وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 30 سبتمبر 2019

شيراك وآل الأسد: لا محاسن تُذكر للموتى

هيئة تحرير "ميديابارت"، الموقع الصحفي الاستقصائي المستقل الأبرز في فرنسا، اختصرت إرث الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك (1932 - 2019) في هذه العنوان الصارخ: "هوس السلطة"؛ وهذه العبارة: "يترك خلفه 40 سنة من المعارك السياسية. لكنّ الإرث هزيل فعلاً ما دام ذلك المسار قد قام على طموح أوحد للفوز بالسلطة، ثمّ الحفاظ عليها. وهذا على حساب حروب الخنادق المتواصلة، والتحالفات والتحالفات المضادة، والخيانات والفضائح، من الكلّ والنقيض". موقع ناقد ودائب الانشقاق مثل "ميديابارت" لن يلتزم بمبدأ مماثل لما هو شائع في ثقافتنا، لجهة ذكر محاسن الموتى، ولهذا فقد بدا التوصيف قاسياً رغم اتكائه على مقدار كثير من الصواب؛ وهذا خيار لم يمنع التحرير من التوقف عند ثلاث محطات "استثنائية"، في زحمة المحطات الكثيرة الداكنة التي طبعت حياة شيراك.
الأولى خطابه في 16 تموز (يوليو) 1995، بعد أيام قليلة على انتخابه، حين أقرّ بمسؤولية فرنسا عن ترحيل اليهود خلال فترة الاحتلال النازي؛ وكان ذلك الإقرار نقلة أولى كبرى عن رفض فرنسي مديد، حكومي وشعبي كما يتوجب القول، لفتح ملفات الماضي ونشر الغسيل القذر. المحطة الثانية كانت زيارة شيراك إلى القدس المحتلة، في تشرين الأول (أكتوبر) 1995، حين ضاق ذرعاً بالطوق الذي فرضه عليه رجال الأمن الإسرائيليون، فهتف عبارته الشهيرة، وبالإنكليزية: "ماذا تريدون؟ أن أرجع إلى طائرتي وأعود إلى فرنسا؟"؛ ممّا استدعى اعتذاراً رسمياً من رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي لم يكن غافلاً بالطبع عن قناعة شيراك بحلّ الدولتين. وأمّا المحطة الثالثة فقد كانت رفض الرئيس الفرنسي الانخراط في تحالف جورج بوش الابن لغزو العراق، سنة 2003، على قاعدة ركن قديم في السياسة الديغولية تجاه الشرق الأوسط؛ ويومذاك شكّل خطاب دومنيك دو فيلبان وزير الخارجية الفرنسي، في مجلس الأمن الدولي، صفعة بليغة لخطاب الحرب الأمريكي.
من جانبي، كمواطن سوري، أسجّل للرئيس الفرنسي ثلاث محطات موازية في ما يخصّ سوريا والسوريين؛ تبدأ الأولى من إقدامه، وهو رئيس جمهورية لواحد من أبرز بلدان حقوق الإنسان في التاريخ البشري، على استقبال الفتى بشار الأسد، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1999؛ رغم أنّ الأخير لم يكن يملك أية صفة رسمية، ما خلا أنه يترأس "الجمعية المعلوماتية السورية"! بالطبع، كانت صفة الأسد الابن الثانية، والفعلية، أنه نجل دكتاتور سوريا حافظ الأسد، والوريث المنتظَر الذي كانت ترتيبات إعداده للخلافة تجري على قدم وساق؛ بعد مقتل شقيقه البكر باسل الأسد في حادث سيارة، وكان الأخير هو المرشح الأوّل. وأمّا دافع شيراك لاستقبال هذا الفتى في قصر الإليزيه، فلم يكن ولعه بشخصية الأسد الأب (إذْ كان يعرف، حقّ المعرفة، جرائم الحرب والمذابح التي ارتكبها بحقّ السوريين)؛ بل تمّت الزيارة، للمفارقة التاريخية، بناء على إلحاح أحد مموّلي حملات شيراك السياسية، رئيس وزراء لبنان يومذاك رفيق الحريري؛ والذي سوف يتكفل نظام الأسد الوريث بتأمين لوجستيات اغتياله، في شباط (فبراير) 2005.
المحطة الثانية هي مشاركة شيراك في جنازة الأسد الأب، حزيران (يونيو) 2000، وكان بذلك الرئيس الوحيد الأوروبي، وممثل قوّة عظمى وديمقراطية عريقة؛ فصرّح يومها أنّ "الأسد طبع التاريخ على مدى ثلاثة عقود، وكان رجل دولة متمسكاً بعظمة بلاده". بعض تلك "العظمة" سبق أن كشف النقاب عنها صحافي فرنسي، وليس ابن أيّ بلد آخر، هو سورج شولاندون من صحيفة "ليبيراسيون"؛ الذي تسلل إلى مدينة حماة تحت اسم مستعار، وكشف بعض التفاصيل المروّعة عن مجزرة حماة، 1982. وكان شيراك قد استقبل الأسد الأب في باريس، تموز (يوليو) 1998، فكسر بذلك عزلة خانقة امتدت 20 سنة لم يطأ فيها الأخير أيّ بلد غربي. فوق هذا، أحاطه شيراك بمظاهر احتفال فائقة وتكريم ملحوظ؛ غير جاهل بأنّ هذا "القائد إلى الأبد" يواصل حكم سوريا منذ 1970، وقد تناوب على حكم فرنسا أربعة رؤساء: جورج بومبيدو، فاليري جيسكار ديستان، فرانسوا ميتران، وشيراك نفسه!
المحطة الثالثة هي استقبال الأسد الابن مجدداً، صيف 2001، بعد أقلّ من سنة على الكرنفال السياسي والدستوري والبرلماني الذي انتهى إلى تنصيبه وريثاً لأبيه في حكم سوريا. وفي اجتماعه مع أرباب العمل الفرنسيين انتبه الأسد الوريث إلى أنّ هؤلاء ليسوا البتة متحمسين للاستثمار في بلد تسري على شعبه واقتصاده أحكام عرفية مطلقة، وأنه ليس للإصلاح الاقتصادي أيّ معنى ولن يكون له أيّ أفق ملموس ما دامت قوانين "التحديث" خاضغة في آخر النهار للقانون الأعلى الذي لا يعلو عليه تشريع أو تدبير: قانون الطوارئ. في المقابل كان شيراك قد "كسب" من الأسد الوريث خطاباً جديداً، على نحو ما، بصدد السلام مع دولة الاحتلال: "من الطبيعي أن يكون هناك اعتراف، أي علاقات عادية، علاقات طبيعية كأي علاقات بين أي دولتين أو أي شعبين في المنطقة"، قال الأسد. وبالطبع، توجّب أن يسخر من "ربيع دمشق" على النحو الأشدّ ابتذالاً واستخفافاً: "كلمة ربيع لا تعنينا كمصطلح، فالربيع هو فصل مؤقت، والربيع فصل يعجب البعض والبعض الآخر يحب الشتاء"؛ قبل أن يدخل مستمعيه، خلال مؤتمر صحفي، في جدل تحليلي حول خصائص الفصول: "وإذا أردنا أن ندخل في التحليل نقول: إنّ الثمار تأتي في الصيف. ولكن لا يوجد ثمار من دون ربيع تتفتح فيه الأزهار. ولا يوجد ربيع دون أمطار تهطل في الشتاء"...!
هذه عيّنة من حصيلة تلك الزيارة "التاريخية"، التي ستشهد أيضاً تقليد الأسد أعلى وسام شرف فرنسي (واقعة فاضحة سوف تنتظر الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون للاستجابة إلى طلبات سحب الوسام من مجرم حرب)؛ وفي الإطار ذاته، ، سوف يكون شيراك أوّل زعيم غربي يسبغ شرعية سياسية وأمنية على وجود قوّات النظام السوري في لبنان، خلال خطبة افتتاح القمّة الفرنكفونية في بيروت 2002. ولسوف يردّ الأسد الوريث أفضال شيراك عليه، بطريقتين: 1) الإضرار بمصالح فرنسا الاقتصادية العليا، وبمصداقية الرئاسة الفرنسية بالذات، حين كان شيراك قد تدخل شخصياً كي تحصل شركات فرنسية على عقد لاستثمار الغاز السوري بقيمة 759 مليون دولار، فتلقى من الأسد الابن وعداً صريحاً بذلك، لكنّ العقد ذهب إلى تجمع شركات أمريكية ـ بريطانية ـ كندية ذات مصالح مع بيت النظام؛ و2) اغتيال الحريري، ولسوف تتبدّل نبرة شيراك جذرياً في توصيف آل الأسد، بين جنازة القرداحة 2000 وبيروت 2005.
ويبقى أنّ 40 سنة من معارك شيراك السياسية شهدت، في الملفّ السوري، محطات خيبة وخذلان لأبسط آمال الشعب السوري في الحرية والكرامة والديمقراطية؛ الأمر الذي لا يعني بأيّ حال من الأحوال أنّ رؤساء فرنسا السابقين، في الجمهورية الخامسة، لم يقتفوا نهجاً مماثلاً، رغم وجود استثناءات محدودة عبّرت عنها مواقف الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند من الانتفاضة الشعبية في سوريا. ولعلّ التلميذ النجيب الأوّل لنهج شيراك بصدد المسألة السورية كان خَلَفه وابن حزبه نيكولا ساركوزي، الذي لم يتورّع عن دعوة الأسد الوريث إلى الاحتفال بذكرى الثورة الفرنسية، في قلب جادة الشانزيليزيه.
وفي أية حال، وعلى مستوى سياسي واجتماعي فرنسي أوسع نطاقاً، كان صعود شيراك بمثابة "فشة خلق" مارسها الشارع الشعبي الفرنسي ضد الرئيس الأسبق فرانسوا ميتيران وحزبه الأشتراكي، الذي انقلب في تلك الحقبة إلى تذكرة صريحة بغيضة بأسوأ مآلات الاشتراكية الإصلاحية. وليس غريباً، والحال هذه، أنّ "يمين" شيراك، أسوة بنظيره "يسار" ميتيران، يقفّ كلّ منهما اليوم على حافة اندثار صريح.
27/9/2019

وزير بشار الأسد ونمر زكريا تامر

كان رياض عصمت، المؤلف المسرحي والمخرج والقاصّ والناقد السوري، خامس وزير ثقافة يعيّنه بشار الأسد، بعد مها قنوت ونجوى قصاب حسن ومحمود السيد ورياض نعسان آغا؛ فتسلّم الوزارة بين تشرين الأول (أكتوبر) 2010 وحتى حزيران (يونيو) 2012. هو اليوم، حسب المعلومات المدوّنة عنه على موقع دار نشر "بالغريف ــ ماكميلان"، يقيم في الولايات المتحدة، وقد أصدر مؤخراً كتاباً باللغة الإنكليزية عن هذه الدار، عنوانه "الفنانون والكتّاب والربيع العربي"، يقع في 175 صفحة.
طريف، وغريب أيضاً، أنّ مقدّمة عصمت للكتاب تتحدث عن انتفاضات "الربيع العربي" عموماً، وتسهب على نحو خاصّ في تفصيل الانتفاضة السورية، ولا تُغفل الإشارة إلى النظام السوري والآمال التي عُلّقت على "الرئيس الشاب" ثم لاقت الخذلان؛ ومع ذلك... لا يشير عصمت، البتة، إلى أنه كان وزيراً للثقافة طوال 15 شهراً على الأقلّ من عمر الانتفاضة الشعبية في سوريا، التي انطلقت كما هو معروف من دمشق ودرعا في آذار (مارس) 2011. هذه حكاية أخرى ليس هنا مقامها، إذْ تحتاج إلى وقفة خاصة حول سلسلة الأفكار التي يسوقها عصمت في مقدّمته؛ سواء تلك التي تخصّ رؤيته لـ"الربيع العربي" إجمالاً، أو قراءته لمعمار سلطة الأسد على ضوء ثماني سنوات من عمر الانتفاضة في بلده، أو مواقفه وتصريحاته وسلوكه خلال فترة تولّيه حقيبة الثقافة.
هذه السطور معنية بفصول الكتاب الأخرى، التي تنطلق من فرضية بسيطة (ليست، في الواقع، بديهية كما يوحي عصمت)، مفادها أنّ عدداً من الكتّاب والفنانين العرب استبقوا انتفاضات بلدانهم في كتاباتهم وأعمالهم المختلفة، وتحايلوا على الرقيب لالتقاط "ظروف الإحباط السياسي، وتنبؤاتهم بالمستقبل القاتم الذي سيأتي إذا لم يُطبّق التغيير"؛ الذي يشمل "الديمقراطية، الشفافية، حرّية التعبير، الانتخابات العادلة، والمحاسبة". وهكذا كان هؤلاء "روّاد عدالة اجتماعية"، على غرار نجيب محفوظ (الرمزية ضدّ الواقعية)، وتوفيق الحكيم (أهرام الدراما العربية)، ونزار قباني (الياسمين لا يموت أبداً)، وغادة السمان (موزاييك الذاكرة)، ويوسف شاهين (المصير). كما كانوا كتّاب قصّة "متمردين"، أمثال يوسف إدريس وزكريا تامر، خيري الذهبي وجمال الغيطاني وحليم بركات، صنع الله إبراهيم وفواز حداد ونوال السعداوي (حسب ترتيب عصمت). وأخيراً، كانوا أهل "دراما الثورة"، وفي عدادهم مسرح تونس الحديث، ثمّ ألفرد فرج وسعد الله ونوس، ممدوح عدوان ومحمود دياب ونجيب سرور، سعد الدين وهبة ووليد إخلاصي، صلاح عبد الصبور ورشاد رشدي، محمد الماغوط وعلي سالم.
ولعلي أتوقف، هنا، عند الجزء المخصص للقاصّ السوري الكبير زكريا تامر، من زاويتين؛ الأولى أنّ عصمت يصيب حقاً في وضع تامر ضمن سياق دقيق، فنّياً وتاريخياً، هو الانشقاق عن مدرستين في آن معاً، هيمنتا على القصة القصيرة السورية ابتداءً من خمسينيات القرن الماضي؛ أي الواقعية النقدية، والواقعية الاشتراكية. كان بين أبرز ممثلي هاتين المدرستين أسماء رائدة بدورها، أمثال ألفت الإدلبي وعبد السلام العجيلي وياسين رفاعية وحسيب كيالي وغادة السمان وفاضل السباعي وعادل أبو شنب وسعيد حورانية وعبد الله عبد وجورج سالم، ممّن أرسوا سلسلة من الأشكال والأساليب والموضوعات طبعت الحقبة بأسرها. الزاوية الثانية أنّ عصمت يجحف تماماً بقامة تامر، الفنّية والريادية تحديداً، حين يجزم بأنّ قصته باتت جامدة في المراحل الأخيرة بذريعة أنها "لم تتجاوز إنجازاته السابقة، بل كررت ما كان يُعتبر تجديداً في الستينيات". وهذه فرضية ركيكة تماماً، ولاتاريخية، بل لعلها مدعاة سخرية أيضاً، لأنّ أمر التجاوز هنا لا يُختزل إلى ميزان مقارنات بين الماضي والحاضر، فحسب؛ بل يبدو وكأنه يفرض "مساطر" قياس مسبقة الصنع، تتكيء على إنجازات سابقة فقط، ومنها حصرياً تشتقّ للكاتب حقوق تطوير فنونه وآفاقها.
والحال أنّ عصمت يقتبسني بالحرف (في صفحة 68، ولكن دون أن يذكر اسمي!)، متفقاً معي بصدد موقع تامر في القصة السورية والعربية خلال ستينيات القرن المنصرم؛ حيث أساجل (في مقالة بالإنكليزية نشرتها مجلة "بانيبال" 53/ 2015، المخصص لتكريم تامر)، بأنه لم يكن مألوفاً، ولا حتى مقبولاً بصفة عامة في الأدب العربي، ظهور قصة قصيرة على الطراز الذي اقترحه تامر بقوّة: لا تحكي حكاية، ولا تلتقط برهة، ولا تصوّر كياناً، ولا تثير تجربة، ولا تطوّر أحدوثة، ولا تنقل رسالة سياسية مباشرة. فهل توجّب على تامر أن يتجاوز ذاته نحو خصائص فنية أخرى؟ وما نوعيتها، سوى كتابة قصة قصيرة جداً، (!) كما يقترح عليه عصمت؟
"نمر القصة القصيرة" هي التسمية التي يختارها عصمت للقاصّ الكبير، مستوحياً العنوان الشهير "النمور في اليوم العاشر" أغلب الظن؛ أو لأسباب مجازية أخرى تخصّ التنمّر ربما، ولكن في معانيه الأشدّ إيجابية، ونزوعاً نحو التمرد، كما حين يسرد عصمت واقعة افتتاحية تامر الأولى حين تسلّم رئاسة تحرير مجلة "المعرفة"، التي تصدر عن وزارة الثقافة، حيث كرّسها لمنتخبات من "طبائع الاستبداد" للكواكبي، فصودرت المجلة وأُقيل الرجل من منصبه.
وقد يصحّ القول إنّ بعض التأرجح بين الإنصاف والإجحاف مردّه أنّ بين رئيس تحرير نمر مثل تامر، ووزير ثقافة أسدي مثل عصمت، ثمة عُجَر وثمة بُجَر!
16/9/2019

نصر الله ونتنياهو: أيّهما أكثر جعجعة... بلا طحن؟

على ملأ من "حضور كبير" اعتبره "أوّل ردّ على الاعتداءات الإسرائيلية" التي استهدفت مواقع تابعة لـ"حزب الله" في الضاحية الجنوبية من العاصمة اللبنانية، وكذلك في عقربا جنوب العاصمة السورية؛ كان حسن نصر الله، الأمين العام للحزب، قد توعد جيش الاحتلال الإسرائيلي هكذا: "قفْ على الحائط على رجل ونصف وانتظرنا، يوم، إثنان، ثلاثة، أربعة، انتظرنا". وإذْ كرّر أنه لا يمزح، و"جيش إسرائيل" حسب تعبيره يعلم أنّ السيد لا يمزح، وإذا قتل جيش الاحتلال أياً من "إخواننا" في سوريا (الأمر الذي وقع بالفعل، في ضواحي دمشق)، فإنّ الردّ على القتل سيكون "في لبنان وليس في مزارع شبعا"؛ فلعلّ تل أبيب أرادت اختبار مدى انطباق هذه الأقوال على الأفعال، جزئياً بادئ ذي بدء، فقصفت موقعاً لـ"الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة" في البقاع.
ولعلّ بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال، أراد من جانبه استعراض عضلاته في سباق مَن يعرف وماذا يعرف، فذكّر بأنّ نصر الله يعرف جيداً أنّ دولة الاحتلال تعرف كيف تدافع عن نفسها. صحيح أنّ مفردة "إخواننا" قد لا تنطبق تماماً على جماعة أحمد جبريل، لكنّ القصف الإسرائيلي استهدف حليفاً للحزب، وذراعاً ضاربة ترتزق لدى النظام السوري، وعضواً في "جبهة الممانعة" دون سواها، والموقع المستهدف يقع على مبعدة أمتار قليلة من قواعد الحزب؛ وبالتالي ثمة الكثير الذي يوحي بأنّ "جيش إسرائيل" لا يستفزّ أقوال نصر الله فحسب، بل يلوح أنه يستحثه على الردّ. وحتى ساعة كتابة هذه السطور تكون خمسة أيام، وليس أربعة، قد انقضت على مهلة إبقاء جيش الاحتلال على "رجل ونصف"، بموجب وعيد نصر الله، من دون أن تعكّر صفو الحدود اللبنانية ــ الإسرائيلية أية واقعة لها صفة الردّ من جانب الحزب؛ إلا إذا اعتُبر إطلاق الجيش اللبناني النار على طائرات مسيّرة إسرائيلية، في العديسة وكفر كلا، مأثرة للحزب في الآن ذاته.
مَنْ يعشْ يرَ، في كلّ حال، ليس دون استئناس عقلاني بتلك المقولة البسيطة التي تضع "حزب الله" في خانة كتيبة ملحقة بعديد كتائب المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، باعتراف نصر الله ذاته؛ وبالتالي فإنّ قرار الردّ، سواء أكان رمزياً أو حتى تجميلياً يحفظ ماء الوجه أغلب الظنّ، أو كان محض اكتفاء بالوعيد اللفظي والخطب الطنانة الرنانة، هو في طهران وحدها، وليس في بيروت أو الضاحية أو حيث يختبيء نصر الله منذ 13 سنة. وبهذا المعنى، وقياساً على المنطق البسيط هنا أيضاً، وعلى جلاء عناصر المشهد و"قواعد الاشتباك" إياها، فإنّ خامنئي ليس بصدد اتخاذ قرار بخوض حرب مع دولة الاحتلال؛ حتى في مستوى معارك محدودة النطاق، وبالإنابة فعلياً، في لبنان أو في سوريا أو في العراق. ولو كانت طهران تمتلك هذه النيّة، لوجدت في مناسبات سابقة ذرائع أجدى لشنّ الحرب ودفع الأكلاف، حين وجّه جيش الاحتلال ضربات قاصمة لأهداف إيرانية مباشرة، أدسم بكثير من اغتيال اثنين من عناصر "حزب الله" في عقربا السورية.
وبهذا المعنى أيضاً، أي اتضاح خضوع "حزب الله" لقرارات خامنئي في كبائر الأمور على الأقلّ، وبينها دخول سوريا للقتال إلى جانب نظام بشار الأسد، أو مناوشة دولة الاحتلال في جنوب لبنان ثمّ الامتناع عن أيّ وكلّ "مقاومة" منذ آب (أغسطس) 2006، أو تدريب ميليشيات الحوثي في اليمن؛ فإنّ خطابات نصر الله فقدت تسعة أعشار البريق الذي كانت تحظى به في أسماع شارع عربي عريض، عابر للطوائف والمذاهب. كذلك توجّب أن يكشف نصر الله عن الصبغة الشيعية الصريحة التي حرص طويلاً على تمويهها تحت ستار الوحدة الوطنية اللبنانية، وبات مضطراً إلى إعلان انضواء الحزب في مبدأ الولي الفقيه، بل ذهب أبعد صيف 2013: "نريد أن نقول لكلّ عدو ولكلّ صديق، نحن شيعة علي بن أبي طالب في العالم"؛ و"نحن حزب الله. الحزب الإسلامي الشيعي الإمامي الإثنا عشري"؛ و"قولوا رافضة. قولوا إرهابيين. قولوا مجرمين. اقتلونا تحت كل حجر ومدر، وفي كل جبهة، وعلى باب كلّ حسينية ومسجد، نحن شيعة علي بن أبي طالب!"...
والأرجح أنّ الكثير من هذه الخطب تحوّل إلى جعجعة بلا طحن، وإلى أكاذيب عارية عن الصحة في الحدود الدنيا، وإلى خداع ومخادعة عليهما تنطبق القاعدة الأخلاقية في الحديث النبوي الشهير: مَنْ غشّنا ليس منّا. لقد كذب السيد منذ أولى خطاباته التي تضمنت المراوغة حول وجود عناصر "حزب الله" في سوريا، زاعماً أنّ "الجيش العربي السوري ليس بحاجة إلينا"؛ وكذب بصدد الدفاع عن المقدسات الشيعية في ظاهر دمشق، حين كانت ميليشياته تقاتل في القصير، البلدة السورية ذاتها التي آوت مقاتلي الحزب من ويلات القصف الإسرائيلي سنة 2006؛ ويكذب اليوم، أكثر من ذي قبل، حين يزعم أنّ الانتفاضة الشعبية السورية كانت مجرّد "مشروع" تآمري "لم يكن هدفه لا الديمقراطية ولا التغيير السياسي الداخلي، وإنما استهدف في الحقيقة نظاماً مقاوماً، وأبعد من ذلك، كانت هناك خريطة للسيطرة على المنطقة وتدمير المنطقة وإعادة تقسيم المنطقة على أسس عرقية وطائفية ومذهبية".
وهو يغشّ نفسه، قبل سامعيه، جهاراً نهاراً حين يعلن أنه "في نهاية المطاف، اليوم الدولة في سوريا، القيادة في سوريا، الجيش في سوريا، الرأي العام في سوريا، في أحسن حال، في أعلى وضوح، في استعادة للعافية والقوة والقدرة على صنع الإنجازات والانتصارات"؛ كلّ هذا حين يكون النظام رهينة موسكو وطهران وأنقرة وواشنطن، وتعربد في أجوائه دولة الاحتلال الإسرائيلي متى شاءت واينما ارتأت. لهذا فإنّ الحال الراهنة من خطاب نصر الله تذكّر بإفراطه الشديد في تلميع صورة الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، أثناء زيارة الأخير إلى لبنان، خريف 2010؛ وكيف أنّ تضخيم سجايا نجاد القيادية كان منعطفاً فاضحاً، وفاقعاً، في معجم نصر الله: "نشمّ بك يا سيادة الرئيس رائحة الإمام الخميني المقدّس، ونتلمس فيك أنفاس قائدنا الخامنئي الحكيم، ونرى في وجهك وجوه كلّ الإيرانيين الشرفاء من أبناء شعبك العظيم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه".
ومَنْ يعشْ سوف يرى أيهما ــ في قادم الأسابيع القليلة المقبلة ــ أكثر جعجعة، بلا طحن: نصر الله، الذي ينتظر قرار طهران؛ أم نتنياهو، الذي... ينتظر، بدوره، القرار الإيراني ذاته! ومع الفوارق، الكبيرة والكثيرة غنيّ عن القول، بين القدرات العسكرية للمنتظرَين كليهما؛ وهامش المناورة المتاح أمام كلّ منهما، بالقياس إلى مؤسسات القرار المختلفة، والسياقات السياسية والظرفية التي تبيح لكلّ جعجعة أن تسفر عن طحن أو محض ضجيج أجوف؛ ثمة وقائع متراكمة، ولا تكفّ عن التراكم عملياً، لا تبدو أمْيَل في الكفّة لصالح الأمين العام لـ"حزب الله". وليس مرجحاً، في المدى المنظور على الأقلّ، أن تُشعل طهران حرباً بأيّ مقدار ملموس من الجدّية العسكرية، الآن إذ تدخل في جهود حساسة مع الرئيس الفرنسي، ومن ورائه رعاة الاتفاق الدولي حول البرنامج النووي الإيراني، لتنشيط أقنية حوار مع واشنطن لا تقتصر على النووي وحده، ولا على العقوبات الامريكية؛ بل تشمل معظم، أو حتى كامل، سلّة النفوذ الإقليمي الإيراني على امتداد الشرق الأوسط.
 29/8/2019

سوريا وأشغال الإمبريالية الثقافية

يُعتبر إدير واحيس (قبائلي جزائري الأصل، أغلب الظنّ) أحد أبرز الباحثين، غير السوريين، ممّن تخصصوا في تاريخ سوريا خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، وتعمقوا في الشطر الاستعماري، والثورات ضدّ الانتداب الفرنسي على وجه التحديد. له فصول ثمينة حول التجريب الزراعي، والتعليم، والمواطنة، والبعثات التبشيرية الكاثوليكية، والهيمنة على قبائل البدو؛ من زاوية ممارسات السلطات الاستعمارية الفرنسية خلال سنوات الانتداب. نال واحيس الدكتوراه في التاريخ من جامعة إكستر البريطانية، ثمّ تابع دراساته في لندن ــ "سواس"، وهو اليوم يدرّس في جامعة ماربيا، إسبانيا. ومؤخراً صدر كتابه، الهامّ للغاية، "سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي: الإمبريالية الثقافية وأشغال الإمبراطورية"؛ بالإنكليزية، عن I.B.Tauris.
في فصل تمهيدي يناقش واحيس المؤسسات الثقافية والصراع من أجل تعريف الانتداب، ثمّ يخصص ثمانية فصول لاحقة لمناقشة مسائل التنقيب عن الآثار، وضبط التراث الثقافي (المتاحف والسياحة والمعارض)، والمناهج التعليمية، وفرض الرقابة على الصحافة العربية، والتحريف والتمويل لصالح الفرنكوفونية، والبُعد الأممي والصحافة العالمية. وفي خلاصته العامة يشدد واحيس على النزعة الاستشراقية الصارخة التي حكمت مقاربات سلطات الانتداب الفرنسي في القضايا الثقافية، ويتوقف خصوصاً عند تقرير استخباراتي فرنسي شهير كُتب سنة 1925، يقول بالحرف: "السوري شرقي؛ وهو في هذا لا يفهم إلا لغة القوّة، وطلباته تتزايد دائماً حتى يأتي وقت يُجابه فيه بالقوّة. على سوريا أن تفهم أنّ فرنسا باقية هنا، لأنها ليست قوّة انتداب فحسب، بل كذلك أمّة دائنة وتضحياتها التي دعّمت حقوقها العلمانية تعطيها الحقّ في البقاء"!
الكتاب يستحق وقفة مطوّلة مفصّلة، بالطبع، ليس هنا مقامها؛ غير أنّ الإنصاف يقتضي الإشارة إلى موقف مناهض لمشروع الانتداب بأسره، لم يصدر عن أبناء البلد السوريين أو اللبنانيين كما للمرء أن يتوقع، بل اعتنقته واحتضنته صحيفة "لومانيتيه" الفرنسية العريقة. ولقد فتحت صفحاتها لكتّاب من سوريا ولبنان، كما تجاسرت (ليس من دون التعرّض لتهمة "الخيانة الوطنية"، من جانب الاستخبارات الفرنسية والصحافة اليمينية) فنشرت رسالة من سلطان باشا الأطرش، قائد ثورة جبل العرب، يقول فيها: "طوال عقود ناضلنا من أجل حرّيتنا واستقلالنا. كفانا كلمات! بالسيف يتوجب علينا النضال!". كذلك نشرت الصحيفة مقالات من رشيد رضا (وكان يومها أمين "اللجنة السورية ــ الفلسطينية"، وعُرّف كـ"مفكّر إسلامي مصلح")؛ ونداءات من شكيب أرسلان، وأمين "حزب الشعب" السوري، وسواهم كثر. هذا بالإضافة إلى عدد كبير من الكتّاب والمعلّقين الفرنسيين، الذين تصدّوا لفضح ادعاءات الجنرال غورو (المندوب السامي للانتداب، وصاحب نظرية "الهجوم حتى الإبادة")؛ سواء حول "ربحية" المشروع الاستعماري الفرنسي في سوريا، أو حول "المهمة التمدينية" الشهيرة التي زعم المستعمرون أنّ التاريخ ألقاها على عاتقهم تجاه شعوب الشرق "المتخلفة".
وهذه مناسبة لفتح قوسين، واستعادة تاريخ الصحيفة التي أسّسها الاشتراكي الفرنسي جان جوريس (1859 ـ 1914) في سنة 1904، وتقلّبت أقدارها مراراً من "أممية الشغيلة"، إلى أكثر من فريق يساري أو اشتراكي؛ وكان في ذروة أمجادها ذلك الملحق الثقافي الأسبوعي الذي أخذ يصدر منذ مطلع الثلاثينيات، بعنوان "الآداب الفرنسية"، تحت إشراف الشاعر الفرنسي الشهير لويس أراغون. وفي سنة 1930، جرّاء الضائقة المالية الخانقة التي كان الحزب الشيوعي الفرنسي يعاني منها (سوف يتضح، فيما بعد، أنّ قيادة الحزب وافقت على استلام معونات مالية من الإتحاد السوفييتي)، تمّ تنظيم أوّل احتفالية باسم الصحيفة، بغرض جمع التبرعات. ولم يكن يخطر في بال المنظّمين، آنذاك، أنّ النشاط سوف ينقلب إلى عيد شعبي فرنسي، بكلّ ما تنطوي عليه الصفة من تنويعات: سياسية ونقابية، ولكن ثقافية أدبية وموسيقية ومسرحية، ومعارض كتب وفنون تشكيلية، وألعاب أطفال، فضلاً عن مئات المنصّات التي تقدّم أصناف الطعام، من مختلف المناطق الفرنسية. الخطوة النوعية في تطوير "عيد لومانيتيه" كانت دعوة الأحزاب والقوى اليسارية والتقدمية وحركات التحرّر الوطني على امتداد العالم، فاتخذت الاحتفائية هيئة المنبر الدولي الرفيع الذي يتيح التعبير عن الرأي والتبشير بالقضايا.
وفي مقابل مواقف "لومانيتيه"، كانت صحيفة "لا كروا"، التي تواصل الصدور حتى الساعة، قد أدانت ما اعتبرته حالة تآخٍ" بين الشيوعيين و"أعداء فرنسا" في سوريا ولبنان؛ وعلى منوال مشابه سارت المطبوعات الناطقة باسم مجموعات الضغط الاستعمارية، خاصة منظمة "الاتحاد الاستعماري الفرنسي" و"المؤسسة الوطنية للتوسع الاقتصادي"، والتي ركزت على حرف انتباه الرأي العام الفرنسي وتصوير الانتداب كمشروع اقتصادي وتجاري عالي الأرباح. ولا تكتمل مظاهر الإمبريالية الثقافية دون تعاضد/ تضارب بين المركزين الاستعماريين في باريس ولندن، إذْ بينما لم تتوقف الصحافة الإنكليزية الموالية للمشروع الاستعماري البريطاني عن نقد المشروع الاستعماري الفرنسي؛ تبنّت بعض الصحف الفرنسية شبه الحكومية ("لو ماتان"، على سبيل المثال) احتجاج الوطنيين السوريين والفلسطينيين ضدّ وعد بلفور، بل ونشرت مقالة تتحدّث عن سوريا موحّدة تضمّ فلسطين!
وبصفة إجمالية، ومن زاوية بحثية صرفة بادئ ذي بدء، هذه الدراسة تبرهن على حاجة حيوية لربط المؤسسات الاستعمارية العسكرية والسياسية والاقتصادية، بشقيقاتها المؤسسات الثقافية والتربوية والأركيولوجية والأنثروبولوجية وسواها. وفي هذا بعض ردٍّ لجميل إدوارد سعيد في نقد اقتران الاستشراق بالمشروعين الاستعماريين، الفرنسي والبريطاني، على وجه الخصوص.
 18/8/2019

محمود درويش و"الغراميات اليهودية"

خلال واحد من أفضل الحوارات باللغة الإنكليزية مع محمود درويش، الذي مرّت ذكرى غيابه الحادية عشر قبل أيام، يسأل آدم شاتز عن علاقة حبّ جمعت الراحل مع فتاة يهودية إسرائيلية تُدعى شولميت، يتحدث عنها الراحل في قصيدته "كتابة على ضوء بندقية"، مجموعة "حبيبتي تنهض من نومها"، 1970. الحوار نُشر للمرّة الأولى في Journal of Palestine Studies، العدد 3، ربيع 2002؛ وفيه يجيب درويش: "التقينا بعد 1967، وكانت آخر حبّ لي في البلد. لا يتوجب عليّ الإفصاح عن اسمها، فهي على قيد الحياة، كذلك لا رجعة للماضي. تبدلت الأمور، ومثلها الكائنات البشرية".
وكان سؤال شاتز عن شخصية شولميت أحد أبكر الأسئلة في هذا الشأن، وأندرها في الواقع؛ على خلاف الأسئلة الكثيرة التي طُرحت مراراً حول علاقة الحبّ الأولى التي جمعت الراحل مع فتاة يهودية أخرى هي تمار بن عامي، التي اتخذ لها درويش اسم ريتا كما هو معروف. وفي المقابل، لم تكن قصيدة شولميت مشهورة على النطاق العربي مثل شهرة قصيدة "ريتا والبندقية"، من مجموعة "آخر الليل"، 1967؛ أو قصيدة "ريتا أحبيني"، من مجموعة "العصافير تموت في الجليل"، 1969. الأسباب عديدة بالطبع، وليس هنا مقام استعراض أهمها، وتكفي الإشارة إلى أنّ قصيدتَي ريتا انتهجتا العذوبة والغزل الرقيق والإيحاء بالترميز إلى فلسطين، ولم تعكسا مضامين سجالية جلية حول شخصية يهودية تستفزّ التأويل المضاد.
ليس هنا، أيضاً، مقام الخوض في السجالات التي اقترنت بحكاية الغرام بين فلسطيني ويهودية إسرائيلية، بادئ ذي بدء؛ فكيف، تالياً (وهي الطامة الكبرى، كما صرخ بعض المساجلين!) إذا كان العاشق هذا الرجل دون سواه: "شاعر المقاومة"، "أيقونة فلسطين"، "عاشق الأرض"...! لافت أنّ "غراميات محمود درويش اليهودية"، إذْ هكذا صار العنوان العريض لبعض السجالات، لا تنطوي فيها صفحة، فلسطينية مثلاً، أو عربية، أو حتى عالمية؛ إلا وتُفتح صفحة جديدة، في المجلد إياه، على نطاق إسرائيلي هذه المرّة، في أدبيات عبرية وأخرى بلغات عالمية. وكان الراحل قد حسم مطاحن التفسير، وأغلق بوّابات التأويل، حين صرّح ــ خلال حوار طويل ومعمّق مع القناة الثانية في التلفزة الفرنسية ــ أنّ اسم ريتا تعبير استعاري لا صلة له بأيّ ترميز مجازي إلى فلسطين، لكنه لا يخلو من مرجعية واقعية لأنه قصة حبّ فعلية، مضت وانقضت.
وهكذا، لم يكن عرب فلسطين المحتلة وحدهم الذين أغضبهم شريط "سجّل أنا عربي"، الوثائقي الذي أخرجته ابتسام مراعنة ــ منوحين وأعادت فيه سرد قصة الحبّ بين درويش وبن عامي؛ بل امتدّ الغضب أيضاً إلى الأوساط الإسرائيلية ذاتها، وليس في الصحافة اليمينية أو المحافظة فقط، بل في "هآرتز" التي تتفاخر بخطّ ليبرالي أو وسطي أو حتى يساري. ومؤخراً صدر بالإنكليزية، عن منشورات بلغريف ــ مكميلان، كتاب بعنوان "محمود درويش: شاعر فلسطين والآخر بوصفه حبيبة"؛ وقّعته داليا كوهين ــ مور، مؤلفة أعمال عن العالم العربي في عدادها أنطولوجيا للقصة القصيرة بأقلام كاتبات عربيات، وآخر بعنوان "آباء وأبناء في الشرق الأوسط العربي"، وأنطولوجيا أدبية ضمّت "رحلات ثقافية" في العالم العربي.
الكتاب الجديد هذا يستفيض في استعراض تفاصيل غرام درويش/ بن عامي بصفة خاصة، وما إذا كان أقرب إلى "الكفر بالمستحيل"، كما يقول عنوان أحد الفصول؛ قياساً، كذلك، على أمثلة أخرى من غراميات كان اليهودي، امرأة أو رجلاً، طرفها "الآخر": ابتداءً من التوراة وزواج موسى من صافورا بنت شعيب، وانتهاءً بأعمال مؤلفين أمثال إحسان عبد القدوس في "بعيداً عن الأرض"، وخليل بيدس في "الوريث"، وعلاء الأسواني في "شيكاجو". لكنّ الفصل الأطرف في كتاب كوهين ــ مور هو الخامس، الذي يحيل حكاية الحبّ بين درويش وبن عامي إلى سوابقها عند قيس وليلى، وروميو وجولييت؛ وذلك رغم أنّ الفقرات الأخيرة تقترح خلاصات نقدية معقولة، قابلة للأخذ والردّ مع ذلك، حول أسباب امتناع درويش عن ذكر اسم ريتا في قصائد ما بعد 1992.
من جانبي شخصياً، سبق أن عبّرت عن رأي يخصّ قصيدة الحبّ عند درويش، يتجاوز بالطبع ضيق أفق "الغراميات اليهودية" هذه، إلى مقاربة أوسع نطاقاً، وأشدّ تركيباً إذا جاز القول؛ مفادها أنّ معظم قصائد الحبّ التي كتبها درويش كانت مختلفة. سبب أوّل، جمالي وفنّي، ظلّ ينبثق من قناعة درويش بأنّ هذا الغرض الشعري تحديداً جدير بالتطوير والتبدّل والتجديد؛ وسبب ثانٍ، سوسيولوجي هذه المرّة، ظلت تصنعه الضغوطات الهائلة لموقع الشاعر، السياسي والأخلاقي والأدبي، في الوجدان الجمعي. وهكذا فإنّ القصائد سارت، إجمالاً، عكس أعراف الغزل العربي، فكان السبق فيها لوطأة التاريخ قبل وطأة الوجدان، وكان فيها من النفي والغربة والغرباء، أكثر من الاستيطان والفَيءِ واللقاء.
كذلك أرى أنّ قصيدة الحبّ منحت درويش هامشاً ثميناً لممارسة طراز من "المقاومة الفنّية" في حروب الشدّ والجذب مع القارئ، بحيث تحوّلت إلى أوالية دفاع عن برنامجه الجمالي الآخذ في الارتقاء. فهل كان تفضيلاً عابراً أنّ عنوان أوّل مجموعة شعرية أصدرها خارج الأرض المحتلة كان... "أحبّك، أو لا أحبّك"؟
11/8/2019

شجرة ترامب ــ أردوغان: هل تخفي غابة الأحزاب الكردية السورية؟

عند مناسبة فارقة، مثل تلمّس المواقف من مسودة الاتفاق التركي ــ الأمريكي الأخير حول تشكيل قيادة عسكرية مشتركة تشرف على ما يُسمى "منطقة آمنة" تارة، أو "ممرّاً إنسانياً" تارة أخرى، في مساحات واسعة على الحدود السورية ــ التركية؛ يحار المرء في الإجابة عن السؤال التالي: أهي ظاهرة صحية، حيوية وتعددية، أن يكون في سوريا قرابة 30 حزباً كردياً؟ أم أنّ العكس هو الصحيح، والظاهرة مدعاة فرقة وانقسام وتبديد جهود؟ أم، كما تساجل هذه السطور، هي حالة وسيطة بين النقائض، طبيعية وموضوعية، ولا مفرّ منها بصفة إجمالية؟
وللتذكير، ومن دون الخروج عن معادلة الفقرة أعلاه، ثمة غابة من الأسماء لا تتشابك أدغالها وأشجارها وجذورها فحسب؛ بل تتداخل أغصانها عند مفردة واحدة غالبة، هي "الديمقراطي"، ويصبح تمييز المسمّى من خلال دلالة التسمية هو بوّابة الالتباس الأولى: "حزب الاتحاد الديمقراطي"، "الحزب الديمقراطي الكردي" 1، "الحزب الديمقراطي الكردي" 2، "الحزب الديمقراطي الكردي" 3، "الحزب الديمقراطي الوطني الكردي"، "حزب المساواة الديمقراطي الكردي"، "الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي"، "حزب الوحدة الديمقراطي الكردي"، "حزب يكيتي الكردي"، "حزب آزادي الكردي" 1، "حزب آزادي الكردي 2، "الحزب اليساري الكردي"، "يكيتي الكردستاني"، "الحزب الديمقراطي الكردستاني" 1، "الحزب الديمقراطي الكردستاني" 2، "حزب الوفاق الديمقراطي الكردي"، "الحزب اليساري الكردي"...
والحال أنّ ضرورة اقتفاء أثر المواقف الكردية تحديداً نابعة من حقيقتين مترابطتين، أولاهما أنّ المناطق السورية التي تتفاوض حولها وزارتا الدفاع التركية والأمريكية ذات أغلبية سكانية كردية، وذات اشتباك سياسي وميداني وحزبي كردي ــ كردي أيضاً؛ والحقيقة الثانية هي أنّ غرض الأتراك جيو ــ سياسي صريح يخصّ المسألة الكردية في المقام الأوّل، ضمن تلبية ما تسميه أنقرة عنصراً حاسماً في سلّة أمنها القومي الإقليمي. في العمق الوطني السوري الأعرض، ليست خافية إشكاليات علاقة بعض الأطراف الكردية مع النظام السوري من جهة أولى، وتنسيقها من جهة ثانية مع البنتاغون؛ الأمر الذي يوسّع دائرة الاشتباك الكردي ــ الكردي نحو حلقات سورية أخرى، شعبية أو حزبية.
ولقد توفرت على الدوام عوامل ائتلاف أو اختلاف بين المكونات والقوى والتنظيمات السورية العربية، ونظائرها السورية الكردية؛ فكانت تلك العوامل وراء انضمام، أو انسحاب، الأكراد السوريين، على مستوى تنظيمات كاملة أو أشخاص منفردين، من مختلف هيئات المعارضة السورية المعاصرة. كانت هذه هي الحال عند تشكيل "إعلان دمشق"، الذي انضمّ إليه "الديمقراطي التقدمي الكردي" ــ مجموعة عبد الحميد درويش، و"الوحدة الديمقراطي الكردي" ــ مجموعة إسماعيل عمر ومحي الدين شيخ آلي؛ وكانت الحال، بعد انتفاضة 2011، في تشكيل "المجلس الوطني"، و"هيئة التنسيق"، و"الائتلاف" و"هيئة التفاوض".
صحيح أنّ المبادئ التي اعتمدتها الأحزاب السورية العربية إزاء الحلول الأمثل للمسألة الكردية في سوريا، وطرائق ضمان الحقوق المدنية والسياسية المختلفة التي حُرم منها أكراد البلد على امتداد العقود والأنظمة؛ كانت مادّة الاتفاق أو الافتراق، غالباً. ولكن من الصحيح، في المقابل، أنّ قراءات الأحزاب الكردية ذاتها لتلك الطرائق، وللبرامج المكمّلة أو الموازية، كانت بدورها ركناً كبيراً في التأثير على مشهد العلاقات بين أطراف المعارضة العربية والكردية؛ فضلاً، بالطبع، عن المشكلات التنظيمية بين أحزاب الكرد، والانشقاقات المزمنة التي لم تترك هامشاً كافياً لتلمّس الأرضيات المشتركة.
على سبيل المثال، ولاقتباس واقعة راهنة ومأساوية هي الحرائق التي طالت آلاف الهكتارات من حقول القمح والشعير في مساحات واسعة من منطقة "الجزيرة، شمال شرقي سوريا؛ أصدر "المجلس الوطني الكردي" بياناً يتهم فيه "ما تقدّم نفسها بـ (الادارة الذاتية)"، أي مجموعات "حزب الاتحاد الديمقراطي"، "وحدات حمية الشعب"، و"قوات سوريا الديمقراطية"... بأنها "فشلت في توفير أدنى مستلزمات الحماية ودرء الأذى ومنع حدوث الحرائق وملاحقة الفاعلين، في وقت لم يغب عن أعينها أي حراك جماهيري ونشاط سياسي ولم تتوان عن ملاحقة واعتقال الشباب وهم حتى في موسم الحصاد لمعاونة أهلهم وسوقهم إلى تجنيدها".
ولا تُنسى، هنا، أعمال العنف التي مارسها "حزب الاتحاد الديمقراطي" ضدّ المتظاهرين الكرد، أوائل العام 2012، في عفرين وبعض مناطق محافظة الحسكة وكوباني وحيّ ركن الدين في دمشق؛ واتهام التنظيم بالمسؤولية عن اغتيال الناشط الكردي مشعل التمو، رئيس "تيار المستقبل" الكردي. كذلك لا تغيب عن البال صلات الحزب مع النظام السوري، سواء عبر  الحزب الأمّ، الـPKK، طوال سنوات حكم حافظ الأسد، وحتى رضوخ الأخير للضغوط التركية وطرد أوجلان من سوريا والبقاع اللبناني، سنة 1998؛ أو الحزب الفرع، حين تدهورت علاقات بشار الأسد مع الحليف التركي، فاختار أن يناور مع أنقرة عن طريق تنشيط "حزب الاتحاد الديمقراطي".
مدهش، مع ذلك، أنّ مواقف مختلف الأحزاب الكردية في سوريا تتفق، بل تتطابق تماماً، حول رفض المشروع التركي حول "المنطقة الآمنة" أو "الممرّ الإنساني"؛ لكنها يندر أن تتوافق حول رفض، فما بالك بإدانة"، الشراكة الأمريكية المباشرة مع هذا المشروع ذاته. كأنّ شجرة أردوغان ــ ترامب، متمثلة في الاتفاق التركي ــ الأمريكي الأخير، تخفي بذاتها كامل اشتباك الأدغال والأشجار والجذور والأغصان في الغابة المتشابكة التي تؤلفها الأحزاب الكردية السورية! أو، وهذا أسوأ ومدعاة لبؤس أعمق وأسف أشدّ، كأنّ الإدارات الأمريكية المتعاقبة لم تطعن الأكراد في الظهر، مراراً وتكراراً، منذ وودرو ولسون سنة 1918 وحتى دونالد ترامب في أيامنا هذه!
أم لعلّ "قسد" و"مسد" وأنصار صالح مسلّم تناسوا البروتوكول الأمني لعام 1986، الموقّع بين تركيا والنظام السوري، والذي قضى صراحة بإنهاء معونات الأجهزة السورية لفصائل PKK؟ ألم تكن تلك الخطوة هي التي عبدت الطريق أمام حرب منظّمة شنّتها تركيا ضدّ الحزب، وشملت إغارة طائرات الفانتوم التركية على معسكرات كيشان وهيات وهفتانين وهيكاري، بتوقيت مناسب مع التسويات الواسعة التي كانت تجري على قدم وساق في بغداد وأنقرة ودمشق وطهران؟ ألم يُتوّج المسلسل بترحيل أوجلان من معسكراته في سوريا والبقاع، ومسارعة مفارز الأمن السوري إلى اعتقال عدد من كوادره، وتشديد الرقابة على مَن تبقّى، وصولاً إلى ذروة ركوع حافظ الأسد أمام تهديد الأتراك باجتياح سوريا عسكرياً، مما جعل ساعات أوجلان معدودة، فلم يمضِ وقت طويل حتى وقع في المصيدة؟
كلّ هذا صحيح، قد يقول قائل، ولكنّ السياسة ليست بنت الثوابت بل أمّ المتغيرات، وبالتالي فإنّ تحالفات "حزب الاتحاد الديمقراطي" الراهنة، سواء مع النظام السوري أو مع البنتاغون، تبررها السياقات المتغيرة. ولكن... مَن قال إنّ هذه السياقات تغيرت اليوم لصالح الأكراد السوريين عموماً، وهي تخدم هذا الحزب وميليشياته وإدارته الذاتية خصوصاً؟ وأيّ سياق هذا الذي يُنسي أكراد اليوم تلك الطعنات التي تلقوها من الحليف الأمريكي ذاته بالأمس القريب، في منبج وعفرين وكوباني؛ لكي لا يذهب المرء أبعد إلى جورج بوش الأب، والانتفاضة المغدورة ضد صدّام حسين؟
ثمّ هل كان رجب طيب أردوغان، أو باراك أوباما أو دونالد ترامب، في الميدان خلال جميع وقائع الغدر المتعاقبة تلك؟ واستطراداً، أيّ فارق في أن تراهن بعض القوى الكردية السورية على بنتاغون هذه الأيام، وكأنّ الزمن تكفل بمحو جراح الماضي الغائرة التي كان بنتاغون أيام سالفة هو صانع حرابها؟ وكيف للنضالات الكردية ألا تنسلخ عن المسألة الديمقراطية السورية الشاملة، إذا كان الرأي الكردي يتفرّق أيدي سبأ بين 30 حزباً محلياً، وقيادة في جبال قنديل، وأخرى في واشنطن حيث مقرّ البنتاغون!
 8/8/2019

اللجوء السوري والمعادلة الأحادية

أسوأ زوايا النظر إلى مسالة اللجوء السوري في تركيا، هي تلك التي لا تبصر سوى معادلة أحادية، سياسية وإيديولوجية في آن معاً، مفادها ببساطة: حكومة رجب طيب أردوغان، و"حزب العدالة والتنمية" استطراداً، تساند اللاجئين السوريين؛ وأمّا المعارضة، وعلى رأسها "حزب الشعب الجمهوري"، فإنها تتخذ موقفاً معاكساً، وتضيّق الخناق على اللاجئين السوريين، وتطالب بترحيلهم.
لكنّ الواقع الفعلي على الأرض يتضمن قسطاً نسبياً من طرفَيْ هذه المعادلة، إذْ لا يخفى أنّ الكثير من القوانين والتدابير الإدارية التي اتخذتها حكومات "العدالة والتنمية" المتعاقبة خدمت اللاجئ السوري؛ ولا يخفى، في المقابل، أنّ المعارضة كانت ستتخذ، راغبة أم مضطرة، مسارات مشابهة لو أنها كانت في الحكم وتتحمل مسؤولية القرار. هذه خلاصة موضوعية لا يتوجب القفز عليها بدافع من التعاطف مع "العدالة والتنمية" أو النفور من المعارضة، فالحقائق على الأرض، ومثلها الإحصائيات الديمغرافية والمعطيات الاقتصادية ومؤشرات سوق العمل، تذهب جميعها إلى تأكيد الخلاصة إياها.
صحيح، على سبيل المثال الأحدث، أنّ ملفّ اللجوء السوري كان أحد أبرز الأركان الاجتماعية ــ الاقتصادية، ثمّ تلك السياسية بالضرورة، وراء الفوز (المزدوج، للتذكير!) الذي حققه أكرم إمام أوغلو في انتخابات بلدية اسطنبول؛ إلا أنّ برنامج الرجل لم ينهض على بند الترحيل الفوري للاجئين السوريين، أو حتى الترحيل المبرمج؛ ليس لأنّ تعهداً كهذا لن يكون واقعياً وصعب التنفيذ فحسب، بل كذلك لأنه يناقض النبرة الإنسانية العامة التي طبعت مجمل برامج إمام أوغلو بصدد اللجوء واللاجئين. كان طبيعياً، في المقابل، أن يحفل برنامجه بالكثير من نقاط الانتقاد لسياسات الحزب الحاكم في هذا الملفّ الحساس، وإنْ لم يكن هذا دور أيّ مرشح معارض، فما الذي كان سيبرر نجاحه في هزيمة بن علي يلدريم، رجل أردوغان وآخر رؤساء الحكومة في تركيا!
مثال آخر حديث العهد بدوره، جاء من السلطة الحاكمة هذه المرّة، وعلى لسان أردوغان نفسه، ثمّ وزير الداخلية، وانطوى على مقررات جديدة تستهدف تنظيم حياة اللاجئين السوريين في تركيا؛ لجهة الإقامة، والطبابة، والتعليم، وتراخيص العمل، وسواها. ولا ريب في أنّ هذا التوجّه يتوخى تعديل بعض السياسات التي استفادت المعارضة من نقدها في انتخابات اسطنبول، وكان من الحمق ألا يبصرها أردوغان وحزبه، بمفعول رجعي أيضاً، وألا تُتخذ كلّ الخطوات اللازمة لتفادي استمرار آثارها السلبية في أيّ استحقاق انتخابي مقبل.
تبقى سلسلة معطيات يتوجب أخذها بعين الاعتبار عند مناقشة مسألة النزوح السوري في تركيا، على رأسها تفاصيل الأرقام والإحصائيات التي تقول إنّ في تركيا اليوم قرابة 2,1 مليون نازح سوري في سنّ العمل (15ــ65 سنة، وفقاً لتصنيف معهد بروكنغز)؛ وأنه، في غياب إحصائيات رسمية، ثمة 500 ألف إلى مليون  سوري من العاملين في قطاعات النسيج والألبسة والتعليم والبناء والخدمات العامة والزراعة. غير أنّ وزارة الداخلية التركية لا تسجّل إلا 65 ألف إذن بالعمل، الأمر الذي يشير إلى الهوة الفاغرة بين سوق عمل مرخصة وأخرى سوداء، وما تنطوي عليه السوق الثانية من تدنٍّ في شروط الشغل والأجور.
وهذه معطيات يتوجب أن توضع على خلفية المتاعب التي يعاني منها الاقتصاد التركي، الذي لم يسجّل في سنة 2018 معدّل نموّ في الناتج القومي يتجاوز 2,6%، مقابل 700 ألف مواطن يدخلون سوق العمل سنوياً، ونسبة بطالة بلغت 13,7 في الربع الأوّل من العام 2019. ليس غريباً، والحال هذه، أن تقفز قضية النزوح السوري إلى الصدارة في برامج الأحزاب السياسية، وأن تصبح عنصراً إشكالياً في النقاش السياسي داخل الفضاء الشعبي العريض إلى درجة أنّ أحدث استطلاع للرأي قامت به جامعة قادر حاس في اسطنبول أشار إلى نسبة 67,7% من المطالبين بترحيل اللاجئين السوريين.
وعلى نحو أو آخر، ليس تطوراً استثنائياً أن يتحوّل اللجوء السوري إلى مسألة تركية داخلية لا يصحّ، بالتالي، النظر إليها من زاوية أحادية؛ تهلل لهذا الطرف تارة، أو تلعن ذاك طوراً.
 20/7/2019

سهيل الحسن: نمر من ورق أم قطعة غيار؟

لعلّ العميد سهيل الحسن (1970 ــ )، قائد ما يُسمّى بـ"قوّات النمر"، التي استمدت اسمها من لقب الحسن نفسه، بات اليوم الرجل الثالث في سلّم الحلقة الأضيق، العسكرية ـ الأمنية، التي تدير هيكلية النظام السوري؛ بعد بشار الأسد وشقيقه ماهر الأسد، وقبل جميل حسن، مدير مخابرات القوى الجوية. وإلى جانب الفيلق الخامس، الذي أشرف الاحتلال الروسي على تشكيله مؤخراً ليكون قطباً موازياً للفرقة الرابعة والحرس الجمهوري في قلب ما تبقى من جيش النظام، وأسند قيادته إلى الحسن؛ تتولى موسكو تهيئة جيش ثانٍ مواز، تحت سلطة الحسن، هو "قوّة المهامّ الصعبة"، التي سوف يقارب عديدها 10 آلاف مقاتل، غالبيتهم الساحقة من أبناء الطائفة العلوية ومن العشائر المعروفة بولاء أقلّ للبيت الأسدي ورجالاته في قرى وبلدات ومدن الساحل السوري وسهل الغاب.
وهذه الوحدات التابعة للحسن تتلقى من الاحتلال الروسي دعماً لوجستياً خاصاً، تتقصد موسكو أن يكون مميزاً تماماً بالقياس إلى ما تتلقاه الوحدات في الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري؛ سواء لجهة المعدات العسكرية، أو الغذاء واللباس والمثوبات، فضلاً عن أفضلية ملحوظة في تأمين التنقل ومنح الإجازات، وهذه يُراد منها أيضاً بلوغ احتكاك أوسع مع المدنيين، وممارسة مقادير أعلى من الترويج والدعاية. وليس خافياً أنّ هذا التمييز لا يشكّل أنموذجاً مغرياً في حملات التجنيد والتطويع واجتذاب العناصر الشابة، خاصة في ضوء المعدلات العالية للعاطلين عن العمل في هذه المناطق، فحسب؛ بل يصنع، في الآن ذاته، نموذجاً مناقضاً للحال اللوجستية المتدنية التي تعيشها القطعات النظامية، بما فيها وحدات الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري التي اعتادت على معاملة أكثر ترفيهاً في الماضي.
والتقارير المتقاطعة، وبينها تلك التي تتمتع بمصداقية جلية، أشارت وتشير إلى صدامات مباشرة، دامية وشرسة، بين قوات ماهر الأسد وقوات النمر، قبيل ثمّ خلال جولات القتال الأخيرة في جنوب إدلب وغربها، وفي شمال محافظة حماة وسهل الغاب. وكان القتال يندلع أحياناً لأسباب ميدانية طفيفة، لكنه كان يتطور سريعاً إذْ يتغذى من الحساسيات المتعاظمة بين الأسد والحسن، على خلفية مساندة موسكو للثاني، وعزوفها عن التعاطي مع الأول؛ وكذلك على خلفية الإجراءات التي يضطر بشار الأسد إلى اتخاذها بناء على توصيات القيادة العسكرية الروسية في قاعدة حميميم، قرب مدينة جبلة، على الساحل السوري (مثل ترفيع الحسن إلى رتبة عميد، بعد تمنّع طويل؛ أو وضع العميد غسان بلال، مدير مكتب ماهر الأسد، تحت الإقامة الجبرية بناء على تقارير روسية تضمنت لائحة مخالفات فادحة).
الخلفية الأخرى التي لا تقلّ أهمية، هي أنّ الحساسية بين ماهر الأسد والحسن تصبّ، أيضاً، في ولاء الثاني لموسكو وتبعيته لأوامر قاعدة حميميم؛ مقابل قناعة الأوّل بأنّ هذا الولاء إنما يضرّ بالوجود العسكري للميليشيات الإيرانية وقواعد "الحرس الثوري" و"حزب الله"، وبالتالي يُضعف قدرات جيش النظام عموماً، ووحدات الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري خصوصاً. ومن نافل القول إنّ هذا التباين في الولاء لا يعني بالضرورة أنّ ماهر الأسد متورط في اصطفاف مباشر مع إيران لأسباب سياسية أو عقائدية أو مذهبية، بل هو بالأحرى يُضمر التخوّف من أغراض موسكو في تصعيد الحسن وترقيته ومساندته على هذا النحو. كما يعكس عدم تعوّد البيت الأسدي على القبول بصعود شخصية عسكرية، يحدث أنها من باطن الطائفة العلوية وذات شعبية ميدانية عالية، تُفرض فرضاً على بيت النظام من خارج لوائح أتباعه وأزلامه، حتى إذا كان الحسن لا يكفّ عن تمجيد "القائد المجاهد بشار الأسد".
وليس أمراً مألوفاً على أمثال ماهر الأسد، وكذلك شقيقه رأس النظام في الواقع، أن يرسل وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو سيفاً قيصرياً مرصعاً هدية إلى "النمر"، وأن يقلده ثاني أرفع وسام في روسيا الاتحادية؛ من دون علم أجهزة النظام، وبتغطية مكثفة واحتفالية انفردت بها وسائل الإعلام الروسية. كذلك لم يكن حدثاً مألوفاً أن يمتدح بوتين ضابطاً من ضباط النظام، خلال اجتماع في قاعدة حميميم أواخر العام 2017، وبحضور الأسد نفسه، الذي اضطر إلى مداراة حرجه عن طريق المشاركة في امتداح الحسن، والتذكير بأنه لم يأخذ إجازة منذ زمن طويل. وأخيراً، منذ متى كان أيّ ضابط من ضباط النظام، وليس رأس النظام حصرياً، يبادر باسمه إلى تهنئة رئيس دولة عظمى مثل روسيا، بمناسبة إعادة انتخابه؛ وأن يردّ الأخير، شاكراً و... واعداً المهنّئ بأخبار سارّة؟ 
وقد تتعدد دوافع موسكو في احتضان الحسن وتصعيد المجموعات العسكرية المنضوية تحت أمرته، وربما تكون حكاية تهيئته كبديل عن بشار الأسد هي الأضعف قوّة ودلالة في حسابات الكرملين؛ إذا جاز التفكير بأنّ تلك الحسابات سوف تتخذ مسارات أكثر تعقيداً، وبالتالي أشدّ احتواء على الخيارات، في مراحل الذروة من اعتماد الحلول التوافقية الإقليمية والدولية للمستنقع السوري الراهن. فمن جانب أوّل، للمرء أن يرجّح مقدار حاجة موسكو إلى تطويع خياراتها بما يلائم المعادلات التي سوف تستحدثها تلك المراحل، وخاصة لجهة إرضاء الأطراف الإقليمية والدولية الداخلة في اللعبة؛ ومن جانب ثانٍ، وفي حال تحقّق الحدّ الأدنى من التراضي ضمن تلك المعادلات، فإنّ إيجاد البديل عن الأسد لن يشكّل معضلة مستعصية على موسكو، ولعلّ الحسن عندئذ لن يكون أفضل المتوفر في جعبة بوتين، بل قد يكون الأردأ!
الغالب أكثر، وقد يكون الأقرب إلى المنطق السليم، هو أنّ الأطوار اللاحقة من استئثار موسكو بمعظم ملفات المستنقع السوري سوف تتطلب، أيضاً، الإمساك بعناصر تحكّم حاسمة تخصّ مؤسسات الجيش وأجهزة الأمن والطائفة، بقدر ما تتيح هذه آليات فعلية وفعالة لضبط الدولة في مستوياتها الكلاسيكية والبيروقراطية. وبذلك فإنّ الكثير من المغزى يكتنف جهود موسكو في تلميع شخصية الحسن، عسكرياً أولاً وبالعلاقة مع سلسلة "انتصارات" تحققت من دير الزور إلى ريف حلب، وصولاً إلى الغوطة وإدلب اليوم؛ ثمّ بشرياً، إذا جاز التعبير، عن طريق الإكثار من اللقطات المصوّرة وأشرطة الفيديو التي تُظهره في صور من البساطة أو التواضع أو السذاجة او حتى الاستهبال (كما في شريط اجتماعه مع والد أحد عناصره القتلى، وخطبته عن النمر والفهد والغضنفر والطرماح، ومباركته بعض ضباطه بمسح الرأس باليد على طريقة المشايخ...). وهذا، غني عن القول، سلاح يمكن أيضاً أن تستخدمه أجهزة النظام لأغراض نقيضة، جوهرها الحطّ من شخصية "النمر".
وقد يكون الحسن نمراً من ورق، تشهد عليه في هذا عشرات المواقف التي لا تشيّد صفة بطولية بقدر ما تقوّض أيّ معنى للجدّية والدهاء والحسّ السياسي والعسكري الجدير بقائد، أو حتى بمجرم حرب؛ أو قد يكون قطعة غيار قابلة للتدوير، تستخدمها موسكو في مرحلة انتقالية لاختبار حقيقة التراصّ العسكري والطائفي حول آل الأسد في صفوف ما تبقى من وحدات عسكرية نظامية، ثمّ تغذية المزيد من موجبات الشقاق والتصارع مع الولاءات الأخرى المختلفة في قلب أجهزة النظام، وخاصة تجاه المحور الإيراني. وبين هذا وذاك، ليس مستبعداً أن يقفز النمر، أو يتقافز، إلى صيغ أخرى ثالثة أو رابعة أو خامسة، عمادها في كلّ حال حاجة موسكو إلى لاعب موازٍ، قابل للتدوير أوّلاً وآخراً.
 4/7/2019

من الصوت والصفحة إلى الشاشة والرقم: عولمة القصيدة في الشكل والمضمون

I


في سنة 1969 نشر الشاعر العراقي سركون بولص قصيدته الطويلة "عاصمة آدم"، موزّعة على عدد من القصائد الفرعية، كانت الأولى تحت عنوان "درويش يحدّق في المحيط ويرى إمرأة"؛ جاء في فقرتها الأولى:

في الصواري إمرأهْ

ويداها قريتانْ

وأنا البحر الذي يعرفها

وهي دوني مطفأه.

كانت القصيدة تفعيلية، تعتمد الوزن والقافية، وليست قصيدة نثر، الصيغة التي سوف يعتمدها بولص على امتداد معظم العقود المقبلة في حياته الشعرية، وسيصبح بين أبرز أصواتها ضمن جيل شعري عربي متعدد التجارب متباعد الجغرافيات، وإنْ اتصف بدرجة عالية من التوافق حول الشكل في أطره العريضة(1). بعد ستّ سنوات، في "دليل إلى مدينة محاصرة"(2)، سوف يجرّب بولص الألعاب الطباعية من حيث تحوير هندسة السطر أو استخدام الحرف الأسود، كما في النموذجين 1 و2؛ وبعد فترة وجيزة سوف يلجأ إلى الكتابة البصرية (أو "الكونكريتية" أو التجسيدية أو المجسّمة... أياً كانت المسميات)، كما في النموذج 3، الذي يشكل فقرة من قصيدته "قضيت أياماً طويلة"، التي ستظهر بعدئذ في مجموعته "الوصول إلى مدينة أين"، 1985.

تلك كانت اجتهادات تجريبية، بادئ ذي بدء، خاصة وأنها أتت من شاعر جيد الاطلاع على النتاج الشعري العالمي، والغربي بصفة خاصة، ولم يكن غريباً عن مناخات التجريب لدى شعراء من أمثال غيوم أبولينير (في قصائد مجسمة على غرار "برج إيفل" و"النسر")؛ ثمّ، في مراحل لاحقة، نماذج السورياليين والدادائيين والمستقبليين، في أوروبا الغربية وروسيا والولايات المتحدة. غير أنها، من وجهة أخرى تخصّ علم اجتماع الأدب وليس علم اجتماع الأشكال والأنواع، كانت تعكس بعض طرائق استقبال العولمة الزاحفة، بل لعلها تماهت بهذه الدرجة او تلك مع واحد من أدقّ تعريفات العولمة، ذاك الذي اقترحه أنتوني غيدنز في كتابه "عواقب الحداثة"(3)، حول انضغاط العوالم وانكسار النرجسيات في آن معاً، من جهة أولى؛ كما أنها، من جهة ثانية، استبصرت صيغة القصيدة الإلكترونية، التي سوف تنتشر على نطاق واسع بوصفها وليدة الأيقونة الكبرى لعصور الحديث والتحديث والحداثة والعولمة، أي الشاشة الرقمية.

ونعرف أنّ أوّل قصيدة كومبيوترية كُتبت سنة 1959، في ألمانيا، على يد ثيو لوتز وماكس بينس؛ وأنّ ورشات تجريب مختلفة انطلقت في أوروبا والولايات المتحدة واليابان لتلمّس أفاق هذه الوجهة في الكتابة الشعرية، لعلّ أبرزها محاولات الشاعر والأكاديمي الفرنسي جان بيير بالب Balpe، والقفزات الهائلة في تطوير النصوص التلقائية والـHypertext في الولايات المتحدة؛ وما أسفر عنه ذلك كلّه من استيلاد القارئ/ المتصفح، الذي يكمل نظرية موت المؤلف بإدخال الشاعر/ المتصفح. وفي الأصل كان الشعر يصل صوتياً عبر الأذن، ثمّ انتقل إلى إيصال عبر الصفحة نحو العين، وهو اليوم يتدفق عبر الشاشة الرقمية مختلطاً بشتى وسائل الميديا المعاصرة المعقدة، التي لم تعد تتيح لسيرورات القراءة البقاء في حدود الإدراك اللغوي والدلالي الكلاسيكي، بل صارت ميداناً حاشداً لاختلاط البصر والسمع، الصورة والصوت، اللون والتشكيل؛ أي، باختصار، اللغة في ما بعدها، وفي ما وراء معطياتها المألوفة واشتغالاتها المأثورة. إذْ كيف يمكن اليوم قراءة "أنشودة المطر" على شاشة الكومبيوتر، تماماً كما قرأتها على الورق أجيال متعاقبة؛ بل كيف كان بدر شاكر السياب سيجترح إيقاعات سقوط قطرة المطر، لو أنه كتب على لابتوب شخصي يوفّر له الاستماع إلى أصوات هطول المطر، أو حتى اصطفاق شناشيل ابنة الجلبي:

يا مطراً يا حلبي

عبّر بنات الجلبي

يا مطراً يا شاشا

عبّر بنات الباشا

يا مطراً من ذهب!

الفضاء على الشاشة الرقمية ليس مسطحاً كما يخال المرء للوهلة الأولى، بل هو حلقة متضاعفة من الأعماق والأبعاد والمسافات والخلفيات، لا تقتصر البتة على ما ينقله النصّ من معنى ومبنى، بل تُسلم قياد النصّ ذاته إلى قارئ/ متصفح قادر، بحركات بسيطة، على إعادة تركيب ما يبصر، وبالتالي إعادة إنتاج ما يُنتج أمامه. وهذه ليست عملية آلية إلا في تعريفها البسيط، أو التبسيطي، إذْ أنها تستدخل جملة هائلة من احتشاد الاستجابات الشعورية لم تكن القراءة الكلاسيكية قادرة على استدخالها عبر علاقة ثنائية شبه حصرية بين القارئ والصفحة. والنماذج الأكثر تعقيداً للقصيدة الإلكترونية يمكن أن تطلق بصر القارئ، ومدركاته المختلفة، في شبكات هائلة لا عدّ لها من أنساق الاستبدال اللغوية، النحوية والصرفية والسياقية؛ إلى جانب الأنساق البصرية المتقاطعة والمتغايرة التي كان أوائل شعراء قصيدة الكونكريت والمجسّم والعينيّ يحلمون بتحقيقها ذات يوم، وعزّ عليهم ذلك لأنّ مشقة الخطّ على الورق لا تشبه في شيء يُسْر التدوين على الشاشة الرقمية.

غنيّ عن القول، بالطبع، إنّ المحاولات العربية في هذا المضمار ظلت محدودة من حيث جسارة استفزاز القارئ، حتى ذاك المقبل على الحداثة، والمتسامح مع التجريب، والمستعدّ لاستقبال هذا أو ذاك من أنماط انتهاك الأعراف التقليدية. ولهذا فإنّ ألعاب الطباعة المختلفة، وتوظيف البياضات في الصفحة، واستخدام الحرف الأسود أو المائل، والكتابة بخطّ اليد وليس بالحرف الطباعي، أو حتى اللجوء إلى خطاط محترف يخطّ نصّ القصيدة... هي، إجمالاً، أقصى ما بلغته الشعرية العربية المعاصرة في ميدان استغلال أيقونة العولمة الكبرى، أي الشاشة الرقمية وما تفرزه في سيرورات القراءة من مستويات إدراك وتفاعل وتنشيط حواسّي لا سوابق لها. الأمر الذي لا يلغي، بالطبع، وشائج من نوع مختلف ربطت الشاعر العربي المعاصر بمختلف تجليات العولمة، سياسياً واجتماعياً وثقافياً؛ إذْ ليس من الإنصاف فصل المسار، المشار إليه أعلاه عند بولص، عن انتمائه إلى زمانه الذي يتعولم أمامه، ومعه، وفي دخيلة نفسه، وعلى امتداد قاموسه اللغوي وعدّته التعبيرية وموضوعاته ومعانيه وأسلوبياته.



II

بهذا المعنى، وفي الاستئناس مجدداً بتشخيص غيدنز لعواقب العولمة، يمكن لصلة الشاعر العربي المعاصر بأزمنته المعولَمة أن تتخذ تعبيرات مضامينية، سياسية وإيديولوجية وثقافية، وليست شكلية وطباعية فقط؛ لعلّ في طليعتها استكشاف العلاقة مع الآخر، في معانيها المادية والمجازية، وعلى مستوى آخر بشري أو آخر شعري. ذلك لأنّ مفهوم الآخر هنا ليس منحصراً في صورة "الغريب" أو "الأجنبي" أو "المختلف"، وهو أيضاً ليس مقتصراً على تناظرات واستقطابات وثنائيات من نوع "امرأة/ رجل"، "شرق/ غرب"، "نحن/ هم"، "متمدّن/ همجي"، "المركز/ المحيط، "سيّد/ عبد"، "مدنية/ بربرية"... الآخر، في التعريف الذي تعتمده هذه السطور على الأقلّ، هو كلّ ما ينفصل عن الذات لكي يقع أمامها وفي مواجهتها، يكون شبيهاً بها أو على نقيض منها، وتنبثق دينامية وجوده من الحاجة إلى تعريف فارق الذات عن سواها. هي، باختصار شديد، علاقة "الذات/ الآخر" بكلّ ما تنطوي عليه من جوانب إبداعية وثقافية ومعرفية وسياسية وتاريخية وجغرافية وأنثروبولوجية، فضلاً عن جوانبها الأخرى الوجودية والجنسية والفلسفية.

والحال أنّ الآخر، والعلاقة مع الآخر وتمثيلاته وصُوَره، موضوعة أثيرة لدى محمود درويش، ولا تكاد تخلو منها أيّ من أعمال الشاعر خصوصاً في حقبة ما بعد بيروت، 1982. ولكن لعلّ قصيدته "خطبة الهندي الأحمر ــ ما قبل الأخيرة ــ أمام الرجل الأبيض"، التي نُشرت في مجموعته "أحد عشر كوكباً"، 1992، في عداد أوضح الأمثلة على هذه الموضوعة؛ خصوصاً وأنها تدخل في علاقة حوارية مع آخر/ شعب بأسره، ومع آخر/ ثقافة تعرّضت للإبادة الجماعية، وثمة في تاريخها الكثير من العناصر التي تذكّر بفلسطين والشعب الفلسطيني.

وفي حوار حول هذه القصيدة، قال درويش:

"منذ بداياتي الشعرية وأنا أتعامل مع موضوعة الأرض وعناصرها، من عشب وشجر وحطب وحجارة، ككائنات حيّة. إنني إذاً مكوّنٌ بطريقة تتيح لي التقاط رسالة الهندي الأحمر. وحين قرأت ثقافتهم أدركت أنهم عبّروا عنّي بأفضل مما عبّرت عن نفسي. ولسوف يشرفني أن يرتقي دفاعي عن الحقّ الفلسطيني إلى مستوى دفاع الهندي الأحمر، فهو دفاع عن توازن الكون والطبيعة الذي يشكل سلوك الأبيض خرقاً له".

ولم يخفِ محمود درويش مضمون الرسالة في قصيدته حين تابع:"

"لقد تقمصت شخصية الهندي الأحمر لأدافع عن براءة الأشياء وطفولة الإنسانية، وأحذّر من تعاظم الأداة العسكرية التي لا ترى لأفقها حدوداً، بل تقتلع كل المعاني الموروثة وتلتهم بجشع ونهم الكرة الأرضية بسطحها وقاعها. التهام معرفة الآخر هو عتبة أولى لإفنائه وإقصائه، وهو مشروع إبادة يؤشّر على الطريقة التي ينشأ بها النظام الدولي الجديد: غزو، وهيمنة، وإلغاء، ومحاولة فهم الآخر بوسيلة إبادته. قصيدتي حاولت تقمّص شخصية الهندي الأحمر في ساعة رؤيته لآخر شمس"(4).

ونعرف (من القصيدة ذاتها، ومن حديث درويش عنها) أن الشاعر انكبّ على قراءة معمقة لتاريخ الهنود الحمر وعلاقتهم بالأرض والوجود والآلهة والآخر. وأدرك، على نحو لا يقلّ عمقاً، دلالات العام 1492، بحدثَيْه المحوريين: رحلة كولومبس وسقوط غرناطة؛ وكيف اقتضى تأسيسُ مفهوم الغرب النهائي إبادةَ سبعين مليون هندي، و"إدارة حرب ثقافية طاحنة ضدّ فلسفة تقترن بالأرض والطبيعة، وبالشجر والحصى والتراب والماء"، كما يقول درويش في الحوار ذاته. المادة المعرفية، والموقف الأخلاقي من "الاكتشاف"/ الغزو، والوعي التاريخي بجوهر الصراع في أي مشروع استيطاني، وارتفاع سؤال الأرض عند الفلسطيني من المستوى السياسي إلى مستوى القداسة، وتماهي الفلسطيني مع التراجيديا، ونهوض منجز درويش الشعري على المشروع التراجيدي... كلّ هذه عناصر حاسمة تجمعت وتكاتفت كي تخرج قصيدة "خطبة الهندي الأحمر..." على الهيئة الوحيدة اللائقة بشروط كتابتها: أنها واحدة من النصوص الأدبية النادرة في تلمّس الابعاد الكونية لعولمة معاصرة تتكيء على تواريخ عابرة للأزمنة والجغرافيات.

السطور الأولى من القصيدة تفصح عن جملة الاستراتيجيات التي اعتمدها درويش لتحقيق غرضَيْن حاسمين: تقويض تنميط الغزاة للهندي الأحمر في سياقاته الروحية والفلسفية والطبيعية، ثم الانطلاق من ذلك أساساً إلى إطلاق فضاء المواجهة بين أهل الأرض (أينما كانوا، ولكن في المسيسيبي وفلسطين على وجه التخصيص)، والآخر القادم الذي اجتاح واستوطن؛ لهذا غرق أكثر فأكثر في عماء جهل الأرض وتواريخها وعناصرها ودفاعاتها السرية عن روحها وروح قاطنيها. التراجيدي هنا يلتحم في أعرض فضاء متاح من المقدّس، بحيث تتحوّل الذاكرة المنتهَكة (بعناصرها وشعائرها وطقوسها وحركتها في التاريخ) إلى إرث منتهَك بدوره، تفقده ضحية فيزيائية ومجازية محدَّدة، مُجتاحَة ومنفية ومهزومة ربما، ولكنها متجذرة في الأرض، وقائمة، ومقاوِمة.

وبين طرائق تنويع البُعد العَوْلَمي للحوار مع الآخر أنّ درويش يلجأ إلى البَثّ الحواري للضمائر على نطاق واسع في معظم مقاطع القصيدة، وضمن خطّين متوازيين هما "نحن" و"أنتم"؛ أو ضمن شبكات ثلاثية ورباعية ينضم فيها ضمير المفرد (المتكلم والمخاطَب والغائب) ليضيف عناصر "الغريب" و"الآخر" إلى صيغة التوازي الثنائية السابقة. وثمة هنا توزيع بارع خفي، يتسلل بيسرٍ ومرونة خلال عملية القراءة، لكنّ تحليل خصائصه الإنشائية يكشف عن هندسة تشكيلية تصاعدية يتنامى فيها ما يشبه المنظور التكعيبي للضمائر الثلاثية، والمنظور التزامني لإبدالات المعنى وقَطْع تلك الإبدالات في التوقيت المناسب، كما في المثال التالي:

"نبشّركم بالحضارة" قال الغريب، وقال: أنا

سيّد الوقت، جئت لكي أرث الأرض منكم،

(...)

يقول الغريب كلاماً غريباً، ويحفر في الأرض بئراً

ليدفن فيها السماء، يقول الغريب كلاماً غريباً

ويصطاد أطفالنا والفراش. بماذا وعدتَ حديقتنا يا غريب؟

(...)

فلا تحفر الأرض أكثر! لا تجرح السلحفاة التي

تنام على ظهرها الأرض، جدّتنا الأرض، أشجارنا شعرها وزينتنا

زهرها. "هذه الأرض لا موت فيها" فلا

تغيّر هشاشة تكوينها! لا تكسّر مرايا بساتينها

ولا تجفل الأرض، لا توجع الأرض. أنهارنا خصرها

وأحفادها نحن، أنتم ونحن، فلا تقتلوها ..

سنذهب، عما قليل، خذوا دمنا واتركوها

كما هي،

أجمل ما كتب الله فوق المياه،

له ... ولنا.(5)

حيث يتشكّل إبدال معاني لقاء الهندي الأحمر بالآخر وفق منظورات متضاعفة: الغريب/ المتكلم، والغريب/ الغائب، والغريب/ المخاطَب، الغريب المخاطب المفرد/ الهندي المتكلم بصيغة الجمع، والآخر/ المخاطب بصيغة الجمع أيضاً، والأرض/ الغائب، ، والله/ نحن... وإذا كان السطر الأخير يغلق إيقاع التصاعد عند ذروة ختامية هي برهة التقاء المعبود بالعابد، فلأنّ الأرض التي اغتُصبت وتعولمت قسراً هي موضوع اللقاء؛ ولأنّ القارىء لم يتوقف عن إحالتها سيكولوجياً إلى منظورات ظهورها (الغريب الذي جاء ليرثها، ليحفر فيها بئراً، ليجرح السلحفاة التي تحملها، ليوجعها...)؛ ثم متابعة تزامن حالات الظهور تلك مع منظورات أخرى (بئر لدفن السماء، كلام غريب لاصطياد الأطفال والفراش، تغيير هشاشة التكوين، الدم مقابل الأرض، الماء صفحة الله لكتابة الأرض)، وإلى العنصر البؤري (التكعيبي) الذي لا يكتفي القارىء بالإرتداد إليه في كل مرة، بل ويشارك في صناعة مضاعِفاته أيضاً.



III

يعدّ الأنثروبولجي الهندي الأصل أرجون أبادوراي بين أبرز الباحثين الذين اعتمدوا على مناهج دراسات ما بعد الاستعمار في تأمّل أقدار المخيّلة، والأدب والثقافة عمومًا، في ظلّ العولمة؛ وكتابه الممتاز "الحداثة على وسعها: الأبعاد الثقافية للعولمة" مرجع رائد بالغ العمق حول هذه المسائل الشائكة. وهو يرى أنّ العولمة "نظام معقد متشابك فاصل، لم يعد من الممكن النظر إليه في ضوء ما هو قائم من أنماط المركز/ الأطراف"؛ وأنّ "العالم الذي نعيش فيه اليوم يتّسم بدور جديد تلعبه المخيّلة في الحياة الاجتماعية". وكي نستوعب هذا الدور، ينبغي أن نضمّ، معًا، ثلاثة مفاهيم تخصّ التخييل: الفكرة القديمة عن الصورة  Image، خصوصًا تلك المنتَجة ميكانيكيًا (حسب والتر بنيامين ومدرسة فرانكفورت)؛ وفكرة "الجماعة المتخيَّلة   Imagined Communityعند بيري أندرسون (وهي، في عبارة أخرى، الأمّة في إنشائها الخطابي على يد الأفراد)؛ وأخيرًا، الفكرة الفرنسية عن"المخيال  L'imaginaireكمشهد مُنشَأ جَمْعيًا حول الطموحات والآمال.

وثمة إجماع على أنّ النصوص الأدبية، وسواها من الأعمال الفنية، هي اليوم العلامات الأشدّ قوّة في تبيان عولمة التخييل. وللباحثين عن الهجنة والتجانس وامحاء الحدود وانبناء وعي مترابط في نظام عالمي جديد، أيّة مرجعية أفضل، وأجمل، من تلك التي توفّرها قصيدة شارل بودلير "القطرس"، أو قصيدة ت. س. إليوت "الأرض اليباب"، أو قصيدة محمد الماغوط "أغنية لباب توما"، على سبيل الأمثلة؟ ألا تصبح مثل هذه الأعمال نصوصًا عالمية لأنها تحتوي على إطار مرجعي لم يعد يخصّ جماعة محلية أدبية أو ثقافية، بل كياناً أوسع، وقارّة أعرض، ونظام العالم بوصفه مجموعًا كليًا؟ هنا يقترح أبادوراي خمسة أبعاد للتدفّق الثقافي العولمي، كما تكاد تحتكره الصورة، أيقونة العولمة، مشاهَدة رقمياً: "إثنو ــ مَشاهد"، "ميديا ــ مَشاهد"، "تكنو ــ مَشاهد"، "تمويل ــ مَشاهد"، و"فكرة ــ مَشاهد"؛ حيث تكون المفردة المتكررة "مشاهد" بمثابة قرينة دالة على الحال المشهدية الزاخرة، غير العابرة، والتي تميّز عولمة رأس المال بقدر ما تميّز عولمة قصيدة الشعر.(6)

وهذا ما تقتضيه، ويتوجب أن تفرضه علينا، القراءة المتعمقة، التي هي بنت العولمة والعصر، للخرائط غير الظاهرة و"الكودات" المستبطنة وشبكات الشكل والمحتوى في عشرات النماذج الشعرية العربية المعاصرة؛ والتي قُدّمت نماذج بولص ودرويش كتمثيلات عليها، هنا، وليس البتة كمقاييس مسبقة لها، أو عنها.
إشارات:
ــــــــــــــــ
(1) سركون بولص: "عاصمة آدم". مواقف، العدد 2، فبراير 1969.
(2) سركون بولص: "دليل إلى مدينة محاصرة". مواقف،  العدد 1، يناير 1975.
(3) يُنظر:
Anthony Giddens: The Consequences of Modernity. Polity Press, London 1991.
(4) محمود درويش: "لا بيت للشعر خارج النظام". الكرمل، العدد 74، 1993.
(5) محمود درويش: "أحد عشر كوكباً". دار الجديد (بيروت) وتوبقال (الدار البيضاء)، 1992.
(6) يُنظر:
Arjun Appadurai : Modernity at Large: Cultural Dimensions of Globalization. Minneapolis, 1996.

16/6/2019