وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 30 سبتمبر 2019

حمّالة التحولات



تبدّلت صورة فلسطين عبر أطوار الوعي الذاتي المختلفة، وتحوّلت جزئياً أو جذرياً كما ينبغي لأية فكرة عليا وقصوى عن خسران جَمْعي، إذا جاز لي أن أقول، يتجاوز المحليّ والوطنيّ إلى الأُطُر الأعمّ والحدود الكونية. في سورية تفتّح وعينا على فلسطين "الحبيبة" و"السليبة"، على نحو كان أشدّ غَوْصاً في الوجدان من حالتنا مع لواء الإسكندرون الذي كان سليباً بدوره، وكانت تلك السيرورة تشتغل على أصعدة تربوية شتى، تبدأ من نصوص الكتاب المدرسي وتمرّ بالمذياع المنزلي قبل شيوع التلفزة، ولا تنتهي عند التلقين العائلي.
من جانبي شهدتْ صورة فلسطين ثلاثة تبدلات تأسيسية، كما أسميها، صارت فيما بعد مهاداً لانقلابات الصورة التكوينية الابتدائية. الأوّل كان اكتشافي لما سُمّي في حينه "شعر المقاومة الفلسطينية"، وقصائد محمود درويش بصفة خاصة، إذْ لست أنسى تلك البرهة الاستثنائية من اتقاد الحسّ الفلسطيني، وارتقاء الذائقة الجمالية في الآن ذاته، حين قرأت قصيدة "يوميات جرح فلسطيني"، وفيها يقول درويش: "لم نكنْ قبل حزيران كأفراخ الحمام/ ولذا لم يتفتت حبّنا بين السلاسل/ نحن يا أختاه من عشرين عام/ نحن لا نكتب أشعاراً ولكنا نقاتل". التبدّل الثاني اتخذ صفة سياسية ونظرية وتنظيمية أيضاً، حين انقلبت "المسألة الفلسطينية" إلى واحدة من قضايا الخلاف داخل الحزب الشيوعي السوري الذي انتميت إليه؛ بين الخطّ البكداشي الذي كان سوفييتياً أيضاً، وخطّ "المكتب السياسي" الذي انضويت في صفوفه وكان يتبنى قراءة تجديدية وأكثر انحيازاً للحقّ الفلسطيني. وأمّا التبدّل الثالث فقد صنعه تحوّل حركة التحرر الوطني الفلسطينية إلى مؤسسة/ دويلة، وامّحاء صفتها النضالية على نحو تدريجي بلغ ذروة غير مسبوقة مع اتفاقيات أوسلو وتشكيل "السلطة الوطنية" على أراض محتلة ومطوّقة بعشرات المستوطنات في قطاع غزّة والضفة الغربية.
في محطات الوعي اللاحقة أدركتُ حدود تعبير "شعر المقاومة الفلسطينية"، وربما سذاجة استخدامه في سياقات تعميمية وتصنيفية، ولهذا كان مبهجاً للغاية أنّ درويش نفسه سرعان ما انخرط في برامج تطوير شعرية متعاقبة تذهب بقصيدته نحو مصافّ كونية أعمق تمثيلاً لعناصر فلسطينية كبرى، مثل الاقتلاع والاحتلال والاستيطان والمنفى والصمود والبقاء، وبالتالي أرقى تعبيراً عن جماليات قضية جديرة باحتلال موقع إنساني وكونيّ فسيح. صحيح أنّ ضغط الشروط الموضوعية ألزم درويش بدفع برنامجه الجمالي إلى الصفّ الثاني، والسماح للمهمة الوطنية باحتلال الصفّ الأول؛ خلال مراحل محددة وأولى من تجربته الشعرية. ولكن من الصحيح أيضاً أنه أثبت حساسية فائقة تجاه تطوير لغته وأدواته وموضوعاته، خصوصاً في العقدين الأخيرين من مسيرته الشعرية؛ حين استقرّت كثيراً معادلات أكثر هدوءاً للعلاقة التبادلية بين تطوير جمالياته الشعرية، وتطوّر نفوذه الأخلاقي والثقافي في الوجدان العربي. وهذه حال تتجاوز مثال درويش إلى علاقة القضية الفلسطينية بالإبداع العربي عموماً، كما أعتقد.
وفي الشريط الوثائقي الذي أنجزه المخرج السينمائي السوري عمر أميرالاي عن الكاتب والمسرحي السوري سعد الله ونوس، يطلق الأخير عبارة وجيزة صاعقة: "فلسطين قتلتني"! من الإنصاف القول أنه "قَتْل" بالإرادة، بمعنى أنّ انخراط ونوس وأمثاله من آلاف المثقفين والكتّاب العرب في الهمّ الفلسطيني حتى النخاع، كان خياراً طوعياً؛ بل كان، على نحو أو آخر، ذاتياً وموضوعياً في آن معاً. ليس أقلّ إنصافاً، في المقابل، التذكير بأنّ ذلك الانخراط اتخذ وجهة قصوى لمستويات الالتزام والانحياز والوفاء؛ وبالتالي كان "قاتلاً" بالمعنى الذي قصده ونوس: قتل لرفاه الكتابة المتخففة من أعباء التاريخ، وقتل لرفاه الفنّ الذي يترفّع عن الآنيّ واليوميّ والطارئ، وقتل لرفاه المكوث في أبراج عاجية عالية من أيّ نوع...
وضمن النقاش السوري، أو العربي إجمالاً، الذي سعى إلى تطوير الماركسية في ميادين نظرية أو تنظيمية، لم تكن حصّة فلسطين قد تجاوزت تلك الإسهامات المعمقة التي اقترحها المفكر السوري الكبير الراحل الياس مرقص، وخاصة في عمله الرائد "عفوية النظرية في العمل الفدائي" الذي صدر سنة 1970. مجموعة "المكتب السياسي" إياها، حتى بعد أن صارت حزباً مستقلاً وعقدت ثلاث مؤتمرات وبدّلت اسمها إلى "حزب الشعب الديمقراطي"، عجزت عن تطوير الأجنّات الأولى لتفكير ثوري وتجديدي حول القضية الفلسطينية؛ ربما بتأثير انقلاب القضية ذاتها من "صراع عربي ـ إسرائيلي" إلى "عملية تفاوض" فلسطينية ـ إسرائيلية، وتحوّل منظمة التحرير الفلسطينية إلى دويلة يمكن لأجهزتها أن تمارس التسلط والقمع والفساد على غرار النظام العربي المعياري المتماثل.
كذلك كان تطوراً مريراً للغاية، وأبعد بكثير من جَرْح النرجسية اليسارية، أو بالأحرى اليسراوية كما يتوجب أن أقول؛ أن نجد "الحكيم" جورج حبش يقيم في دمشق، تحت سلطة استخبارات حافظ الأسد، حين كانت التنظيمات والأحزاب اللبنانية الحليفة للنظام السوري تخوض حرب المخيمات وتجويع الفلسطينيين بالطرائق الأشدّ وحشية وبربرية؛ وأن نتابع، في الآن ذاته، ياسر عرفات (الذي كنّا نعدّه في صفّ "اليمين"، الديني تارة والقومجي طوراً!)، طريداً ومحاصراً من جانب الأسد وحلفائه. الاستكمال الأمرّ لهذه الحال تمثّل في مواقف عدد غير قليل من المثقفين الفلسطينيين، ولندعْ جانباً سلطة محمود عباس وبعض قيادات حركة "فتح"، إزاء الانتفاضة الشعبية السورية وموالاة النظام إجمالاً، وحصار مخيّم اليرموك وتدميره خصوصاً.
في سنة 2000 منعتني سلطات الاحتلال الإسرائيلية من دخول فلسطين عبر الجسر، وكنت ضمن وفد أدبي وثقافي عربي توجّه إلى رام الله للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وكانت ذريعة المنع أنّ بعض كتاباتي السياسية ضدّ الكيان الصهيوني جعلتني شخصاً "غير مرغوب" بدخوله؛ فاتضحت أمامي حقائق أخرى ميدانية كاشفة لمزيد من الأوهام، وربما الاستيهامات، حول أيّ "سلام" مع هذا الكيان الصهيوني. في سنة 2015، وكنت ضمن وفد عالمي يمثّل "احتفالية فلسطين للأدب"، سمحت لي سلطات الاحتلال بالدخول، وأبلغني الضابط الإسرائيلي أنهم وافقوا هذه المرّة رغم كتاباتي (وبعضها يندرج ضمن العداء للسامية، كما أبلغني!)، لعلّي أبصر الفارق بين دولة الاحتلال ومجازر الأسد في سورية. ولو كان لديّ أدنى استعداد للانخراط معه في حديث من أيّ نوع، فكيف بمجادلته، لسردتُ له أوجه التطابق الكثيرة بين النظامين. وفي سنة 2018 دخلت إلى فلسطين للمرّة الثانية، بدعوة من مؤسسة محمود درويش، كي أشارك في إحياء الذكرى العاشرة لغيابه؛ وهذه المرّة كانت شركة علاقات عامة إسرائيلية هي التي تتولى حركة الجسر، وبات الدخول إجراء "تقنياً" تشرف عليه سلطات الاحتلال عن كثب.
هذه ثلاث تجارب ميدانية شخصية لمواطن سوري شدّدتْ، أكثر من ذي قبل، على ما أخذتُ أقتنع به منذ أن اكتسبت فلسطين صورة الواقع، وليس فقط بلاد المجاز أو الحلم أو الفردوس الضائع أو القضية المقدسة أو "الأرض التي تمتصّ جلد الشهداء" حسب تعبير درويش. وفي رام الله والقدس وبيت لحم والخليل ونابلس اتضحت، أكثر أيضاً، ضرورة أن يستردّ الفلسطيني الحقّ في أن يكون إنساناً، لا مجرّد اختزال أسطوري أو بطولي؛ ليس من دون اقتران هذه الخلاصة بالسؤال الرديف: ولكن... هل يستطيع، حقاً؟ هل في وسع الفلسطيني أن يكون آدمياً عادياً، حتى إذا شاء؟ هل يمكنه هذا، متى شاء؟ أينما شاء؟ كيفما شاء؟ وماذا عن "ثقافة الاستشهاد" التي يسوقها البعض على سبيل التهمة ضدّ الفلسطيني، هل يمتلك أيّ فلسطيني رفاه الزعم بأنه بعيد عن، أو مستبعَد من، احتمال الشهادة؟ وفي باطن هذه الأسئلة، وربما ذروتها، هل في وسعي كمواطن سوري أن أتحرر من أسطَرَة فلسطين، والفلسطيني؟ أن أنفكّ عن حال الارتباط العالقة مع فكرة عليا وقصوى، هي التجسيد الأشدّ تعبيراً عن خسران جَمْعي لم يفارق الوجدان منذ أن تفتّح الوعي؟
بين أعمال إدوارد سعيد، غير المشهورة كثيراً في العالم العربي، ثمة كتاب بعنوان "بعد السماء الأخيرة"، تضمن الكثير من صور جان موهر الفوتوغرافي السويسري من أصل ألماني؛ قرأ فيه سعيد التاريخ الفعلي، البشري والمادّي القائم في الزمان والمكان، لسلسلة نماذج فلسطينية. ولقد ابتدأ من افتراض طريف، لكنه عميق الدلالة: رغم وجود أدبيات كثيرة تصف فلسطين والفلسطينيين، خاصة تلك التي سطّرها الفلسطينيون أنفسهم، فإنّ الفلسطيني يظل مجهولاً نسبياً، بمعنى أنه لا ينتمي إلى شعب بقدر تمثيله لذريعة حرب وصراع ونزاع. يكتب سعيد: "منذ 1948 كان وجودنا من طراز أقلّ. عشنا الكثير الذي لم يُسجّل. قُتل منا الكثيرون، وأصابتنا ندوب، وأُخرسنا، دون أن نترك أثراً. والصورة التي تُستخدم في تمثيلنا لا تقوم إلا بإنقاص حقيقتنا الفعلية أكثر. وعند الكثيرين لا يُرى الفلسطيني أساساً إلا في هيئة المقاتل أو الإرهابي أو المطارَد".
أخال أنني لم أفلح يوماً في التخلّص من إدمان الاستزادة من مقدار فلسطينيتي، والتزيّد فيها، ليس ردّاً على ذلك "الإنقاص" الذي يشير إليه سعيد، فحسب؛ بل كذلك لأنّ سلسلة عوامل تخصّ إنضاج خيارات الوعي المختلفة ظلت تحثّ على هذا، في السياسة والاجتماع والثقافة. على سبيل المثال كنتُ في بداية انكبابي على دراسة النصّ الأدبي منحازاً إلى الرواية ضدّ الشعر، فأقامت قصيدة درويش الميزان الصحيح بينهما؛ وكان مزاجي اليساري، أو "الجدانوفي" على وجه أدقّ، لا يذهب بي إلى أبعد من لوكاش، حتى قادتني جاذبية إدوارد سعيد الفلسطيني إلى غرامشي!
وهكذا، لا أراني قادراً على، أو حتى راغباً في، الانعتاق من حال "القتل" التي تحدث عنها ونوس؛ ليس لأنها رياضة تستحثّ الإحياء والانبعاث والارتقاء فقط، بل لأنّ فلسطين هي أيضاً حمّالة التحوّلات و"أمّ البدايات"، سواء بسواء.
19/3/2019