وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 30 سبتمبر 2019

أمجد ناصر: رسالة اللاغفران


في سورة "الحجر"، 42ـ44، تخاطب الآيات إبليس هكذا: "إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتّبعك من الغاوين. وإنّ جهنم لموعدهم. لها سبعة أبواب لكلّ باب منهم جزء مقسوم". وفي "كتاب العظمة" الذي يُنسب إلى مؤلفين كثر ويُعتقد أنه خُطّ في سنة 300 هجرية، تنقسم جهنم إلى "سبع طباق بعضها فوق بعض"، هي السفلى الهاوية، وفوقها الجحيم، والسعير، وسَقَر، ولظى، والحُطمة، فالسابعة جهنم. وفي "رسالة الغفران" لا يكترث أبو العلاء المعرّي بتسمية طبقات جهنم بقدر انشغاله بمحاورة نزلائها من الشعراء، أمثال بشار بن برد وامرئء القيس وعنترة العبسي وعمرو بن كلثوم والحارث اليشكري وأوس بن حجر والأخطل التغلبي. وفي "الجحيم"، القسم الأول من ثلاثيته "الكوميديا الإلهية"، يوزّع دانتي أليغييري المعذبين على تسع طبقات، تبدأ الأولى بالملائكة عصاة الربّ، وتنتهي التاسعة عند إبليس ويهوذا الأسخريوطي وخائني أوطانهم.
وفي عمله الأحدث هذا، "مملكة آدم"، شاء أمجد ناصر مساجلة ذلك التراث، وسواه في الواقع (ابتداء من هبوط أمثال أورفيوس وعوليس وإينياس إلى العالم السفلي، وليس انتهاء بمراثي ريلكه و"عواء" ألن غنسبرغ)؛ ولكن من مهاد بانورامية أولى كبرى، هي أرض البشر. فهذه، المعاصرة على وجه التحديد، شهدت وتشهد أفانين جحيم لا تتفوّق على خوارق العذاب في مختلف تنويعات الجحيم التي صوّرتها المخيّلة الإنسانية، أو توعدت بها الأساطير والنصوص المقدسة، فحسب؛ بل لعلها، أيضاً، تتحدى أقصى ما يملك التخييل من طاقات استحضار الشرّ، وتمثيل القسوة، واستكناه الألم، وتجسيد الموت. وهذا ما يفعله أمجد ناصر هنا، على امتداد سبع طبقات جحيمية، يدير في كلّ منها بنية اشتباك إنساني وأخلاقي، فردي وجَمْعي، مادّي ملموس ومجازي تخييلي، في آن معاً؛ ولكن، دائماً، ضمن إطار اشتغالات خلاّقة لاستقصاء معادلات الشعر والشعرية خلف هذه البنى المشتبكة والمتشابكة.
لكنّ جحيم أمجد ناصر ليس منشأة ميتافيزيقية أو ماورائية، رغم تكرار مفردة "الله" والإلحاح على إبلاغه بما يجري في مملكة مخلوقه آدم، ورغم الإشارات إلى عزرائيل وإبليس وصعود الشاعر المتكلم في القصيدة "إلى عليين"، غير ميّت، حياً، وجاهلاً إنْ كان حداداً أم نجاراً أم ميكانيكياً أم شاعراً، وظاناً أنه رسول غير إلهي! ولهذا فإنّ ما تستكشفه قصيدة أمجد ناصر من مراتب الشقاء وطبقاته لا يندرج في أيّ مفهوم غيبي عن العقاب في الحياة الآخرة، بل هو مثال من أرض البشر في عصرنا، تُنشئه أجهزة الاستبداد والفساد والجشع والهيمنة؛ بل ليس ثمة مبالغة في القول إنّ المأساة السورية هي ميدانه ومشهديته. الإشارات في هذا الصدد كثيرة وجلية المغزى: "البراميل التي تسّاقطُ على الرؤوس كالمطر الذي أرسله الله الى أممٍ أخرى"، و"بلاد البراميل والسارينَ في مملكة آدم"، و"خَزَنة البراميل المعبأة بـ التي إن تيْ والمسامير وأنصال السكاكين"، و"الأب باولو دالوليو".
والشاعر في هبوطه، أو صعوده، يعدّد طبقة أولى من الجحيم "حيث الذين يرون ولا يفعلون شيئاً"، وثانية "حيث الممسكون عن قول كلمة تصنع فرقاً"، والثالثة "حيث الكذابون"، والرابعة "حيث المنافقون"، والخامسة "حيث خونة الأمانة"، والسادسة "حيث إخوة يوسف يدبغون قمصاناً بيضاً بدمٍ كَذِبٍ"، والسابعة "حيث أولئك الذين يشبهون الحيوانات الوديعة/ لكنهم ينشبون أنيابهم ومخالبهم في أجساد الضعفاء". وعلى غرار المعرّي، يتخيّل أمجد ناصر اللقاء بثلاثة نماذج ذميمة من الشعراء، ونموذج رابع يحظى بتعاطفه (ويصعب أن يضلّ القارئ العربي طريقه إلى معرفة هويات هؤلاء الحقيقية!). لكنه، في تجواله على صنوف العقاب المختلفة، يستخلص: "لم يكن عذاب هؤلاء شيئاً أمام عذاب الرجل/ الزرافة، فقد كان الزبانية يجزّون رأسه ويتقاذفونه من وادي الأفاعي الى وادي العقارب، ثم ينبت له رأس جديد فيعيدون جزَّه وتقاذفه بلا توقف"؛ وهنا، أيضاً، لن يخطيء القارئ معرفة هوية هذا النزيل.
هذه، في قراءتي، هي رسالة اللاغفران التي يرسلها أمجد ناصر إلى عصرنا، حول جحيمنا الأرضي وضحاياه، وشقائنا البشري وصانعيه، وحول مملكة آدم "حيث صارت الكلمة للزومبيين/ مصاصي الدماء/  أكَلة لحوم البشر/ هاتكي الأعراض/ مغتصبي الصبية الصغار/ رجالِ الخازوق والكراسي الكهربائية/ محوْلي القرودَ الى بشرٍ والعكس/ عاقّي آبائهم وأمهاتهم/ الذين يقطعون الرؤوس كدرسٍ سريعٍ في التشريح". بيد أنّ النصّ البديع هذا لم يُكتب إلا لكي يسجّل نقلة متقدمة ضمن تجربة أمجد ناصر الشعرية في المقام الأوّل، بل إنّ إنتاج قصيدة رفيعة هو الهاجس الأشدّ بروزاً في معطيات العمل الفنّية؛ لأنه إنما يبداً من بلاغة في المعنى والمبنى تعلن شعريتها العالية على الفور، فلا يُتاح لنبرات النصّ النبيلة، الأخلاقية والعاطفية والفلسفية، ولا الأهوال الجحيمية الطاغية على سطوح المعنى وبواطنه، أن تُبطيء ارتقاء الجماليات الشعرية في مستوياتها المختلفة والمتكاملة:
ــ توظيف اللغة ذات الشحنات الدلالية والشعورية القيامية ("أنا الذي ينتظر في طوابير الواقفينَ أمام الأرشيف السماويّ مع موتى لا أسماءَ لهم. أو لهم أسماء لا تعني شيئاً في هذه الدياميس"، أو"موتى يدفعون موتى ظانّين أنّ هناك ملجأ من هذه القيامة الغادرة"، أو"لا تغفرْ لهم يا أبتِ/ لأنهم يعلمون ما كانوا يفعلون"). وللمرء، هنا، أن يستعيد بصمة أسلوبية خاصة طبعت لغة أمجد ناصر منذ البدء، وتنامت وارتقت وتطورت على مسار مجموعاته اللاحقة؛ وهي رسوخ فصحى غنيّة، حارّة المعجم، عالية الإيحاء، حسّية العناصر، تشكيلية الصورة، بصرية الاستعارة، وإيقاعية التكوين في بنياتها الدلالية والصرفية والصوتية.
ــ تنويع التشكيل الإيقاعي، بين تقطيع إلى سطور تطول أو تقصر طبقاً لتوظيفات دلالية أو صوتية ("اللحم الجديد يطرد اللحم القديم. الأرض، وهي لحمٌ سابقٌ، لم تعد قادرةً على الاستيعاب والتمثّل. لن يصبح هذا اللحم تراباً لوقتٍ طويلٍ، فلا مكان له في التراب المزدحم بلحمٍ آخر")، تعتمد على التكرار اللفظي ("كلا/ كان هناك وقت/ كان هناك/ كان")، أو التكرار المبطّن ("كثيرٌ هذا اللحمُ/ لحمٌ كثيرٌ متطايرٌ/  طازجٌ/  بائتٌ/ من يريد كلَّ هذا اللحم")؛ أو تشكيل إيقاعي يعتمد التقطيع إلى فقرات كاملة، أو "مدوّرة"، تتوسّل كثيراً ما أعلن أمجد ناصر أنه بات يميل إليه أكثر: "الكتلة النثرية، والسطر الطويل والجملة التي تشبه جملة النثر".
ـ تسخير تقنيات السرد القصصي والسيناريو السينمائي والتأثيث المسرحي. وليس انقسام النصّ إلى مقدّمة وجيزة وسبع طبقات سوى الركيزة العليا لمعمار في البناء يتشعب ويتغاير، فيتيح لكلّ جزء أن ينفرد ببنية مستقلة الخصائص وأن ينضوي، في الآن ذاته، ضمن تراصّ النصّ عضوياً.
بل إنّ أمجد ناصر لا يكتفي بهذه المستويات، صانعة الشعر في مقترحاته الفنية الأوفى إعراباً عن مضامين الشقاء البشري، جسداً وروحاً، في طبقات الجحيم الأرضي؛ والأصفى انخراطاً في فنون تظهير تلك المضامين، وزجّ القارئ في شبكات جمالياتها الحادّة والجارحة، الثائرة المنتفضة تارة والنادبة الرثائية تارة أخرى، ناقلة إنشاد ملحمي وكوني هنا، أو ترتيل وجداني وذاتي هناك. ذلك لأنه يعمد، أيضاً، إلى إدراج الجوقة بما تستثيره عند القارئ من مهامّ معهودة في صياغة الأقوال الأخرى التي لا تتردد مباشرة في الواجهة، وظلال التلميح العميقة التي لا تتبدى بالضرورة في مفردات التصريح المنكشف؛ كما يسخّر ما يتضافر مع الجوقة من مهامّ أخرى غير معهودة في الواقع، إلا ضمن مجازفات الشعر التجريبية ربما. وهذه تنطوي على تحويل الصوت إلى سلسلة أصداء ذات دلالات متقاطعة أو متجانسة أو، في كلّ حال، حمّالة معانٍ حرّة وتأويلات مفتوحة، وتضادّ جدلي بين عناصر اللغة والكائن والمادّة: "طارت الكلمات/ تبدَّدت الصرخات/ وظلت الأجساد بلا ثقلٍ على الأرض".
وإلى جانب الجوقة، يتكيء أمجد ناصر على أداة أخرى مكمّلة يسميها "صوت 1"، يردّد مشاعر الشكوى والتضرع والحيرة: "عالِجوني بروح الخردل/ والأياهوسكا/ والداتورة/ بالسذَّاب السوري/ والحداء الذي يشبه بكاء الجِمال /لأصعد إلى السماء الخامسة / حيث قدمُ اللهِ المتشعبةُ تغسلُها النوايا الطيبة/ وأيدي الحور العِين". كذلك يستخدم أداة ثالثة هي "صوت من الصحراء"، تُسند فيه إلى ضمير الشاعر المتكلم أسئلة نبوّة رؤيوية، غير تقليدية وغير تبشيرية، يمكن أن تكفر بنفسها وتجدف على رسالتها؛ والغاية، المتعددة في الواقع، جديرة بأن تبدأ من إثقال مناخات القصيدة الشعورية على صعيد الحوار مع الضمائر الأخرى، المادية والمجازية معاً؛ ويمكن أن تشمل ربط خواتيم القصيدة بمطالعها، حين يعلن الضمير الناطق ذاته أنه رسول. 
والمراوحة بين الضمائر، أو بالأحرى تنويع وظائفها ضمن الطبقة الواحدة، هو أداة أخرى يستخدمها أمجد ناصر في إنجاز التناغم بين الركيزة العليا والبنى الفرعية؛ إذْ يحدث، كما في القسم IV على سبيل المثال، أن يهيمن ضمير المتكلم في الأجزاء الأولى، لكي يفسح هامشاً لضمائر المخاطب بالمفرد والجمع، وهذا مَزْج يتواتر إيقاعياً ــ ولكن دلالياً أيضاً، في واقع الأمر ــ مع ضمير محايد أقرب إلى الغائب السارد في الطبقة السابقة، وضمير المتكلم بالمفرد والجمع في الطبقة اللاحقة. وليس خافياً أنّ اشتغالات الضمير هنا لا تقتصر على تأهيب المحمول الدرامي في هذا المقطع أو ذاك، بل تستحثّ ردود فعل شعورية متزاحمة لدى قارئ منشدّ، أصلاً، إلى مناخات طافحة بالكثافة.
وعلى خلاف غالبية أنساق الجحيم في التراث المتعدد الذي يساجله أمجد ناصر، حيث القارئ منفكّ غالباً عن الرحلة ومراقب خارجي لطبقاتها ومراتبها، تجهد "مملكة آدم" كثيراً لكي يتماهى القارئ مع جحيمها، ولكي يكون شريكاً في إعادة إبصار أهواله بوصفها سمة عصرنا وليست نتاج ابتداع مخيّلة أو أسطورة أو نصّ ديني. وهذا، تالياً، عمل شعري فريد لا يُقرأ فقط، بل يُبصر عيانياً ومسرحياً وسينمائياً؛ ويُسمع أيضاً، واستطراداً، لأنّ عماراته الإيقاعية لا تدغدغ الآذان على عجل، ولا تضخّ الأناشيد قارعةً منذرة. إنه بيان شعري رفيع، فذّ وجارح واختراقي، لكنه أيضاً رهيف وجدانياً ونبيل إنسانياً ومنحاز أخلاقياً؛ يتوغل عميقاً في أنساق الفظاعات التي باتت صنو الجحيم البشري الأرضي، وصارت المأساة السورية مثالها الأوّل وأمثولتها العليا.
22/3/2019