وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 30 يوليو 2012

حلب الشهباء.. والشهداء

في أواخر الستينيات كانت في سورية جامعتان: دمشق، التي تأسست سنة 1923 تحت اسم "الجامعة السورية"؛ وحلب، التي تأسست سنة 1958. ورغم أنني كنت من أبناء محافظة الحسكة، إحدى المحافظات الشرقية، وتوجّب بالتالي أن أنتسب إلى جامعة حلب؛ إلا أنّ حصولي على منحة دراسية قادني إلى جامعة دمشق، الأمر الذي جعلني أكثر معرفة بالعاصمة السياسية، خلال سنوات الدراسة، وإقامات أخرى أطول. حلب، المدينة الثانية في سورية، والعاصمة التجارية عملياً، عرفتها خلال زيارات متقطعة، فضلاً عن أداء دورة التدريب للخدمة العسكرية الإلزامية في واحدة من مدارسها.

ولقد شاء الحظّ أن تجري تلك الدورة خلال العام 1979، في ذروة المواجهات العنيفة، والعنفية، بين النظام والجناح العسكري لجماعة الإخوان المسلمين، فشهدتُ (مثل العشرات من زملائي "الطلاب الضباط"، كما تسير التسمية) بعض فصول تلك المواجهات. كان قائد اقتحام الأحياء الحلبية ضابط في "الوحدات الخاصة"، برتبة مقدّم، يُدعى هـ. م.، وكانت فضيلته الوحيدة أنه ظلّ يستهوي مصارحتنا بحقيقة دورنا في تلك العمليات: أنتم تؤدّون الخدمة الإلزامية، وبالتالي لن يستهدفكم "الإخوان الشياطين" (لم تكن مفردة "الإرهابيين" أو "المندسين" رائجة آنذاك)، مثل استهدافهم للعسكريين العاملين؛ ولهذا فأنتم أشبه بالدرع البشري، ننشركم في مدخل الحيّ، قبل أن نبدأ بالاقتحام والتطهير!

كانت تلك "الفلسفة" تثير القشعريرة حقاً، ليس لأننا بالفعل كنّا نؤدّي "خدمة العلم"، لا أكثر؛ ولسنا، استطراداً، على دراية بفنون القتال عامة، وقتال الشوارع والأزقة والمدن خاصة؛ بل، كذلك، لأنّ مفهوم "الدرع البشري" في ذاته يحيل إلى صيغة الدريئة التي تتلقى الرصاص، وتلك هي وظيفتها الوحيدة! المدهش أنّ الضابط كان على حقّ، في نهاية المطاف، لأنّ أياً من زملائنا الطلاب الضباط لم يُقتل في المواجهات، رغم أنّ بعضها كان ساخناً بالفعل (كما في معركة حيّ الصاخور، مثلاً)، ورغم أنّ مجموعاتنا كانت تُنشر على هيئة دروع بشرية، وحدث مراراً أنّ الرصاص كان يمرّ من فوق رؤوسنا!

وفي هذه الأيام تحديداً، إذْ يحاصر عسكر النظام مدينة حلب، ويعتزم حرق الأخضر فيها قبل اليابس، أستعيد ـ ضمن اختلاطات متلاطمة لمشاعر الاعتزاز والأسى، البهجة والسخط، الدهشة واليقين... ـ واقعة ذات مغزى بالغ الخصوصية؛ شهدتها، شخصياً، صحبة عدد من الزملاء، في "جبّ القبة"، أحد أعرق أحياء المدينة، والذي يقع على مرمى أمتار من سور القلعة. كنّا يومها في ساعات الفجر الأولى، وفرغنا من تفتيش أحد البيوت، ليس دون فظاظة شديدة تعمدها عناصر "الوحدات الخاصة"، دون أن نعثر على أي سلاح، حين باغتنا المقدّم هـ. م. دخل إلى البيت مجدداً، وألقى نظرة سريعة على المكان، ثمّ سأل الساكن الوحيد (وكانت سيدة سبعينية) إنْ كانت عندها شربة ماء؛ فأجابته بنبرة جافة، ونظرة صقيعية: "عندك البئر، فانزحْ منه واشربْ".

ابتسم المقدّم، على نحو ماكر لن ندرك مغزاه إلا بعدئذ، وغادر المكان مع عناصره، وبقينا نحن مرابطين أمام البيت، حتى تصلنا تعليمات أخرى. وبعد دقائق أطلّت السيدة، وهي تحمل "صدر" قشّ عريضاً، تكدست فوقه أصناف منوّعة من الجبن، والعسل، والمربى، والزيتون، والزعتر، والزيت، والبيض المقلي والمسلوق، وخبز الصاج الساخن... كانت السيدة تجهل مللنا ونحلنا، أدياننا وطوائفنا، مناطقنا وأعراقنا، ولكنها قالت، بصوت واهن ولكنه يطفح حناناً وعذوبة: "أنتم مجبرون على هذا، وأمهاتكم بعيدات عنكم، فاعتبروني أمّكم، واقبلوا هذا الفطور بالنيابة عنهنّ". وقبل أن نتحرر من المفاجأة الصاعقة، أو نمتلك الوقت لنتداول في ما إذا كان من الصائب ("عسكرياً"، على الأقلّ!) أن نقبل هذه الدعوة السخية الاستثنائية، تعالى مجدداً صرير عجلات سيارة الـ"رينج روفر"، يقودها المقدّم دون سواه، والابتسامة ذاتها على وجهه. "ليس عندك شربة ماء يا خالة، أليس كذلك؟". "لك ماء البئر" ردّت الخالة بحزم، "وهؤلاء أولادنا، لهم القلوب والعيون"!

تلك هي حلب، وهذه حكاية واحدة صغيرة تعكس وجدانها السوري الثرّ، وتؤشر على بعض أسفارها وأطوارها وأحوالها، بوصفها الشهباء الكريمة المجيدة الأبية، صاحبة الموقع السياسي والثقافي والحضاري، الإنساني والوطني والكفاحي، الذي تضرب جذوره عميقاً، بل تغوص في الأعمق من تاريخ سورية، القديم والوسيط والحديث والمعاصر. وتلك هي الحاضرة التي حرص النظام أن يُطبق عليها الخناق (وربما أكثر ممّا فعل مع دمشق)، ففرض عليها حصاراً خارجياً، وأقام الحواجز في الشوارع والأحياء الرئيسية، كما نصب عدسات المراقبة في الساحات العامة وأمام المساجد، ولجأ إلى طرائق أشدّ شراسة في تفريق التظاهرات أو الاعتصامات. وهي، أيضاً، حلب بعض كبار التجّار، الذين تحالفوا مع بعض المشايخ ورجال الدين، فلعبوا دوراً ميدانياً مباشراً في إخماد النقمة الشعبية، واعتمدوا في هذا أساليب شتى تبدأ من التلويح بقطع الأرزاق، ولا تنتهي عند إصدار الفتاوى.

"حلب الشهباء"، مدينة تلك السيدة الفريدة، "الأمّ شجاعة" على نحو ما صوّر برتولت بريخت، وأرفع؛ صارت، أيضاً، "حلب الشهداء"، بالعشرات كلّ يوم. هي، كذلك، عاصمة الانتفاضة، راهناً وحتى إشعار آخر؛ وتلك التي تشهد، وتستعيد، أمثولة محمود درويش: "في كلّ مئذنة/ حاوٍ، ومغتصب/ يدعو لأندلسٍ، إنْ حوصرت حلبُ"!

الاثنين، 23 يوليو 2012

"الهبوط السلس".. في حمام الدم!

في يومية The National الإماراتية، تنتاب فيري بيدرمان مشاعر نوستالجية، فيحنّ إلى تفاصيل رومانتيكية سبق له أن عاشها شخصياً في العاصمة السورية دمشق: مقهى النوفرة، على سبيل المثال، حيث "كان بمقدور السياح (وكذلك الصحافيين الباحثين عن موضوع غرائبي خلاب)"، أن يقصدوا المقهى الشعبي الشهير، في قلب دمشق القديمة، للاستماع إلى الحكواتي وهو يستجمع "الحكايات الملحمية عن أمجاد العرب الغابرة"؛ هذه التي "تشعل حماس المستمعين، رغم معرفتهم بأنّ الحكايات مطرّزة". بيدرمان، الذي عمل بين 1999 و2010 مراسلاً لصحيفة "فايننشيال تايمز" في سورية، كان يعلّق على اندلاع المواجهات العسكرية بين شباب الانتفاضة وقوّات النظام الموالية، وصار أغلب الظنّ يرى دمشق مختلفة عن تلك التي عرفها خلال سنوات إقامته. وهكذا، لاح أنّ المدينة اتخذت عنده صفة جديدة، عسكرية هذه المرّة، لعلّها أخذت تمحق الصورة السياحية ـ الاستشراقية، على نحو أو آخر ـ كما كان يكرّسها مقهى النوفرة. 

وحين يهبط، مجدداً، على أرض الواقع الفعلي، حيث الشعب والنظام وشبكة التعقيدات التي تكتنف هذه الانتفاضة، يحاول بيدرمان السير على حبل من مسد، بين الحقّ تارة، والباطل طوراً، ليس دون الركون أيضاً إلى مزيج من الأقصيَيْن! فهو، في حال أولى، يقرّ بأنّ القوى الكبرى في الغرب والولايات المتحدة سكتت عن النظام، أو تواطأت مع سرديات شتى تجمّل ذلك السكوت (بينها، مثلاً، نظرية "الهبوط السلس" Soft Landing، التي جعلت بشار الأسد ضامن استقرار وسلم أهلي، رغم التوريث والاستبداد والفساد). وهو، في حال أخرى، يعتبر أنّ وقائع 17 شهراً من عنف النظام ضدّ الشعب، فضلاً عن أفعال النظام طيلة 11 سنة من حكم الأسد الابن، ليس في سورية وحدها بل في لبنان والعراق، أقنعت السوريين بأنّ النظام لم يعد قادراً حتى فرض نسخته الخاصة، المزيفة، من "الاستقرار"، رغم اللجوء إلى مستوى أعلى من الوحشية والعنف.

إلى هذا، ثمة إشكالية إضافية، مهنية وأخلاقية، تقترن بالخلاصات التي يبلغها بيدرمان اليوم ـ لا سيما استنكاره احتمالات نجاح "مرحلة انتقالية" في سورية، واعتبارها "أضغاث أحلام"، و"استيهام مخجل" ـ وهي أنّ تغطياته للمشهد السوري، على امتداد عقد ونيف، لم تكن قد أشارت إلى ما يشخصه اليوم حول زيف استقرار النظام، أو تركيبته الطائفية. وإذْ اعتاد على التحذير من انتقال المخاطر العراقية إلى سورية، فإنّ بيدرمان لم يتوقف، على أي نحو نقدي يشبه ما يفعله اليوم، عند زيف سردية "الهبوط السلس"، التي صار اليوم يعتبرها "خرافة"؛ حتى ليصحّ القول، دون إلحاق كبير غبن بالرجل، أنه إنما اكتشف السردية مؤخراً فقط، حين انتقلت إلى مصافّ الخرافة!

بيدرمان جزء من ظاهرة، بالطبع، صنعتها وتصنعها تلك الطرائق القاصرة، أو الملتوية، أو الغافلة، أو الجاهلة، أو المتجاهلة عن عمد وتصميم... التي يعتمدها مَنْ يأنسون في أنفسهم اكتساب "معرفة" ببلداننا، وتكديس "خبرة" بشؤونها وشجونها؛ لا نعجز عنها، نحن أبناء القضايا وأهلها وضحاياها، فحسب؛ بل لا يجوز لنا، أصلاً، أن نتفكر فيها بصفة مستقلة عن "العارفين" و"الخبراء" أولئك، في الغرب وفي الولايات المتحدة خصوصاً. نتذكر، هنا، ذلك المقال الذي نشرته أسبوعية الـ"إيكونوميست" البريطانية، في ربيع 2010، ودار حول السؤال التالي: هل يمكن لطبق من أسماك الـ"سوشي" أن يفضي إلى الحرّية، في سورية؟ وهل مضى، وانقضى، زمن صحن الحمّص و"الرغيف المسطح"؟ والمطاعم الدمشقية، التي صارت، توفّر مختلف المطابخ العالمية، هل تعلن أنّ "اشتراكية البعث" لم تعد "طيّبة المذاق؟"

سؤال الـ"إيكونوميست"، حول الصلة بين طبق الـ"سوشي" والحرّية، كان يستبطن ذلك الافتراض الليبرالي العتيق الذي يربط ـ على نحو آلي محض غالباً، جامد ودوغمائي في تنظيرات عديدة ـ بين حرّيات السوق الاستثمارية، والحرّيات المدنية والسياسية. وضمن التطبيق الكاريكاتوري، الكامن في خلفية معادلة المجلة الاقتصادية الأكثر رصانة، توجّب على طبق الـ"سوشي" أن يفسح المجال لترخيص حزب سياسي معارض مثلاً؛ أو أنّ طبقاً آخر من الـ"فوتوماكي" سيتكفل بمنح الطبقة المتوسطة هامشاً أوسع في التعبير والرأي؛ وثمة، بالتالي، رباط وثيق مباشر بين تحرير الاستهلاك وتحرير الإنسان، وبين السوق والإصلاح...

وخلال الأشهر القليلة التي سبقت الانتفاضة كانت وسائل إعلام غربية، وبينها تلك الأمريكية بالطبع، تتسابق على تجميل سحنة النظام السوري، وإسباغ الألق على هذا "الحاكم الشاب"، "طبيب العيون"، "خرّيج المشافي البريطانية"؛ وعلى عقيلته "الأنيقة"، "صاحبة الابتسامة الرقيقة"، "وردة الصحراء" التي ترعرعت في بريطانيا... عدوى الإعجاب هذه انتقلت من الصحافيين والساسة والخبراء، إلى أناس يصعب أن ينتظرهم المرء في هذا المقام. (في أواخر العام 2009 كانت الطائرة الخاصة للمخرج الأمريكي الشهير فرنسيس فورد كوبولا قد مُنعت من الهبوط في مطار بيروت، تنفيذاً لبنود مقاطعة إسرائيل، لكن الأسد سمح بأن تهبط في دمشق، ثمّ انتقل كوبولا بعدها إلى بيروت في طائرة أخرى، بعد وليمة رئاسية دافئة، ومديح لـ"الرؤيا" التي يحملها الأسد عن سورية!).

كانت عمليات امتداح "الهبوط السلس" تسير على قدم وساق، إذاً؛ وذلك رغم أنّ المؤشرات، كلها، كانت تُفضي إلى مدرّج واحد وحيد: حمامات دماء السوريين!

الخميس، 19 يوليو 2012

النظام السوري أمام منعطف الشام: أورام السرطان بعد تضخم القوة


قبل أيام تحمّل كاتب هذه السطور مسؤولية نشر التعليق التالي، على موقع "تويتر": "ما تشهده أحياء دمشق الساعة ليس، بعد، معركة تحرير العاصمة؛ ولكنه جولة فارقة، ومنعطف نوعي في انقلاب التوازنات. سجّلوا تاريخ 15/7/2012!". لم أكن أرجم بالغيب، بالطبع، أو كما أرجو أنّ القارىء الكريم أدرك على الفور؛ بل كنت ببساطة أحاول استقراء تطورات الموقف على الأرض ـ السورية عموماً، ولكن في ريف دمشق والعاصمة بصفة خاصة ـ كما تتجلى في أنساق الحراك الشعبي المدني، وتبدّلات أداء المجموعات المسلحة داخل صفوف المعارضة، وليس "الجيش السوري الحرّ" وحده، وسلوك النظام على مستويات عسكرية وأمنية وسياسية.

خصائص تلك المستويات هي، في وجهة أخرى، ركائز معمار "الحركة التصحيحية"، الذي شيّده حافظ الأسد طيلة ثلاثة عقود، وحرص فريق التوريث ـ بشار الأسد، وشقيقه، وأفراد أسرتَيْ الأسد ومخلوف، ومختلف الشركاء في مشروع تحويل البلد إلى مزرعة استثمار ونهب وفساد ـ على إدامة تقاليد ذلك المعمار، وتعزيز سطوة أجهزته ومؤسساته، بما يكفل غياب الأسد الأب، المؤسس، جسداً فقط، واستمرار حضوره كسلطة استبداد وفلسفة حكم. والذي يعرف، في الحدود الدنيا، طبائع اشتغال تلك الخصائص؛ ثمّ يضعها على خلفية وقائع الانتفاضة، خلال 16 شهراً وقرابة 20 ألف شهيد، ومئات الآلاف من الجرحى والمعتقلين والمفقودين والمشردين، سوف يدرك أنّ وصول المواجهات العسكرية إلى حيّ الميدان التاريخي ليس نقلة عابرة.

وإذا جاز أن تُوْضَع النقلة هذه في سياق معركة تحرير العاصمة (وهذه "معركة" جديرة بالتسمية، معقدة وطويلة ومركبة، لا تقتصر البتة على الفعل العسكري وحده)، تثميناً لإقدام الميدانيين، وانحناءً أمام تضحياتهم؛ فإنّ من الحكمة، والواقعية أيضاً، أن لا تُهدَر قيمتها في سياق التلهف على تحميلها أكثر، بكثير غالباً، مما تحتمل من مغزى ومعنى. هكذا أتاحت قراءة المشهد آنذاك، يوم 15 تموز (يوليو) الجاري؛ الأمر الذي كان يفرض، في الآن ذاته، عدم التسرّع في إغلاق أي احتمال، لأيّ سلسلة من تسارع الوقائع، أياً كانت الذرائع التي تُساق على سبيل التأني والتعقل والتبصر، خاصة وأنّ وصول المواجهات إلى قلب دمشق أطاش صواب النظام، وكان طبيعياً انتظار ردود فعل عسكرية وأمنية، قصوى وغير مسبوقة.

وهذا ما حدث، بالفعل، حين أبدى النظام علامات متزايدة على مزيج من الذعر والارتباك والتوحش، فأقام طوقاً أمنياً حول الحيّ، ونشر وحدات من الحرس الجمهوري، واستخدم المدفعية الثقيلة من ذرى جبل قاسيون، وتولت الحوامات مهامّ الاستطلاع والإسناد الجوي، وبعض عمليات القصف العشوائي أيضاً. امتد القتال ـ إذْ كان هكذا بالضبط، وبالمعنى العسكري الصرف للمفردة ـ من حيّ الميدان إلى مناطق واسعة من الأحياء المجاورة، في التضامن، والزاهرة، ونهر عيشة، والعسالي، والقدم، والحجر الأسود؛ بالإضافة إلي حيّ الشاغور، التاريخي بدوره، وحيّ ركن الدين العريق. والذي قُيّض له أن يرى مشاهد استسلام جنود النظام، من داخل دباباتهم أحياناً، وأسر عشرات منهم، وانسحاب وحدات كاملة، والاستيلاء على تجهيزات عسكرية وأسلحة وذخائر مختلفة... لن يخطيء كثيراً حين يصنّف تلك المشاهد في باب المنعطف النوعي الذي أخذ يقلب التوازنات.

على جبهات أخرى ـ وهنا، أيضاً، توجّب استخدام المفردة بمعناها العسكري المألوف ـ كان النظام يواصل قصف القابون، وجوبر، وكفر سوسة، داخل العاصمة؛ وبلدات المعضمية، ودوما، وحرستا، وعموم الغوطة الشرقية، وسواها من المناطق في ريف دمشق؛ كما يتبع السلوك العصبي، الوحشي، ذاته في قصف دير الزور وبلداتها، ومناطق متفرقة في محافظات حلب وحماة وحمص ودرعا وإدلب (حتى ساعة كتابة هذه السطور، منتصف نهار أمس الخميس، سقط أكثر من 80 شهيداً في مختلف أرجاء سورية). أمّا في قرى وبلدات الساحل السوري ـ وعلى نحو تمييزي عشائري، وليس طائفياً فحسب ـ كان النظام يستدعي إلى الاحتياط مئات المدنيين من أعمار مختلفة، ومن ضباط وصفّ ضباط وجنود، خاصة أولئك الذين أدّوا الخدمة العسكرية في وحدات الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري.

إجراء آخر، يظل لافتاً وشديد الأهمية في الواقع، كان قرار النظام بسحب وحدات كبيرة، ولكن منتقاة بعناية بالغة، من القوّات الموالية التي كانت منتشرة في الجولان المحتلّ (وبينها اللواء 90، في المثال الأبرز)، واستقدامها إلى محيط العاصمة السورية وريف دمشق، ووضعها تحت تصرّف أركان الفرقة الرابعة أو الحرس الجمهوري. وكان الجنرال أفيف كوخافي، قائد وحدة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي، قد أبلغ أعضاء الكنيست أنّ "الأسد نقل العديد من قواته التي كانت في هضبة الجولان إلى مناطق النزاع الداخلي"، وأنه بالتالي "ليس خائفاً من إسرائيل في هذه النقطة" بقدر "رغبته في تعزيز قواته حول دمشق". وطيلة الشهور الستة عشر من عمر الانتفاضة، أحجم الأسد عن إعادة نشر قوّات عسكرية كبيرة من مواقع تمركزها بعيداً عن مركز العاصمة، وذلك خشية تسهيل انشقاق وحدات كاملة في صفوفها، حتى إذا كان ولاء آمريها المباشرين مضموناً تماماً.

كلّ هذه الوقائع حدثت قبيل التفجير الذي قيل إنه وقع في مقرّ مكتب الأمن القومي، وأودى بحياة ثلاثة من أرفع مسؤولي ما يُسمّى "خلية إدارة الأزمة"، وما يزال الغموض يكتنف ملابسات وقوعه، حتى بعد أن سارعت جهتان ـ "الجيش السوري الحرّ" ـ القيادة العسكرية لمنطقة دمشق وريفها، وجماعة "لواء الإسلام" ـ إلى إعلان المسؤولية عن تنفيذه. وأياً كانت الترجيحات، وسواء قضى رجالات النظام بالحزام الناسف أو بالسمّ أو بتصفيات بين بعضهم البعض، فإنّ معمار النظام العتيق دون سواه قد تعرّض لهزّة فاصلة ذات أصداء وآثار، لا تُلحق الأذى بتماسك النظام الراهن فحسب، بل تمسّ منطق توازناته وطبائع اصطفاف القوى داخله أيضاً. لا شماتة في الموت، بالطبع، وكنّا نفضّل تقديم هؤلاء، وسواهم، إلى محكمة الشعب في سورية المستقبل، بدل اغتيالهم على هذا النحو. ولكنّ انتفاء الشماتة أمر، يخدم القاعدة الأخلاقية؛ واعتبار هذا المصير بمثابة تحصيل حاصل يليق بجلاّدي الشعوب ومجرمي الحرب، أمر آخر يخدم القاعدة التاريخية.

ثمة جانب آخر، خاصّ، يتصل بواقعة التفجير هذه، وهي أن أياً من أفراد الحلقة الأمنية العليا للنظام (بشار الأسد، رأس النظام المعلَن؛ العميد ماهر الأسد، الشقيق، والقائد الفعلي للحرس الجمهوري؛ العميد ذو الهمة شاليش، ابن عمّة الأسد، رئيس حرسه الشخصي، والمشرف الفعلي على جهاز أمن الرئاسة؛ العميد حافظ مخلوف، ابن خال الأسد، والضابط الأبرز في الفرع 251، الأقوى نفوذاً في جهاز المخابرات العامة بأسره؛ واللواء علي مملوك، المدير الرسمي للجهاز ذاته)، لم يُعلَن عن وجوده في الاجتماع. فإذا اتضح أنّ العميد مخلوف كان بين المصابين، كما تردد، فإنّ السيناريوهات تفضي إلى خلاصة طارئة تماماً على تراث "الحركة التصحيحية": أنّ اللهيب وصل إلى داخل المعمار، وإلى قلب التحالف العائلي الوراثي، الأسدي ـ المخلوفي.

ذلك لأنّ مقتل آصف شوكت، صهر العائلة ونائب وزير الدفاع، ليس ضربة تصيب ذلك التحالف مباشرة، بافتراض أنه قضى جرّاء هذا التفجير بالفعل، وليس بسبب عملية التسميم السابقة التي جرت أواخر أيار (مايو) الماضي، فأوقعته في موت سريري معلّق بترياق مضادّ للسمّ. وأياً كانت الحال، فإنّ شوكت لا يشغل موقعاً مقرِّراً داخل التحالف الأسدي ـ المخلوفي، بل كان على الدوام عنصر تنغيض يكدّر صفاء العائلتين، منذ أن نجح في إجبار الأسد الأب على قبول زواجه من ابنته الوحيدة، بشرى، رغم اعتراض الأمّ والأخوة.

لا نرجح أياً من نظريات المؤامرة الشائعة، ولكننا لا نستبعد لجوء النظام إلى السيناريوهات الأقذر، والأشدّ عنفاً ودموية، إذا توجّب أن تكون هذه هي منافذ النجاة الأخيرة، أو كوّة الضوء الوحيدة التي تُبقي النظام على مرأى من نهاية النفق. يحدث، مراراً، أنّ النار تأكل بعضها إذا أخذت في التآكل، وشهادات حسن سلوك شوكت في ناظر التحالف الأسدي ـ المخلوفي (وبينها، مثلاً، ما قيل عن بلائه الشديد في إدارة المعارك الهمجية ضدّ حيّ بابا عمرو الحمصي الشهيد)، قد تكون انقلبت إلى أوراق محاصصة في الإرث، له ولعقيلته ولأبنائهما، أحفاد "الحركة التصحيحية"! وفي كلّ حال، فإنّ غيابه عن إدارة أيّ من دوائر التوحش ضدّ الشعب السوري يظلّ خبراً يثلج قلوب أمهات الشهداء، والثكالى، والأيتام، والمغتصبات، والجرحى، وضحايا النظام أجمعين.  

أستعيد، كذلك، تقديراً شخصياً يخصّ ما يُسمّى "خلية إدارة الأزمة"، سبق أن أعربت عنه في مناسبة واقعة التسميم، وتعززه اليوم حقيقة غياب أي من أعضاء الحلقة الأمنية العليا عن الاجتماع الذي قيل إنه شهد عملية التفجير، وأسفر عن مقتل داود راجحة وحسن تركماني وشوكت نفسه. ذلك أنني لم أخفِ، ولا أخفي اليوم أيضاً، ارتيابي في أنّ "الخلية"، ضمن توصيفها الذي شاع على الأقلّ، كانت تعمل على نحو يجعلها "مديرة" للأزمة فعلياً، أو هي صاحبة قرار أعلى. التسليم بصفتها الخرافية هذه يرقى، في يقيني، إلى مستوى الإقرار بأنّ النظام "عقلاني"، و"ائتلافي" و"مؤسساتي"، في حين أنّ نظام "الحركة التصحيحية" لم يعمل وفق هذا المنطق في أي يوم، حسب قناعتي؛ وما كان ممكناً له أن يعمل استناداً إلى صيغة في الإدارة تجعل القائد الفرد الأوحد مجبراً على الرجوع، فما بالك بالخضوع، إلى اجتهادات هذا أو ذاك من "قيادات" النظام الأدنى مرتبة.

ولهذا فإنّ الجولات الفارقة، التي تشهدها أحياء دمشق منذ أيام، لا تصنع منعطفات كبرى في انقلاب الموازنات بين الشعب والنظام، على المستويات العسكرية وحدها؛ بل كذلك على المستويات السياسية داخل سورية (في صفوف ما نسمّيه "الأغلبية الصامتة" الدمشقية خصوصاً، وفئات التجّار الذين يظلّ الميدان مسقط رأسهم، ورمز روح الشام المقاوِمة الرافضة للذلّ والخنوع)؛ وخارج سورية (راقبوا، منذ الآن، زيادة حرج الموقف الروسي، وانحسار الخيارات الدبلوماسية). هي، كذلك، جولات فارقة على مستويات عسكرية وأمنية، إذْ صار النظام رهين المؤسسات العائلية الضيقة أكثر من أي وقت مضى، وصارت هوامش الأسد رهن أداء الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، حصرياً تقريباً.

واتكاءً على أبسط المبادىء في أيّ تشريح مدرسي لطبائع الاستبداد، فإنّ ذلك التطوّر ليس في صالح النظام، لأنه ببساطة سوف يحصر معظم خيوط "إدارة الأزمة" في يد ماهر الأسد، أكثر من بشار الأسد نفسه؛ وسيقلب التضخم الأمني والعسكري لصلاحيات الشقيق، إلى تورّم غير حميد يسرطن ما تبقى من أطراف النظام. حتى إذا كان ما تبقى أقرب إلى جثمان، منه إلى جسد!

الاثنين، 16 يوليو 2012

الدماء تدق النوافذ

شهد العام 1979 ذروة غير مسبوقة في الصراع المسلح بين النظام السوري والأجنحة العسكرية لجماعة الإخوان المسلمين، ممّا أجبر مؤسسات السلطة على محاولة رأب الصدع مع المجتمع، من خلال سلسلة لقاءات وحوارات، بدأها حافظ الأسد نفسه (إذْ ألقى خطابات فاقت، في العدد والمُدد الزمنية الماراثونية، كلّ ما ألقاه منذ تولى السلطة، خريف 1970). هكذا فعلت القيادة القطرية لحزب البعث، ومنظمات السلطة واتحاداتها، من العمال والفلاحين والطلبة، إلى الرياضيين والكتّاب والطلائع؛ مروراً بما يُسمّى "الجبهة الوطنية التقدمية"، أي جملة الأحزاب المتحالفة مع النظام.

وهذه، أي الجبهة، عقدت اجتماعاً، صار شهيراً بعدئذ، مع "اتحاد الكتّاب العرب"، ترأسه محمود الايوبي، الذي كان نائب الأسد في قيادة الجبهة، وشغل أيضاً منصب رئيس الوزراء. وبين أبرز المداخلات، وأسخنها، وأشدّها صراحة وتعمّقاً في الجذور السياسية والأمنية والاجتماعية والطائفية لما اعتبره النظام "أزمة" آنذاك، كانت تلك التي ألقاها الشاعر الراحل ممدوح عدوان ((1941ـ2004). ولقد تناقل السوريون التسجيل الصوتي لكلام عدوان، واستغرق أكثر من 9 دقائق، على نحو سرّي ومتكتم في البدء؛ ثمّ تكفّلت ممارسات النظام اللاحقة بإعادة ذلك التسجيل إلى الأذهان، مراراً في الواقع؛ كما تداولته المواقع الإلكترونية على نطاق أوسع بعد رحيل عدوان، وخلال أشهر الانتفاضة.

في مستهلّ مداخلته ـ وتُقتبس فقرات منها، هنا، على نحو شبه حرفي، يراعي استبدال بعض التعابير العامية بمرادفاتها الفصحى ـ أشار عدوان إلى مسألة كذب النظام على الشعب: "من ضمن الأسباب الداعية لاجتماعنا هذا، هو إحساس الجبهة الوطنية أنها بعيدة قليلاً عن الناس. والجبهة الوطنية جزء من هذا النظام، الذي يحس أيضاً أنه بعيد عن الناس. بُعد هذا الشارع السياسي السوري عن السلطات السورية المتتالية سببه تاريخ من وقوع هذا الشعب ضحية لكذب الأنظمة. الأنظمة السياسية كذابة، لذلك لا يصدّقها. لا يصدّق بياناً عن معركة، بخصوص عدد الشهداء، ولا يصدّق حتى درجات الحرارة القصوى والصغرى! الإعلام كمعبّر عن السلطة يكذب أيضاً. أنا أشتغل في إعلام أخجل منه لأنه يكذب بهذا المقدار. يكذب بدرجة الحرارة. يكذب بإخفاء الكوليرا، هل هناك احد يخفي الكوليرا؟ يكذب بالتستير على اللصوص، وعلى التجار والمرتشين وشركائهم، ويشكك بي وبكم حين كنتم تقولون إن الفساد قائم".

ثمّ يسأل عدوان: "لماذا يكذب النظام؟ ولماذا يكذب الحزب؟ ولماذا تكذب فئة ما؟ الكذب ينطلق من الخوف، الخوف من الآخرين. والسلطات التي تكذب، هي سلطات تخاف الشعب، وتخاف أن يراها على حقيقتها (...) كلنا في هذا الاجتماع تجنبنا الحديث عن مسائل معينة. لا أحد تحدث عن سرايا الدفاع. لا أحد تحدث عن المخابرات. لا أحد تحدث، إنْ لم نقلْ عن الوجه الطائفي للسلطة، فعلى الأقل عن الممارسة الطائفية لبعض العناصر في السلطة (...) في الماضي كان أحدهم يهتف في الشارع: حرامي! فيركض ألف مواطن لإلقاء القبض عليه. الآن يُقتل الإنسان بوضح النهار، بطلقات مسدس، ويسير القاتل، ولا أحد يدلّ عليه".

وفي ختام مداخلته تطرّق الراحل إلى أحد "المحرّمات" الكبرى، أي انتقاد "سرايا الدفاع"، مؤسسة السلطة العسكرية الأعلى سطوة حينذاك، وكانت بقيادة رفعت الأسد: "أنا عندي سؤال أريد الجواب عليه الآن: اشرحوا لي ما هي سرايا الدفاع هذه؟ لماذا امتيازاتها؟ لماذا امتيازات جندي في سرايا الدفاع أكثر من ضابط في القوات العاملة؟ ولماذا لا نجرؤ على الحديث عنها؟ لماذا يتحدث الناس عنها وشوشة وهمساً فقط، وأنتم تعرفون هذا، بل إنكم أنتم أنفسكم تتحدثون عنها وشوشة وهمساً؟". لم يحظَ عدوان بإجابة، غنيّ عن القول؛ لا في ذلك الاجتماع، ولا في أيّ من الاجتماعات اللاحقة (وسيغمز الأسد، الأب، من قناة الراحل دون أن يسمّيه، في كلمته أمام الجلسة الختامية للمؤتمر القومي الثالث عشر لحزب البعث، صيف 1980، مشيراً إلى أنّ "البعض" هرّب إلى بيروت تسجيلات صوتية لأقواله أمام لجنة الأيوبي، وتضمنت "شتائم أكثر مما سمعنا أيام أحمد سعيد"!).

وفي مقال سابق، قبل عام ونيف، استعدتُ فصلاً من كتاب عدوان "حَيْوَنة الإنسان"، 2003، عنوانه "السلبطة السلطوية"، رأيتُ أنه يكتسب دلالات راهنة بالغة الخصوصية في ضوء الانتفاضات العربية، لأنه ببساطة يناقش شخصية "الشبّيح". واليوم، إذْ تتعاقب أنباء المجازر الوحشية ـ حماة، بابا عمرو، الحولة، درعا، زملكا، داريا، الحفة، التريمسة، دوما... ـ أجدني منساقاً إلى استعادة قصيدة عدوان "الدماء تدقّ النوافذ"، 1974: "هو ذا زمن فيه أعداؤنا ينبعون من البيت/ يسرون بين خيوط الدماء/ يسحبون الخناجر/ يأتون من سُحَن الأصدقاء/ ومن سحن الأقرباء/ سقطت عنهم الأقنعة/ والأفاعي التي تطمئن/ وتظهر أنيابها/ ثم تهجر أوكارها/ سوف نعرفها.. حيّةً.. حيّةً/ حنشاً.. حنشاً/ فلتعجّ البراري بها/ جاءنا زمن القتل/ لم يبق شهر حرام/ فتعالي نعلّمْ حجارتنا أن تشير إليهم وتتقن أسماءهم/ أخذوا عمرنا من بدايته/ ولنا سوف تبقى فصول الختام".

هل كان ممدوح عدوان، في استبصاراته هذه، وسواها، شاعراً رائياً، أم مواطناً مقهوراً قيد "الحَيْوَنة"، أم تحلّى بالصفتين معاً؟ أم لعلّه كان، ببساطة، ناطقاً بوجدان ملايين السوريين؟   

الخميس، 12 يوليو 2012

الفرار من سفينة النظام الغارقة: آل طلاس نموذجاً

سوف تبدأ هذه السطور من فرضية سجالية ـ قد يجدها البعض صادمة، أو قد تخدش "الحياء الوطني" لدى البعض الآخر، أو قد تجدها جماعة ثالثة أقرب إلى مسلّمة واقعية وجلية لم تعد بحاجة إلى برهان ـ مفادها التالي: لا يتوفر اليوم، أو لم يعد يتوفر، ضابط واحد كبير في الجيش السوري، يمتلك صلاحيات تنفيذية ملموسة تليق برتبته العسكرية (بافتراض أنه لواء، أو عماد، على سبيل المثال)؛ يمكن لانشقاقه أن يُلحق أذى أساسياً، مباشراً وبنيوياً، بقوّات النظام الموالية (الفرقة الرابعة، الحرس الجمهوري، أو الأفواج والألوية الملحقة بهاتين الوحدتين)؛ ويكون، في آن معاً، من أصول سنّية.

ذلك لا يعني أنه لا توجد رتب عالية في صفوف الضباط السنّة، أو أنّ بعضهم لا يتولى مهامّ قيادية مباشرة؛ ولكنه يعني أنّ أياً من هؤلاء ليس القائد الفعلي حيث يتوجب أن يقود، وليس الآمر المطاع حيث تُناط به صلاحية إصدار الأوامر، إذْ ثمة على الدوام مرجعيات (معلَنة أو خافية، تأخذ صفة "ضابط أمن" الوحدة العسكرية غالباً) هي التي توْصَل، وتتصل، بالشبكة المفضية إلى ذروة التسلسل الهرمي، حيث الحلقة الضيّقة المقرّبة من بشار الأسد شخصياً. الفرضية ذاتها لا تعني، في المقابل، أنّ جميع الضباط من أبناء الطائفة العلوية، أو النماذج القليلة النادرة من الضباط الكبار أبناء أقليات مذهبية ودينية أخرى، يمتلكون صلاحيات عالية ومتقاربة ومتماثلة، تضعهم على قدم المساواة مع النخب المرجعية آنفة الذكر، من حيث ممارسة السلطة العسكرية التنفيذية.

في جانب ثالث، لا تعني الفرضية أنّ إبعاد الضباط الكبار السنّة عن حلقة القرار الأعلى المباشر يمكن أن يفضي، تلقائياً وعلى نحو آلي، إلى إضعاف ولائهم للنظام، أو تبلور مشاعر سخط واحتجاج في نفوسهم، ممّا يرشحهم لأداء دور "إنقلابي" ضدّ النظام، إذا توفّر احتمال كهذا. الأمر، ببساطة، أنّ غالبية هؤلاء الضباط لا يختلفون ـ إلا من حيث الصفة المهنية، وحسّ الانضباط الأشدّ وضوحاً ـ عن المسؤولين الكبار المدنيين في أجهزة النظام الأخرى، الحزبية والبيروقراطية والمؤسساتية: من حيث التورّط في دوائر الفساد، والاستزلام للحلقات الأعلى في هرم السلطة، وروحية الخضوع والانقياد والذيلية والتبعية... 

وفي جانب رابع، فإنّ الانتماء إلى الفئة الأولى في آلة النظام لا يمنح، وهو في ذاته ليس مصدر، ضمانة دائمة للبقاء في كنف السلطة إذا شاءت الظروف الطارئة، أو اقتضت تطوّرات داخلية أو خارجية، دخول بعض مكوّنات النظام الأساسية في صراع بقاء مع رأس الهرم، أو بين بعضها البعض. الإحالة القسرية إلى التقاعد، أو الإقالة، أو الوضع على الرفّ، أو سواها من خيارات الإزاحة بعيداً عن المشهد، اعتُمدت على الدوام، منذ أن دشّن حافظ الأسد هذه "الفلسفة" في إدارة شخوص النظام، ومراكز القوى داخل معماره العسكري والأمني والحزبي.  

وتاريخ العشرات من رفاق الأسد الأب، ثمّ رفاق وريثه، يشير إلى أنهم سادوا ذات حقبة، وفُوّضوا، وتمتعوا بصلاحيات بدت واسعة ومباشرة، وقُرّبوا من الحلقة العليا على نحو علني ومتعمّد، حتى رسخ في الأذهان أنهم أعمدة لا غنى عنها لكي يرتكز معمار النظام ويستقرّ. ثمّ... شاء هذا الترتيب أو ذاك (نقل عمليات التوريث من باسل الأسد إلى بشار الأسد، بعد مقتل الأوّل في حادث سيارة، مثلاً)؛ وتلك الواقعة أو تلك (اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وانسحاب قوّات النظام من لبنان، مثلاً أيضاً)؛ تقويض العمود ذاته، وإحالته إلى مهملات التاريخ، أو إلى اللحد في المثال الأقصى. تلك كانت حال أمثال حكمت الشهابي، ناجي جميل، علي دوبا، علي حيدر، رفعت الأسد، محمد الخولي... أيام الأسد الأب؛ وحال عبد الحليم خدام، غازي كنعان، بهجت سليمان، محمد منصورة... أيام الأسد الابن.

سيقت هذه الجوانب الأربعة من فرضية غياب، وتغييب، الضابط السنّي المكين، المتمكن والمفوّض والآمر، لكي تساجل بأنّ العماد الفارّ مناف طلاس لم يكن في أيّ يوم مقرّباً من هرم السلطة الأعلى، رغم كلّ ما قيل وتردّد عن "صداقة" شخصية جمعته مع بشار الأسد، وقبله باسل، ثمّ ماهر؛ ورغم أنّ آخر وظائفه العسكرية كانت قيادة اللواء 105 في الحرس الجمهوري (وهنا، أيضاً، كان رئيس أركان اللواء وضابط الأمن هما صلة الخطّ الساخن مع ماهر الأسد، وليس العميد طلاس نفسه). صحيح أنه تولى حفنة مهامّ خاصة، دارت في معظمها حول "تطبيع" علاقات النظام مع نفر من المثقفين السوريين، المحسوبين على اليسار والمعارضة عموماً؛ كما انخرط في عمليات أخرى نقيضة تماماً، أو لعلّها مكمّلة بالمعنى الجدلي للشطر الأوّل من المهمة، أساسها تشويه سمعة المثقفين المعارضين والتشهير بهم، وذلك عن طريق الإشراف على مواقع إلكترونية تشبيحية، محلية و"ممانعة"، تختلق كلّ وأي أكذوبة.

بيد أنها كانت مهامّ تطوّعية غالباً، من باب البرهنة على الولاء، أو الإيحاء بالانتماء إلى جسم السلطة، أو ممارسة التكاذب الصرف المرتبط بسلوكيات الشخصية الاستعراضية الفهلوية، أو هذه كلها مجتمعة، ولكن مشروطة أيضاً بما يُسمح له به، وما يُمنع عنه. وحتى يثبت العكس، وليس البتة على لسان العميد طلاس أو بألسنة الذين صاروا حملة مباخره بين القاهرة وموسكو، ليس صحيحاً أنّ آل الأسد غضبوا عليه لأنه قصّر في إخضاع بلدة الرستن، مسقط رأس أبيه وأجداده؛ أو لأنّ لواءه لم يبلُ بلاء حسناً في معارك المعضمية ودوما وداريا، وفضّل المفاوضات (كما يتشدّق المبخّرون اليوم) على الدبابات والمدفعية الثقيلة وراجمات الصواريخ. أهل هذه المناطق، وريف دمشق عموماً، عندهم رواية أخرى مخالفة، ومختلفة تماماً، لن يمرّ وقت طويل حتى تُروى بحذافيرها.

ولأنّ العميد لم يعلن أي "انشقاق" حتى الساعة، وبالتالي فهو مجرّد ضابط فارّ إلى أن يختار لنفسه صفة أخرى، فإنّ كلّ ما نملك من "تأويل" لسلوكه هو هذا النصّ اليتيم الذي نسبته إليه بعض المواقع السورية، ولم يكترث صاحب النصّ بتأكيده أو نفيه. يقول العميد: "حفاظاً على مبادئي العسكرية وعلى حبي للوطن، لقد حاولت دائما القيام بواجبي حرصاً على الحفاظ على وحدة الوطن والشعب طبقاً لما يمليه ضميري علي. لم أدخل المؤسسة العسكرية مؤمنا يوماً أنني أرى هذا الجيش يواجه شعبه". ثمّ يتابع: "ويجدر بالذكر أنّ سبب امتناعي عن تأدية مهامي ومسؤولياتي داخل الجيش يكمن في أنني لم أوافق إطلاقاً على سير العمليات الإجرامية والعنف الغير مبرر الذي سار عليه نظام الأسد منذ أشهر عديدة".

حقاً! الآن صارت "الحركة التصحيحية"، التي نصّبت الوالد، مصطفى طلاس، وزير دفاع مزمناً طيلة 32 سنة؛ وحوّلت الشقيق، فراس طلاس، إلى واحد من كبار حيتان الفساد والإفساد والأعمال والأشغال؛ كما حوّلت العميد، نفسه، إلى فتى مدلل ذوّاقة سيغار فاخر، ومنتجعات فارهة، وغوايات شتى... هذه صارت اليوم "نظام الأسد"، الذي يرتكب "العمليات الإجرامية والعنف الغير مبرر"؟ كيف يستقيم أنّ هذا الضابط "المقرّب" سكت طيلة 15 شهراً من "العمليات الإجرامية"؟ وما الدليل على أنه لم يشارك في تلك العمليات، على طريقته، بوسائله، وعبر أزلامه؟ وأي مصداقية في أن يستفيق اليوم، وليس ساعة مجزرة الحولة مثلاً، أو دكّ بابا عمرو ودير الزور وحماة وإدلب ودرعا... فيقول: "أدعو زملائي العسكريين مهما تكن رتبهم والذين ينجرون في قتال ضد شعبهم ومبادئهم إلى عدم تأييد هذا المسار المنحرف"؟

وكيف صار خيار السلطة، العنفي والهمجي والوحشي، "منحرفاً"، الآن فقط؛ وصحا ضمير العميد الهمام، من رقاد طويل مديد، فنراه يهتف اليوم: "أقرّ بشرعية النضال الذي تقوده المعارضة وخاصة على الأرض"؟ من المضحك، بالطبع، أن يطرح المرء السؤال المعتاد في سياقات كهذه (أين كنتم، سيادة العميد، ليس خلال "أشهر عديدة"، بل منذ 12 سنة على الأقل؟)؛ ولكنها خيانة لأكثر من 16 ألف شهيد، ولمئات الآلاف من الجرحى والمعتقلين والمشرّدين، ولصنوف من الهمجية لم يشهدها تاريخ من قبل، ولأنماط من التضحيات الجسام لم يسبق لشعب أن قدّمها راضياً، صامداً ومقاوٍماً... خيانة لهذه كلها، وضلالة مخجلة ولا أخلاقية، فضلاً عن كونها حماقة سياسية وانحطاطاً انتهازياً بائساً، أن تجري عمليات تلميع العميد، وتجميل فراره، وتنصيبه، وتوليته... حتى قبل أن يعلن انشقاقه!

أحرى بالمرء ـ خاصة إذا أنس في نفسه حكمة المعارض المخضرم، وعاب على شباب الانتفاضة افتقارهم إلى التروي وعدم التبحّر في "توسطات السياسة" ـ أن يضع فرار العميد في السياقات الأبسط، الأوضح والأشدّ وفاء للحقيقة، والأعلى إبصاراً وتبصراً بالملابسات التي اكتنفت عملية الفرار، وتوقيتها. وأحرى بالمرء أن يفتش، استطراداً، عن تراث العائلة، في ماضي "الحركة التصحيحية" وفي حاضرها، وأن يردّ الفتى العميد إلى أبيه، العماد أوّل وزير الدفاع المزمن؛ ثمّ إلى أخيه (رجل الأعمال الذي يخصص جعبة لخدمة النظام، وأخرى لتمويل منابر "معارضة" تائهة بين باريس والقاهرة وموسكو). آل طلاس، إذاً، اتخذوا قرار مغادرة سفينة النظام الآخذة في الغرق، بعد اقتناعهم التامّ بأنّ أحداً لن يفلح في جرّ السفينة إلى برّ الأمان، وأنّ النار التي أشعلها النظام في سورية، قاطبة، سوف تأكل العائلة أيضاً، ولن توفّر أموالها وأعمالها.

وعلى غرار تقاعد الأب، صيف 2004، يبدو فرار الابن هزيل الدلالة، وتحصيل حاصل؛ كلاهما خدم من الموقع الأدنى، رغم صعوده أو تصعيده؛ وكلاهما لم يفلح أبداً في الارتقاء أعلى من الموقع الذي أراده له سيّده: حافظ الأسد، بالنسبة إلى مصطفى طلاس، سنة 1971؛ وبشار الأسد، بالنسبة إلى مناف طلاس، سنة 2000. وكما أنّ انتهاء خدمات العماد أوّل طلاس لم ينطوِ على دلالة داخلية ذات قيمة، سواء على صعيد تركيبة الجيش، أو على صعيد توازنات مراكز القوى؛ فإنّ فرار العميد طلاس لن تكون له قيمة مباشرة على صعيد معمار النظام الراهن، ولن يُلحق الأذى بالتوازنات الراهنة بين الأطراف العسكرية والأمنية والتجارية ـ الاستثمارية في جسم السلطة. واللواء 105 لم يتصدّع ولم يتشرذم ولم ينشقّ، لأنّ العميد الذي فرّ إلى تركيا لم يكن قائد اللواء الفعلي، بل الشكلي.       

ويبقى، بالطبع، أنّ الانتفاضة تجبّ ما قبلها، كما قلنا ونقول؛ وصحوة الضمير أمر حميد، خاصة إذا أتت من ضابط محترف كان ربيب النظام حتى عهد قريب. شتان، مع ذلك، بين القفز الغريزي خارج السفينة الغارقة، والانقضاض التكتيكي على منجزات الانتفاضة؛ والصدق، مع الذات والوطن هو المعيار الأوّل، شرط أن يُستكمل سريعاً، بوضوح أقصى، دون تأتأة أو مناورة، خارج شطارات الشخصية الفهلوية، وبتواضع المواطن التائب إلى الشهداء، الراضي بحكم التاريخ، ومحكمة الشعب.

الاثنين، 9 يوليو 2012

يساريّ الحلف الأطلسي

عُرف عنه انتقاده الشديد، عبر الكتابة والسينما التسجيلية والنشاط المباشر، لمسائل واسعة النطاق، تبدأ من النظام الرأسمالي الأمريكي (بما في ذلك أنظمة حقوقية، وقوانين مدنية، وتشريعات اجتماعية داخل الولايات المتحدة ذاتها)؛ ولا تنتهي عند غزو أفغانستان والعراق، والعولمة الوحشية، والإمبريالية المعاصرة. فإذا وقف مع انتفاضات العرب، في تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن، فالأمر خير على خير؛ إلا إذا... انحاز، أيضاً، إلى الانتفاضة السورية، فهنا الطامة الكبرى، وهنا يهبط في نظر الممانعين العرب إلى أسفل سافلين، فلا يعود تقدمياً، ولا نزيهاً، ولا شريفاً، وليس كثيراً أن يكتشفوا عمالته للمخابرات المركزية الأمريكية!

إنه المخرج السينمائي والكاتب والناشط الأمريكي مايكل مور، الذي جرّ على نفسه سخط المستحاثات إياها حين أعلن وقوفه، بلا تحفظ ولا تأتأة، مع حقّ الشعب السوري في الحرّية والديمقراطية، وخاطب السوريين عبر رسالة متلفزة بليغة، جاء فيها: "في كثير من الأحيان، لا تُقدّم الحرية على طبق من فضة. أحياناً يكون عليك أن تنهض وتنتزعها. أحياناً يجب عليك أن تقف وتطالب بها. وأحياناً، يكون على البعض أن يضحوا بحياتهم، وهؤلاء هم من ستعيش ذكراهم إلى الأبد. لا تستسلموا! التاريخ في صفكم! كلّ دكتاتور وكلّ طاغية على مرّ التاريخ سقط واحترق. كلهم يرحلون عاجلاً أم آجلاً، مهما بلغ شرّهم. التاريخ يتقدم، والبشرية تتطور، وهذا هو ما يحدث الآن في سورية".

استكثر السادة "الممانعون" أن يعلن مور هذا الموقف الصريح، الواضح والأخلاقي، وأن يختم رسالته بعبارة طاش لها صوابهم كما للمرء أن يتخيّل، لأنها ببساطة تجزم بانتصار الشعب وسقوط الطغيان: "لدي إيمان كبير بقدرتكم على تحقيق ذلك، الجميع هنا يؤمن بذلك، لديكم مؤيدون ودعم كبير ليس فقط بين أبناء الشعب الأمريكي، بل بين شعوب العالم أجمع، وفي العالم العربي طبعاً. أنظارنا موجهة إليكم الآن. فليكن الله معكم". ومنذ أن وجّه الرجل رسالته، في أواسط أيار (مايو) 2011، لا يحدث أن تُقتبس فقرة منها في أي مناسبة، إلا ويهبّ "الممانعون" مجدداً، فيكيلون له التُهَم العتيقة المكرورة، كما يبتكرون أخرى جديدة مستوحاة من واقع الحال ("يساريّ الحلف الأطلسي"، على سبيل المثال الأحدث!).

والحال أنّ مور يواصل الوفاء لفلسفة في العلاقة بين الفنّ والحياة، أو الفنّ والسياسة لمَنْ يشاء، لاح أنها انقلبت عنده إلى رسالة؛ كما لاح، بالتوازي مع ذلك الوفاء، أنّ العالم أقرّ للرجل بنجاح باهر في تركيب المعادلة على وجه سليم. شريطه "فهرنهايت 11/9" فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الـ 57، سنة 2004، وقوبل انتهاء عرضه بتصفيق دام 20 دقيقة (بين الوصلات الأطول في تاريخ المهرجان). كما نال، قبلها بسنتين، جائزة لجنة التحكيم في المهرجان ذاته، عن شريطه التسجيلي الشهير "باولنغ كولومباين"؛ ثمّ انتزع جائزة أوسكار من شدق الأسد الهوليودي، قبل أن يقيم الدنيا دون أن يقعدها حول فضيحة رفض شركة والت ديزني توزيع "فهرنهايت 11/9" على صالات العرض الأمريكية.

بدأ مور حياته المهنية صحافياً في جريدة محلية مغمورة تصدر في بلدة فلنت، ولاية ميشيغان، قبل أن يلفت انتباه مطبوعة كبيرة هي Mother Jones فتعيّنه محرّراً، ثمّ تقيله لأنه رفض نشر مقال متحيّز ضدّ ثوّار نيكاراغوا. وشركة "جنرال موتورز"، إحدى أكبر أيقونات الرأسمالية المعاصرة، حفزت مور على إنجاز فيلمه التسجيلي الأوّل "أنا وروجر"، 1989، الذي يروي مسؤولية الشركة، ورئيسها روجر سميث شخصياً، عن تحطيم الاقتصاد المحلّي في بلدة فلنت. ولقد حقق الشريط نجاحاً مذهلاً، وحصل على جوائز أساسية في العديد من المهرجانات، مما شجّع مور على متابعة الموضوع ذاته في شريط ثانٍ بعنوان: "لحمٌ أم حيوانات أليفة: العودة إلى فلنت".

أعماله اللاحقة، "سيكو" و"رحلة الكابتن مايك عبر أمريكا" و"انتفاضة المتهرّب"، و"الرأسمالية: قصة حبّ"، واصلت سيرورة الوفاء إياها، ليس دون أن تكافئه تطوّرات الحياة المعاصرة، فتبرهن على صواب خلاصاته الثاقبة وانتقاداته اللاذعة. حدث ذلك، مؤخراً، في الانتصار القانوني الذي لقيه مشروع قانون الضمان الاجتماعي (موضوع شريط "سيكو")، وافتضاح خرافة أسلحة الدمار الشامل في العراق، واندحار الكثير من أطروحات المحافظين الجدد. هذا، إذاً، رجل سينمائي من رأسه حتى أخمص قدميه، ولكنه ناشط سياسي لا يكلّ ولا يملّ. وأن يكون المرء داعية ماهراً (في الكتابة والخطابة والنشاط اليوميّ...)، وفناناً مشهوداً مكرّماً (في الفنّّ السينمائي، وفي فرع شاقّ منه هو الفيلم التسجيلي تحديداً...)؛ أمر لا ينطوي على تناقض منطقي، من حيث المبدأ. وليس نجاح هذا الرجل في الفنّ وفي السياسة معاً إلا بعض تجليّات نجاحه الفائق في تفكيك أطراف تلك المعادلة الشائكة، على نحو متوازن متلائم لا يليق إلا بموهبة فريدة.

ولعلّ التعبيرات العصبية، التي تتسم بها مواقف بعض "الممانعين" العرب الغاضبة من تعاطف مور مع الانتفاضة السورية، إنما ترتدّ في بواطنها إلى مخاوفهم من أن تثبت الحياة صحّة تقديرات الرجل، خاصة هذه على وجه التحديد: "كلّ دكتاتور وكلّ طاغية على مرّ التاريخ سقط واحترق. كلهم يرحلون عاجلاً أم آجلاً، مهما بلغ شرّهم"!   

الجمعة، 6 يوليو 2012

اغتيال عرفات: تعدّد القتلة قبل أن تتعدد السموم

لعلها مصادفة فلسطينية بامتياز، بالمعنى الكلاسيكي الذي يتيح امتزاج المهزلة بالمأساة، أن تتكشف معلومات جديدة حول ألغاز وفاة القائد الفلسطيني ياسر عرفات (1929 ـ 2004)، مسموماً بمادّة البولونيوم هذه المرّة؛ وأن يعلن "قائد" فلسطيني آخر، هو أحمد جبريل، وقوفه التامّ (وكأنه يستطيع تنفيذ نصف وقفة مثلاً!) مع النظام السوري، لأنّ "ما يدور في سورية ليس حراكاً داخلياً محلياً، بل هو تغيير في بنية هذه المنطقة لصالح شرق أوسط جديد". وبعد أن أشفق على حركة "حماس" لأنها لم تحذُ حذوه في البقاء ضمن "محور واحد"، طريقه "بدأ يُعبّد من طهران إلى بغداد إلى دمشق"؛ أعلن صاحبنا أنه اتفق مع إيران و"حزب الله" على أنّ "ما يدور على أرض سورية هي المعركة الفاصلة"... ما دامت فلسطين قد تحررت، وانتهى الأمر!

شتان ما بين عرفات وجبريل، بالطبع، ولكن المصادفة تشاء زجّ الاثنين معاً في سياق مفارقة مؤلمة، بين أشدّ آلامها أنّ فصيلاً يزعم تحرير فلسطين إنما يتلهف على مسخ أنصاره إلى شبيحة وقتلة ورجال استخبارات، سبق لهم بالفعل أن نفّذوا مهامّ أمنية واستهدفوا الفلسطينيين أنفسهم في المخيمات التي شهدت تعاطفاً فلسطينياً مع الانتفاضة (مجزرة مخيم اليرموك، على سبيل المثال، الصيف الماضي، والتي سقط فيها 14 شهيداً فلسطينياً على يد قوّات جبريل). آلام أخرى تمثلت في تطوّع "محرّري فلسطين" هؤلاء، لاختطاف ناشطين سوريين من لبنان، وتهريبهم عبر الحدود، وتسليمهم إلى السلطات السورية حيث تنتظرهم أهوال التعذيب واحتمالات التصفية الجسدية.

وأياً كان الخلاف أو الاتفاق حول خياراته السياسية والفكرية وحتى التنظيمية، فإنّ معارك عرفات كانت من طينة أخرى، أرقى وأشرف وأنبل، بل هي لا تقبل أي مقارنة في الواقع، خاصة خلال الأطوار الأخيرة حين استقرّ في صورة القائد السياسي الذي رفض إحناء الرأس في كامب دافيد، صيف 2002، طيلة تسعة أيّام من الضغط الهائل الذي مارسه الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، على نحو لم يكن له نظير في تاريخ علاقة البيت الأبيض بقضايا الشرق الأوسط. وحين وصلت تفاصيل التسوية إلى حقوق الشعب الفلسطيني الأساسية، خصوصاً القدس وحقّ العودة والإستيطان، قال عرفات "لا"، مدويّة ثابتة راسخة و... مدهشة، في الواقع، إذْ تصدر عن رجل كان مولعاً بـ"سلام الشجعان" دون سواه!

ولقد استحقّ سخط واشنطن مذاك، ثم تكفّل المجتمع الإسرائيلي بانتخاب أرييل شارون لكي يذيق عرفات المزيد من ألوان الضغط والمهانة والعزل والحصار، وفي غضون السيرورة بأسرها كان النظام العربي يُجْهز على ما كان تبقى في نفس الرجل من عناصر أمل ونوازع صمود. قال "لا" حين كانت الـ"نعم" هي المنجاة والإجابة الوحيدة في آن، ولو أنه أحنى الهامة فلعلّنا ما كنّا سنبصره محمولاً على نقّالة طبيّة في سماء باريس؛ وما كان سيلزَم "المقاطعة" محاصَراً. الأرجح أنه كان سيواصل تجواله في عواصم العالم، على متن طائرة أفخم وأحدث، معززاً مكرّماً أكثر بكثير من كلّ أقرانه الحكّام العرب، الذي مسحوا رقم هاتفه في رام الله، راغبين أو مُكرهين!

ولقد سال مداد كثير في وصف محاسن عرفات ومساوئه، خصوصاً تلك الحلقة الضيّقة التي قرّبها منه، وأطلق لها اليد في الفساد والإفساد والتسلّط والترهيب، ومحاكاة مختلف جرائم الاستبداد العربي. ولكنّ الأخلاق البسيطة، فضلاً عن موضوعية الوقائع ذاتها، والحدود الدنيا في الإنصاف، تقتضي عدم التقليل أبداً من حجم المأزق الذي عاشه عرفات في السنوات التي سبقت رحيله، من جانب أوّل؛ ومقدار المرّات التي دُفع فيها إلى الجدار الأخير، أو حُشر في الزاوية الأضيق، من جانب ثانٍ. لعلّه، منذ أن رفض الخنوع لاشتراطات كامب دافيد ـ 2 وحوصر في مبنى "المقاطعة"، كان قد دُفع إلى حافة اتخاذ القرار الأخطر في حياته قاطبة: إمّا الخضوع والاستسلام وبيع التضحيات الفلسطينية الجسيمة بثمن بخس أقرب إلى المجّان، أو الصمود مرّة أخرى... اتضح أنها كانت الأخيرة!

قد يكون قاتله إسرائيلياً بالفعل، بهذا السمّ أو بسواه؛ إلا أنّ الكثير من القتلة كانوا قد مدّوا يد العون للقاتل الأخير، على نحو أو آخر، وفي عواصم عربية "شقيقة"، وأخرى "صديقة"، قبل تلك الأجنبية الغريبة. النظام السوري هو أحد كبار الشركاء في قتل عرفات، حتى قبل أن تصبح أعنة السلطة البعثية إلى يدَيْ حافظ الأسد سنة 1970، وتُنقل من بعده إلى وريثه. التاريخ يبدأ من كانون الأول (ديسمبر) 1964، حين قامت مفرزة تابعة للمخابرات العسكرية السورية باعتقال عرفات، بتهمة "التحضير لأعمال تخريبية"، وذلك بعد تفتيش صندوق سيارته والعثور فيها على أصابع ديناميت. وقد أطلق سراحه بعد 18 ساعة، لكنّ الحادثة بدت غريبة لأن عرفات كان ينقل الديناميت بعلم وتسهيل القيادة السورية، وسبق له أن حصل على الموافقة بنقل أسلحة مختلفة إلى معسكرات تدريب "فتح" في سورية. وكان اللواء أحمد سويداني، رئيس الأركان آنذاك، هو الذي نقل الإذن إلى عرفات شخصياً، بعد مفاوضات بين الرجلين بدأت منذ ربيع ذلك العام.

ما الذي حدث؟ كان أمر الاعتقال قد صدر عن العقيد محمد أوركي، رئيس شعبة فلسطين التابعة للمخابرات العسكرية السورية، إلا أنّ الآمر الحقيقي كان الرجل القوي في الجيش، صاحب النفوذ الواسع في مختلف أجهزة الاستخبارات، وقائد القوى الجوية، اللواء... حافظ الأسد! اللواء السويداني كان، من جانبه، يمثّل طموح حزب البعث الحاكم إلى احتكار القضية الفلسطينية سياسياً وعقائدياً، ولهذا أقنع القيادة بالسماح لـ "فتح" بحرّية الحركة والتدريب على الأراضي السورية. أمّا الأسد فقد كان يمثّل طموحات شخصية للسيطرة على مقاليد الأمور والتمهيد لاستلام السلطة، ولهذا فقد ذكّر عرفات بأنّ صاحب القرار الأقوى، والمرجعية العليا التي يتوجب على "فتح" أن تعود إليها، هو الأسد.

وتلك الحادثة سوف تسجّل بدء تاريخ طويل من العداء بين عرفات والأسد، خصمه العربي الأكثر شراسة ضدّه، وحقداً عليه أغلب الظنّ. الأخير ظلّ مصرّاً على تحويل جميع فصائل حركة المقاومة الفلسطينية، و"فتح" بصفة خاصة، إلى ورقة في جيبه ولصالح خططه التكتيكية والستراتيجية؛ والأوّل ظلّ مصرّاً على ضرورة بقاء البندقية الفلسطينية، والقرار الوطني الفلسطيني، في استقلال تامّ عن كلّ الأنظمة العربية. وهكذا، في أيار (مايو) 1966، وفق مصادر متطابقة، حاولت الاستخبارات العسكرية السورية اغتيال عرفات أثناء وجوده في اجتماع مع رجل سورية داخل المقاومة الفلسطينية، أحمد جبريل (صاحبنا، دون سواه!)، في أحد البيوت السرية في دمشق. ولقد فشلت المحاولة لأنّ عرفات تغيّب، بعد أن "انشقّ" أحد المكلفين بترتيبات الاغتيال، فانضمّ إلى عرفات، وأبلغه بالتفاصيل.

وفي 13 تموز (يوليو) 1971، فور بدء الهجوم العسكري الشامل ضدّ الفلسطينين في الأردن، أمر الأسد، وكان آنذاك قد صار حاكم سورية، بإغلاق الحدود السورية ـ الأردنية أمام "الفدائيين"، ممّا أضعف قدرتهم على المناورة وجعلهم هدفاً سهلاً لقوّات الملك حسين. وكان غرض الأسد التالي هو تصفية الوجود السياسي والعسكري للفلسطينيين، وعرفات أساساً، في كامل الأراضي اللبنانية، وهو بعض الثمن الواجب سداده مقابل سكوت إسرائيل والولايات المتحدة عن الوجود العسكري والسياسي الواسع لسورية في لبنان.

ولعلّ الأسد لم يغفر لعرفات أنه صمد طيلة أسابيع الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران (يونيو) 1982، وكشف بذلك عجز النظام السوري ليس عن مواجهة إسرائيل عسكرياً فحسب، بل حتى عن تأمين العتاد والأغذية للقوات السورية المحاصَرة. في المقابل، لا ينسى أفراد الجيش السوري المحاصرون كيف كان عرفات يوزّع عليهم معلبات الطعام بيديه. كذلك لم يغفر الأسد لعرفات أنه خرج إلى تونس وليس إلى سورية، كما فعلت معظم القيادات الفلسطينية، بعد وقف إطلاق النار وإجبار الفلسطينيين على مغادرة لبنان.

وفي شباط (فبراير) 1983، أثناء انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، بذل الأسد (بمساعدة مباشرة من العقيد معمر القذافي، الذي قرّب جبريل بدوره) كل جهد ممكن لشقّ منظمة التحرير على خلفية "تفريط" عرفات بالقضية الفلسطينية إذا قبل "خطة ريغان" للسلام. المجلس رفض الخطة، كما هو معروف، إلا أنّ صياغة الرفض تركت للمنظمة هامش حركة أقلق الأسد وجعله يخشى، للمفارقة، توطيد التعاون بين عرفات والملك حسين!

وهكذا ولد تمرّد أبو موسى ضدّ عرفات، وبسلاح سوري ومال ليبي وتواطؤ من المتمردين قُصفت مواقع المنظمة في مخيمَيْ شاتيلا وبرج البراجنة، لإخراج عرفات إلى العراء، والتمهيد لمعركة طرابلس الكبرى، صيف 1983. ولا ريب أن الأسد أصيب بالدهشة، والكثير من الغضب، لأن عرفات تحداه وظهر فجاة في سورية لكي يتفاوض مع المتمردين. وإمعاناً في التحدّي، وبعد الاجتماع مع رفعت الأسد، الذي كان في ذروة نفوذه آنذاك، اختفى عرفات عن الأنظار ودخل تحت الأرض. وفي 23 حزيران كانت قافلة عرفات المسافرة برّاً إلى طرابلس، وفي عدادها المرسيدس الشخصية لرئيس منظمة التحرير، قد تعرّضت لهجوم عسكري بالقذائف والأسلحة الثقيلة. لكنّ المفاجأة كانت غياب عرفات عن القافلة، وظهوره سالماً لإلقاء خطاب حماسي في مكان آخر من العاصمة السورية غير متوقع أبداً: مؤتمر الأدباء العرب!

وهكذا لم يجد الأسد مفرّاً من اتخاذ الخطوة الوحيدة المتبقية أمامه، أي طرد عرفات من العاصمة السورية بوصفه شخصاً غير مرغوب فيه. وبالفعل، في يوم 24 حزيران 1983، جرى تأخير موعد إقلاع رحلة الخطوط الجوية التونسية المعتادة، لكي يستقلّها عرفات وحفنة من مرافقيه. وفي كتابه "عرفات"، يروي ألن هارت أنّ جورج حبش، القائد الفلسطيني البارز وزعيم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، كان آخر الفلسطينيين الذين ودّعوا عرفات في مطار دمشق، وأنه قال له بعد احتضانه: "يا الله يا أبو عمار! إذا كنتَ أنت تغادر دمشق هكذا، فكيف سأغادرها أنا؟ ربما في كفن"!

غير أنّ عرفات سيلقي بقفاز التحدّي الأخير في طرابلس، بعد أقلّ من ثلاثة أشهر!  ففي أيلول (سبتمبر)، وعلى نحو فاجأ العالم بأسره بما في ذلك مستشاريه، وصل عرفات إلى طرابلس على ظهر قارب صغير، وكان في الواقع أشبه بمَن جرّ نفسه إلى مصيدة: الإسرائيليون حاصروه بحراً، والأسد برّاً. آنذاك، وفي برنامج على راديو BBC، اعتبر الصحافي البريطاني الخبير في الشؤون السورية باتريك سيل أنّ مصير عرفات بات مسألة ساعات معدودات، فوافقه خبير آخر هو بيتر مانسفيلد. من جانبه كان الأسد أكثر واقعية من سيل ومانسفيلد، إذ أطال نهاية عرفات إلى ثمانية أيام: أربعة للمخيّمات، وأربعة للزعيم الفلسطيني ولأنصاره في طرابلس.

الأقدار، من جانبها، مدّت المهلة أطول... أطول كثيراً، إذْ كان عرفات هو الذي عزّى برحيل الأسد، في حزيران 2000، وليس العكس. لقد توجّب أن تتعدد السموم، وتتعدد هويات القتلة ومواقعهم، قبل أن يخلد "الختيار" إلى رقاد ختامي.

الاثنين، 2 يوليو 2012

لا فولاذ ولا حرير!

في 26 نيسان (أبريل) الماضي، كتب أنّ "العلمانيين في أرجاء العالم العربي، وخاصة أنصار النظام في سورية"، لا ينظرون بعين الرضا إلى ما يجري في مصر، من حيث احتمال أن تصبح "إسلامية"، لأنّ ذلك قد يكون له مفعول الدومينو. وأضاف، مقتصراً هذه المرّة على الشريحة الثانية من العلمانيين كما يُفهم، أنهم "يستخدمون مصر لإفزاع السوريين المسيحيين، مثلاً، من جرّاء ما سيحدث في دمشق إذا وقع تغيّر النظام في سورية". حسناً، ماذا عن أفكاره اليوم، بعد إقرار انتخاب محمد مرسي، الإخواني، رئيساً شرعياً لجميع المصريين؟ إنه، بعد أن يعتبر ذلك اليوم "مجيداً في التاريخ العربي"، يطالب بالتالي (عنوان مقاله الأحدث): "فليقفِ الجميع احتراماً لشعب مصر"!

هذا هو طراز "التاريخ" الذي يقترحه "المؤرّخ" السوري سامي مبيض، صاحب أربعة مؤلفات بالإنكليزية عن سورية، بينها سيرة للرئيس الراحل شكري القوتلي؛ ورئيس تحرير موقع إلكتروني يُدعى Forward، زائره اليوم يجد أنّ أحدث أخباره ذاك الذي يعلن تشكيل لجنة لإعداد دستور سوري جديد، يُصوّت عليه في شباط (فبراير)... 2012! وقبل الوقوف حول عيّنات من وفاء هذا المؤرّخ لتاريخ بلده، تجدر الإشارة إلى أنه يكتب من دمشق، ولم يكن في أيّ يوم ناقداً للنظام، بل العكس (آخر ما يتباهى به مقابلة مع برباره والترز، دون سواها، تعود إلى سنة 2008، وتمتدح بشار الأسد وعقيلته!).

كذلك فإنّ مقالاته عن الانتفاضة السورية، كما ينشرها باستمرار في المجلة التايلاندية Asia Times، لا تقوم إلا على التأتأة والغمغمة، كأن يكتب: "في سورية، لا أحد توقّع أنه سيأتي يوم يخرج فيه المتظاهرون إلى الشوارع، مطالبين بتغيير النظام، من وحي الربيع العربي في تونس، وليبيا، ومصر"؛ أو: "لا أحد تخيّل أنّ الدولة سوف تجبَر، تحت ضغط المتظاهرين الغاضبين أنفسهم، إلى تغيير الدستور". ثمة، هنا، حرص شديد (وبراعة خاصة، بالفعل، تستدعي المشقّة أغلب الظنّ!)، على عدم إفلات جملة واحدة مفيدة قد تؤخذ عليه، سواء من أهل السلطة أو حلفاء النظام، خاصة أرباب المال والأعمال، ممّن يحترف "المؤرّخ" تغطية أخبارهم.  

فإذا تصفّح المرء أحد مؤلفاته في "التاريخ" ـ كتابه "فولاذ وحرير: رجال ونساء صنعوا سورية 1900 ـ 2000"، الذي صدر بالإنكليزية سنة 2006 عن دار النشر الأمريكية Cune Press، في 624 صفحة ـ فسيجد معلومات من هذا النوع، تُنقل هنا بالحرف تقريباً:
ـ زكريا تامر روائي سوري، له 75 رواية، أشهرها "دمشق الحرائق"، وأكثرها شعبية روايته "نداء نوح"، وهو يُعتبر أبرز كتّاب أدب الأطفال في العالم العربي؛
ـ محمد الماغوط كاتب مسرحي، أبرز إنجازاته مسرحية "ضيعة تشرين" بالتعاون مع دريد لحام ونهاد قلعي، والتي تنتقد عهد الوحدة وجمال عبد الناصر؛ وله مع ذلك مجموعة شعرية بعنوان "حزن في ضوء القمر"؛
ـ رياض الترك صاحب خطّ ماويّ (نسبة إلى ماو تسي تونغ) اختلف فيه مع خالد بكداش؛ واعتُقل سنة 1980 وأفرج عنه سنة 1998 بعد أن تعهّد بـ "ترك السياسة وقضاء ما تبقى من حياته في سلام وأمان"؛ و"خلال السنوات الثلاث التالية تجنّب الترك الحياة العامة فلم تضايقه السلطات الحكومية"، حتى ظهر في برنامج على "الجزيرة" وتحدّث "بسلبيّة بالغة عن الحكومة السورية"، ولهذا فقد اعتُقل مجدداً، ثم أطلق سراحه بأوامر من الرئيس بشار الأسد في تشرين الثاني 2002؛ ومنذئذ "أقلع نهائياً عن كلّ نشاط سياسي".

هذه، إذاً، ثلاث عيّنات من مجلد يتنطح لتقديم تعريفات، أو تراجم كما يقول المصطلح الفصيح، عن 341 من نساء ورجال سورية في القرن العشرين، هم "أبطال وأنذال السياسة والثقافة والطموح الوطني" كما جاء في كلمة الغلاف الأخير. لا نعرف حكمة استخدام صفة "أنذال" Villains هنا، ولكن من الجلي أنّ العثرات آنفة الذكر جديرة بأن تقلب التوصيفات رأساً على عقب، فلا يستبين المرء أيّ فوارق بين البطولة والنذالة. الركون إلى معلومات مبيّض يصبح مجازفة مفتوحة، بالتالي، لأنّ صواب المعلومة هو المقتضى الأوّل في أيّ تأليف من هذا القبيل. الخطأ هنا قاتل ولا استئناف فيه، ليس في ناظر القارىء السوري مبدئياً، بل عند القارىء الأجنبي الذي سوف يعتمد معلومات الكتاب دونما مساءلة.

"المؤرّخ"، من جانب آخر، أدرج بثينة شعبان في عداد كتّاب وفنّاني سورية، ولكنه تجاهل عشرات الأسماء اللامعة التي لا يصحّ أن تغيب عن عمل موسوعي من هذا الطراز، مثل عبد الباسط الصوفي وسعيد حورانية وهاني الراهب وممدوح عدوان وسليم بركات، في الأدب؛ ونذير نبعة ومروان قصاب باشي وسعيد مخلوف، في الفنون التشكيلية؛ وأبو خليل القباني وفايزة أحمد وسعاد حسني ونجاة الصغيرة (ما دام قد أدرج أسمهان وفريد الأطرش)، في فنون المسرح والغناء.

ولأنّ كلا الفولاذ والحرير غائب عن "التاريخ" الذي يزعم تسطيره، فإنّ المرء لن يستغرب من مبيّض دعوة مماثلة للوقوف احتراماً للشعب السوري، ساعة انتصار الانتفاضة، وكأنّ "المؤرّخ" كان كلّ الوقت يؤرّخ من قلب بابا عمرو أو دير الزور أو دوما أو زملكا!