثيقة بين العلاج المادي عن طريق التداوي بالأعشاب، والعلاج النفسي عن طريق توظيف رموز الخرافة الشعبية وأساطيرها.

وفي فرع الأنثروبولوجيا الثقافية كتب كنعان عشرات المقالات التي تناقش ظواهر أنثروبولوجية ثقافية مباشرة: النور والظلام، اللعنة، الطفل، ماء الحياة، رموز الطلاسم العربية، الينابيع المسكونة، الشياطين المائية... كذلك امتدت نشاطاته البحثية لتشمل الدراسات الجغرافية والأركيولوجية والمعمارية، فتناول طرق القوافل العربية الفلسطينية، وطبوغرافية منطقة البتراء، وعمارة البيت الفلسطيني التقليدي، والأنساق المعمارية للمزارات الإسلامية ودلالاتها الروحية.

ثمة، غنيّ عن القول، ذلك الجانب النضالي في شخصية كنعان: أنه اعتبر "الإمبريالية البريطانية" شريكة مع "الصهيونية العالمية" في الاستيلاء على فلسطين، فعمدت سلطات الإنتداب البريطانية، سنة 1939، إلى اعتقاله، مع زوجته وشقيقته، بالتهمة الكاذبة الرائجة آنذاك (الدعاية لألمانيا الهتلرية)، وزُجّ به في سجن عكا. ولم تكن مفارقة كبيرة أن يقتسم الطبيب والأنثروبولوجي والمؤرّخ المسيحي، التهمة ذاتها مع الحاج أمين الحسيني، المسلم والشيخ ومفتي القدس. وفي جانب آخر، يشير سليم تماري، أستاذ علم الاجتماع في جامعة بير زيت، إلى أنّ أنشطة كنعان الإثنوغرافية تبلورت ضمن سياقات فكرية ارتبطت بصعود النزعة القومية الفلسطينية، نتيجة تطوّرَين: هزيمة اللامركزية العثمانية، وتكوّن الهوية السورية العظمى.

وبعد ثلاثة عقود أعقبت ترحال كنعان في المحيط السوري، سوف يولد فلسطيني آخر اسمه محمود درويش؛ وسيكتب هكذا: "أنا ابن الساحل السوري/ أسكنه رحيلاً أو مقاما / بين أهل البحر/ لكنّ السراب يشدّني شرقاً/ إلى البدو القدامى"؛ أو يكتب هكذا: "وزنزانتي اتسعت شارعاً، شارعين. وهذا الصدى/ صدى، بارحاً سانحاً. سوف أخرج من حائطي/ كما يخرج الشبح الحرّ من نفسه سيّدا/ وأمشي إلى حلبٍ. يا حمامة طيري/ بروميّتي، واحملي لابن عمي/ سلام الندى"...